وجعلنا لكم فيها معايش
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه وَنستَعِينُه ونسْتغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرُورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَن سَار على نهجِه، واقْتَفَى أثرَه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا
أمَّا بَعْدُ: فاتقوا اللهَ أيها المسلمون والمسلمات، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). أيها المؤمنون: ونحن نعيش في جائحة كورونا، وكل يوم تظهر لنا نِعَم كنا نعيش فيها ولا نَقْدُرها قَدْرها، ثم إذا بنا نفقدها كليًّا أو جزئيًّا، و والله إنَّ هذا لداعٍ عظيم للناس أن يتفقدوا طريقة تعاملهم مع الله، فهذه كلها نُذُر؛ لعل الناس أن يرجعوا لدينهم، كما قال تعال: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.. وقعَتْ في تعريف الإسلام للناس أخطاء شاعت بين أهله أنفسهم، فعكرت عليهم محياهم، وعكرت على الإسلام رونقه. هل التعمير على ظهر الأرض مرحلة يجب على المسلم أن يستحث السير إلى نهايتها كي يتخلص منها؟ ويجب عليه أن يمر بالدنيا غريبا لا تربطه بأحوالها علاقة موثقة، ولا يلابس شئونها إلا كما يلابس الزيت الماء؟؟ هل العجز في الدنيا دين؟ هل زلزلة القدم هنا دليل على رسوخ القدم هناك في الآخرة؟ هل الجهل بأسرار الحياة ونواميسها أثر لتقوى القلوب؟ على حين أن الاستبحار في فروع الفقه والاستكثار من نوافل العبادات يشير إلى رفعة الإيمان! إننا جنس، صاغته العناية الإلهية، على نحو معين، ووضعت له امتحانا خاصا، وكلفته بلون من الكدح، يرسب فيه، أو يطفو حسب قدرته على العوم ، ورغبته في النجاة.. ولهذا جاء وصف الرسالة الإنسانية كلها على ظهر الأرض، والقدرات التي منحها الله أبناء آدم حتى يقوموا بهذه الرسالة، في قوله تعالى للبشر: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾. وقال للبشر جميعا أيضا: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾. ورغما عن هذه النداءات القرآنية، ظننا أن الدين قلة المال ورداءة الحال ورثاثة الهيئة واضطراب الوضع الاجتماعي والعيش بعيدا عن الأسواق والحقول!. ذكر الله عبده " داود " والقدرات التي أضفاها عليه فقال: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾. إن الملك نعمة كبيرة، المهم أن يكون سلطانه في خدمة الإيمان. إن التمكين في الأرض عطاء واسع ورضا من الله كبير ﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ﴾. من قال: إن الدين عدو الدنيا، وأن الفارغ منها هو الذى يملك الآخرة؟ ألسنا ندعو ((.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)). إن الحياة خير، وإن كل يوم تتفتح فيه العين على ضوء الشمس! والقمر نعمة متاحة، يجب شكرها، ويجب استغلالها .وإنشاء العلاقات الموطدة مع الدنيا وشئونها أمر يهتم به المسلم الراشد. ما دام في صدره نفس يتردد! وغاية ما يكلف به أن يحسن السيرة في هذه الأرض التي استخلفه الله عليها، وإليك هذه الشواهد من سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عن أبى هريرة قال: كان رجلان من حي في قضاعة أسلما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشهد أحد الرجلين، وأُخِّر الآخر سنة. قال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤخر منهما أُدخِل الجنة قبل الشهيد، فتعجبت لذلك. فأصبحت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( أليس قد صام بعده رمضان؟ وصلى ستة آلاف ركعة، وكذا وكذا ركعة في هذه السنة؟ فلَما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)).. انظر.. إن المكث في الحياة والبقاء على وجه الدنيا ليسا شرا إنهما رفعا منزلة رجل فوق الشهداء! وجود المرء على ظهر الأرض ليس سوءا في ذاته يتمنى معه الموت، بل هو أمد كلما طال طالت معه مجالات العمل، ومراحل السباق، والتنافس إلى أرفع الدرجات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ألا أنبئكم بخياركم؟ فقالوا: نعم! قال: خياركم أطولكم أعمارا، وأحسنكم أعمالاً)). إن التّماوُت قبل الموت هربٌ وضيعٌ من وظيفة المرء في الوجود، ونكول عن حمل تكاليف الحياة، وجهالة بأسرار الحكمة العليا، وهذا التماوت لا يمكن أن يكون دينا، إذ الدين حركه إصلاح للحياة إذا شردت، وتوجيه لقواها الدائبة كي تعرف ربها وتتقيه. وعلى المسلمين أن يعرفوا الحقيقة التي نَدَّت عنهم من سنين طويلة وهى أن حاجه الدين إلى الدنيا كي يستقر ويمتد، كحاجة الروح إلى البدن كي يسمع ويبصر، ويمضي على هذه الأرض. فإن من المستحيل أن يقوم دين على غير مهاد من الحياة المكينة، كما يستحيل أن يسير قطار على غير قضبان..! والإسلام لا يذم الحياة أبدا ليخلق أجيالا تعيش عميانا في أنوارها، جهالا أمام أسرارها، بل يذمها ليضمن حدود الاعتدال، وليحجز الغرائز الطافحة بالأثرة والبغي عن إفساد الأرض بأثرتها وبغيها.. لذلك يقول تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾. فمنع الفساد وإقرار الصلاح، هما غاية الدين، وعلى ضوء هذا الكلام نفهم. قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. هذه الآية وأمثالها، لإعادة التوازن إلي الحياة الإنسانية، عندما تختل بأثقال الهوى. فنحن نحدث عن جمال الصفح رجلا بادي القسوة، حريصا على إدراك الثأر. ونحدث عن جمال العطاء رجلا واسع الغنى، شديدا في حب المال. ونحدث عن انقضاء الدنيا رجلا به إلى الدنيا شبق سد على روحه منافذ اليقين، وفوت عليه فرص الاستعداد للقاء الله... وهكذا... إن شئون الدنيا، وجميع الأعمال العادية تنسلخ من عنوانها وحقيقتها، وتتحول إلى شيء آخر بين يدي الإنسان الراقي، الإنسان الذي يضفي عليها روحا من مُثُلِه العليا، وغاياته النبيلة. إنها تتحول إلى دين ما نفث فيها الإنسان المؤمن من فيض إيمانه ووجهها إلى الله بحسن إخلاصه. هل يطلب المؤمن من عباداته الثواب، ورضوان الله؟ وهو يصوم ويصلى ابتغاء ذلك؟ إنه يستطيع أن يحصل على هذا الثواب، إذا باشر الأعمال الدنيوية كلها بنية صالحة، وغرض شريف!! ما يظن الناس في الزراعة؟ يظنونها عملا عمرانيا بحتا لكن الإسلام يرتفع بها إلى مرتبة أسنى، ما دام الغرس والحصاد يكفلان مصالح العباد، ويضمنان شبع العاني والمحتاج .إن فلاحة الأرض - والحالة هذه - إيمان وجهاد، وصلاة وزكاة! وقد جهل بعض الناس هذا المعنى، واستنكر- لقصوره - أن يشتغل كبار الرجال بالزراعة. فقد روى أحمد بن حنبل عن أبى الدرداء. أن رجلا مر به وهو يغرس غرسا بدمشق، فقال له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله؟ قال: لا تعجل علي .. سمعت رسول الله يقول ((من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي ولا خَلْق من خلق الله، إلا كان له به صدقة)) ... وانظر إلى جملة من أعمال البر يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجرها خالد، وأن ثوابها مستمر، بعد أن ينتقل المرء من الحياة إلى الموت: ((سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته، من علم علما أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورَّث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)). إن هذه الأعمال مختلفة المظهر والجهد، وبعضها يمكن عده من محض الأعمال الدنيوية، بيد أن شرف الغرض سلكها جميعا في نظام واحد، ومثوبة سواء. إن الله سبحانه قد أودع المادة سر الروح.. وطبعها بطابع خالقيته لتكون دليلا لها، وشاهدا عليها.. وهو بذلك يقدس المادة، ولا يحقرها، ويفرض على المرء نوع الحضارة التي لا حول عنها. فإذا أخذ بالمادة وحدها فقد أشقى نفسه، وهو بذلك شيطان يعيث في الأرض فسادا. وإذا أخذ الروح، فهيهات أن يصل إليها بدون مادة، وهو بذلك عنصر تافه في الأرض. يورث نفسه الفقر والجهل وهوان الشأن.. وإذا أخذ بما رسم الله له، فقد أنصف نفسه. وأدى الذي عليه له وللحياة.. تلك هي الحضارة .. والحمد لله رب العالمين