.
فاللهم
أشغلنا بطاعتك عن معصيتك، وبذِكرك وشُكرك عن الغفلة عنك، وآتنا من فضلك ما
لا يُطغي ولا يُلهي، واجعلهُ اللهم زاداً لنا إليك، وارزقنا شُكره يا رب
العالمين. اللهم اختر لنا من أمرنا أرشده، ويسِّرنا لليُسرى يا رب
العالمين، والحمدُ لله رب العالمين.
[b]
[b]
[b]الحمد
لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحب ربنا ويرضى، والصلاةُ
والسلام على مَن هداه ربُّه واختارَه واصطفاه وارتضى، وعلى آله وصحبه
وسلَّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فعن
أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن
مطعم ابن آدم جُعِل مثلاً للدُّنيا وإنْ قَزَّحَه وَمَلَّحَه فانظر إلى ما
يصير)) رواه عبد الله بن أحمد في زوائده بإسناد جيد قوي وابن حبان في
صحيحه والبيهقي. قال ابن القيم: وكما أن الأطعمة كلَّما كانت ألذَّ طعماً،
وأكثرَ دَسَماً، وأكثَرَ حلاوةً= كان رجيعُها أقذرَ؛ فكذلك كلُّ شهوةٍ
كانت في النفس ألذَّ وأقوى؛ فالتأذي بها عند الموت أشد. اهـ وهذا في
الحرام، والاستعانة بنعمة الله على معصيته.
وكان
بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أُريكم الدنيا. فيذهبُ بهم إلى
مزبلةٍ فيقول: انظروا إلى ثمارهم، ودجاجهم، وعسلهم، وسمنهم!!
وعلى
كل حال، كم من الناس كان بينه وبين الدنيا من أسباب التوسُّع فيها، والنيل
من ملذاتها، ما كانت تتطلعُ إليه فيه الأعناق، مع حرصه على شرف نفسِه،
وإغاظة عدوِّه، وتكثير ماله، وآتاه الله منها الكثير= ثم تبدَّل الحال،
وأرته الدنيا وجهها القبيح، بعد أن أصبح لا غنى به عنها!! فهل من
مُدَّكِر.
وبعدُ؛ فهذه أمثالٌ مضروبةٌ في الدنيا للآخرة؛ فهل تكون –أخي- في الآخرةِ أحمدُ عاقبةً، وخيرٌ مآلاً.
قال ابن القيم –رحمه
الله-: مثال الدنيا مثال إناء مملوء عسلاً رآه الذباب فأقبل نحوه؛ فبعضه
قعد على حافة الإناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار، وبعضه
حمله الشره والحرص على أن رمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه؛ فلم يدعه
انغماسه فيه أن يتهنَّأ به إلا قليلا حتى هلك في وسطه.
فهل يفقه ذلك مَن أشغلته تجارتُه وصفقاته عن صلواته.
وهل عَرَف مقدار الدنيا من حبس زكاة ماله شُحاً بها، واستكمالاً لبعض أحلامه وتجارته.
وهل
خاف الله عبدٌ حمله الطمع أن أكلَ مال يتيم أو مسكينٍ أو فقير؛ فعبث
بمصلحته، وغرَّه؛ فضمَّ قليله إلى كثيره. ولا يفيق بعضُ هؤلاء حتى يكون
هذا القليل المسروق سبباً لحرق الكثير.
وهل
من دعا إلى مخالفة الشريعة، وإلى دعوات السوء في أمر النساء، وأعان على
إفسادهن بقلمه أو لسانه أو قراره أو فِعلِه يعي أنه عمَّا قليلٍ
ليُصبحُنَّ نادمين[/b][/b][/b][b][b][/b][/b]
الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة
واقتدارا، وأرسل الرُسُلَ إلى المكلَّفين إعذاراً منه وإنذاراً، فأتمَّ
بهم على من اتبع سبيلهم نعمته السابغة، وأقام بهم على من خالف مناهجهم
حجتَه البالغة؛ فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العِلل، وقطع المعاذير،
وأقام الحُجة وأوضح المحجة، وقال: هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا
السُبُل، وهؤلاء رُسلي مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هو رب العالمين، وأشهد أن محمداً
عبدُه ورسوله، خاتمُ الأنبياء، وأفضلُ المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلَّم تسليماً.
أما بعد:
فعن أبي العلاء قال: رأيتُ في النوم عجوزاً كبيرةً متغَضِّنة الجلد،
والناسُ ينظرون إليها؛ فجئتُ فنظرت؛ فعَجِبتُ من نظرهم إليها. فقلتُ:
ويلكِ من أنتِ؟ قالت: أوَما تعرفُني؟ قلتُ: لا، ما أدري ما أنت؟. قالت:
فأنا الدنيا. قال: قلتُ: أعوذُ بالله من شرِّك.
أحبتي في الله، هذا مثلٌ صحيحٌ لحقيقة الدنيا، عجوزٌ شمطاء، لا يرغب في
مثلها العقلاء، ولكنها خلاَّبة تأخُذُ بألباب الناس، وتسلب ذوي العقول
عقولهم، وتختُلهم، وتتزيَّنُ لهم حتى يظنوا فيها ما ليس فيها، وحتى يطمعوا
منها بما لا حيلة لهم فيه، ولا سبيل للوصول إليه، فما هي إلا عجوزٌ غدارة
خداعة غرارة، تغُرُّ الخطاب، ثم لا يظفروا منها إلا بالسراب.
أيها المسلمون، إن الدنيا دارٌ خلقنا الله فيها، لا لأجلها، وأخبرنا أنها
ظلٌ زائل ما أسرع ما ينحسر عن أهله، وهي إن سرَّت يوماً فقد أحزنت أياماً،
وإن أضحكت مرَّةً فقد أبكت أزماناً. فأين لذة التنصيب من مرارة العزل،
وأين طعم العافية من علقم المرض، وأين سرور الاجتماع من عذابات الفراق.
إنها كالنبات الذي يخرج سريعاً بعد نزول المطر؛ ثم لا يلبث حتى يكون
مصفراً، ثم يموت ويكون هشيماً تذروه الرياح: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}، وقال سبحانه: {اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ
يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ } ثم قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، إذاً فالدنيا (لعبٌ) وليس
من شأن الرجال- اللهوُ واللعبُ وإنما هو من شأن الصبيان. والدنيا (زينة)
إلا إنها عجوزٌ مزيَّنةٌ متخفيَّةٌ خلف أصباغها وبهرجها، فإذا ما تمكَّنت
من صاحبها كشفت له عن حقيقة وجهها الكالح. والدنيا (تكاثر في الأموال
والأولاد) فكُلاً يُريد أن يُري الناس منزلته ومكانته وفضله، ولكن المالَ
والولدَ متاعٌ عارض، وربما ذهب المال فلم تبق منه إلا الحسرة، وربما
تنكَّر بعض الولد ونسي النعمة التي لك عليه، وبدَّلها بالكفر والجحود.
أحبتي في الله، إن الكتاب والسنة مملوئان بتوضيح علاقة المسلم بالدنيا،
وأنها مما يجب ألا يتعلَّق به العبد فيُشغف بها قلبُه، ويستروِح لها
فؤادُه لئلا يخسر الدنيا والآخرة. قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ
فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ{15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا
وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقال سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ
الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ
جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً{18} وَمَنْ
أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً{19} كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء
مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً{20} انظُرْ
كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ
دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}. يقول: انظر كيف هم يتفاوتون في الدنيا
في رزقهم، وفي طاعتهم لربهم، أليس بين الناس في ذلك فروقٌ عظيمة، وللآخرة
أكبر تفضيلاً، وأبعد ما بين الفريقين، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
يا عباد الله، لقد ضُربت لنا عن الدنيا الأمثال، وبيَّنت لنا الشريعةُ
الطريقة المثلى للتعامل معها، وأُبرِزَ لنا من هدي خيرِ الناس وأحبِّهم
إلى خالقهم صلى الله عليه وسلم ما يُبيِّنُ لنا طريقة الله مع من يحبهم
ويصطفيهم؛ فإن الله يُعطي الدنيا لمن يُحب ولمن لا يُحب، ولكنه لا يُعطي
الدين وبضاعة الآخرة إلا لمن يحبُّهم ويختارُهم لولايته. عن سهل بن سعد
قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا
محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، وأحبِب من شئت فإنك
مفارقُه. واعلم أن شرف المؤمن قيامُ الليل، وعزَّه استغناؤُه عن الناس))
رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم
لا عيش إلا عيشُ الآخرة. وقال صلى الله عليه وسلم: ((آكل كما يأكل العبد،
فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها
كافرا كأسا)) صحيح الجامع. وعن عبد الله بن مسعود ، قال: نام
رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه؛ قلنا: يا
رسول الله لو اتخذنا لك وِطاءً. فقال: ((ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا
إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) رواه ابن ماجه والترمذي وقال
حديث حسن صحيح. وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده قال صلى الله عليه
وسلم: ((ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل
الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائفٍ فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح
وتركها)). فالدنيا أحبتي في الله في خُضرتها
وبهجتها الظاهرة كالشجرة، وهي في سرعة انقضائها وقبضها شيئاً فشيئاً
كالظل. وأنت يا عبد الله مُسافرٌ إلى ربِّك وإلى آخرتك، أفيليق بالمسافر
إذا رأى في طريق سفره شجرةً في يومٍ صائف أن ينزل إليها، ويبني تحتها
داراً؟! بل لا يليق إلا أن ينزل إليها إن احتاج لذلك فيستظلَّ بها على قدر
حاجته، ثم يروحُ ويتركها.
ولذلك فإن من أسباب الفلاح الأخروي، بل ومن أسباب السعادة الدنيوية أيضاً،
ألا يطمأن العبدُ إلى الدنيا، ولا يركنَ إليها، وأن يعلمَ أنها غدَّارةٌ
قُلَّبٌ بأهلها، وأن يعلم حقارتها وهوانها وأنها في الآخرة كما مثَّل لنا
صلى الله عليه وسلم: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم
أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)). رواه مسلم.
وبالتالي فإن شُغُلَ الأوقات، وهموم الساعات والهنيهات= يجب أن تتعلق
بهموم الآخرة، لأنها دار المُقامة، ولأن فيها دارَ الإهانة أو الكرامة،
ولأن نعيمها لا يزولُ ولا يحول، وعذابها كان غراماً.
ولهذا فإن من الهدي النبوي قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الآخرة هَمَّه: جَعَلَ اللهُ غناه في قلبه، وَجَمَعَ
له شمله، وَأَتَته الدنيا وهي راغمة؛ وَمَن كانت الدُّنيا همَّه جَعَلَ
اللهُ فقرَه بين عينيه، وفَرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما
قُدِّر له)) رواه الترمذي.
ومن كانت الآخرة همَّه فلْيَضرب في فجاج الأرض، يبتغي رزق الله وفضلَه
فليس الأمران بمتعارضين؛ ولسوف يُعطيه الله من فضله؛ ولكن اجعله يا عبد
الله في يدك ولا تجعله في قلبك. وكم رأينا من الناس مَن يملك الملايين، ثم
هو يقول بها هكذا وهكذا في ضروب الخير، لم تغُرَّه دراهمه ولا دنانيره،
فهي في يده لا في قلبه. وكم رأينا من فقراء تُعساء لا هُم في الدنيا، ولا
هُم في هَمِّ الآخرة؛ جعلوا الدنيا ملء قلوبهم ونفوسهم، وطردوا منها همَّ
الآخرة، وحُبَّ الآخرة؛ ثم لم يعودوا إلا بالخيبة والخُسران.
فكونوا –يا
أخوتي- من بني الآخرة، ولا تكونوا من بني الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا
حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل. واعمروا دنياكم بإصلاح آخرتكم فإنهما لا
يتعارضان؛ ثُم لا تُتبِعوا أنفُسَكم الدنيا؛ فقد تُكُفِّل لكم بشأنها
وَرِزقِها. وأعجبُ شيءٍ أن تشتغل وتنشغل بشيءٍ قد تُكُفِّل لك به، ثم تأتي
إلى ما طُلبَ منك فتنشغل عنه ولا تقوم به. فإن رزقك يا عبد الله مكفولٌ
لك، لن يضيعَ عليك منه ذرة، وإن عملك الصالح هو المطلوب منك، فلا تنشغل
بهذا عن هذا.
واقتدارا، وأرسل الرُسُلَ إلى المكلَّفين إعذاراً منه وإنذاراً، فأتمَّ
بهم على من اتبع سبيلهم نعمته السابغة، وأقام بهم على من خالف مناهجهم
حجتَه البالغة؛ فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأزاح العِلل، وقطع المعاذير،
وأقام الحُجة وأوضح المحجة، وقال: هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا
السُبُل، وهؤلاء رُسلي مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له هو رب العالمين، وأشهد أن محمداً
عبدُه ورسوله، خاتمُ الأنبياء، وأفضلُ المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله
وصحبه وسلَّم تسليماً.
أما بعد:
فعن أبي العلاء قال: رأيتُ في النوم عجوزاً كبيرةً متغَضِّنة الجلد،
والناسُ ينظرون إليها؛ فجئتُ فنظرت؛ فعَجِبتُ من نظرهم إليها. فقلتُ:
ويلكِ من أنتِ؟ قالت: أوَما تعرفُني؟ قلتُ: لا، ما أدري ما أنت؟. قالت:
فأنا الدنيا. قال: قلتُ: أعوذُ بالله من شرِّك.
أحبتي في الله، هذا مثلٌ صحيحٌ لحقيقة الدنيا، عجوزٌ شمطاء، لا يرغب في
مثلها العقلاء، ولكنها خلاَّبة تأخُذُ بألباب الناس، وتسلب ذوي العقول
عقولهم، وتختُلهم، وتتزيَّنُ لهم حتى يظنوا فيها ما ليس فيها، وحتى يطمعوا
منها بما لا حيلة لهم فيه، ولا سبيل للوصول إليه، فما هي إلا عجوزٌ غدارة
خداعة غرارة، تغُرُّ الخطاب، ثم لا يظفروا منها إلا بالسراب.
أيها المسلمون، إن الدنيا دارٌ خلقنا الله فيها، لا لأجلها، وأخبرنا أنها
ظلٌ زائل ما أسرع ما ينحسر عن أهله، وهي إن سرَّت يوماً فقد أحزنت أياماً،
وإن أضحكت مرَّةً فقد أبكت أزماناً. فأين لذة التنصيب من مرارة العزل،
وأين طعم العافية من علقم المرض، وأين سرور الاجتماع من عذابات الفراق.
إنها كالنبات الذي يخرج سريعاً بعد نزول المطر؛ ثم لا يلبث حتى يكون
مصفراً، ثم يموت ويكون هشيماً تذروه الرياح: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}، وقال سبحانه: {اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ
يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ } ثم قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، إذاً فالدنيا (لعبٌ) وليس
من شأن الرجال- اللهوُ واللعبُ وإنما هو من شأن الصبيان. والدنيا (زينة)
إلا إنها عجوزٌ مزيَّنةٌ متخفيَّةٌ خلف أصباغها وبهرجها، فإذا ما تمكَّنت
من صاحبها كشفت له عن حقيقة وجهها الكالح. والدنيا (تكاثر في الأموال
والأولاد) فكُلاً يُريد أن يُري الناس منزلته ومكانته وفضله، ولكن المالَ
والولدَ متاعٌ عارض، وربما ذهب المال فلم تبق منه إلا الحسرة، وربما
تنكَّر بعض الولد ونسي النعمة التي لك عليه، وبدَّلها بالكفر والجحود.
أحبتي في الله، إن الكتاب والسنة مملوئان بتوضيح علاقة المسلم بالدنيا،
وأنها مما يجب ألا يتعلَّق به العبد فيُشغف بها قلبُه، ويستروِح لها
فؤادُه لئلا يخسر الدنيا والآخرة. قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ
فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ{15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا
وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقال سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ
الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ
جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً{18} وَمَنْ
أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً{19} كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء
مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً{20} انظُرْ
كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ
دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}. يقول: انظر كيف هم يتفاوتون في الدنيا
في رزقهم، وفي طاعتهم لربهم، أليس بين الناس في ذلك فروقٌ عظيمة، وللآخرة
أكبر تفضيلاً، وأبعد ما بين الفريقين، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
يا عباد الله، لقد ضُربت لنا عن الدنيا الأمثال، وبيَّنت لنا الشريعةُ
الطريقة المثلى للتعامل معها، وأُبرِزَ لنا من هدي خيرِ الناس وأحبِّهم
إلى خالقهم صلى الله عليه وسلم ما يُبيِّنُ لنا طريقة الله مع من يحبهم
ويصطفيهم؛ فإن الله يُعطي الدنيا لمن يُحب ولمن لا يُحب، ولكنه لا يُعطي
الدين وبضاعة الآخرة إلا لمن يحبُّهم ويختارُهم لولايته. عن سهل بن سعد
قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا
محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، وأحبِب من شئت فإنك
مفارقُه. واعلم أن شرف المؤمن قيامُ الليل، وعزَّه استغناؤُه عن الناس))
رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم
لا عيش إلا عيشُ الآخرة. وقال صلى الله عليه وسلم: ((آكل كما يأكل العبد،
فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها
كافرا كأسا)) صحيح الجامع. وعن عبد الله بن مسعود ، قال: نام
رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه؛ قلنا: يا
رسول الله لو اتخذنا لك وِطاءً. فقال: ((ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا
إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)) رواه ابن ماجه والترمذي وقال
حديث حسن صحيح. وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده قال صلى الله عليه
وسلم: ((ما لي وللدنيا، وما للدنيا وما لي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل
الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائفٍ فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح
وتركها)). فالدنيا أحبتي في الله في خُضرتها
وبهجتها الظاهرة كالشجرة، وهي في سرعة انقضائها وقبضها شيئاً فشيئاً
كالظل. وأنت يا عبد الله مُسافرٌ إلى ربِّك وإلى آخرتك، أفيليق بالمسافر
إذا رأى في طريق سفره شجرةً في يومٍ صائف أن ينزل إليها، ويبني تحتها
داراً؟! بل لا يليق إلا أن ينزل إليها إن احتاج لذلك فيستظلَّ بها على قدر
حاجته، ثم يروحُ ويتركها.
ولذلك فإن من أسباب الفلاح الأخروي، بل ومن أسباب السعادة الدنيوية أيضاً،
ألا يطمأن العبدُ إلى الدنيا، ولا يركنَ إليها، وأن يعلمَ أنها غدَّارةٌ
قُلَّبٌ بأهلها، وأن يعلم حقارتها وهوانها وأنها في الآخرة كما مثَّل لنا
صلى الله عليه وسلم: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم
أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)). رواه مسلم.
وبالتالي فإن شُغُلَ الأوقات، وهموم الساعات والهنيهات= يجب أن تتعلق
بهموم الآخرة، لأنها دار المُقامة، ولأن فيها دارَ الإهانة أو الكرامة،
ولأن نعيمها لا يزولُ ولا يحول، وعذابها كان غراماً.
ولهذا فإن من الهدي النبوي قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الآخرة هَمَّه: جَعَلَ اللهُ غناه في قلبه، وَجَمَعَ
له شمله، وَأَتَته الدنيا وهي راغمة؛ وَمَن كانت الدُّنيا همَّه جَعَلَ
اللهُ فقرَه بين عينيه، وفَرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما
قُدِّر له)) رواه الترمذي.
ومن كانت الآخرة همَّه فلْيَضرب في فجاج الأرض، يبتغي رزق الله وفضلَه
فليس الأمران بمتعارضين؛ ولسوف يُعطيه الله من فضله؛ ولكن اجعله يا عبد
الله في يدك ولا تجعله في قلبك. وكم رأينا من الناس مَن يملك الملايين، ثم
هو يقول بها هكذا وهكذا في ضروب الخير، لم تغُرَّه دراهمه ولا دنانيره،
فهي في يده لا في قلبه. وكم رأينا من فقراء تُعساء لا هُم في الدنيا، ولا
هُم في هَمِّ الآخرة؛ جعلوا الدنيا ملء قلوبهم ونفوسهم، وطردوا منها همَّ
الآخرة، وحُبَّ الآخرة؛ ثم لم يعودوا إلا بالخيبة والخُسران.
فكونوا –يا
أخوتي- من بني الآخرة، ولا تكونوا من بني الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا
حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل. واعمروا دنياكم بإصلاح آخرتكم فإنهما لا
يتعارضان؛ ثُم لا تُتبِعوا أنفُسَكم الدنيا؛ فقد تُكُفِّل لكم بشأنها
وَرِزقِها. وأعجبُ شيءٍ أن تشتغل وتنشغل بشيءٍ قد تُكُفِّل لك به، ثم تأتي
إلى ما طُلبَ منك فتنشغل عنه ولا تقوم به. فإن رزقك يا عبد الله مكفولٌ
لك، لن يضيعَ عليك منه ذرة، وإن عملك الصالح هو المطلوب منك، فلا تنشغل
بهذا عن هذا.
فَجُزها مُمِراً لا مُقراً وكُـــنْ بها | غريباً تَعِشْ فيها حميداً وتَسْلمُ |
أوِ ابنَ سبيلٍ قال في ظلِّ دوحةٍ | وراح وخــلَّى ظلَّــها يتقَسَّـــمُ |
أخـا سفـــرٍ لا يستــقِرُّ قـرارُه | إلى أن يرى أوطانَـه ويُســلَّمُ |
فاللهم
أشغلنا بطاعتك عن معصيتك، وبذِكرك وشُكرك عن الغفلة عنك، وآتنا من فضلك ما
لا يُطغي ولا يُلهي، واجعلهُ اللهم زاداً لنا إليك، وارزقنا شُكره يا رب
العالمين. اللهم اختر لنا من أمرنا أرشده، ويسِّرنا لليُسرى يا رب
العالمين، والحمدُ لله رب العالمين.
[b]
[b]
[b]الحمد
لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحب ربنا ويرضى، والصلاةُ
والسلام على مَن هداه ربُّه واختارَه واصطفاه وارتضى، وعلى آله وصحبه
وسلَّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فعن
أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن
مطعم ابن آدم جُعِل مثلاً للدُّنيا وإنْ قَزَّحَه وَمَلَّحَه فانظر إلى ما
يصير)) رواه عبد الله بن أحمد في زوائده بإسناد جيد قوي وابن حبان في
صحيحه والبيهقي. قال ابن القيم: وكما أن الأطعمة كلَّما كانت ألذَّ طعماً،
وأكثرَ دَسَماً، وأكثَرَ حلاوةً= كان رجيعُها أقذرَ؛ فكذلك كلُّ شهوةٍ
كانت في النفس ألذَّ وأقوى؛ فالتأذي بها عند الموت أشد. اهـ وهذا في
الحرام، والاستعانة بنعمة الله على معصيته.
وكان
بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أُريكم الدنيا. فيذهبُ بهم إلى
مزبلةٍ فيقول: انظروا إلى ثمارهم، ودجاجهم، وعسلهم، وسمنهم!!
وعلى
كل حال، كم من الناس كان بينه وبين الدنيا من أسباب التوسُّع فيها، والنيل
من ملذاتها، ما كانت تتطلعُ إليه فيه الأعناق، مع حرصه على شرف نفسِه،
وإغاظة عدوِّه، وتكثير ماله، وآتاه الله منها الكثير= ثم تبدَّل الحال،
وأرته الدنيا وجهها القبيح، بعد أن أصبح لا غنى به عنها!! فهل من
مُدَّكِر.
وبعدُ؛ فهذه أمثالٌ مضروبةٌ في الدنيا للآخرة؛ فهل تكون –أخي- في الآخرةِ أحمدُ عاقبةً، وخيرٌ مآلاً.
قال ابن القيم –رحمه
الله-: مثال الدنيا مثال إناء مملوء عسلاً رآه الذباب فأقبل نحوه؛ فبعضه
قعد على حافة الإناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار، وبعضه
حمله الشره والحرص على أن رمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه؛ فلم يدعه
انغماسه فيه أن يتهنَّأ به إلا قليلا حتى هلك في وسطه.
فهل يفقه ذلك مَن أشغلته تجارتُه وصفقاته عن صلواته.
وهل عَرَف مقدار الدنيا من حبس زكاة ماله شُحاً بها، واستكمالاً لبعض أحلامه وتجارته.
وهل
خاف الله عبدٌ حمله الطمع أن أكلَ مال يتيم أو مسكينٍ أو فقير؛ فعبث
بمصلحته، وغرَّه؛ فضمَّ قليله إلى كثيره. ولا يفيق بعضُ هؤلاء حتى يكون
هذا القليل المسروق سبباً لحرق الكثير.
وهل
من دعا إلى مخالفة الشريعة، وإلى دعوات السوء في أمر النساء، وأعان على
إفسادهن بقلمه أو لسانه أو قراره أو فِعلِه يعي أنه عمَّا قليلٍ
ليُصبحُنَّ نادمين[/b][/b][/b]