عبدالله بن مسعود صاحب السَّواد
" ما أعرف أحدا أقرب سمتا ولا هديا ودلا بالنبي -صلى الله عليه
وسلم- من ابن أم عبد " حذيفة بن اليمان
من هو؟
هو عبدالله بن مسعود بن غافل الهذلي ، وكناه النبي -صلى الله عليه وسلم- أباعبدالرحمـن
مات أبوه في الجاهلية ، وأسلمت أمه وصحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان ينسب الى أمه أحيانا فيقال ( ابن أم عبد ) وأم عبد كنية أمه -رضي الله عنهما-
أول لقاء مع الرسول
يقول -رضي الله عنه- عن أول لقاء له مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كنت
غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي مُعَيْط ، فجاء النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأبو بكـر فقالا ( يا غلام ، هل عندك من لبن تسقينـا ؟)فقلت (إني مؤتمـن ولست ساقيكما ) فقال النبـي -صلى الله عليه وسلم- ( هل عندكمن شاة حائل ، لم يَنْزُ عليها الفحل ؟) قلت(نعم)فأتيتهما بها ،فاعتقلها النبي ومسح الضرع ودعا ربه فحفل الضرع ، ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعّرة
، فاحتلب فيها فشرب أبوبكر ، ثم شربت ثم قال للضرع ( اقْلِص)فقلص ، فأتيت
النبي بعد ذلك فقلت ( علمني من هذا القول ) فقال ( إنك غلام مُعَلّم)
إسلامه
لقد كان عبدالله بن مسعود من السابقين في الاسلام ، فهو سادس ستة دخلوا في
الاسلام ، وقد هاجر هجرة الحبشة وهجرة المدينة ، وشهد بدرا والمشاهد مع
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وهو الذي أجهز على أبي جهل ، ونَفَلَه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- سيفَ أبي جهل حين أتاه برأسه
وكان نحيل الجسم دقيق الساق ولكنه الايمان القوي بالله الذي يدفع صاحبه
الى مكارم الأخلاق ، وقد شهد له النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- بأن ساقه
الدقيقة أثقل في ميزان الله من جبل أحد ، وقد بشره الرسـول -صلى اللـه
عليه وسلم- بالجنة
فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فصعد شجرةً وأمَرَه أن
يأتيه منها بشيء ، فنظر أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ساقه
حين صعد فضحكوا من حُموشَةِ ساقه ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (مَمّ تضحكون ؟ لَرِجْلُ عبد الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أحُدٍ)
جهره بالقرآن
وعبد الله بن مسعود -رضي اللـه عنه- أول من جهر بالقرآن الكريم عند الكعبة
بعد رسول اللـه -صلى الله عليه وسلم- ، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقالوا ( والله ما سمعت قريشُ هذا القرآن يُجهرُ لها به
قط ، فمَنْ رجلٌ يُسمعهم؟)فقال عبد الله بن مسعود ( أنا ) فقالوا (
إنّا نخشاهم عليك ، إنّما نريدُ رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه
) فقال ( دعوني فإنّ الله سيمنعني ) فغدا عبد الله حتى أتى المقام في
الضحى وقريش في أنديتها ، حتى قام عبد الله عند المقام فقال رافعاً
صوته
بسم الله الرحمن الرحيم (الرّحْمن ، عَلّمَ القُرْآن ، خَلَقَ الإنْسَان ، عَلّمَهُ البَيَان )
فاستقبلها فقرأ بها ، فتأمّلوا فجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد ، ثم
قالوا ( إنّه ليتلوا بعض ما جاء به محمد ) فقاموا فجعلوا يضربونه في
وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه
وقد أثروا بوجهه ، فقالوا ( هذا الذي خشينا عليك ) فقال ( ما كان أعداء
الله قط أهون عليّ منهم الآن ، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً ؟!) قالوا
( حسبُكَ قد أسمعتهم ما يكرهون )
حفظ القرآن
أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه فقال
(اقرأ علي) قال (يا رسول الله أقرأعليك وعليك أنزل ؟)فقال -صلى
اللـه عليه وسلم- (إني أحب أن أسمعه من غيري) قال ابن مسعود فقرأت عليه
من سورة النسـاء حتى وصلت الى
قوله تعالى ( فكَيْفَ إذَا جِئْنَـا مِنْ كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيـد وجِئْنَـا بِكَ عَلى هَـؤلاءِ شَهِيـداً)(النساء/41)
فقال له النبي -صلىالله عليه وسلـم- ( حسبـك) قال ابن مسعود ( فالتفت اليه فاذا عيناه تذرفان )
كان ابن مسعود من علماء الصحابة -رضي الله عنهم- وحفظة القرآن الكريم
البارعين ، فيه انتشر علمه وفضله في الآفاق بكثرة أصحابه والآخذين عنه
الذين تتلمذوا على يديه وتربوا ، وقد كان يقول ( أخذت من فم رسـول اللـه
-صلى اللـه عليه- سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد ) وقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- (استقرئـوا القرآن من أربعة من عبـدالله بن مسعود وسـالم
مولى أبى حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ) كمـا كان يقول ( من أحب أن
يسمع القرآن غضاً كما أُنزل فليسمعه من ابن أم عبد )
قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( استخلفتَ )فقال ( إنّي إنْ
استخْلِفُ عليكم فعصيتم خليفتي عُذّبتُم ، ولكم ما حدّثكم به حُذيفة
فصدِّقوه ، وما أقرأكم عبد الله بن مسعود فاقْرَؤُوه )
وحين أخذ عثمان بن عفان من عبد الله مصحفه ، وحمله على الأخذ بالمصحف
الإمام الذي أمر بكتابته ، فزع المسلمون لعبد الله وقالوا ( إنّا لم
نأتِكَ زائرين ، ولكن جئنا حين راعنا هذا الخبر ) فقال ( إنّ القرآن
أُنزِلَ على نبيّكم -صلى الله عليه وسلم- من سبعة أبواب على سبعة أحرف ،
وإنّ الكتاب قبلكم كان ينزل -أو نزل- من باب واحد على حرف واحد ، معناهما
واحد )
قربه من الرسول
وابن مسعود صاحب نعلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدخلهما في يديه
عندما يخلعهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو كذلك صاحب وسادة النبي -صلى
الله عليه وسلم- ومطهرته أجاره الله من الشيطان فليس له سبيل
عليه وابن مسعود صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يعلمه
غيره ، لذا كان اسمه ( صاحب السَّواد)حتى قال الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ( لو كنت مؤمرا أحدا دون شورى المسلمين لأمَّرت ابن أُم عبد ) كما
أعطي مالم يعط لغيره حين قال له الرسول ( إذْنُكَ علي أن ترفع الحجاب
) فكان له الحق بأن يطرق باب الرسول الكريم في أي وقت من الليل أو
النهار يقول أبو موسى الأشعري ( لقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
وما أرى إلا ابن مسعود من أهله )
مكانته عند الصحابة
قال عنه أمير المؤمنين عمر ( لقد مُليء فِقْهاً ) وقال أبو موسى الأشعري
( لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحَبْرُ فيكم ) ويقول عنه حذيفة ( ما
أعرف أحدا أقرب سمتا ولا هديا ودلا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من ابن أم
عبد )
واجتمع نفر من الصحابة عند علي بن أبي طالب فقالوا له ( يا أمير المؤمنين
، ما رأينا رجلا كان أحسن خُلُقا ولا أرفق تعليما ، ولا أحسن مُجالسة ولا
أشد وَرَعا من عبد الله بن مسعود ) قال علي ( نشدتكم الله ، أهو صدق من
قلوبكم ؟قالوا ( نعم )قال ( اللهم إني أُشهدك ، اللهم إني أقول فيه
مثل ما قالوا ، أو أفضل ، لقد قرأ القرآن فأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه
في الدين عالم بالسنة )
وعن تميم بن حرام قال ( جالستُ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما
رأيتُ أحداً أزهدَ في الدنيا ولا أرغبَ في الآخرة ، ولا أحبّ إليّ أن أكون
في صلاحه ، من ابن مسعود )
ورعه
كان أشد ما يخشاه ابن مسعود -رضي الله عنه- هو أن يحدث بشيء عن الرسول
-صلى الله عليه وسلم- فيغير شيئا أو حرفا يقول عمرو بن ميمون ( اختلفت
الى عبد الله بن مسعود سنة ، ما سمعته يحدث فيها عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ، إلا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله ،
فعلاه الكـرب حتى رأيت العـرق يتحدر عن جبهتـه ، ثم قال مستدركا قريبا من
هذا قال الرسـول ) ويقول علقمـة بن قيـس ( كان عبد الله بن مسعود يقوم
عشية كل خميس متحدثا ، فما سمعته في عشية منها يقول قال رسول الله غير مرة
واحدة ، فنظرت إليه وهو معتمد على عصا ، فإذا عصاه ترتجف وتتزعزع )
حكمته
كان يملك عبدالله بن مسعود قدرة كبيرة على التعبير والنظر بعمق للأمور فهو
يقول عما نسميه نِسبية الزمان ( إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور
السموات والأرض من نور وجهه ) كما يقول عن العمل ( إني لأمقت الرجل إذ
أراه فارغا ، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ) ومن كلماته
الجامعة ( خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، وشر العمى عمى القلب
، وأعظم الخطايا الكذب ، وشر المكاسب الربا ، وشر المأكل مال اليتيم ، ومن
يعف يعف الله عنه ، ومن يغفر يغفر الله له )
وقال عبدالله بن مسعود ( لو أنّ أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله
لسَادوا أهل زمانهم ، ولكنّهم وضعوه عند أهل الدنيا لينالوا من دنياهم ،
فهانوا عليهم ، سمعتُ نبيّكم -صلى الله عليه وسلم- يقول ( مَنْ جعلَ
الهمومَ همّاً واحداً ، همّه المعاد ، كفاه الله سائرَ همومه ، ومَنْ
شعّبَتْهُ الهموم أحوال الدنيا لم يُبالِ الله في أي أوديتها هلك )
أمنيته
يقول ابن مسعود ( قمت من جوف الليل وأنا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
في غزوة تبوك ، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها ،
فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر ، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات
، وإذا هم قد حفروا له ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته وأبو
بكر وعمر يدلِّيَانه إليه ، والرسول يقول أدنيا إلي أخاكما فدلياه إليه
، فلما هيأه للحده قال اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه فيا ليتني
كنت صاحب هذه الحفرة
أهل الكوفة
ولاه أمير المؤمنين عمر بيت مال المسلمين بالكوفة ، وقال لأهلها حين أرسله
إليهم (إني والله الذي لا إله إلا هو قد آثرتكم به على نفسي ، فخذوا منه
وتعلموا )ولقد أحبه أهل الكوفة حبا لم يظفر بمثله أحد قبله حتى قالوا
له حين أراد الخليفة عثمان بن عفان عزله عن الكوفة ( أقم معنا ولا تخرج
ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه منه)ولكنه أجاب ( إن له علي الطاعة
، وإنها ستكون أمور وفتن ، ولا أحب أن أكون أول من يفتح أبوابها )
المرض
قال أنس بن مالك دخلنا على عبد اللـه بن مسعود نعوده في مرضه ، فقلنا (كيف أصبَحتَ أبا عبد الرحمن ؟)قال ( أصبحنا بنعمة اللـه إخوانا) قلنا ( كيف تجدُكَ يا أبا عبد الرحمن ؟) قال ( إجدُ قلبي مطمئناً
بالإيمان ) قلنا له ( ما تشتكي أبا عبد الرحمن ؟)قال (أشتكي ذنوبي وخطايايَ
) قلنا ( ما تشتهي شيئاً ؟) قال ( أشتهي مغفرة اللـه ورضوانه)قلنا ( ألا
ندعو لك طبيباً ؟) قال (الطبيب أمرضني -وفي رواية أخرىالطبيب أنزل بي ما ترون )
ثم بكى عبد الله ، ثم قال سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول (إنّ العبد إذا مرض يقول الرّب تبارك وتعالى ( عبدي في وثاقي ) فإن كان
نزل به المرض في فترةٍ منه قال ( اكتبوا له من الأمر ما كان في فترته))فأنا أبكي أنّه نزل بي المرض في فترةٍ ، ولوددتُ أنّه كان في اجتهادٍ
منّي )
الوصية
لمّا حضر عبد الله بن مسعود الموتُ دَعَا ابْنَه فقال ( يا عبد الرحمن بن
عبد الله بن مسعود ، إنّي موصيك بخمس خصال ، فاحفظهنّ عنّي أظهر اليأسَ
للناس ، فإنّ ذلك غنىً فاضل ، ودعْ مطلبَ الحاجات إلى الناس ، فإنّ ذلك
فقرٌ حاضر ، ودعْ ما يعتذر منه من الأمور ، ولا تعملْ به ، وإنِ استطعتَ
ألا يأتي عليك يوم إلا وأنتَ خير منك بالإمس فافعل ، وإذا صليتَ صلاةً
فصلِّ صلاةَ مودِّع كأنّك لا تصلي صلاة بعدها )
الحلم
لقي رجل ابن مسعود فقال لا تعدم حالِماً مذكّراً ( رأيتُكَ البارحة ،
ورأيتُ النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- على منبر مرتفع ، وأنتَ دونه وهو
يقول ( يابن مسعود هلُمّ إليّ ، فلقد جُفيتَ بعدي ) فقال عبد الله (آللّهِ أنتَ رأيتَهُ ؟) قال (نعم )قال ( فعزمتُ أن تخرج من المدينة
حتى تصلي عليّ ) فما لبث إلا أياماً حتى مات -رضي الله عنه- فشهد الرجل
الصلاة عليه
وفاته
وفي أواخر عمره -رضي الله عنه- قدم الى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة و
أتم التسليم توفي سنة اثنتين و ثلاثين للهجرة في أواخر خلافة
عثمان رضي الله عن ابن أم عبد و أمه صاحبي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وجعلهما رفيقيه في الجنة مع الخالدين
" ما أعرف أحدا أقرب سمتا ولا هديا ودلا بالنبي -صلى الله عليه
وسلم- من ابن أم عبد " حذيفة بن اليمان
من هو؟
هو عبدالله بن مسعود بن غافل الهذلي ، وكناه النبي -صلى الله عليه وسلم- أباعبدالرحمـن
مات أبوه في الجاهلية ، وأسلمت أمه وصحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان ينسب الى أمه أحيانا فيقال ( ابن أم عبد ) وأم عبد كنية أمه -رضي الله عنهما-
أول لقاء مع الرسول
يقول -رضي الله عنه- عن أول لقاء له مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كنت
غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي مُعَيْط ، فجاء النبي -صلى الله عليه
وسلم- وأبو بكـر فقالا ( يا غلام ، هل عندك من لبن تسقينـا ؟)فقلت (إني مؤتمـن ولست ساقيكما ) فقال النبـي -صلى الله عليه وسلم- ( هل عندكمن شاة حائل ، لم يَنْزُ عليها الفحل ؟) قلت(نعم)فأتيتهما بها ،فاعتقلها النبي ومسح الضرع ودعا ربه فحفل الضرع ، ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعّرة
، فاحتلب فيها فشرب أبوبكر ، ثم شربت ثم قال للضرع ( اقْلِص)فقلص ، فأتيت
النبي بعد ذلك فقلت ( علمني من هذا القول ) فقال ( إنك غلام مُعَلّم)
إسلامه
لقد كان عبدالله بن مسعود من السابقين في الاسلام ، فهو سادس ستة دخلوا في
الاسلام ، وقد هاجر هجرة الحبشة وهجرة المدينة ، وشهد بدرا والمشاهد مع
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وهو الذي أجهز على أبي جهل ، ونَفَلَه رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- سيفَ أبي جهل حين أتاه برأسه
وكان نحيل الجسم دقيق الساق ولكنه الايمان القوي بالله الذي يدفع صاحبه
الى مكارم الأخلاق ، وقد شهد له النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- بأن ساقه
الدقيقة أثقل في ميزان الله من جبل أحد ، وقد بشره الرسـول -صلى اللـه
عليه وسلم- بالجنة
فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فصعد شجرةً وأمَرَه أن
يأتيه منها بشيء ، فنظر أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ساقه
حين صعد فضحكوا من حُموشَةِ ساقه ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (مَمّ تضحكون ؟ لَرِجْلُ عبد الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من أحُدٍ)
جهره بالقرآن
وعبد الله بن مسعود -رضي اللـه عنه- أول من جهر بالقرآن الكريم عند الكعبة
بعد رسول اللـه -صلى الله عليه وسلم- ، اجتمع يوماً أصحاب رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فقالوا ( والله ما سمعت قريشُ هذا القرآن يُجهرُ لها به
قط ، فمَنْ رجلٌ يُسمعهم؟)فقال عبد الله بن مسعود ( أنا ) فقالوا (
إنّا نخشاهم عليك ، إنّما نريدُ رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه
) فقال ( دعوني فإنّ الله سيمنعني ) فغدا عبد الله حتى أتى المقام في
الضحى وقريش في أنديتها ، حتى قام عبد الله عند المقام فقال رافعاً
صوته
بسم الله الرحمن الرحيم (الرّحْمن ، عَلّمَ القُرْآن ، خَلَقَ الإنْسَان ، عَلّمَهُ البَيَان )
فاستقبلها فقرأ بها ، فتأمّلوا فجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد ، ثم
قالوا ( إنّه ليتلوا بعض ما جاء به محمد ) فقاموا فجعلوا يضربونه في
وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه
وقد أثروا بوجهه ، فقالوا ( هذا الذي خشينا عليك ) فقال ( ما كان أعداء
الله قط أهون عليّ منهم الآن ، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً ؟!) قالوا
( حسبُكَ قد أسمعتهم ما يكرهون )
حفظ القرآن
أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه فقال
(اقرأ علي) قال (يا رسول الله أقرأعليك وعليك أنزل ؟)فقال -صلى
اللـه عليه وسلم- (إني أحب أن أسمعه من غيري) قال ابن مسعود فقرأت عليه
من سورة النسـاء حتى وصلت الى
قوله تعالى ( فكَيْفَ إذَا جِئْنَـا مِنْ كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيـد وجِئْنَـا بِكَ عَلى هَـؤلاءِ شَهِيـداً)(النساء/41)
فقال له النبي -صلىالله عليه وسلـم- ( حسبـك) قال ابن مسعود ( فالتفت اليه فاذا عيناه تذرفان )
كان ابن مسعود من علماء الصحابة -رضي الله عنهم- وحفظة القرآن الكريم
البارعين ، فيه انتشر علمه وفضله في الآفاق بكثرة أصحابه والآخذين عنه
الذين تتلمذوا على يديه وتربوا ، وقد كان يقول ( أخذت من فم رسـول اللـه
-صلى اللـه عليه- سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد ) وقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- (استقرئـوا القرآن من أربعة من عبـدالله بن مسعود وسـالم
مولى أبى حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ) كمـا كان يقول ( من أحب أن
يسمع القرآن غضاً كما أُنزل فليسمعه من ابن أم عبد )
قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( استخلفتَ )فقال ( إنّي إنْ
استخْلِفُ عليكم فعصيتم خليفتي عُذّبتُم ، ولكم ما حدّثكم به حُذيفة
فصدِّقوه ، وما أقرأكم عبد الله بن مسعود فاقْرَؤُوه )
وحين أخذ عثمان بن عفان من عبد الله مصحفه ، وحمله على الأخذ بالمصحف
الإمام الذي أمر بكتابته ، فزع المسلمون لعبد الله وقالوا ( إنّا لم
نأتِكَ زائرين ، ولكن جئنا حين راعنا هذا الخبر ) فقال ( إنّ القرآن
أُنزِلَ على نبيّكم -صلى الله عليه وسلم- من سبعة أبواب على سبعة أحرف ،
وإنّ الكتاب قبلكم كان ينزل -أو نزل- من باب واحد على حرف واحد ، معناهما
واحد )
قربه من الرسول
وابن مسعود صاحب نعلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدخلهما في يديه
عندما يخلعهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو كذلك صاحب وسادة النبي -صلى
الله عليه وسلم- ومطهرته أجاره الله من الشيطان فليس له سبيل
عليه وابن مسعود صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا يعلمه
غيره ، لذا كان اسمه ( صاحب السَّواد)حتى قال الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ( لو كنت مؤمرا أحدا دون شورى المسلمين لأمَّرت ابن أُم عبد ) كما
أعطي مالم يعط لغيره حين قال له الرسول ( إذْنُكَ علي أن ترفع الحجاب
) فكان له الحق بأن يطرق باب الرسول الكريم في أي وقت من الليل أو
النهار يقول أبو موسى الأشعري ( لقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
وما أرى إلا ابن مسعود من أهله )
مكانته عند الصحابة
قال عنه أمير المؤمنين عمر ( لقد مُليء فِقْهاً ) وقال أبو موسى الأشعري
( لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحَبْرُ فيكم ) ويقول عنه حذيفة ( ما
أعرف أحدا أقرب سمتا ولا هديا ودلا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من ابن أم
عبد )
واجتمع نفر من الصحابة عند علي بن أبي طالب فقالوا له ( يا أمير المؤمنين
، ما رأينا رجلا كان أحسن خُلُقا ولا أرفق تعليما ، ولا أحسن مُجالسة ولا
أشد وَرَعا من عبد الله بن مسعود ) قال علي ( نشدتكم الله ، أهو صدق من
قلوبكم ؟قالوا ( نعم )قال ( اللهم إني أُشهدك ، اللهم إني أقول فيه
مثل ما قالوا ، أو أفضل ، لقد قرأ القرآن فأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه
في الدين عالم بالسنة )
وعن تميم بن حرام قال ( جالستُ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما
رأيتُ أحداً أزهدَ في الدنيا ولا أرغبَ في الآخرة ، ولا أحبّ إليّ أن أكون
في صلاحه ، من ابن مسعود )
ورعه
كان أشد ما يخشاه ابن مسعود -رضي الله عنه- هو أن يحدث بشيء عن الرسول
-صلى الله عليه وسلم- فيغير شيئا أو حرفا يقول عمرو بن ميمون ( اختلفت
الى عبد الله بن مسعود سنة ، ما سمعته يحدث فيها عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ، إلا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله ،
فعلاه الكـرب حتى رأيت العـرق يتحدر عن جبهتـه ، ثم قال مستدركا قريبا من
هذا قال الرسـول ) ويقول علقمـة بن قيـس ( كان عبد الله بن مسعود يقوم
عشية كل خميس متحدثا ، فما سمعته في عشية منها يقول قال رسول الله غير مرة
واحدة ، فنظرت إليه وهو معتمد على عصا ، فإذا عصاه ترتجف وتتزعزع )
حكمته
كان يملك عبدالله بن مسعود قدرة كبيرة على التعبير والنظر بعمق للأمور فهو
يقول عما نسميه نِسبية الزمان ( إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور
السموات والأرض من نور وجهه ) كما يقول عن العمل ( إني لأمقت الرجل إذ
أراه فارغا ، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة ) ومن كلماته
الجامعة ( خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، وشر العمى عمى القلب
، وأعظم الخطايا الكذب ، وشر المكاسب الربا ، وشر المأكل مال اليتيم ، ومن
يعف يعف الله عنه ، ومن يغفر يغفر الله له )
وقال عبدالله بن مسعود ( لو أنّ أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله
لسَادوا أهل زمانهم ، ولكنّهم وضعوه عند أهل الدنيا لينالوا من دنياهم ،
فهانوا عليهم ، سمعتُ نبيّكم -صلى الله عليه وسلم- يقول ( مَنْ جعلَ
الهمومَ همّاً واحداً ، همّه المعاد ، كفاه الله سائرَ همومه ، ومَنْ
شعّبَتْهُ الهموم أحوال الدنيا لم يُبالِ الله في أي أوديتها هلك )
أمنيته
يقول ابن مسعود ( قمت من جوف الليل وأنا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
في غزوة تبوك ، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها ،
فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر ، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات
، وإذا هم قد حفروا له ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته وأبو
بكر وعمر يدلِّيَانه إليه ، والرسول يقول أدنيا إلي أخاكما فدلياه إليه
، فلما هيأه للحده قال اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه فيا ليتني
كنت صاحب هذه الحفرة
أهل الكوفة
ولاه أمير المؤمنين عمر بيت مال المسلمين بالكوفة ، وقال لأهلها حين أرسله
إليهم (إني والله الذي لا إله إلا هو قد آثرتكم به على نفسي ، فخذوا منه
وتعلموا )ولقد أحبه أهل الكوفة حبا لم يظفر بمثله أحد قبله حتى قالوا
له حين أراد الخليفة عثمان بن عفان عزله عن الكوفة ( أقم معنا ولا تخرج
ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه منه)ولكنه أجاب ( إن له علي الطاعة
، وإنها ستكون أمور وفتن ، ولا أحب أن أكون أول من يفتح أبوابها )
المرض
قال أنس بن مالك دخلنا على عبد اللـه بن مسعود نعوده في مرضه ، فقلنا (كيف أصبَحتَ أبا عبد الرحمن ؟)قال ( أصبحنا بنعمة اللـه إخوانا) قلنا ( كيف تجدُكَ يا أبا عبد الرحمن ؟) قال ( إجدُ قلبي مطمئناً
بالإيمان ) قلنا له ( ما تشتكي أبا عبد الرحمن ؟)قال (أشتكي ذنوبي وخطايايَ
) قلنا ( ما تشتهي شيئاً ؟) قال ( أشتهي مغفرة اللـه ورضوانه)قلنا ( ألا
ندعو لك طبيباً ؟) قال (الطبيب أمرضني -وفي رواية أخرىالطبيب أنزل بي ما ترون )
ثم بكى عبد الله ، ثم قال سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول (إنّ العبد إذا مرض يقول الرّب تبارك وتعالى ( عبدي في وثاقي ) فإن كان
نزل به المرض في فترةٍ منه قال ( اكتبوا له من الأمر ما كان في فترته))فأنا أبكي أنّه نزل بي المرض في فترةٍ ، ولوددتُ أنّه كان في اجتهادٍ
منّي )
الوصية
لمّا حضر عبد الله بن مسعود الموتُ دَعَا ابْنَه فقال ( يا عبد الرحمن بن
عبد الله بن مسعود ، إنّي موصيك بخمس خصال ، فاحفظهنّ عنّي أظهر اليأسَ
للناس ، فإنّ ذلك غنىً فاضل ، ودعْ مطلبَ الحاجات إلى الناس ، فإنّ ذلك
فقرٌ حاضر ، ودعْ ما يعتذر منه من الأمور ، ولا تعملْ به ، وإنِ استطعتَ
ألا يأتي عليك يوم إلا وأنتَ خير منك بالإمس فافعل ، وإذا صليتَ صلاةً
فصلِّ صلاةَ مودِّع كأنّك لا تصلي صلاة بعدها )
الحلم
لقي رجل ابن مسعود فقال لا تعدم حالِماً مذكّراً ( رأيتُكَ البارحة ،
ورأيتُ النبـي -صلى اللـه عليه وسلم- على منبر مرتفع ، وأنتَ دونه وهو
يقول ( يابن مسعود هلُمّ إليّ ، فلقد جُفيتَ بعدي ) فقال عبد الله (آللّهِ أنتَ رأيتَهُ ؟) قال (نعم )قال ( فعزمتُ أن تخرج من المدينة
حتى تصلي عليّ ) فما لبث إلا أياماً حتى مات -رضي الله عنه- فشهد الرجل
الصلاة عليه
وفاته
وفي أواخر عمره -رضي الله عنه- قدم الى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة و
أتم التسليم توفي سنة اثنتين و ثلاثين للهجرة في أواخر خلافة
عثمان رضي الله عن ابن أم عبد و أمه صاحبي رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وجعلهما رفيقيه في الجنة مع الخالدين