الوصية الأولى : كُن أعبد الناس. . ! |
|
دكتور / بدر عبد الحميد هميسه |
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ. أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع. وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحَسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ. لفظ إسماعيل بن زكريا : أَقِلَّ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" 252 . أولاً : ما هي المحارم ؟ : المحارم هي : المحرمات والكبائر التي نهى عنها الإسلام والتي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) سورة الأعراف. وقال : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (151) سورة الأنعام. وقال : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3) سورة المائدة. وقال : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (23) سورة النساء. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاللهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ.)".أخرجه البخاري 4/12(2766) و((مسلم)) 1/64(175) و((أبو داود)) 2874. و((النَّسائي)) 6/257 و((ابن حِبان)) 5561 . فلقد نهى الإسلام عن : الشرك وقتل النفس والسرقة والزنا والنميمة والكذب والخيانة وعدم الأمانة وقول الزور وأكل الربا و عقوق الوالدين و قطع الرحم و شرب الخمر والسحر وغيرها من الكبائر. وكلها محارم أوجب الإسلام على المسلم اجتنباها , وهذه المحارم هي حِمى الله تعالى في أرضه، يجب أن تصان وتعظّم وتحترم كما يصان حمى ملوك أرض ويمنع، وفي الصحيحين عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ، وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ:إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً ، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ. أخرجه "البُخَارِي" 1/20(52) , و"مسلم"5/50(4101). ثانياً : كيف يجتنب المسلم المحارم ؟ : 1- الإخلاص وحسن المراقبة والخوف من الله : الإخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة المرسلين , وسر القبول من رب العالمين , قال تعالى : {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (65) سورة غافر. وقال : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة . عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شيء لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شيء لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ. أخرجه النسائي 6/25 وفي "الكبرى" 4333 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قال تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلّم : ( من تعلَّم علماً مما يُبتغى به وجه الله عزَّ وجل لا يتعلَّمه إلاَّ ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ـ يعني ريحها ـ يوم القيامة ) رواه أبو دواد . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا أما إنهم إخوانكم و من جلدتكم و يأخذون من الليل كما تأخذون و لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها .( صحيح ) انظر حديث رقم : 5028 في صحيح الجامع . قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى معرفاً الإخلاص: (الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنعٍ لمخلوق أو اكتسابِ مَحْمَدَةٍ عند الناس أو محبة مدحٍ لمخلوق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى. وقال: ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين) ["الرسالة القشيرية" ص95 ـ 96]. وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشدّ عليَّ من نيتي لأنها تتقلب عليَّ في كل حين . وقال بعض السلف : من سرَّه أن يُكمَّل له عمله فليُحسِّن نيته فإنَّ الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسن نيته حتى باللقمة يأكلها. قال سهل بن عبدالله التستري : ليس على النفس شيءٌ أشقُّ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب . كان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يقول ليس التقى بمن يقوم الليل ويصوم النهار ثم يخلط فيما بين ذلك ـ أي يعتدي ويطلق نظره وسمعه ولسانه وأحيانا يده إلى ما حرم الله .هذا ليس بمتقى إنما المتقى من يؤدى الفرائض ويجتنب المحارم فإن فعل بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير أي من أمور التطوع أما هذه فلابد منها لينال وصف المتقين قال أبو العتاهية : إذا ما خلوْتَ، الدّهرَ، يوْماً، فلا * * * تَقُلْ خَلَوْتَ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ ولاَ تحْسَبَنَّ اللهَ يغفِلُ مَا مضَى * * * وَلا أنَ مَا يخفَى عَلَيْهِ يغيب لهَوْنَا، لَعَمرُ اللّهِ، حتى تَتابَعَتْ * * * ذُنوبٌ على آثارهِنّ ذُنُوبُ فَيا لَيتَ أنّ اللّهَ يَغفِرُ ما مضَى * * * ويأْذَنُ فِي تَوْباتِنَا فنتُوبُ قال رجل لوهب بن الورد : عظني فقال له : اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك . وكان بعض السلف يقول : أتراك ترحم من لم يقرّ عينيه بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرُك . وقال بعضهم : ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تَصْفُ لك من عينٍ ناظرةٍ إليك ، فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيته ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ، ما أنت إلا أحدُ رجلين : إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت .وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت عليه . وقال الشافعي : أعز الأشياء ثلاثة : الجود من قلة ، والورع في خلوة ، وكلمة الحق عند من يُرجى أو يخاف . وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ لـه : أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبك ، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ، ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك ، والسلام . ولقي رجل أعرابية فأرادها على نفسها فأبت ، وقالت : أي ثكلتك أمك أمالك زاجر من كرم ؟ أمالك ناه من دين ؟ قال : والله لا يرانا إلا الكواكب ! قالت : ها بأبي أنت ! وأين مكوكبها ؟ . ( رواه البيهقي في الشعب) . قال محمد بن إسحاق : نزل السَّرِيُّ بن دينار في درب بمصر وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها ، فعلمت به المرأة ، فقالت : لأفتننه ؛ فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها ، فقال : مَالَكِ ؟! فقالت : هل لك في فراش وطي ، وعيش رخي ، فأقبل عليها وهو يقول : وكم ذي معاص نال منهن لذة * * * ومات فخلاّها وذاق الدواهيا تصرمُ لذّات المعاصي وتنقضي * * * وتبقى تِباعاتُ المعاصي كما هيا فيا سوءتا والله راءٍ وسامع * * * لعبدٍ بعين الله يغشى المعاصيـا كان لسليمان بن عبد الملك مؤذّن يؤذنه في قصره بأوقات الصلاة ،فجاءته جارية له مولّدة فقالت : يا أمير المؤمنين إن فلاناً المؤذن إذا مررت به لم يُقلع ببصره عني ، وكان سليمان أشد الناس غيرة ، فهمّ أن يأمر بالمؤذّن ، ثم قال : تزيني وتطيبي وامضي إليه فقولي له : إنه لم يخفَ عني نظرك إليّ ، وبقلبي منك أكثر مما بقلبك مني ، فإن تكن لك حاجة فقد أمكنك مني ما تُريد ، وهذا أمير المؤمنين غافل، فإن لم تُبادر لم أرجع إليك أبدا .فمضت إلى المؤذن وقالت له ما قال لها فرفع طرفه إلى السماء وقال : يا جليل أين سترك الجميل ؟ثم قال : اذهبي ولا ترجعي ، فعسى أن يكون الملتقى بين يدي مَن لا يخيّب الظنّ .فرجعت إلى سليمان وأخبرته الخبر فأرسل إليه ، فلما دخل على سليمان قال له الحاجب : إن أمير المؤمنين رأى أن يهب لك فلانة ، ويحمل إليك معها خمسين ألف درهم تنفقها عليها .قال : هيهات يا أمير المؤمنين ! إني والله ذبحت طمعي منها من أول لحظة رأيتها ، وجعلتها ذخيرة لي عند الله وأنا أستحيي أن أسترجع شيئا ادّخرته عنده .فجهد به سليمان أن يأخذ المال والجارية فلم يفعل ، فكان يعجب منه ، ولا يزال يُحدّث أصحابه بحديثه ( القاضي التنوخي : المستجاد من فعلات الأجواد 65 ). يقول أبو محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني في نونيته : وإذا خلوت بريبة في ظلمة * * * والنفس داعية إلى الطغيانِ فاستحي من نظر الإله وقل لها : * * * إن الذي خلق الظلام يراني وقال الشاعر : اللـه يعلـم كـل ما تضمـر * * * يعلم ما تخفـي وما تظهر وإن خدعت الناس لم تستطع * * * خداع من يطوي ومن ينشر قال النبي الصلاة والسلام : « اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك و احسب نفسك مع الموتى و اتق دعوة المظلوم فإنها مستجابة . ( حسن ) انظر حديث رقم : 1037 في صحيح الجامع . 2- معرفة آثار الذنوب والمعاصي : فاعلم - أيها الحبيب - أن انتهاك محارم الله سبب كل بلاء فما نزل بلاء إلا بذنب ، وعن أبي الدرداء أنه قال: (ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر) ثم بين ذلك قائلا: (إن العبد يخلو بمعاصي الله فيلقي الله بغضه في قلوب الخلق وهو لا يشعر). قال الشاعر : خلَّ الذنوبَ صغيرها * * * و كبيرها ، فهوَ التقى كنْ فوقَ ماشٍ فوقَ أر * * * ضِ الشوكِ يحذرُ ما يرى لا تحفرنّ صغيرة ً ، * * * إنّ الجِبالَ مِن الحَصَى قال الله {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى. فعلى كل مسلم أن يتقي الله ربه وينظر في أمره ويتوب إلى الله ويعلم أن أي فتنة تنزل بالمسلم سببها نفسه التي أمرته بفعل المعصية وأن المعاصيَ التي يقترفها الناس آناء الليل وأطراف النهار لها آثار مدمرة على الفرد والمجتمع والحياة كلها، وذلك أنّ قوام الحياة وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله والتمسك بشرعه الحنيف، وكلّ انحراف عن أمره، وكل إتباع لنزغات الشيطان, وكل تفلُّت من دينه إنما هو ركض وراء السراب، وضرب في تيه الشقاء، ولا بد أن يلمس الإنسان آثارها النكرة في نفسه وحياته ثم في أخراه يوم لقاء ربه. فمن آثار المعاصي السيئة : أولاً: نسيان العلم وذهاب الحفظ، ويا لها من عقوبة ما أقساها على أهل العلم وطلبته، وذلك أن العلم نور يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته المنيبة إليه سبحانه. ولذلك روي أن الإمام الشافعي رحمه الله لما جلس بين يدي إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله ورأى عليه مخايل النجابة والذكاء بادية، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه قال له ناصحا: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية. والشافعي رحمه الله هو القائل في الأبيات التي سارت بين طلبة العلم مسير الشمس: شكوت إلى وكيع سوء حفظي * * * فأرشدني إلى ترك المعاصي وقـال اعلم بـأن العلـم نورٌ * * * ونور الله لا يهدى لعاصـي ثانياً: ومن أعظم آثار المعاصي وأخطرها على العبد الوحشةُ التي تحدثها المعاصي بين العبد وربه، واستثقال الطاعات، واستمراء الفواحش، واعتيادٍ لها، ويا لها من سكرة ما أشد عماها على القلب إن لم يُمدّ صاحبها بنفحة من نفحات الرحمة والهداية، فإنه واقع في حُفرة من حفر الشقاء والعذاب الواصِب لا محالة. فيصبح لديه ألف للمعصية , بل يصل الأمر إلى خطورة المجاهرة والمفاخرة بتلك المعاصي , وهو ما لا يستوجب غضب الله وعدم معافاته . عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " كُلُّ أَمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ " .( أخرجه البخاري 8/24(6069) و"مسلم" 8/224 ). ثالثاً: من آثار المعاصي النكرة الحيرة والشقاء وتمزّق القلب في شعاب الدنيا، واللهث وراء السراب، وإتباع الشياطين المتربصة على أفواه السبل المنحرفة عن السبيل الحق. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ:خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللهِ ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ سُبُلٌ (قَالَ يَزِيدُ : مُتَفَرِّقَةٌ) ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ".(أخرجه أحمد 1/435(4142) والدارِمِي 202 و"النَّسائي" في "الكبرى" 11109) . رابعاً: ومن شؤم المعاصي ظهور الأوجاع الفتاكة وارتفاع البركة من الأقوات والأرزاق. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِى لَمْ تَكُنْ مَضَتْ في أَسْلاَفِهِمُ الِّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا في أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.أَخْرَجَهُ ابن ماجة (4019) وهو صحيح. (السلسلة الصحيحة 106). قال ابن عباس إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وان للسيئة لظلمة في القلب وسوادا في الوجه وهونا في البدن وضيقا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق (ابن تيمية : الزهد والورع والعبادة 50). أقبل رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال : يا شيخ إن نفسي تدفعني إلى المعاصي فعظني موعظة. فقال له إبراهيم : إذا دعتك نفسك إلى معصية الله فاعصه ولا بأس عليك، ولكن لي إليك خمسة شروط. قال الرجل : هاتها. قال إبراهيم : إذا أردت أن تعصي الله فاختبئ في مكان لا يراك الله فيه. فقال الرجل : سبحان الله، كيف أختفي عنه وهو لا تخفى عليه خافية. فقال إبراهيم : سبحان الله .. أما تستحي أن تعصي الله وهو يراك ؟! فسكت الرجل ثم قال : زدني. فقال إبراهيم : إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه فوق أرضه. فقال الرجل : سبحان الله .. وأين أذهب وكل ما في الكون له. فقال إبراهيم : أما تستحي أن تعصي الله وتسكن فوق أرضه ؟ قال الرجل : زدني. فقال إبراهيم : إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه. فقال الرجل : سبحان الله .. وكيف أعيش وكل النعم من عنده. فقال إبراهيم : أما تستحي أن تعصي الله وهو يطعمك ويسقيك ويحفظ عليك قوتك ؟ قال الرجل : زدني. فقال إبراهيم : فإذا عصيت الله ثم جاءتك الملائكة لتسوقك إلى النار فلا تذهب معهم. فقال الرجل : سبحان الله .. وهل لي قوة عليهم إنما يسوقونني سوقاً. فقال إبراهيم : فإذا قرأت ذنوبك في صحيفتك ف أنكر أن تكون فعلتها. فقال الرجل : سبحان الله .. فأين الكرام الكاتبون والملائكة الحافظون والشهود الناطقون. ثم بكى الرجل ومضى وهو يقول : أين الكرام الكاتبون والملائكة الحافظون والشهود الناطقون. قال الشاعر : تَفْنَى اللَّذَائِذُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا*** مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ والعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا *** لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِن بَعْدِهَا النَّارُ وسئل الحسن البصري عن سر زهده في الدنيا فقال أربعة أشياء: علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي، وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن يراني عاصيا، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربى. 3- معرفة مداخل الشيطان واجتنابها : للشيطان مداخل كثيرة إلى الإنسان يأتي إليه منها حتى يوقعه في محارم الله ومن هذه المداخل : العين واللسان والأذن والفرج واليد والرجل . قال ابن القيم : عباد الله احذروا مكائد الشيطان فإنه عارف بالعيوب بصير بإلقاء العبد في الذنوب له طرق كثيرة إلى الصدور فاستعيذوا من شره بمولاكم علام الغيوب(بستان الواعظين ورياض السامعين 6). ومن هذه المداخل يستطيع الشيطان أن يصرف الإنسان عن العمل , أو يجعله يسوفه , أو يعمل رياء وسمعه . ولا يستطيع الإنسان مقاومة الشيطان إلا باللجوء إلى الله الرحمن . قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) سورة فاطر. حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : ما تصنع بالشيطان إذا سول لق الخطايا ؟ قال : أجاهده .قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .قال : هذا يطول أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها أو منعك من العبور ما تصنع ؟ قال : أكابده وأرده جهدي .قال : هذا يطول عليك ، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك .- إن صدقت هذه الرواية - لم يكن تاركاً الدنيا كسباً، بل قلباً. فرحمة الله تعالى وحفظه لعبده الجاني لا حد ولا منتهى لها , فهو يحفظه وهو مقيم على معصيته . حكى ذو النون المصري، بينما أنا في بعض سياحتي إذ مررت بشاطئ البحر فرأيت عقرباً أسود قد أقبل إلى أن جاء إلى شاطئ البحر، فظننت أنه يشرب فقمت لأنظر فإذا بضفدع قد خرج من الماء وأتاه فحمله على ظهر وذهب به إلى ذلك الجانب، قال ذو النون فاتزرت بمئزري وعمت خلفه حتى إذا صعد من ذلك الجانب صعدت وسرت وراءه فما زال حتى جاء إلى شجرة، فوجدت تحتها غلاماً نائماً من شدة السكر قد أقبل عليه تنين عظيم، قال: فلصقت العقرب برأس التنين ولسعته فقتلته ثم رجعت إلى ظهر الضفدع فعبر بها إلى الماء وسار بها إلى المكان الذي جاءت منه قال ذو النون فتعجبت من ذلك وأنشدت: يا راقداً والجليل يحفظه * * * من كل سوء يكون في الظلم كيف تنام العيون عن ملك * * * يأتيك منه فوائد النعم ثم أيقظت الغلام وأخبرته بذلك قال: فلما سمع ذلك قال: أشهدك على أني قد تبت عن هذه الخصلة، ثم جرينا ذلك التنين ورميناه في البحر ولبس ذلك الغلام مسحاً وساح إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه. ولله در القائل : إني ابتليت بأربع ما سلطوا* * * إلا لشدة شقوتي وعنائي إبليس والدنيا ونفسي والهوى * * * كيف الخلاص فكلهم أعدائي فالتوبة التوبة عباد الله، فإن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها , وإياك والمحارم حتى تكون أعبد الناس |
وصية الأسبوع
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
- مساهمة رقم 1
وصية الأسبوع
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
الوصية الثانية : وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
أولاً : نعمة الرضا:
السعيد الحق هو من رضي بما قسم الله له , وصبر لمواقع القضاء خيره وشره , وأحس وذاق طعم الإيمان بربه , كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : " ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً. أخرجه أحمد 1/208(1778) و"مسلم" 1/46(60) والتِّرْمِذِيّ" 2623 .
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ قَالَ : رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
- زاد في رواية أحمد بن سُلَيْمَان : قَالَ : فَفَرِحْتُ بذَلِكَ وَسُررْتُ به. أخرجه "أبو داود" 1529 و"النَّسائي" ، في "عمل اليوم والليلة" 5 .
إن للرضا حلاوة تفوق حلاوة وعذوبة دونها كل عذوبة ، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان .
إن الاضطراب والتفرق والذل والخوف والفوضى كل ذلك مرهونٌ - سلبًا وإيجابًا - بالرضا بالدين وجودًا وعدما قال تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) سورة (آل عمران).
والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن , وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة .
والإنسان بدون الرضا يقع فريسة لليأس , وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدب وصوب .
قال تعالى : {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (84) سورة طـه.
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (5) سورة الضحى.
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في الرضا بما قسم الله تعالى . فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، قَالَ:اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا لي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا ، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا ، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. أخرجه أحمد 1/391(3709) وابن ماجة( 4109) و"التِّرمِذي" 2377 .
ولقد ضرب اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في القناعة والرضا , فعَنْ مَالِكِ الدَّارِ، أن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، أَخَذَ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ، فَقَالَ لِلْغُلامِ:"اذْهَبْ بِهِمْ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، ثُمَّ تَلَّهُ سَاعَةً فِي الْبَيْتِ، سَاعَةً حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَذَهَبَ بِهَا الْغُلامُ إِلَيْهِ"، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالِي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَةِ إِلَى فُلانٍ، وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى فُلانٍ، حَتَّى أَنْفَذَهَا، فَرَجَعَ الْغُلامُ وَأَخْبَرَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ، فَقَالَ:"اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ وَتَلَّهُ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ"، فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذَا فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَصَلَهُ، تَعَال ِي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، وَاذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، فَاطَّلَعَتِ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، فَقَالَتْ: نَحْنُ وَاللَّهِ مَسَاكِينُ، فَأَعْطِنَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْخِرْقَةِ إِلا دِينَارَانِ، فَدَحَا بِهِمَا إِلَيْهَا، وَرَجَعَ الْغُلامُ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ:"إِنَّهُمْ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ" . الطبراني : المعجم الكبير 14 / 424 , الزهد لابن المبارك 179 , وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 237.
وجاء في صفة الصفوة أن عمر بعث عميرا عاملا على حمص فمكث حولا لا يأتيه خبره ولم يبعث له شيئا لبيت مال المسلمين ، فقال عمر لكاتبه: اكتب إلى عمير فوالله ما أراه إلا قد خاننا إذا جاءك كتابي هذا فأقبل وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا . فأخذ عمير - لما وصله كتاب عمر - جرابه فوضع فيه زاده وقصعته وعلق أداوته وأخذ عنزته ثم أقبل يمشي من حمص حتى قدم المدينة فقدم وقد شحب لونه واغبر وجهه فدخل على عمر فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله قال عمر : ما شأنك ؟ قال : ما تراني صحيح البدن ظاهر الدم ، معي الدنيا أجرها بقرونها ؟ قال عمر : وما معك ؟ وظن عمر أنه جاءه بمال . قال : معي جرابي أجعل فيه زادي ، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي وأدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي ، ومعي عنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا إن عرض لي ، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي . وسأله عمر عن سيرته في قومه وعن الفيء فأخبره ، فحمد فعله فيهم ثم قال :جددوا لعمير عهدا .ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/698.
وها هو الصحابي الجليل عمران بن حصين الذي شارك مع النبي في الغزوات، وإذ به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بشللٍ يقعده تمامًا عن الحركة، ويستمر معه المرض مدة ثلاثين سنة، حتى أنَّهم نقبوا له في سريره حتى يقضى حاجته، فدخل عليه بعض الصحابة.. فلما رأوه بكوا، فنظر إليهم وقال: أنتم تبكون، أما أنا فراضٍ.. أحبُّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأشهدكم أنِّي راضٍ , ويقول : إن أحبّ الأشياء إلى نفسي، أحبها إلى الله"..!!.
وهذه السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ والتي قُتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده، وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه.. استمع إلى ما رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛ فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: "خلِّ سبيلها"، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت .
وهذا هو التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنه قد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على قطع رجله؟فدخلوا عليه، فقال: "اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدًا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي " ..
قال الشاعر:
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا *** وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ *** وكل الذي فوقالتراب تراب
فالمؤمن يدرك تماما أن الله جعل له هذه الدنيا دار اختبار وامتحان من اجتازه بنجاح عبر إلى دار أخرى الخير فيها من الله عميم يُنَادِى مُنَادٍ فيها : " إِنَّ لَكُمْ تَصِحُّوا فَلاَ تَسْقَمُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَمُوتُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبْتَئِسُوا أَبَدًا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أخرجه أحمد 2/319(8241) و "الدارِمِي" 2824 و"مسلم" 8/148(7259) و"التِّرمِذي" 3246 .
يقول الشاعر: محمد مصطفى حمام :
الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لي * * * ويُلقي على المآسي سُدولا
والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ *** أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا
أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا
أنـا راضٍ بـكل صِنفٍ من النا سِ * * * لـئـيـمـاً ألـفيتُه أو نبيلا
لـسـتُ أخـشـى من اللئيم أذاه *** لا، ولـن أسـألَ الـنـبيلَ فتيلا
ضلَّ من يحسب الرضا عن هَوان *** أو يـراه عـلـى الـنِّفاق دليلا
فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد * * * بـهـا في العباد إلا القليلا
والـرضـا آيـةُ البراءة والإيــ * * * ـمان بالله نـاصـراً ووكـيلا
عـلـمـتني الحياةُ أنَّ لها طعـ* * * ـمَين، مُـراً، وسائغاً معسولا
فـتـعـوَّدتُ حـالَـتَـيْها قريراً *** وألـفـتُ الـتـغـيير والتبديلا
فـذلـيـلٌ بالأمس صار عزيزاً *** وعـزيـزٌ بـالأمس صار ذليلا
ولـقـد يـنـهض العليلُ سليماً *** ولـقـد يـسـقـطُ السليمُ عليلا
عـلـمـتني الحياة أني إن عشـ* * *ـتُ لـنفسي أعِشْ حقيراً هزيلا
عـلـمـتـنـي الحياةُ أنيَ مهما *** أتـعـلَّـمْ فـلا أزالُ جَهولا
فتذكر – أيها الحبيب - قول النبي صلى الله عليه وسلم : " عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. أخرجه ابن ماجة (4031) والتِّرْمِذِيّ" 2396 .
ثانياً : الغنى الحقيقي :
بعض الناس يعتقد أن الغنى الحقيقي هو غنى الأموال والمناصب والوجاهات , وينسى أن كثيرا من الناس يملكون من الدنيا كثيرا لكنهم فقراء النفس ومساكين القلب , فقد أعمى الطمع قلوبهم قبل أعينهم عن مصدر السعادة والغنى الحقيقي , ألا وهو غنى القلب والرضا وسكينة النفس . قال تعالى : " يوم لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم ".سورة الشعراء الآيتان ( 88 - 89 ) .
فالقلب السليم هو القلب المطمئن الذي رضي بما قسم الله تعالى له واطمئن بذكر الله تعالى ,قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ.أخرجه أحمد 2/389(9050) و"البُخاري" 8/118(6446) و"الترمذي" 2373.
وعَنْ عَمْرو بنِ عَوْفٍ الأَنْصَارِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للأنصار ذات يَوْمٍ:
حينما سَمِعَتِ الأَنْصَارُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِمَالٍ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرَيْنِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، فَوَافَوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَعَرَّضُوا ، فَلَمَّا رَآهُمْ تَبَسَّمَ ، وَقَالَ : لَعَلَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَدِمَ ، وَقَدِمَ بِمَالٍ؟ قَالُوا : أَجَلْ ، يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : قَالَ : أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا خَيْرًا ، فَوَاللهِ ، مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ إِذَا صُبَّتْ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، فَتَنَافَسْتُمُوهَا كَمَا تَنَافَسَهَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.( متفق عليه ).
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَخَيْرُ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ، وَخَيْرُ الْغَنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ مَا اتُّبِعَ وَمَا قَلَّ، وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى . شعب الإيمان للبيهقي 6/440.
قال الشاعر:
وَمَا بَعْضُ الْإِقَامَةِ فِي دِيَارٍ ... يُهَانُ بِهَا الْفَتَى إِلَّا بَلَاءُ
وَبَعْضُ خَلَائِقِ الْأَعْدَاءِ دَاءٌ ... كَدَاءِ الْبَطْنِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا مَا يَشَاءُ
وَكُلُّ شَدِيدَةٍ نَزَلَتْ بِحَيٍّ ... سَيَأْتِي بَعْدَ شِدَّتِهَا رَخَاءُ
وَلَا يُعْطَى الْحَرِيصُ غِنًى بِحِرْصٍ ... وَقَدْ يُمْسِي لِذِي الْجُودِ الثَّرَاءُ
غِنَى النَّفْسِ مَا عَمَدَتْ غِنَاهَا ... وَفَقْرُ النَّفْسِ مَا عَمَدَتْ شَقَاءُ
وَلَيْسَ بِنَافِعٍ ذَا الْبُخْلِ مَالٌ ... وَذَا النَّوْلِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ
وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى" قلت نعم يا رسول الله قال: "فترى قلة المال هو الفقر" قلت نعم يا رسول الله قال: "إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب" ثم سألني عن رجل من قريش فقال: "هل تعرف فلانا" قلت نعم يا رسول الله قال: "فكيف تراه وتراه؟" قلت إذا سأل أعطي وإذا حضر أدخل ثم سألني عن رجل من أهل الصفة فقال: "هل تعرف فلانا" قلت لا والله ما أعرفه يا رسول الله قال فما زال يحليه وينعته حتى عرفته فقلت قد عرفته يا رسول الله قال: "فكيف تراه أو تراه" قلت رجل مسكين من أهل الصفة فقال: " هو خير من طلاع الأرض من الآخر" قلت يا رسول الله أفلا يعطى من بعض ما يعطى الآخر فقال: "إذا أعطي خيرا فهو أهله وإن صرف عنه فقد أعطي حسنة"
رواه ابن حبان في صحيحه 2/460 وإسناده صحيح على شرط مسلم , صحيح الترغيب والترهيب 1/201.
عن يحيى بن عروة بن أذينة، قال: أضاق أبي، إضاقة شديدة، وتعذرت عليه الأمور، فعمل شعراً امتدح به هشام بن عبد الملك.ودخل عليه في جملة الشعراء، فلما دخلوا عليه، نسبهم، فعرفهم جميعاً وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت ....، فأنشده:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو جلست أتاني لا يعنّيني
وأيّ حظّ امرئٍ لا بدّ يبلغه ... يوماً ولا بدّ أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يهدي إلى طبعٍ ... وعلقة من قليل العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
أقوم بالأمر إمّا كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
كم من فقير غنيّ النّفس تعرفه ... ومن غنيّ فقير النّفس مسكين
وكم عدوّ رماني لو قصدت له ... لم يأخذ البعض منّي حين يرميني
وكم أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إنّ انطواءك عنّي سوف يطويني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
فقال هشام: ألا جلست في بيتك، حتى يأتيك رزقك ؟.قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفاً.فافتقده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة.فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدى عليه.فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أن تكذبنا، وتصدق نفسك ؟ هذه جائزتك.فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.قال يحيى: وفرض له فريضتين، كنت في إحداهما. التنوخي : الفرج بعد الشدة 198 .
كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله * * * ويغنى غني المال وهو ذليل
وقال أبو فراس:
إن الغني هو الغني بنفسه * * * ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا * * * وإذا قنعت فبعض شيء كاف
قال ابن القيم رحمه الله : " وغنى النفس هو استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة, يريد استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره وإيمانا به واحتسابا لثوابه وخشية من عقابه.
لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم وهربا من ذمهم وازدرائهم, وطلبا للجاه والمنزلة عندهم فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها .لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا بحيث تصير لذتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي يقول يا بلال أرحنا بالصلاة وقال حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة فقرة العين فوق المحبة فجعل النساء والطيب مما يحبه وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة الله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه .فكيف لا تكون قرة العين وكيف تقر عين المحب بسواها فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه. وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب. فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة وإنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق سبحانه فجرى أثر ذلك النور في سمعه ونث ره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا وقوله نورا ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر .
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة.
فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات فكل منهما موجب للآخر وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة كما قال تعالى إن الصلواة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال تعالى( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) الحج وفي القراءة الأخرى يدفع فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه وإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما إغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) وقال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون).
كتاب طريق الهجرتين، الجزء 1، صفحة 71,72,73..
قال الشاعر :
النفس تجزع أن تكون فقيرة * * * والفقر خير من غناً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت* * * فجميع ما في الأرض لا يكفيها
وقال آخر:
هي القناعة فالزمها تكن ملكا * * * لو لم تكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها * * * هل راح منها بغير الطيب والكفن
وقال آخر:
اقنع بأيسر رزق أنت نائله * * * واحذر ولا تتعرض للإرادات
فما صفا البحر إلا وهو منتقص* * * ولا تعكر إلا في الزيادات
فقد عبد الله بن عباس رضي الله عنه بصره فقال معزيا لنفسه راضياً بقضاء الله تعالى وقدره :
إن يأخذ الله من عيني نورهما * * * ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج * * * وفي فمي صارم كاليسف مشهور
وقال الشاعر محمد مصطفى حمام واصفا نعمة الرضا :
الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لـي*** ويُـلقي على المآسي سُدولا
والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ *** أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا
أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا
أنـا راضٍ بـكل صِنفٍ من النـا سِ *** لـئـيـمـاً ألـفيتُه أو نبيلا
لـسـتُ أخـشـى من اللئيم أذاه *** لا، ولـن أسـألَ الـنـبيلَ فتيلا
فـسـح الله فـي فـؤادي فلا ***أرضـى مـن الحبِّ والوداد بديلا
فـي فـؤادي لـكل ضيف مكان *** فـكُـنِ الـضيفَ مؤنساً أوثقيلا
ضلَّ من يحسب الرضا عن هَوان *** أو يـراه عـلـى الـنِّفاق دليلا
فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد ***بـهـا في العباد إلا القليلا
والـرضـا آيـةُ البراءة والإي ***ـمـان بالله نـاصـراً ووكـيلا
عـلـمتني الحياة أنَّ الهوى سَيْـلٌ*** فـمـن ذا الذي يردُّ السيولا
ثـم قالت: والخير في الكون باقٍ *** بـل أرى الخيرَ فيه أصلاً أصيلا
قال صحبي: نراك تشكو جروحاً *** أيـن لـحن الرضا رخيماً جميلا
قـلـت أما جروح نفسي فقد ***عوَّدْتُـهـا بَـلـسَـمَ الرضا لتزولا
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم " اللهمَّ إني أسألك نفساً مطمئنةً تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
أولاً : نعمة الرضا:
السعيد الحق هو من رضي بما قسم الله له , وصبر لمواقع القضاء خيره وشره , وأحس وذاق طعم الإيمان بربه , كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : " ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً. أخرجه أحمد 1/208(1778) و"مسلم" 1/46(60) والتِّرْمِذِيّ" 2623 .
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ قَالَ : رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
- زاد في رواية أحمد بن سُلَيْمَان : قَالَ : فَفَرِحْتُ بذَلِكَ وَسُررْتُ به. أخرجه "أبو داود" 1529 و"النَّسائي" ، في "عمل اليوم والليلة" 5 .
إن للرضا حلاوة تفوق حلاوة وعذوبة دونها كل عذوبة ، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان .
إن الاضطراب والتفرق والذل والخوف والفوضى كل ذلك مرهونٌ - سلبًا وإيجابًا - بالرضا بالدين وجودًا وعدما قال تعالى: " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) سورة (آل عمران).
والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن , وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة .
والإنسان بدون الرضا يقع فريسة لليأس , وتتناوشه الهموم والغموم من كل حدب وصوب .
قال تعالى : {قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (84) سورة طـه.
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (5) سورة الضحى.
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في الرضا بما قسم الله تعالى . فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، قَالَ:اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا لي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا ، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا ، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. أخرجه أحمد 1/391(3709) وابن ماجة( 4109) و"التِّرمِذي" 2377 .
ولقد ضرب اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في القناعة والرضا , فعَنْ مَالِكِ الدَّارِ، أن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، أَخَذَ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ، فَقَالَ لِلْغُلامِ:"اذْهَبْ بِهِمْ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، ثُمَّ تَلَّهُ سَاعَةً فِي الْبَيْتِ، سَاعَةً حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ، فَذَهَبَ بِهَا الْغُلامُ إِلَيْهِ"، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذِهِ فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: وَصَلَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالِي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي بِهَذِهِ السَّبْعَةِ إِلَى فُلانٍ، وَبِهَذِهِ الْخَمْسَةِ إِلَى فُلانٍ، حَتَّى أَنْفَذَهَا، فَرَجَعَ الْغُلامُ وَأَخْبَرَهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ أَعَدَّ مِثْلَهَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ، فَقَالَ:"اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى مُعَاذِ بن جَبَلٍ وَتَلَّهُ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ"، فَذَهَبَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: اجْعَلْ هَذَا فِي بَعْضِ حَاجَتِكَ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَصَلَهُ، تَعَال ِي يَا جَارِيَةُ، اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، وَاذْهَبِي إِلَى بَيْتِ فُلانٍ بِكَذَا، فَاطَّلَعَتِ امْرَأَةُ مُعَاذٍ، فَقَالَتْ: نَحْنُ وَاللَّهِ مَسَاكِينُ، فَأَعْطِنَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْخِرْقَةِ إِلا دِينَارَانِ، فَدَحَا بِهِمَا إِلَيْهَا، وَرَجَعَ الْغُلامُ إِلَى عُمَرَ، فَأَخْبَرَهُ وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَقَالَ:"إِنَّهُمْ إِخْوَةٌ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ" . الطبراني : المعجم الكبير 14 / 424 , الزهد لابن المبارك 179 , وأبو نعيم في " الحلية " 1 / 237.
وجاء في صفة الصفوة أن عمر بعث عميرا عاملا على حمص فمكث حولا لا يأتيه خبره ولم يبعث له شيئا لبيت مال المسلمين ، فقال عمر لكاتبه: اكتب إلى عمير فوالله ما أراه إلا قد خاننا إذا جاءك كتابي هذا فأقبل وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا . فأخذ عمير - لما وصله كتاب عمر - جرابه فوضع فيه زاده وقصعته وعلق أداوته وأخذ عنزته ثم أقبل يمشي من حمص حتى قدم المدينة فقدم وقد شحب لونه واغبر وجهه فدخل على عمر فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله قال عمر : ما شأنك ؟ قال : ما تراني صحيح البدن ظاهر الدم ، معي الدنيا أجرها بقرونها ؟ قال عمر : وما معك ؟ وظن عمر أنه جاءه بمال . قال : معي جرابي أجعل فيه زادي ، وقصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي وأدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي ، ومعي عنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدوا إن عرض لي ، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي . وسأله عمر عن سيرته في قومه وعن الفيء فأخبره ، فحمد فعله فيهم ثم قال :جددوا لعمير عهدا .ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/698.
وها هو الصحابي الجليل عمران بن حصين الذي شارك مع النبي في الغزوات، وإذ به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يصاب بشللٍ يقعده تمامًا عن الحركة، ويستمر معه المرض مدة ثلاثين سنة، حتى أنَّهم نقبوا له في سريره حتى يقضى حاجته، فدخل عليه بعض الصحابة.. فلما رأوه بكوا، فنظر إليهم وقال: أنتم تبكون، أما أنا فراضٍ.. أحبُّ ما أحبه الله، وأرضى بما ارتضاه الله، وأسعد بما اختاره الله، وأشهدكم أنِّي راضٍ , ويقول : إن أحبّ الأشياء إلى نفسي، أحبها إلى الله"..!!.
وهذه السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ والتي قُتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده، وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه.. استمع إلى ما رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛ فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: "خلِّ سبيلها"، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت .
وهذا هو التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنه قد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على قطع رجله؟فدخلوا عليه، فقال: "اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدًا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي " ..
قال الشاعر:
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا *** وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ *** وكل الذي فوقالتراب تراب
فالمؤمن يدرك تماما أن الله جعل له هذه الدنيا دار اختبار وامتحان من اجتازه بنجاح عبر إلى دار أخرى الخير فيها من الله عميم يُنَادِى مُنَادٍ فيها : " إِنَّ لَكُمْ تَصِحُّوا فَلاَ تَسْقَمُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَمُوتُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَدًا ، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبْتَئِسُوا أَبَدًا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أخرجه أحمد 2/319(8241) و "الدارِمِي" 2824 و"مسلم" 8/148(7259) و"التِّرمِذي" 3246 .
يقول الشاعر: محمد مصطفى حمام :
الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لي * * * ويُلقي على المآسي سُدولا
والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ *** أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا
أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا
أنـا راضٍ بـكل صِنفٍ من النا سِ * * * لـئـيـمـاً ألـفيتُه أو نبيلا
لـسـتُ أخـشـى من اللئيم أذاه *** لا، ولـن أسـألَ الـنـبيلَ فتيلا
ضلَّ من يحسب الرضا عن هَوان *** أو يـراه عـلـى الـنِّفاق دليلا
فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد * * * بـهـا في العباد إلا القليلا
والـرضـا آيـةُ البراءة والإيــ * * * ـمان بالله نـاصـراً ووكـيلا
عـلـمـتني الحياةُ أنَّ لها طعـ* * * ـمَين، مُـراً، وسائغاً معسولا
فـتـعـوَّدتُ حـالَـتَـيْها قريراً *** وألـفـتُ الـتـغـيير والتبديلا
فـذلـيـلٌ بالأمس صار عزيزاً *** وعـزيـزٌ بـالأمس صار ذليلا
ولـقـد يـنـهض العليلُ سليماً *** ولـقـد يـسـقـطُ السليمُ عليلا
عـلـمـتني الحياة أني إن عشـ* * *ـتُ لـنفسي أعِشْ حقيراً هزيلا
عـلـمـتـنـي الحياةُ أنيَ مهما *** أتـعـلَّـمْ فـلا أزالُ جَهولا
فتذكر – أيها الحبيب - قول النبي صلى الله عليه وسلم : " عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ. أخرجه ابن ماجة (4031) والتِّرْمِذِيّ" 2396 .
ثانياً : الغنى الحقيقي :
بعض الناس يعتقد أن الغنى الحقيقي هو غنى الأموال والمناصب والوجاهات , وينسى أن كثيرا من الناس يملكون من الدنيا كثيرا لكنهم فقراء النفس ومساكين القلب , فقد أعمى الطمع قلوبهم قبل أعينهم عن مصدر السعادة والغنى الحقيقي , ألا وهو غنى القلب والرضا وسكينة النفس . قال تعالى : " يوم لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم ".سورة الشعراء الآيتان ( 88 - 89 ) .
فالقلب السليم هو القلب المطمئن الذي رضي بما قسم الله تعالى له واطمئن بذكر الله تعالى ,قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ.أخرجه أحمد 2/389(9050) و"البُخاري" 8/118(6446) و"الترمذي" 2373.
وعَنْ عَمْرو بنِ عَوْفٍ الأَنْصَارِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للأنصار ذات يَوْمٍ:
حينما سَمِعَتِ الأَنْصَارُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِمَالٍ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرَيْنِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، فَوَافَوْا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَعَرَّضُوا ، فَلَمَّا رَآهُمْ تَبَسَّمَ ، وَقَالَ : لَعَلَّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَدِمَ ، وَقَدِمَ بِمَالٍ؟ قَالُوا : أَجَلْ ، يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : قَالَ : أَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا خَيْرًا ، فَوَاللهِ ، مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ إِذَا صُبَّتْ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، فَتَنَافَسْتُمُوهَا كَمَا تَنَافَسَهَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.( متفق عليه ).
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَخَيْرُ مَا أُلْقِيَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ، وَخَيْرُ الْغَنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ مَا اتُّبِعَ وَمَا قَلَّ، وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى . شعب الإيمان للبيهقي 6/440.
قال الشاعر:
وَمَا بَعْضُ الْإِقَامَةِ فِي دِيَارٍ ... يُهَانُ بِهَا الْفَتَى إِلَّا بَلَاءُ
وَبَعْضُ خَلَائِقِ الْأَعْدَاءِ دَاءٌ ... كَدَاءِ الْبَطْنِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا مَا يَشَاءُ
وَكُلُّ شَدِيدَةٍ نَزَلَتْ بِحَيٍّ ... سَيَأْتِي بَعْدَ شِدَّتِهَا رَخَاءُ
وَلَا يُعْطَى الْحَرِيصُ غِنًى بِحِرْصٍ ... وَقَدْ يُمْسِي لِذِي الْجُودِ الثَّرَاءُ
غِنَى النَّفْسِ مَا عَمَدَتْ غِنَاهَا ... وَفَقْرُ النَّفْسِ مَا عَمَدَتْ شَقَاءُ
وَلَيْسَ بِنَافِعٍ ذَا الْبُخْلِ مَالٌ ... وَذَا النَّوْلِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ
وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى" قلت نعم يا رسول الله قال: "فترى قلة المال هو الفقر" قلت نعم يا رسول الله قال: "إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب" ثم سألني عن رجل من قريش فقال: "هل تعرف فلانا" قلت نعم يا رسول الله قال: "فكيف تراه وتراه؟" قلت إذا سأل أعطي وإذا حضر أدخل ثم سألني عن رجل من أهل الصفة فقال: "هل تعرف فلانا" قلت لا والله ما أعرفه يا رسول الله قال فما زال يحليه وينعته حتى عرفته فقلت قد عرفته يا رسول الله قال: "فكيف تراه أو تراه" قلت رجل مسكين من أهل الصفة فقال: " هو خير من طلاع الأرض من الآخر" قلت يا رسول الله أفلا يعطى من بعض ما يعطى الآخر فقال: "إذا أعطي خيرا فهو أهله وإن صرف عنه فقد أعطي حسنة"
رواه ابن حبان في صحيحه 2/460 وإسناده صحيح على شرط مسلم , صحيح الترغيب والترهيب 1/201.
عن يحيى بن عروة بن أذينة، قال: أضاق أبي، إضاقة شديدة، وتعذرت عليه الأمور، فعمل شعراً امتدح به هشام بن عبد الملك.ودخل عليه في جملة الشعراء، فلما دخلوا عليه، نسبهم، فعرفهم جميعاً وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت ....، فأنشده:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو جلست أتاني لا يعنّيني
وأيّ حظّ امرئٍ لا بدّ يبلغه ... يوماً ولا بدّ أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يهدي إلى طبعٍ ... وعلقة من قليل العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
أقوم بالأمر إمّا كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
كم من فقير غنيّ النّفس تعرفه ... ومن غنيّ فقير النّفس مسكين
وكم عدوّ رماني لو قصدت له ... لم يأخذ البعض منّي حين يرميني
وكم أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إنّ انطواءك عنّي سوف يطويني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
فقال هشام: ألا جلست في بيتك، حتى يأتيك رزقك ؟.قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفاً.فافتقده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة.فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدى عليه.فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أن تكذبنا، وتصدق نفسك ؟ هذه جائزتك.فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.قال يحيى: وفرض له فريضتين، كنت في إحداهما. التنوخي : الفرج بعد الشدة 198 .
كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله * * * ويغنى غني المال وهو ذليل
وقال أبو فراس:
إن الغني هو الغني بنفسه * * * ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا * * * وإذا قنعت فبعض شيء كاف
قال ابن القيم رحمه الله : " وغنى النفس هو استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة, يريد استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره وإيمانا به واحتسابا لثوابه وخشية من عقابه.
لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم وهربا من ذمهم وازدرائهم, وطلبا للجاه والمنزلة عندهم فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها .لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا بحيث تصير لذتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي يقول يا بلال أرحنا بالصلاة وقال حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة فقرة العين فوق المحبة فجعل النساء والطيب مما يحبه وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة الله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه .فكيف لا تكون قرة العين وكيف تقر عين المحب بسواها فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه. وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب. فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة وإنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق سبحانه فجرى أثر ذلك النور في سمعه ونث ره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا وقوله نورا ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر .
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة.
فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات فكل منهما موجب للآخر وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة كما قال تعالى إن الصلواة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال تعالى( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) الحج وفي القراءة الأخرى يدفع فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه وإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما إغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) وقال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون).
كتاب طريق الهجرتين، الجزء 1، صفحة 71,72,73..
قال الشاعر :
النفس تجزع أن تكون فقيرة * * * والفقر خير من غناً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت* * * فجميع ما في الأرض لا يكفيها
وقال آخر:
هي القناعة فالزمها تكن ملكا * * * لو لم تكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها * * * هل راح منها بغير الطيب والكفن
وقال آخر:
اقنع بأيسر رزق أنت نائله * * * واحذر ولا تتعرض للإرادات
فما صفا البحر إلا وهو منتقص* * * ولا تعكر إلا في الزيادات
فقد عبد الله بن عباس رضي الله عنه بصره فقال معزيا لنفسه راضياً بقضاء الله تعالى وقدره :
إن يأخذ الله من عيني نورهما * * * ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج * * * وفي فمي صارم كاليسف مشهور
وقال الشاعر محمد مصطفى حمام واصفا نعمة الرضا :
الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لـي*** ويُـلقي على المآسي سُدولا
والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ *** أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا
أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا
أنـا راضٍ بـكل صِنفٍ من النـا سِ *** لـئـيـمـاً ألـفيتُه أو نبيلا
لـسـتُ أخـشـى من اللئيم أذاه *** لا، ولـن أسـألَ الـنـبيلَ فتيلا
فـسـح الله فـي فـؤادي فلا ***أرضـى مـن الحبِّ والوداد بديلا
فـي فـؤادي لـكل ضيف مكان *** فـكُـنِ الـضيفَ مؤنساً أوثقيلا
ضلَّ من يحسب الرضا عن هَوان *** أو يـراه عـلـى الـنِّفاق دليلا
فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد ***بـهـا في العباد إلا القليلا
والـرضـا آيـةُ البراءة والإي ***ـمـان بالله نـاصـراً ووكـيلا
عـلـمتني الحياة أنَّ الهوى سَيْـلٌ*** فـمـن ذا الذي يردُّ السيولا
ثـم قالت: والخير في الكون باقٍ *** بـل أرى الخيرَ فيه أصلاً أصيلا
قال صحبي: نراك تشكو جروحاً *** أيـن لـحن الرضا رخيماً جميلا
قـلـت أما جروح نفسي فقد ***عوَّدْتُـهـا بَـلـسَـمَ الرضا لتزولا
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم " اللهمَّ إني أسألك نفساً مطمئنةً تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
الوصية الثالثة : وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا،وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
حث الإسلام على الإحسان إلى جميع الجيران , وجعل ذلك ودليلاً على صدق الإيمان , ولقد عظَّم الإسلام حق الجار, وأوصى الله تعالى في القرآن الكريم بالإحسان إليه فقال جلّ شأنه : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)[النساء:36]. الجار ذي القربى : يعني الجار القريب .
والجار الجنب : يعني الجار البعيد الأجنبي منك .
قال أهل العلم : والجيران ثلاثة :
1ـ جار قريب مسلم ؛ فله حق الجوار ، والقرابة ، والإسلام .
2 ـ وجار مسلم غريب قريب ؛ فله حق الجوار ، والإسلام .
3 ـ وجار كافر ؛ فله حق الجوار ، وإن كان قريباً فله حق القرابة أيضاً .
فهؤلاء الجيران لهم حقوق : حقوق واجبة ، وحقوق يجب تركها .
وظل جبريل عليه السلام يوصي نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظنَّ النبي أن الشرع سيأتي بتوريث الجار, عَنْ مُحَمَّدٍ بن زيد. قال : سمعت ابْنِ عُمَرَ يقول : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.
أَخْرَجَهُ أحمد 2/85(5577) و"البُخَارِي" 8/12(6015 و"مسلم" 8/37(6780) .
وفي هذه الوصية جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان إلى الجار من علامات الايمان فقال : " وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا" وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ.
أخرجه "أحمد" 4/31 (16484) و"الدارِمِي" 2036 و"مسلم" 1/50 (85) .
بل وصل الأمر إلى درجة جعل فيها الشرع محبة الخير للجيران من الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه".( رواه مسلم ).
والذي يحسن إلى جاره هو خير الناس عند الله: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ:خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ.
أخرجه أحمد 2/167(6566) و"الدارِمِي" 2437 و"البُخَارِي" في "الأدب المفرد" 115 و"التِّرمِذي" 1944 .
ولا شك أن الجار له حقوق كثيرة نشير إلى بعضها، فمن أهم هذه الحقوق:
1- رد السلام وإجابة الدعوة:
وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين بعضهم على بعض، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ ، وَيَشْهُدُ جَنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ.
- وفي رواية : حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : رَدُّ السَّلاَمِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.
أخرجه أحمد 2/540(10979) و"البُخاري" 1240 و"مسلم" 5701 .
2- كف الأذى عنه:
وهو من أعظم حقوق الجيران، والأذى وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار أشد التحذير , عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : الْجَارُ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : شَرُّهُ.
أخرجه أحمد 4/31 (16486) و"البُخاري" 8/12 (6016) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
أخرجه أحمد 2/372(8842) و"البُخاري" في "الأدب المفرد" 121 و"مسلم" 81 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ:قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا ، وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ باِلأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ.
- وفي رواية : قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ ، وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ ، وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا خَيْرَ فِيهَا ، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، قَالُوا : وَفُلانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ ، وَلا تُؤْذِي أَحَدًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
أخرجه أحمد 2/440(9673) و"البُخاري" في "الأدب المفرد" 119 .
بل إن من يؤذي جيرانه يستحق لعنة الله قبل لعنة الناس , عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ " فَطَرَحَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ يَلْعَنُونَهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ ؟ قَالَ: " وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ ؟ " قَالَ: يَلْعَنُونِي، قَالَ: " فَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ النَّاسِ "، قَالَ: فَإِنِّي لَا أَعُودُ أَبَدًا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَجَاءَ الَّذِي شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَعْ مَتَاعَكَ، فَقَدْ أَمِنْتُ أَوْ كُفِيتَ "، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَكِيمٍ: " إِنَّ لَعْنَةَ اللهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ "
رواه الحاكم في مستدركه 4/183 , وقال الذهبي قي التلخيص : على شرط مسلم.
وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك , قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) أخرجه البخاري في تفسير القرآن برقم4477 وأخرجه مسلم في الإيمان برقم 86.
وفي مسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره)) أخرجه أحمد من حديث المقداد بن الأسود برقم 23342.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.
وقال علي للعباس رضي الله عنهما: ما بقي من كرم أخلافك؟ قال: الأفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
ذكر صاحب كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه".
وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني * * * ويحفظ عرسي و الخليل يخون
فيا عجباً للخـل يهتـك حرمتي * * * ويا عجباً للكلب كيف يصـون
3- تحمل أذى الجار:
تحمل أذى الناس وبخاصة الجيران درجة رفيعة من درجات الإيمان قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)[المؤمنون:96]. وقال (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[الشورى:43].
و لنا في رسول الله أسوة حسنة ، و نعلم قصة اليهودي الذي كانت هديته اليومية لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيسا من القمامة على باب البيت ، فإذا خرج عليه الصلاة و السلام ذات يوم و لم يجد القمامة علم أن جاره المؤذي منعه مانع ، فذهب ليطمئن عليه فإذا هو مريض.
عن مطرِّف يعني ابن عبد الله قال كان يبلغني عن أبي ذر حديثٌ، وكنت أشتهي لقاءه، فلقيته، فقلت يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديثٌ، وكنت أشتهي لقاءك قال لله أبوك، لقد لقيتني فهات، قلت حديثٌ بلغني أن رسول الله حدثك، قال «إن الله عز وجل يُحب ثلاثة ويبغض ثلاثة» قال فما إخالني أكذب على رسول الله قال فقلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل ؟ قال «رجل غزا في سبيل الله صابرًا محتسبًا فقاتل حتى قُتل، وأنتم تجدونه عندكم مكتوبًا في كتاب الله عز وجل» ثم تلا «يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ» الصف ، قلت ومن ؟ قال «رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت.
أخرجه الطيالسى (ص 63 ، رقم 468) ، والطبرانى (2/152 ، رقم 1637) ، والحاكم (2/98 ، رقم 2446) وقال : صحيح على شرط مسلم . والبيهقى (9/160 ، رقم 18282) . صحيح الترغيب والترهيب 2/347.
وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.
وقد ورد عن الحسن – رحمه الله – قوله: ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى.
جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود وقال : إن لي جار يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ فقال ابن مسعود: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه .
قال منصور الفقيه يمدح بعض إخوانه من جيرانه:
يا سائلي عن حسين * * * وقد مضى أشكاله
أقلُّ ما في حسين * * * كفُّ الأذى واحتماله
ولهذا قيل: مروءة الرجل صدق لسانه، واحتمال عثرات جيرانه، وبذل المعروف لأهل زمانه، وكفه الأذى عن أباعده وجيرانه. عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لعلي بن عبد الرحمن بن هذيل ص 431.
ويروى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان له جار نصراني يؤذيه دائما كان بينه وبين بيته طاقة"فتحة"
كان ينزل غائط الرجل النصراني علي الشيخ وكان الشيخ ينظفه كلما وجده وفي يوم كان الشيخ سينتقل لمنزل آخر وذهب للرجل النصراني وقال له إن الجار الجديد قد لا يتحمل وأنه كان ينظف هذا الغائط كل يوم لكن لا يدري هل الجار الجديد يتحمل أم لا ؟ فأسلم الرجل النصراني من حسن جيرة الشيخ.
4- تفقده وقضاء حوائجه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم . رواه الطبراني والبزار وإسناده حسن .
وعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال لقد أتى علينا زمان أو قال حين وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يا رب هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه.
أَخْرَجَهُ البخاري في (الأدب المفرد) 111 وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (81) حسن لغيره.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا ذر ، إذا طبخت مرقة ؛ فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك )) رواه مسلم 127.
وفي رواية له عن أبي ذر قال : إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني : (( إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ، ثم انظر أهل بيت من جيرانك ، فأصبهم منها بمعروفٍ )) 128.
وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها و لو فرسن شاةٍ )) متفق عليه (130).
وإن الصالحين كانوا يتفقدون جيرانهم ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول.
ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي. وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منكِ بابًا".
5- ستره وصيانة عرضه:
وإن هذه لمن آكد الحقوق، فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
وقد كان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية، يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي * * * حتى يواري جارتي مأواها
وأما في الإسلام فيقول أحدهم:
ما ضر جاري إذ أجاوره * * * ألا يكون لبـيـته سـتـر
أعمى إذا ما جارتي خرجت * * * حتى يواري جارتي الخدر
روى الخطيب البغدادي عن عبد الله بن رجاء الدغاني قال: كان لأبي حنيفة جار بالكوفة اسكاف يعمل نهاره أجمع حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحما فطبخه أو سمكة فيشويها ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ... فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم وكان أبو حنيفة يسمع جلبته وأبو حنيفة كان يصلي الليل كله ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه فقيل أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد وركب بغلته واستأذن على الأمير قال الأمير إيذنوا له واقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ففعل ولم يزل الأمير يوسع له من مجلسه وقال ما حاجتك قال لي جار اسكاف أخذه العسس منذ ليال يأمر الأمير بتخليته فقال نعم وكل من أخذه بتلك الليلة إلى يومنا هذا فأمر بتخليتهم أجمعين فركب أبو حنيفة والاسكافي يمشي وراءه فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال يا فتى أضعناك قال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن حرمة الجوار ورعاية الحق وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان ما . الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد 13 /363, أخبار أبي حنيفة وأصحابه : القاضي أبي عبد الله حسين بن علي الصيمري 51 .
قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتاب إحياء علوم الدين (وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ولا يطيل معه الكلام ويعوده في المرض ويعزيه في المصيبة ويقوم عنه في العزاء ويهنئه في الفرح ويصفح عن زلاته ولا يتطلع إلى عوراته ولا يضايقه في الوضع الجذع على جداره ولا يضيق طريقه إلى الدار ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات الكثيرة.
ولقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار، ويتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار.
اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم *** لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
نعم والله إن الدار لا تصلح حتى يصلح الجار.
كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي رضي الله عنه، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك: أنه كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.
ولله در القائل:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي *** ولم يعرفوا جاراً هناك ينغص
فقلت لهـم كفـوا المـلام فإنها *** بجيرانها تغلوا الديار وترخص
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((أربع من السعادة وذكر منها الجار الصالح))، ثم قال: ((أربع من الشقاوة: وذكر منها الجار السوء))، رواه ابن حبان في صحيحه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعوذ من جار السوء فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول))، رواه ابن حبان في صحيح.
ولم أر مثل الجهل يدعو إلى الردى *** ولا مثل جار السوء يكره جانبه
أيها المسلمون: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الجيران عند الله خيرهم لجاره))، صححه ابن خزيمة وابن حبان.
قال أبو حازم: كان أهل الجاهلية أحسن منكم جواراً، فإن قلتم: لا، فبيننا وبينكم قول شاعرهم:
ناري ونار الجار واحدة ***وإليه قبلي تنـزل القـدر
ما ضر جاراً لي أجاوره*** ألا يكـون لبيتـه سـتر
أعمى إذا جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر
ويروى أن جاراً لـابن المقفع أراد بيع داره في دين ركبه، وكان ابن المقفع يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدما، فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
وكذلك يروى أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص. جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص ؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمائة ألف درهم. فكان الجار يباع قبل الدار.
وكان من دعاء أحد الصالحين: وأعوذ بك من جار سوء إن رأى مني حسنة كتمها وأخفاها , وإن رأى مني سيئة أذاعها وأفشاها.
6- النصح له :
ديننا الإسلامي هو دين التناصح والتواصي بالحق والبر والصبر , فعن أبي رقية تميم الداري عن النبي " قال: الدين النصيحة ثلاثًا قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم . رواه مسلم (55).
فالنصيحة واجبة لعموم المسلمين، وهي في حق الجار أوجب وآكد، ومع ذلك قلَّ من يحرص عليها ويسديها لجيرانه، مع أنه يوجد من بين الجيران من لا يشهد صلاة الجماعة، وقد يوجد فيهم من يتعاطى المسكرات، وقد يوجد من يدخل آلات الفساد في بيته، وقد يوجد بينهم من يعق والديه، أو يقطع أرحامه، أو يؤذي جيرانه بأنواع من الأذى.
وقد يوجد من بينهم من هو متلبس بكثير من المخالفات الشرعية.
ومع ذلك يندر أن تجد من يُعْنى بالنصيحة، ويقْدُرُها قدرها؛ فيقوم بمناصحة جيرانه بالأسلوب الحكيم المناسب.
ومن هنا تتزايد الشرور، وتترسخ، وتُسْتَمْرأ.
فواجب على الجيران أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يُكَمِّل بعضهم بعضًا، حتى تشيع فيهم المحبة، وتُرْفَعَ عنهم العقوبة.
وعلى المنصوح أن يتقبل النصيحة بقبول حسن، وأن يحسن الظن بمن نصح له، وأن يشكره على حرصه ومبادرته.
بل عليه أن يتلقى من يهدي إليه شيئاً من عيوبه بالبشر والفرح، وأن يضمر له المحبة والمودة؛ فإصلاح النفس لا يتأتى بتجاهل عيوبها، ولا بإلقاء الستار عليها، والعاقل اللبيب يفرح بالنقد الهادف كفرحه بالثناء الصادق.
ورحم الله من قال : رحم الله امرأ أهدى إلىّ عيوبي " .
فعلينا أن نراجع حقوق جيراننا وأن نتذكر دائما وصية النبي صلى الله عليه وسلم : " وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا،وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
حث الإسلام على الإحسان إلى جميع الجيران , وجعل ذلك ودليلاً على صدق الإيمان , ولقد عظَّم الإسلام حق الجار, وأوصى الله تعالى في القرآن الكريم بالإحسان إليه فقال جلّ شأنه : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)[النساء:36]. الجار ذي القربى : يعني الجار القريب .
والجار الجنب : يعني الجار البعيد الأجنبي منك .
قال أهل العلم : والجيران ثلاثة :
1ـ جار قريب مسلم ؛ فله حق الجوار ، والقرابة ، والإسلام .
2 ـ وجار مسلم غريب قريب ؛ فله حق الجوار ، والإسلام .
3 ـ وجار كافر ؛ فله حق الجوار ، وإن كان قريباً فله حق القرابة أيضاً .
فهؤلاء الجيران لهم حقوق : حقوق واجبة ، وحقوق يجب تركها .
وظل جبريل عليه السلام يوصي نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظنَّ النبي أن الشرع سيأتي بتوريث الجار, عَنْ مُحَمَّدٍ بن زيد. قال : سمعت ابْنِ عُمَرَ يقول : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.
أَخْرَجَهُ أحمد 2/85(5577) و"البُخَارِي" 8/12(6015 و"مسلم" 8/37(6780) .
وفي هذه الوصية جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان إلى الجار من علامات الايمان فقال : " وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا" وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ.
أخرجه "أحمد" 4/31 (16484) و"الدارِمِي" 2036 و"مسلم" 1/50 (85) .
بل وصل الأمر إلى درجة جعل فيها الشرع محبة الخير للجيران من الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه".( رواه مسلم ).
والذي يحسن إلى جاره هو خير الناس عند الله: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ:خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ.
أخرجه أحمد 2/167(6566) و"الدارِمِي" 2437 و"البُخَارِي" في "الأدب المفرد" 115 و"التِّرمِذي" 1944 .
ولا شك أن الجار له حقوق كثيرة نشير إلى بعضها، فمن أهم هذه الحقوق:
1- رد السلام وإجابة الدعوة:
وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين بعضهم على بعض، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ ، وَيَشْهُدُ جَنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ.
- وفي رواية : حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : رَدُّ السَّلاَمِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ.
أخرجه أحمد 2/540(10979) و"البُخاري" 1240 و"مسلم" 5701 .
2- كف الأذى عنه:
وهو من أعظم حقوق الجيران، والأذى وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار أشد التحذير , عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : الْجَارُ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : شَرُّهُ.
أخرجه أحمد 4/31 (16486) و"البُخاري" 8/12 (6016) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
أخرجه أحمد 2/372(8842) و"البُخاري" في "الأدب المفرد" 121 و"مسلم" 81 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ:قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ فُلاَنَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا ، وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ باِلأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ.
- وفي رواية : قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ ، وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ ، وَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لا خَيْرَ فِيهَا ، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، قَالُوا : وَفُلانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ ، وَلا تُؤْذِي أَحَدًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
أخرجه أحمد 2/440(9673) و"البُخاري" في "الأدب المفرد" 119 .
بل إن من يؤذي جيرانه يستحق لعنة الله قبل لعنة الناس , عَنْ أَبِي عُمَرَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ " فَطَرَحَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ يَلْعَنُونَهُ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ ؟ قَالَ: " وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ ؟ " قَالَ: يَلْعَنُونِي، قَالَ: " فَقَدْ لَعَنَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ النَّاسِ "، قَالَ: فَإِنِّي لَا أَعُودُ أَبَدًا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَجَاءَ الَّذِي شَكَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَعْ مَتَاعَكَ، فَقَدْ أَمِنْتُ أَوْ كُفِيتَ "، وَقَالَ غَيْرُهُ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَكِيمٍ: " إِنَّ لَعْنَةَ اللهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ "
رواه الحاكم في مستدركه 4/183 , وقال الذهبي قي التلخيص : على شرط مسلم.
وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك , قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) أخرجه البخاري في تفسير القرآن برقم4477 وأخرجه مسلم في الإيمان برقم 86.
وفي مسند الإمام أحمد قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره)) أخرجه أحمد من حديث المقداد بن الأسود برقم 23342.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.
وقال علي للعباس رضي الله عنهما: ما بقي من كرم أخلافك؟ قال: الأفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
ذكر صاحب كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه".
وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني * * * ويحفظ عرسي و الخليل يخون
فيا عجباً للخـل يهتـك حرمتي * * * ويا عجباً للكلب كيف يصـون
3- تحمل أذى الجار:
تحمل أذى الناس وبخاصة الجيران درجة رفيعة من درجات الإيمان قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ)[المؤمنون:96]. وقال (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)[الشورى:43].
و لنا في رسول الله أسوة حسنة ، و نعلم قصة اليهودي الذي كانت هديته اليومية لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيسا من القمامة على باب البيت ، فإذا خرج عليه الصلاة و السلام ذات يوم و لم يجد القمامة علم أن جاره المؤذي منعه مانع ، فذهب ليطمئن عليه فإذا هو مريض.
عن مطرِّف يعني ابن عبد الله قال كان يبلغني عن أبي ذر حديثٌ، وكنت أشتهي لقاءه، فلقيته، فقلت يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديثٌ، وكنت أشتهي لقاءك قال لله أبوك، لقد لقيتني فهات، قلت حديثٌ بلغني أن رسول الله حدثك، قال «إن الله عز وجل يُحب ثلاثة ويبغض ثلاثة» قال فما إخالني أكذب على رسول الله قال فقلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل ؟ قال «رجل غزا في سبيل الله صابرًا محتسبًا فقاتل حتى قُتل، وأنتم تجدونه عندكم مكتوبًا في كتاب الله عز وجل» ثم تلا «يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ» الصف ، قلت ومن ؟ قال «رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت.
أخرجه الطيالسى (ص 63 ، رقم 468) ، والطبرانى (2/152 ، رقم 1637) ، والحاكم (2/98 ، رقم 2446) وقال : صحيح على شرط مسلم . والبيهقى (9/160 ، رقم 18282) . صحيح الترغيب والترهيب 2/347.
وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.
وقد ورد عن الحسن – رحمه الله – قوله: ليس حُسْنُ الجوار كفّ الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى.
جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود وقال : إن لي جار يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ فقال ابن مسعود: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه .
قال منصور الفقيه يمدح بعض إخوانه من جيرانه:
يا سائلي عن حسين * * * وقد مضى أشكاله
أقلُّ ما في حسين * * * كفُّ الأذى واحتماله
ولهذا قيل: مروءة الرجل صدق لسانه، واحتمال عثرات جيرانه، وبذل المعروف لأهل زمانه، وكفه الأذى عن أباعده وجيرانه. عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لعلي بن عبد الرحمن بن هذيل ص 431.
ويروى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان له جار نصراني يؤذيه دائما كان بينه وبين بيته طاقة"فتحة"
كان ينزل غائط الرجل النصراني علي الشيخ وكان الشيخ ينظفه كلما وجده وفي يوم كان الشيخ سينتقل لمنزل آخر وذهب للرجل النصراني وقال له إن الجار الجديد قد لا يتحمل وأنه كان ينظف هذا الغائط كل يوم لكن لا يدري هل الجار الجديد يتحمل أم لا ؟ فأسلم الرجل النصراني من حسن جيرة الشيخ.
4- تفقده وقضاء حوائجه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم . رواه الطبراني والبزار وإسناده حسن .
وعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال لقد أتى علينا زمان أو قال حين وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ثم الآن الدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يا رب هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه.
أَخْرَجَهُ البخاري في (الأدب المفرد) 111 وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (81) حسن لغيره.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا ذر ، إذا طبخت مرقة ؛ فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك )) رواه مسلم 127.
وفي رواية له عن أبي ذر قال : إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني : (( إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ، ثم انظر أهل بيت من جيرانك ، فأصبهم منها بمعروفٍ )) 128.
وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها و لو فرسن شاةٍ )) متفق عليه (130).
وإن الصالحين كانوا يتفقدون جيرانهم ويسعون في قضاء حوائجهم، فقد كانت الهدية تأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث بها إلى جاره، ويبعث بها الجار إلى جار آخر، وهكذا تدور على أكثر من عشرة دور حتى ترجع إلى الأول.
ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي. وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منكِ بابًا".
5- ستره وصيانة عرضه:
وإن هذه لمن آكد الحقوق، فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
وقد كان العرب يفخرون بصيانتهم أعراض الجيران حتى في الجاهلية، يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي * * * حتى يواري جارتي مأواها
وأما في الإسلام فيقول أحدهم:
ما ضر جاري إذ أجاوره * * * ألا يكون لبـيـته سـتـر
أعمى إذا ما جارتي خرجت * * * حتى يواري جارتي الخدر
روى الخطيب البغدادي عن عبد الله بن رجاء الدغاني قال: كان لأبي حنيفة جار بالكوفة اسكاف يعمل نهاره أجمع حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحما فطبخه أو سمكة فيشويها ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ... فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم وكان أبو حنيفة يسمع جلبته وأبو حنيفة كان يصلي الليل كله ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه فقيل أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد وركب بغلته واستأذن على الأمير قال الأمير إيذنوا له واقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ففعل ولم يزل الأمير يوسع له من مجلسه وقال ما حاجتك قال لي جار اسكاف أخذه العسس منذ ليال يأمر الأمير بتخليته فقال نعم وكل من أخذه بتلك الليلة إلى يومنا هذا فأمر بتخليتهم أجمعين فركب أبو حنيفة والاسكافي يمشي وراءه فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال يا فتى أضعناك قال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرا عن حرمة الجوار ورعاية الحق وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان ما . الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد 13 /363, أخبار أبي حنيفة وأصحابه : القاضي أبي عبد الله حسين بن علي الصيمري 51 .
قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتاب إحياء علوم الدين (وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ولا يطيل معه الكلام ويعوده في المرض ويعزيه في المصيبة ويقوم عنه في العزاء ويهنئه في الفرح ويصفح عن زلاته ولا يتطلع إلى عوراته ولا يضايقه في الوضع الجذع على جداره ولا يضيق طريقه إلى الدار ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات الكثيرة.
ولقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار، ويتفاخرون بحسن الجوار، وعلى قدر الجار يكون ثمن الدار.
اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم *** لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
نعم والله إن الدار لا تصلح حتى يصلح الجار.
كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي رضي الله عنه، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك: أنه كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.
ولله در القائل:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي *** ولم يعرفوا جاراً هناك ينغص
فقلت لهـم كفـوا المـلام فإنها *** بجيرانها تغلوا الديار وترخص
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((أربع من السعادة وذكر منها الجار الصالح))، ثم قال: ((أربع من الشقاوة: وذكر منها الجار السوء))، رواه ابن حبان في صحيحه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعوذ من جار السوء فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول))، رواه ابن حبان في صحيح.
ولم أر مثل الجهل يدعو إلى الردى *** ولا مثل جار السوء يكره جانبه
أيها المسلمون: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الجيران عند الله خيرهم لجاره))، صححه ابن خزيمة وابن حبان.
قال أبو حازم: كان أهل الجاهلية أحسن منكم جواراً، فإن قلتم: لا، فبيننا وبينكم قول شاعرهم:
ناري ونار الجار واحدة ***وإليه قبلي تنـزل القـدر
ما ضر جاراً لي أجاوره*** ألا يكـون لبيتـه سـتر
أعمى إذا جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر
ويروى أن جاراً لـابن المقفع أراد بيع داره في دين ركبه، وكان ابن المقفع يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدما، فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
وكذلك يروى أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص. جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص ؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمائة ألف درهم. فكان الجار يباع قبل الدار.
وكان من دعاء أحد الصالحين: وأعوذ بك من جار سوء إن رأى مني حسنة كتمها وأخفاها , وإن رأى مني سيئة أذاعها وأفشاها.
6- النصح له :
ديننا الإسلامي هو دين التناصح والتواصي بالحق والبر والصبر , فعن أبي رقية تميم الداري عن النبي " قال: الدين النصيحة ثلاثًا قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم . رواه مسلم (55).
فالنصيحة واجبة لعموم المسلمين، وهي في حق الجار أوجب وآكد، ومع ذلك قلَّ من يحرص عليها ويسديها لجيرانه، مع أنه يوجد من بين الجيران من لا يشهد صلاة الجماعة، وقد يوجد فيهم من يتعاطى المسكرات، وقد يوجد من يدخل آلات الفساد في بيته، وقد يوجد بينهم من يعق والديه، أو يقطع أرحامه، أو يؤذي جيرانه بأنواع من الأذى.
وقد يوجد من بينهم من هو متلبس بكثير من المخالفات الشرعية.
ومع ذلك يندر أن تجد من يُعْنى بالنصيحة، ويقْدُرُها قدرها؛ فيقوم بمناصحة جيرانه بالأسلوب الحكيم المناسب.
ومن هنا تتزايد الشرور، وتترسخ، وتُسْتَمْرأ.
فواجب على الجيران أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يُكَمِّل بعضهم بعضًا، حتى تشيع فيهم المحبة، وتُرْفَعَ عنهم العقوبة.
وعلى المنصوح أن يتقبل النصيحة بقبول حسن، وأن يحسن الظن بمن نصح له، وأن يشكره على حرصه ومبادرته.
بل عليه أن يتلقى من يهدي إليه شيئاً من عيوبه بالبشر والفرح، وأن يضمر له المحبة والمودة؛ فإصلاح النفس لا يتأتى بتجاهل عيوبها، ولا بإلقاء الستار عليها، والعاقل اللبيب يفرح بالنقد الهادف كفرحه بالثناء الصادق.
ورحم الله من قال : رحم الله امرأ أهدى إلىّ عيوبي " .
فعلينا أن نراجع حقوق جيراننا وأن نتذكر دائما وصية النبي صلى الله عليه وسلم : " وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
الوصية الرابعة : وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
من علامات الإيمان كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية الجامعة المانعة أن يحب المسلم للناس ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه .
فمن حق أخيك عليك أن تكره مضرته وتبادر إلى دفعها ، فان مسه ما يتأذى به شاركته الألم أما أن تكون ميت العاطفة ، قليل الاهتمام لان المصيبة وقعت بعيدا عنك فالأمر لا يعنيك فهذا شيء مؤسف . ومن حق الأخوة أن يشعر المسلم بان إخوانه ظهير له في السراء والضراء ، ويجب علينا التناصر فيما بيننا على الحق والبعد عن الظلم بكل إشكاله وقد هان المسلمون إفرادا ، وهانوا أمما يوم وهت أواصر الأخوة الإيمانية بينهم ، إن هذا التخاذل جر على المسلمين الذلة والعار.
فمِن أصول الدّين أخوّةَ الإسلام، فأخوّةُ الإسلام رابِطةٌ متينَة ودرع حصينَة ونُصرة مبينة، أخوَّةُ الإسلام بها يتواصَل المسلمون، وبها يتناصرون ويقوَون، وبها يتراحمون ويتعاطَفون، وبها يتوارَثون، وبها يتعاوَنون، وبها يتناصَحون، ذكرها الله تعالى بعد الأمرِ بتقواه فقال عزّ وجلّ: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [الأنفال:1]، وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10]، وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله [التوبة:71].
وعن النّعمانِ بن بشير رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم مثَلُ الجسد إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له الجَسَد بالحمَّى والسّهَر» رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضه بعضًا» [رواه البخاري ومسلم]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابَروا، ولا يبع بعضكم على بيعِ بَعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدرِه ثلاث مرّات ـ، بحسب امرِئٍ من الشّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرَام: دمه وماله وعِرضُه» رواه مسلم.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ . قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ، فَأَتَيْتُهُمْ ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ . فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً ، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ . إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : الصَّلاَةَ جَامِعَةً ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي ، إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَإِنَّ أُمًّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ ، وَأَمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ مُهْلِكَتِي . ثُمّ َ تَنْكَشِفُ ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ ، هَذِهِ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا ، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ. فَدَنَوْتُ مِنْهُ . فَقُلْتُ لَهُ : أَنْشُدُكَ اللهَ ، آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ . وَقَالَ : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي . فَقُلْتُ لَهُ : هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا ، وَاللهُ يَقُولُ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَن ْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، قَالَ : فَسَكَتَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَطْعِهُ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ. أخرجه أحمد 2/161(650 و6503) و"مسلم" 6/18(4804) و"أبو داود" 4248 و"ابن ماجة" 3956 و"النَّسائي" 7/ 15.
وقد مدح الله أنصار نبيه صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم:{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}سورةالحشر:9.
فمع أنهم هم الذين آووا المهاجرين ووواسوهم بل وقاسموهم الأموال وأعانوهم نصروا الرسول وبذلوا أموالهم وأرواحهم لنصرة هذا الدين لم يجدوا في صدورهم شيئا حين فضل الله المهاجرين ، وفوق ذلك لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المهاجرين تركوا ديارهم وأموالهم، قالوا:هذه أموالنا، اقسمها بيننا وبين إخواننا المهاجرين اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، فرفض النبي عليه والصلاة والسلام إلا بأن يعمل المهاجرون ويشتركوا مع الأنصار في الثمر.
كما أنهم لما عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهم أموال البحرين قالوا:لا حتى تشرك إخواننا المهاجرين.فأي نفوس هذه التي جادت وسمت حتى أبت أن تأخذ مما أحل الله لها حتى يشترك بقية المسلمين فيها؟!.
فإذا وجدت الإنسان حريصاً على حب الخير للناس، حريصاً على نفعهم، سخي النفس، سمح النفس، يبذل ويعطي ويعين، تجده غداً أحرى بإمامة الناس، ودلالتهم على الخير، ونشر الخير بينهم؛ لأنه عود نفسه على ما فيه خير دينه ودنياه وآخرته، فيحرص طالب العلم على أنه يبذل الخير لإخوانه، وأنه يعينهم، وتكون هناك المعاني الإسلامية الكريمة من الإيثار والحب والتصافي والتواد.
يقول ابنُ عباسٍ متحدِّثاً بنعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ : فيَّ ثلاثُ خصالٍ : ما نزل غيثٌ بأرضٍ ، إلاَّ حمدتُ الله وسُررتُ بذلك ، وليس لي فيها شاةٌ ولا بعيرٌ . ولا سمعتُ بقاضٍ عادلٍ ، إلاَّ دعوتُ الله له ، وليس عنده لي قضيَّةٌ . ولا عَرَفتُ آيةً منْ كتابِ اللهِ ، إلاَّ ودِدتُ أنَّ الناس يعرفون منها ما أعرفُ .
يقولُ الشاعرُ :
ولَو أنِّي حُبيتُ الخ ُلدَ فردًا *** لما أحببتُ بالخلدِ انفِرَادا
فلا هطَلَت ع ليَّ ولا بأرضِي *** سحا ئبُ يسَ تنتظمَ البِلادا
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حب الخير للناس , فها هي قصته مع جابر بن عبد الله t الصحابي الجليل .. قتل أبوه في معركة أحد .. وخلف عنده سبع أخوات ليس لهن عائل غيره .. وخلف ديناً كثيراً .. على ظهر هذا الشاب الذي لا يزال في أول شبابه ..فكان جابر دائماً ساهم الفكر .. منشغل البال بأمر دَينه وأخواته .. والغرماء يطالبونه صباحاً ومساءً ..خرج جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع .. وكان لشدة فقره على جمل كليل ضعيف ما يكاد يسير .. ولم يجد جابر ما يشتري به جملاً .. فسبقه الناس وصار هو في آخر القافلة ..وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في آخر الجيش .. فأدرك جابراً وجمله يدبُّ به دبيباً .. والناس قد سبقوه .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مالك يا جابر ؟قال : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنخه .. فأناخه جابر وأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته .. ثم قال : أعطني العصا من يدك أو اقطع لي عصا من شجرة ..فناوله جابر العصا ..برَكَ الجمل على الأرض كليلاً ضعيفاً ..فأقبل صلى الله عليه وسلم إلى الجمل وضربه بالعصا شيئاً يسيراً .. فنهض الجمل يجري قد امتلأ نشاطاً .. فتعلق به جابر وركب على ظهره ..مشى جابر بجانب النبي صلى الله عليه وسلم .. فرحاً مست بشراً .. وقد صار جمله نشيطاً سابقاً .. التفت صلى الله عليه وسلم إلى جابر .. وأراد أن يتحدث معه ..فما هي الأحاديث التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم ليثيرها مع جابر ..جابر كان شاباً في أول شبابه .. هموم الشباب في الغالب تدور حول الزواج .. وطلب الرزق ..قال صلى الله عليه وسلم : يا جابر .. هل تزوجت ..؟قال جابر : نعم .. قال : بكراً .. أم ثيباً ..قال : بل ثيباً .. فعجب النبي صلى الله عليه وسلم كيف أن شاباً بكراً في أول زواج له .. يتزوج ثيباً ..فقال ملاطفاً لجابر : هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ..فقال جابر : يا رسول الله .. إن أبي قتل في أحد .. وترك تسع أخوات ليس لهن راعٍ غيري .. فكرهت أن أتزوج فتاة مثلهن فتكثر بينهن الخلافات .. فتزوجت امرأة أكبر منهن لتكون مثل أمهن .. هذا معنى كلام جابر ..رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أمامه شاب ضحى بمتعته الخاصة لأجل أخواته ..فأراد صلى الله عليه وسلم أن يمازحه بكلمات تصلح للشباب .. فقال له :لعلنا إذا أقبلنا إلى المدينة أن ننزل في صرار. فتسمع بنا زوجتك فتفرش لك النمارق ..يعني وإن كنت تزوجت ثيباً إلا أنها لا تزال عروساً تفرح بك إذا قدمت وتبسط فراشها .. وتصف عليه الوسائد .. فتذكر جابر فقره وفقر أخواته .. فقال : نمارق !! والله يا رسول الله ما عندنا ن مارق ..فقال صلى الله عليه وسلم : إنه ستكون لكم نمارق إن شاء الله ..ثم مشيا .. فأراد صلى الله عليه وسلم أن يهب لجابر مالاً .. فالفت إليه وقال : يا جابر ..قال : لبيك يا رسول الله ..فقال : أتبيعني جملك ؟تفكر جابر فإذا جمله هو رأس ماله .. هكذا كان وهو كليل ضعيف .. فكيف وقد صار قوياً جلداً !!لكنه رأى أنه لا مجال لرد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..قال جابر : سُمْه يا رسول الله .. بكم ؟فقال صلى الله عليه وسلم : بدرهم !!قال جابر : درهم !! تغبنني يا رسول الله ..فقال صلى الله عليه وسلم : بدرهمين ..قال : لا .. تغبنني يا رسول الله ..فما زالا يتزايدان حتى بلغا به أربعين درهماً .. أوقية من ذهب ..فقال جابر : نعم .. ولكن أشترط عليك أن أبقى عليه إلى المدينة ..قال صلى الله عليه وسلم : نعم ..فلما وصلوا إلى المدينة .. مضى جابر إلى منزله وأنزل متاعه من على الجمل ومضى ليصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وربط الجمل عند المسجد ..
فما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر : يا رسول الله هذا جملك ..فقال صلى الله عليه وسلم : يا بلال .. أعط جابراً أربعين درهماً وزده ..فناول بلال جابراً أربعين درهماً وزاده .. فحمل جابر المال ومضى به يقلبه بين يديه .. متفكراً في حاله !! ماذا يفعل بهذا المال ؟! أيشتري به جملاً .. أم يبتاع به متاعاً لبيته .. أم ..وفجأة التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال وقال : يا بلال .. خذ المال وأعطه جابراً ..جبذ بلال الجمل ومضى به إلى جابر .. فلما وصل به إليه .. تعجب جابر .. هل ألغيت الصفقة ؟!قال بلال : خذ الجمل يا جابر ..قال جابر : ما الخبر !!.. قال بلال : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعطيك الجمل .. والمال ..فرجع جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الخبر .. أما تريد الجمل !!فقال صلى الله عليه وسلم : أتراني ماكستك لآخذ جملك .. يعني أنا لم أكن أطالبك بخفض السعر لأجل أن آخذ الجمل وإنما لأجل أن أقدر كم أعطيك من المال معونة لك على أمورك . محمد عبد الرحمن العريفي : قم فأنذر ص 56.
إن حب الخير للناس مما يقوم عليه ويتقوى به إيمان المؤمن، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فكان إذا أرسل غلامه للتقاضي يقول له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك سأله الله تعالى: هل عملت خيراً قط؟! قال: لا إلا أنني كنت أداين الناس فكنت أقول لغلامي: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله له: قد تجاوزت عنك".
أخرجه أحمد 2/361(8715) و"النَّسائي" 8/317 ، وفي "الكبرى" 6247 و"ابن حِبَّان" 5043 .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما ، قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ( كُلّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ ). قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ ، نَعْرِفُهُ. فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ ؟ قَالَ: ( هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ. لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ ) رواه ابن ماجه (4307) وأبو نعم في الحلية 1/183 .
مر يهودي معه كلب على إبراهيم بن ادهم رحمه الله فقال له:أيهما اطهر لحيتك أم ذيل كلبي ؟ فرد عليه :أخي من يقرأ، قبل أن أكمل القصة ، توقع الرد فرد عليه بهدوء: أن كانت لحيتي في الجنة ......فهي اطهر من ذيل كلبك وان كانت في النار.لذيل كلبك اطهر منها.فما ملك اليهودي نفسه ألا أن قال :اشهد أن لا اله ألا الله و أن محمداً رسول الله ....ما هذا ألا خلق الأنبياء.
روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به,فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة,فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله.ووقعت على حائط المجوسي ,فتحير أبو حنيفة , وقال :ءان تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي ,وان حككتها انحدر التراب من الحائط , فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها:قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب, فخرج إليه وظن انه يطالبه بالمال فاخذ يعتذر.فقال أبو حنيفة:هاهنا ما هو أولى , و ذكر قصة الجدار ,و كيف السبيل إلى تطهيره.فقال المجوسي فأنا ابدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال.
كان معروف الكرخي قاعدا يوم على دجلة ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون فقال له أصحابه:أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ادع عليهم فرفع يديه إلى السماء وقال:الهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له صاحبه:أنما سألناك أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم, فقال:أذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم هذا.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قتيلا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما شأنه " ؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: " قتل نفسه، وأضاع ديته، وعصى ربه، وخان أخاه وكان الكلب خيراً منه " .
وحكي إن رجلاً عزم جماعة، فتخلف شخص منهم في منزله، ودخل على زوجة صاحب المنزل فضاجعها، فوثب الكلب عليهما، فقتلهما، فرجع صاحب المنزل، فوجدهما قتيلين، فأنشد يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني * * * ويحفظ عهدي والخليل يخون
فواعجباً للخل يهتك حرمتي * * * وواعجباً للكلب كيف يصون
قال سرّي السقطي، وكان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي مرة: الحمد للّه. قيل له: وكيف ذلك ؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني واحد وقال: نجا حانوتُك! فقلت: الحمد للّه! فأنا نادم من ذلك الوقت حيث أردتُ لنفسي خيراً من دون الناس. من كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ قال : « رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة ، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي ، فقال الله تبارك وتعالى للطالب : فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء ؟ قال : يا رب فليحمل من أوزاري » قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال : « إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : » ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه ، فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن ، قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه ، قال : بماذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، قال : يا رب فإني قد عفوت عنه ، قال الله عز وجل : فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة « فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : » اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين « ». هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه « المستدرك.
جرى بين " الحسن بن علي بن أبي طالب " وأخيه من أبيه " محمد بن الحنيفة" رضي الله عنهما كلامٌ وجدال وخلافٌ !! ، فانصرفا متغاضبين ، فلما وصل " محمد إلى منزلة ، أخذ رقعةً وكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم: من " محمد بن علي بن أبي طالب" إلى أخيه " الحسين بن علي بن أبي طالب " ، أما بعد: فإن لك شرفاً لا أبلغهُ !! ، وفضلا لا أدركه ، فإذا قرأت رقعتي هذه ،فالبس رداءك ونعليك، وسر إليَّ فترضاني ( أي أطلب مني الصلح) !! ، وإياك أن أكون سابقكَ إلى الفضل الذي أنت أولى به مني !!، والسلام. فلما وصلت الرسالة إلى" الحسين" وقرأها ، لبس رداءه ونعليه ، ثم جاء إلى أخيه "محمد" فترضاهُ وتعانقا !! . ( كتاب: ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي)
قال سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي, وقال: أغزوت الروم؟؟قلت: لا قال: أغزوت الهند أو السند أو الترك؟؟قلت: لا قال: أفسلم منك الروم, والهند , والسند , والترك؟!ولم يسلم منك أخوك المسلم! .
وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له فقال له رجل أترضاه لي قال لو رضيته لم أبعه.
عن يونس بن عبيد عن رجل عن جرير بن عبد الله البجلي : أنه ساوم رجلا بفرس فسامه , فسامه الرجل خمسمائة درهم إن رأيت ذلك ؟ فقال له جرير : فرسك خير من ذلك , ولك ستمائة حتى بلغ ثمانمائة , وهو يقول : إن رأيت ذلك ؟ فقال جرير : فرسك خير من ذلك , ولك ستمائة حتى بلغ ستمائة حتى بلغ ثمانمائة , وهو يقول : إن رأيت ذلك ؟ فقال جرير : فرسك خير من ذلك , ولا أزيدك ؟ فقال له الرجل : خذها ؟ فقيل له : ما منعك أن تأخذها بخمسمائة ؟ فقال جرير : لأنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نغش أحدا ; أو قال : مسلما - وعن ابن عمر ليس لي غش .
فضع نفسك مكان الآخرين وأحب لهم ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك .
يا إخوتي ليس لي منكم سوى طلب * * * هل يخذل الأخ من في الله آخاه
إذا قرأتم وصليتم صلاتكم * * * وقام قائمكم لله ناجاه
وهزت الأرض بالتسبيح سجدته * * * وبللت وجهه بالدمع عيناه
وراح يدعوا بما يحلو له طلبا * * * بالحسنين بدنياه وأخراه
فلا تخلوا أخاكم من دعائكم * * * بظهر غيب وستر الليل ناجاه
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
من علامات الإيمان كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية الجامعة المانعة أن يحب المسلم للناس ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه .
فمن حق أخيك عليك أن تكره مضرته وتبادر إلى دفعها ، فان مسه ما يتأذى به شاركته الألم أما أن تكون ميت العاطفة ، قليل الاهتمام لان المصيبة وقعت بعيدا عنك فالأمر لا يعنيك فهذا شيء مؤسف . ومن حق الأخوة أن يشعر المسلم بان إخوانه ظهير له في السراء والضراء ، ويجب علينا التناصر فيما بيننا على الحق والبعد عن الظلم بكل إشكاله وقد هان المسلمون إفرادا ، وهانوا أمما يوم وهت أواصر الأخوة الإيمانية بينهم ، إن هذا التخاذل جر على المسلمين الذلة والعار.
فمِن أصول الدّين أخوّةَ الإسلام، فأخوّةُ الإسلام رابِطةٌ متينَة ودرع حصينَة ونُصرة مبينة، أخوَّةُ الإسلام بها يتواصَل المسلمون، وبها يتناصرون ويقوَون، وبها يتراحمون ويتعاطَفون، وبها يتوارَثون، وبها يتعاوَنون، وبها يتناصَحون، ذكرها الله تعالى بعد الأمرِ بتقواه فقال عزّ وجلّ: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [الأنفال:1]، وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10]، وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله [التوبة:71].
وعن النّعمانِ بن بشير رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم مثَلُ الجسد إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له الجَسَد بالحمَّى والسّهَر» رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضه بعضًا» [رواه البخاري ومسلم]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابَروا، ولا يبع بعضكم على بيعِ بَعض، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدرِه ثلاث مرّات ـ، بحسب امرِئٍ من الشّرِّ أن يحقرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرَام: دمه وماله وعِرضُه» رواه مسلم.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ . قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ، فَأَتَيْتُهُمْ ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ . فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً ، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ . إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : الصَّلاَةَ جَامِعَةً ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي ، إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَإِنَّ أُمًّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ ، وَأَمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ مُهْلِكَتِي . ثُمّ َ تَنْكَشِفُ ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ ، هَذِهِ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا ، فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ. فَدَنَوْتُ مِنْهُ . فَقُلْتُ لَهُ : أَنْشُدُكَ اللهَ ، آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ . وَقَالَ : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي . فَقُلْتُ لَهُ : هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا ، وَاللهُ يَقُولُ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَن ْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، قَالَ : فَسَكَتَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَطْعِهُ فِي طَاعَةِ اللهِ ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ. أخرجه أحمد 2/161(650 و6503) و"مسلم" 6/18(4804) و"أبو داود" 4248 و"ابن ماجة" 3956 و"النَّسائي" 7/ 15.
وقد مدح الله أنصار نبيه صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم:{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}سورةالحشر:9.
فمع أنهم هم الذين آووا المهاجرين ووواسوهم بل وقاسموهم الأموال وأعانوهم نصروا الرسول وبذلوا أموالهم وأرواحهم لنصرة هذا الدين لم يجدوا في صدورهم شيئا حين فضل الله المهاجرين ، وفوق ذلك لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المهاجرين تركوا ديارهم وأموالهم، قالوا:هذه أموالنا، اقسمها بيننا وبين إخواننا المهاجرين اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، فرفض النبي عليه والصلاة والسلام إلا بأن يعمل المهاجرون ويشتركوا مع الأنصار في الثمر.
كما أنهم لما عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهم أموال البحرين قالوا:لا حتى تشرك إخواننا المهاجرين.فأي نفوس هذه التي جادت وسمت حتى أبت أن تأخذ مما أحل الله لها حتى يشترك بقية المسلمين فيها؟!.
فإذا وجدت الإنسان حريصاً على حب الخير للناس، حريصاً على نفعهم، سخي النفس، سمح النفس، يبذل ويعطي ويعين، تجده غداً أحرى بإمامة الناس، ودلالتهم على الخير، ونشر الخير بينهم؛ لأنه عود نفسه على ما فيه خير دينه ودنياه وآخرته، فيحرص طالب العلم على أنه يبذل الخير لإخوانه، وأنه يعينهم، وتكون هناك المعاني الإسلامية الكريمة من الإيثار والحب والتصافي والتواد.
يقول ابنُ عباسٍ متحدِّثاً بنعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ : فيَّ ثلاثُ خصالٍ : ما نزل غيثٌ بأرضٍ ، إلاَّ حمدتُ الله وسُررتُ بذلك ، وليس لي فيها شاةٌ ولا بعيرٌ . ولا سمعتُ بقاضٍ عادلٍ ، إلاَّ دعوتُ الله له ، وليس عنده لي قضيَّةٌ . ولا عَرَفتُ آيةً منْ كتابِ اللهِ ، إلاَّ ودِدتُ أنَّ الناس يعرفون منها ما أعرفُ .
يقولُ الشاعرُ :
ولَو أنِّي حُبيتُ الخ ُلدَ فردًا *** لما أحببتُ بالخلدِ انفِرَادا
فلا هطَلَت ع ليَّ ولا بأرضِي *** سحا ئبُ يسَ تنتظمَ البِلادا
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حب الخير للناس , فها هي قصته مع جابر بن عبد الله t الصحابي الجليل .. قتل أبوه في معركة أحد .. وخلف عنده سبع أخوات ليس لهن عائل غيره .. وخلف ديناً كثيراً .. على ظهر هذا الشاب الذي لا يزال في أول شبابه ..فكان جابر دائماً ساهم الفكر .. منشغل البال بأمر دَينه وأخواته .. والغرماء يطالبونه صباحاً ومساءً ..خرج جابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع .. وكان لشدة فقره على جمل كليل ضعيف ما يكاد يسير .. ولم يجد جابر ما يشتري به جملاً .. فسبقه الناس وصار هو في آخر القافلة ..وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في آخر الجيش .. فأدرك جابراً وجمله يدبُّ به دبيباً .. والناس قد سبقوه .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مالك يا جابر ؟قال : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا ..فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنخه .. فأناخه جابر وأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته .. ثم قال : أعطني العصا من يدك أو اقطع لي عصا من شجرة ..فناوله جابر العصا ..برَكَ الجمل على الأرض كليلاً ضعيفاً ..فأقبل صلى الله عليه وسلم إلى الجمل وضربه بالعصا شيئاً يسيراً .. فنهض الجمل يجري قد امتلأ نشاطاً .. فتعلق به جابر وركب على ظهره ..مشى جابر بجانب النبي صلى الله عليه وسلم .. فرحاً مست بشراً .. وقد صار جمله نشيطاً سابقاً .. التفت صلى الله عليه وسلم إلى جابر .. وأراد أن يتحدث معه ..فما هي الأحاديث التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم ليثيرها مع جابر ..جابر كان شاباً في أول شبابه .. هموم الشباب في الغالب تدور حول الزواج .. وطلب الرزق ..قال صلى الله عليه وسلم : يا جابر .. هل تزوجت ..؟قال جابر : نعم .. قال : بكراً .. أم ثيباً ..قال : بل ثيباً .. فعجب النبي صلى الله عليه وسلم كيف أن شاباً بكراً في أول زواج له .. يتزوج ثيباً ..فقال ملاطفاً لجابر : هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ..فقال جابر : يا رسول الله .. إن أبي قتل في أحد .. وترك تسع أخوات ليس لهن راعٍ غيري .. فكرهت أن أتزوج فتاة مثلهن فتكثر بينهن الخلافات .. فتزوجت امرأة أكبر منهن لتكون مثل أمهن .. هذا معنى كلام جابر ..رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أمامه شاب ضحى بمتعته الخاصة لأجل أخواته ..فأراد صلى الله عليه وسلم أن يمازحه بكلمات تصلح للشباب .. فقال له :لعلنا إذا أقبلنا إلى المدينة أن ننزل في صرار. فتسمع بنا زوجتك فتفرش لك النمارق ..يعني وإن كنت تزوجت ثيباً إلا أنها لا تزال عروساً تفرح بك إذا قدمت وتبسط فراشها .. وتصف عليه الوسائد .. فتذكر جابر فقره وفقر أخواته .. فقال : نمارق !! والله يا رسول الله ما عندنا ن مارق ..فقال صلى الله عليه وسلم : إنه ستكون لكم نمارق إن شاء الله ..ثم مشيا .. فأراد صلى الله عليه وسلم أن يهب لجابر مالاً .. فالفت إليه وقال : يا جابر ..قال : لبيك يا رسول الله ..فقال : أتبيعني جملك ؟تفكر جابر فإذا جمله هو رأس ماله .. هكذا كان وهو كليل ضعيف .. فكيف وقد صار قوياً جلداً !!لكنه رأى أنه لا مجال لرد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..قال جابر : سُمْه يا رسول الله .. بكم ؟فقال صلى الله عليه وسلم : بدرهم !!قال جابر : درهم !! تغبنني يا رسول الله ..فقال صلى الله عليه وسلم : بدرهمين ..قال : لا .. تغبنني يا رسول الله ..فما زالا يتزايدان حتى بلغا به أربعين درهماً .. أوقية من ذهب ..فقال جابر : نعم .. ولكن أشترط عليك أن أبقى عليه إلى المدينة ..قال صلى الله عليه وسلم : نعم ..فلما وصلوا إلى المدينة .. مضى جابر إلى منزله وأنزل متاعه من على الجمل ومضى ليصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وربط الجمل عند المسجد ..
فما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر : يا رسول الله هذا جملك ..فقال صلى الله عليه وسلم : يا بلال .. أعط جابراً أربعين درهماً وزده ..فناول بلال جابراً أربعين درهماً وزاده .. فحمل جابر المال ومضى به يقلبه بين يديه .. متفكراً في حاله !! ماذا يفعل بهذا المال ؟! أيشتري به جملاً .. أم يبتاع به متاعاً لبيته .. أم ..وفجأة التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال وقال : يا بلال .. خذ المال وأعطه جابراً ..جبذ بلال الجمل ومضى به إلى جابر .. فلما وصل به إليه .. تعجب جابر .. هل ألغيت الصفقة ؟!قال بلال : خذ الجمل يا جابر ..قال جابر : ما الخبر !!.. قال بلال : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعطيك الجمل .. والمال ..فرجع جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الخبر .. أما تريد الجمل !!فقال صلى الله عليه وسلم : أتراني ماكستك لآخذ جملك .. يعني أنا لم أكن أطالبك بخفض السعر لأجل أن آخذ الجمل وإنما لأجل أن أقدر كم أعطيك من المال معونة لك على أمورك . محمد عبد الرحمن العريفي : قم فأنذر ص 56.
إن حب الخير للناس مما يقوم عليه ويتقوى به إيمان المؤمن، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فكان إذا أرسل غلامه للتقاضي يقول له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك سأله الله تعالى: هل عملت خيراً قط؟! قال: لا إلا أنني كنت أداين الناس فكنت أقول لغلامي: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله له: قد تجاوزت عنك".
أخرجه أحمد 2/361(8715) و"النَّسائي" 8/317 ، وفي "الكبرى" 6247 و"ابن حِبَّان" 5043 .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما ، قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ( كُلّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ ). قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ ، نَعْرِفُهُ. فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ ؟ قَالَ: ( هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ. لاَ إِثْمَ فِيهِ وَلاَ بَغْيَ وَلاَ غِلَّ وَلاَ حَسَدَ ) رواه ابن ماجه (4307) وأبو نعم في الحلية 1/183 .
مر يهودي معه كلب على إبراهيم بن ادهم رحمه الله فقال له:أيهما اطهر لحيتك أم ذيل كلبي ؟ فرد عليه :أخي من يقرأ، قبل أن أكمل القصة ، توقع الرد فرد عليه بهدوء: أن كانت لحيتي في الجنة ......فهي اطهر من ذيل كلبك وان كانت في النار.لذيل كلبك اطهر منها.فما ملك اليهودي نفسه ألا أن قال :اشهد أن لا اله ألا الله و أن محمداً رسول الله ....ما هذا ألا خلق الأنبياء.
روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به,فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة,فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله.ووقعت على حائط المجوسي ,فتحير أبو حنيفة , وقال :ءان تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي ,وان حككتها انحدر التراب من الحائط , فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها:قولي لمولاك إن أبا حنيفة بالباب, فخرج إليه وظن انه يطالبه بالمال فاخذ يعتذر.فقال أبو حنيفة:هاهنا ما هو أولى , و ذكر قصة الجدار ,و كيف السبيل إلى تطهيره.فقال المجوسي فأنا ابدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال.
كان معروف الكرخي قاعدا يوم على دجلة ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون فقال له أصحابه:أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ادع عليهم فرفع يديه إلى السماء وقال:الهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له صاحبه:أنما سألناك أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم, فقال:أذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم هذا.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قتيلا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما شأنه " ؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: " قتل نفسه، وأضاع ديته، وعصى ربه، وخان أخاه وكان الكلب خيراً منه " .
وحكي إن رجلاً عزم جماعة، فتخلف شخص منهم في منزله، ودخل على زوجة صاحب المنزل فضاجعها، فوثب الكلب عليهما، فقتلهما، فرجع صاحب المنزل، فوجدهما قتيلين، فأنشد يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني * * * ويحفظ عهدي والخليل يخون
فواعجباً للخل يهتك حرمتي * * * وواعجباً للكلب كيف يصون
قال سرّي السقطي، وكان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي مرة: الحمد للّه. قيل له: وكيف ذلك ؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني واحد وقال: نجا حانوتُك! فقلت: الحمد للّه! فأنا نادم من ذلك الوقت حيث أردتُ لنفسي خيراً من دون الناس. من كتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ قال : « رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة ، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي ، فقال الله تبارك وتعالى للطالب : فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء ؟ قال : يا رب فليحمل من أوزاري » قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال : « إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : » ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه ، فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن ، قال : يا رب ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه ، قال : بماذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، قال : يا رب فإني قد عفوت عنه ، قال الله عز وجل : فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة « فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : » اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين « ». هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه « المستدرك.
جرى بين " الحسن بن علي بن أبي طالب " وأخيه من أبيه " محمد بن الحنيفة" رضي الله عنهما كلامٌ وجدال وخلافٌ !! ، فانصرفا متغاضبين ، فلما وصل " محمد إلى منزلة ، أخذ رقعةً وكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم: من " محمد بن علي بن أبي طالب" إلى أخيه " الحسين بن علي بن أبي طالب " ، أما بعد: فإن لك شرفاً لا أبلغهُ !! ، وفضلا لا أدركه ، فإذا قرأت رقعتي هذه ،فالبس رداءك ونعليك، وسر إليَّ فترضاني ( أي أطلب مني الصلح) !! ، وإياك أن أكون سابقكَ إلى الفضل الذي أنت أولى به مني !!، والسلام. فلما وصلت الرسالة إلى" الحسين" وقرأها ، لبس رداءه ونعليه ، ثم جاء إلى أخيه "محمد" فترضاهُ وتعانقا !! . ( كتاب: ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي)
قال سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عند إياس بن معاوية فنظر في وجهي, وقال: أغزوت الروم؟؟قلت: لا قال: أغزوت الهند أو السند أو الترك؟؟قلت: لا قال: أفسلم منك الروم, والهند , والسند , والترك؟!ولم يسلم منك أخوك المسلم! .
وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له فقال له رجل أترضاه لي قال لو رضيته لم أبعه.
عن يونس بن عبيد عن رجل عن جرير بن عبد الله البجلي : أنه ساوم رجلا بفرس فسامه , فسامه الرجل خمسمائة درهم إن رأيت ذلك ؟ فقال له جرير : فرسك خير من ذلك , ولك ستمائة حتى بلغ ثمانمائة , وهو يقول : إن رأيت ذلك ؟ فقال جرير : فرسك خير من ذلك , ولك ستمائة حتى بلغ ستمائة حتى بلغ ثمانمائة , وهو يقول : إن رأيت ذلك ؟ فقال جرير : فرسك خير من ذلك , ولا أزيدك ؟ فقال له الرجل : خذها ؟ فقيل له : ما منعك أن تأخذها بخمسمائة ؟ فقال جرير : لأنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نغش أحدا ; أو قال : مسلما - وعن ابن عمر ليس لي غش .
فضع نفسك مكان الآخرين وأحب لهم ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك .
يا إخوتي ليس لي منكم سوى طلب * * * هل يخذل الأخ من في الله آخاه
إذا قرأتم وصليتم صلاتكم * * * وقام قائمكم لله ناجاه
وهزت الأرض بالتسبيح سجدته * * * وبللت وجهه بالدمع عيناه
وراح يدعوا بما يحلو له طلبا * * * بالحسنين بدنياه وأخراه
فلا تخلوا أخاكم من دعائكم * * * بظهر غيب وستر الليل ناجاه
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
- مساهمة رقم 5
الوصية الخامسة : وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ
الوصية الخامسة :
وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
الضحك من خصائص الإنسان فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
والإسلام -بوصفه دين الفطرة- لا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلي الضحك والانبساط بل هو علي العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلي الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوة المسلمين في ذلك هو: رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقد كان -برغم همومه الكثيرة والمتنوعة- يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، وقال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ؟ (رواه الطبراني بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد "9/17").
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس في. (كنز العمال برقم 18400) .
وقد رأيناه في بيته -صلي الله عليه وسلم- يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلي أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري.
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز" ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام علي ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(الواقعة: 35-37) والحديث أخرجه الترمذي في "الشمائل"، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي،وغيرهم، وحسنه الألباني في "غاية المرام").
وجاء رجل يسأله أن يحمله علي بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام: "لا أحملك إلا علي ولد الناقة" ! فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة ؟ ! -انصرف ذهنه إلي الحوار الصغير- فقال: "وهل تلد إلا النوق" ؟ (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح وأخرجه أبو داود أيضًا).
وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: "ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض" ؟ قالت: والله ما بعينه بياض فقال: "بلي إن بعينه بياضا" فقالت: لا والله، فقال -صلي الله عليه وسلم-: "ما من أحد إلا بعينه بياض" (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبيدة بن سهم الفهري مع اختلاف، كما ذكر العراقي في تخريج الإحياء). وأراد به البياض المحيط بالحدقة.
وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير، وكان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يأتيهم ويقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير" ؟ (متفق عليه). لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عندي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة -دقيق يطبخ بلبن أو دسم- وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت، ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئًا منه فلطخت به وجهها، ورسول الله -صلي الله عليه وسلم- جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي ! وجعل رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يضحك. (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة وأبو يعلي بإسناد جيد كما في تخريج الإحياء).
وكان -صلي الله عليه وسلم- يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.
ولما أنكر الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" ! وفي بعض الروايات: "حتى يعلم يهود أن في ديننا فسحة".
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: "دونكم يا بني أرفدة" !.
وكان أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم -صلي الله عليه وسلم- واهتداء بهديه. حتى إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب -علي ما عرف عنه من الصرامة والشدة- يروي عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها.
روي عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتاب "الفكاهة والمرح" نذكر بعضًا منها:
قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشتري منها، ثم جاء بها إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، قائلا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أو لم تهده لي" ؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه.
وأخرج الزبير قصة أخري من طريق ربيعة بن عثمان قال: دخل أعرابي علي النبي -صلي الله عليه وسلم-، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلي اللحم ؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد ! فخرج النبي -صلي الله عليه وسلم- فقال: "من فعل هذا" ؟ فقالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفي تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- حيث هو فأخرجه فقال له: "ما حملك علي ما صنعت" ؟ قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.
قال الزبير أيضا: حدثني عمي عن جدي قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به، الناس، المسجد المسجد، فأخذه نعيمان بن عمرو بيده، وتنحي به، ثم أجلسه في ناحية أخري من المسجد فقال له: بل هنا قال: فصاح به الناس فقال: ويحكم، فمن أتي بي إلي هذا الموضع ؟! قالوا نعيمان، قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا، وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان قال: نعم قال: فأخذه بيده حتى أوقفه علي عثمان، وكان إذا صلي لا يلتفت فقال: دونك هذا نعيمان، فجمع يده بعصاه، فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين، فذكر بقية القصة. (ذكر هذه القصص الحافظ ابن حجر في ترجمة نعيمان من كتابه: "الإصابة" نقلاً عن كتاب الزبير بن بكار في كتابه: "الفكاهة والمرح").
ولا ريب أن هناك من الحكماء والأدباء والشعراء من ذم المزاح، وحذر من سوء عاقبته، ونظر إلي جانب الخطر والضرر فيه، وأغفل الجوانب الأخرى.
قال بعضهم: المزاح مجلبة للبغضاء، مثلبة للبهاء، مقطعة للإخاء، وقيل: إذا كان المزاح أول الكلام كان آخره الشتم واللكام، وسئل الحجاج بن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح، وآخره ترح، وهو نقائص السفهاء مثل نقائص الشعراء، والمزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
وقال مسعر بن كدام:
أما المزاحة والمراء فدعهما * * * خلقان لا أرضاهما لصديق
ونحوه قول الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه يجرئ* * * عليك الطفل والدنس النذلا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر، وقيل: المزاح يبدي المهانة ويذهب المهابة، والغالب فيه واتر، والمغلوب ثائر.
ولكن ما جاء عن الرسول -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال.
وقد قال لحنظلة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، واتهم نفسه بالنفاق: "يا حنظلة لو دمتم علي الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يًا حنظلة ساعة وساعة"، وهذه هي الفطرة، وهذا هو العدل.
روي ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- متحزقين ولا متماوتين. كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم علي شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون. (المصنف لابن أبي شيبة 8/711 بلفظ "منحرفين" بدل "متحزقين" والتصويب من غريب الحديث للخطابي 3/49).
وسئل ابن سيرين عن الصحابة: هل كانوا يتمازحون ؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر. (رواه أبو نعيم في: الحلية 2/275).
وأما النصوص الدينية التي ذكرها السائل، والتي فهم منها من فهم أن الإسلام يدعو إلي الحزن والاكتئاب والتجهم، فأود أن ألقي بعض الضوء عليها حتى لا نسيء فهمها، ونخرجها عن الإطار الذي أريد بها.
فقوله تعالي علي لسان قوم قارون له ناصحين: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) لا يفهم منه ذم الفرح بإطلاق، بل الفرح المراد هنا -كما يدل عليه السياق- هو فرح الأشر والبطر والغرور والانتفاخ الذي ينسي صاحبه فضل الله عليه، وينسب كل فضل إلي نفسه، فهو فرح بغير الحق، كذلك الذي ذم به القرآن المشركين حين قال لهم بعد دخولهم النار: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون). (غافر: 75).
وهو أشبه بفرح الذين سألهم النبي -صلي الله عليه وسلم- من اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا من عنده فرحين بما صنعوا من الكتمان والكذب ولم يكتفوا بذلك، بل طلبوا الحمد علي أنهم سئلوا فأجابوا بالحقيقة وفيهم نزل قوله تعالي: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). (آل عمران: 188).
فقوله -صلي الله عليه وسلم-: "لا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" فالحديث واضح الدلالة علي أن المنهي عنه ليس مجرد الضحك، بل كثرته، وكل شيء خرج عن حده انقلب إلي ضده.
وأما وصفه -صلي الله عليه وسلم- "بأنه متواصل الأحزان" فالحديث ضعيف، والضعيف لا تقوم به حجة.
ويعارضه الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، أنه كان -صلي الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الهم والحزن.
وفي هذا قال الإمام علي رضي الله عنه: "إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة".
وقال: "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي" !
وفي هذا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوي لها علي الحق".
ولهذا قال -صلي الله عليه وسلم-: "ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له".
وقد كان -صلي الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقًا.
وأن لا يشتمل علي تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي.
قال تعالي: (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان). (الحجرات: 11).
وجاء في الحديث الصحيح: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" رواه مسلم.
وذكرت عائشة أمام النبي -صلي الله عليه وسلم- إحدي ضرائرها، فوصفتها بالقصر تعيبها به، فقال: "يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" قالت: وحكيت له إنسانًا -أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك- فقال: "ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا". (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح).
ولا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم.
فقد روي أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: حدثنا أصحاب محمد -صلي الله عليه وسلم-، أنهم كانوا يسيرون مع النبي -صلي الله عليه وسلم- فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلي حبل معه فأخذه، ففزع فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا".
وعن النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في مسير، فخفق رجل علي راحلته -أي نعس- فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله: "لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا" رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات. والسياق يدل علي أن الذي فعل ذلك كان يمازحه.
وقد جاء في الحديث الآخر: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادا" رواه الترمذي وحسنه.
ولا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب.
ومن ممادح الشعراء:
إذا جد عند الجد أرضاك جده * * * وذو باطل إن شئت ألهاك باطله !
وقال آخر:
أهازل حيث الهزل يحسن بالفتي* * * وإني إذا جد الرجال لذو جد !
وقد قال أبو الطيب:
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا * *مضر كوضع السيف في موضع الندي
وقد عاب الله تعالي علي المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولي بهم أن يبكوا، فقال تعالي: (أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون). (النجم: 59-61).
وعاب علي المنافقين فرحهم وضحكهم لتخلفهم عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في غزوة تبوك وافتعالهم الأعذار الكاذبة للقعود مع الخوالف، فقال تعالي: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا جزاء بما كانوا يكسبون). (التوبة: 81، 82).
وأن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل.
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي: "ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة.
وقد ورد عن علي رضي عنه قوله: "أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح".
فالمبالغة في المزاح كالمماراة، كلتاهما تؤدي إلي إيغار الصدور.
إن المزاح ينبت الضغينة ... وحمل ضغن في الحشا مؤونه
وكثرة الضحك من الرعونه ... والصمت عن فضل الكلام زينه
وقال سعيد بن العاص لابنه: "اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب البهاء، ويجريء عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحش المخالطين.
عن الفضيل بن مرزوق عن رجل عن أبي جعفر قال إياكم والضحك أو قال وكثرة الضحك فإنه يمج العلم مجا . / الطبقات الكبرى 5/323.
فليس الضحك منهي عنه لذاته ولكن لما يمكن أن يؤدي إلى نتائج وأخلاق لا يرضاها الإسلام
وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ
عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.
أخرجه أحمد (2/310 ، رقم 8081) ، والترمذي (4/551 ، رقم 2305) ، وقال : غريب ، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78 ، رقم 9543) .قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 637 :أخرجه الترمذي ( 2 / 50 ) و أحمد ( 2 / 310 ) و الخرائطي في " مكارم الأخلاق " قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 100 في صحيح الجامع.
الضحك من خصائص الإنسان فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
والإسلام -بوصفه دين الفطرة- لا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلي الضحك والانبساط بل هو علي العكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلي الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوة المسلمين في ذلك هو: رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقد كان -برغم همومه الكثيرة والمتنوعة- يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فقال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، وقال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- ؟ (رواه الطبراني بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد "9/17").
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس في. (كنز العمال برقم 18400) .
وقد رأيناه في بيته -صلي الله عليه وسلم- يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلي أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري.
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز" ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام علي ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(الواقعة: 35-37) والحديث أخرجه الترمذي في "الشمائل"، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي،وغيرهم، وحسنه الألباني في "غاية المرام").
وجاء رجل يسأله أن يحمله علي بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام: "لا أحملك إلا علي ولد الناقة" ! فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة ؟ ! -انصرف ذهنه إلي الحوار الصغير- فقال: "وهل تلد إلا النوق" ؟ (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح وأخرجه أبو داود أيضًا).
وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: "ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض" ؟ قالت: والله ما بعينه بياض فقال: "بلي إن بعينه بياضا" فقالت: لا والله، فقال -صلي الله عليه وسلم-: "ما من أحد إلا بعينه بياض" (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبيدة بن سهم الفهري مع اختلاف، كما ذكر العراقي في تخريج الإحياء). وأراد به البياض المحيط بالحدقة.
وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير، وكان رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يأتيهم ويقول: "يا أبا عمير ما فعل النغير" ؟ (متفق عليه). لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عندي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة -دقيق يطبخ بلبن أو دسم- وجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت، ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئًا منه فلطخت به وجهها، ورسول الله -صلي الله عليه وسلم- جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئًا فمسحت به وجهي ! وجعل رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يضحك. (أخرجه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة وأبو يعلي بإسناد جيد كما في تخريج الإحياء).
وكان -صلي الله عليه وسلم- يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس.
ولما أنكر الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" ! وفي بعض الروايات: "حتى يعلم يهود أن في ديننا فسحة".
وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: "دونكم يا بني أرفدة" !.
وكان أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم -صلي الله عليه وسلم- واهتداء بهديه. حتى إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب -علي ما عرف عنه من الصرامة والشدة- يروي عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها.
روي عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتاب "الفكاهة والمرح" نذكر بعضًا منها:
قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشتري منها، ثم جاء بها إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، قائلا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أو لم تهده لي" ؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه.
وأخرج الزبير قصة أخري من طريق ربيعة بن عثمان قال: دخل أعرابي علي النبي -صلي الله عليه وسلم-، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلي اللحم ؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد ! فخرج النبي -صلي الله عليه وسلم- فقال: "من فعل هذا" ؟ فقالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفي تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- حيث هو فأخرجه فقال له: "ما حملك علي ما صنعت" ؟ قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.
قال الزبير أيضا: حدثني عمي عن جدي قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به، الناس، المسجد المسجد، فأخذه نعيمان بن عمرو بيده، وتنحي به، ثم أجلسه في ناحية أخري من المسجد فقال له: بل هنا قال: فصاح به الناس فقال: ويحكم، فمن أتي بي إلي هذا الموضع ؟! قالوا نعيمان، قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا، وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان قال: نعم قال: فأخذه بيده حتى أوقفه علي عثمان، وكان إذا صلي لا يلتفت فقال: دونك هذا نعيمان، فجمع يده بعصاه، فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين، فذكر بقية القصة. (ذكر هذه القصص الحافظ ابن حجر في ترجمة نعيمان من كتابه: "الإصابة" نقلاً عن كتاب الزبير بن بكار في كتابه: "الفكاهة والمرح").
ولا ريب أن هناك من الحكماء والأدباء والشعراء من ذم المزاح، وحذر من سوء عاقبته، ونظر إلي جانب الخطر والضرر فيه، وأغفل الجوانب الأخرى.
قال بعضهم: المزاح مجلبة للبغضاء، مثلبة للبهاء، مقطعة للإخاء، وقيل: إذا كان المزاح أول الكلام كان آخره الشتم واللكام، وسئل الحجاج بن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح، وآخره ترح، وهو نقائص السفهاء مثل نقائص الشعراء، والمزاح فحل لا ينتج إلا الشر.
وقال مسعر بن كدام:
أما المزاحة والمراء فدعهما * * * خلقان لا أرضاهما لصديق
ونحوه قول الشاعر:
فإياك إياك المزاح فإنه يجرئ* * * عليك الطفل والدنس النذلا
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر، وقيل: المزاح يبدي المهانة ويذهب المهابة، والغالب فيه واتر، والمغلوب ثائر.
ولكن ما جاء عن الرسول -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه أحق أن يتبع، وهو يمثل التوازن والاعتدال.
وقد قال لحنظلة حين فزع من تغير حاله في بيته عن حاله مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم-، واتهم نفسه بالنفاق: "يا حنظلة لو دمتم علي الحال التي تكونون عليها عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن يًا حنظلة ساعة وساعة"، وهذه هي الفطرة، وهذا هو العدل.
روي ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: لم يكن أصحاب رسول الله -صلي الله عليه وسلم- متحزقين ولا متماوتين. كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم علي شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون. (المصنف لابن أبي شيبة 8/711 بلفظ "منحرفين" بدل "متحزقين" والتصويب من غريب الحديث للخطابي 3/49).
وسئل ابن سيرين عن الصحابة: هل كانوا يتمازحون ؟ فقال: ما كانوا إلا كالناس. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر. (رواه أبو نعيم في: الحلية 2/275).
وأما النصوص الدينية التي ذكرها السائل، والتي فهم منها من فهم أن الإسلام يدعو إلي الحزن والاكتئاب والتجهم، فأود أن ألقي بعض الضوء عليها حتى لا نسيء فهمها، ونخرجها عن الإطار الذي أريد بها.
فقوله تعالي علي لسان قوم قارون له ناصحين: (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) لا يفهم منه ذم الفرح بإطلاق، بل الفرح المراد هنا -كما يدل عليه السياق- هو فرح الأشر والبطر والغرور والانتفاخ الذي ينسي صاحبه فضل الله عليه، وينسب كل فضل إلي نفسه، فهو فرح بغير الحق، كذلك الذي ذم به القرآن المشركين حين قال لهم بعد دخولهم النار: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون). (غافر: 75).
وهو أشبه بفرح الذين سألهم النبي -صلي الله عليه وسلم- من اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وخرجوا من عنده فرحين بما صنعوا من الكتمان والكذب ولم يكتفوا بذلك، بل طلبوا الحمد علي أنهم سئلوا فأجابوا بالحقيقة وفيهم نزل قوله تعالي: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). (آل عمران: 188).
فقوله -صلي الله عليه وسلم-: "لا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" فالحديث واضح الدلالة علي أن المنهي عنه ليس مجرد الضحك، بل كثرته، وكل شيء خرج عن حده انقلب إلي ضده.
وأما وصفه -صلي الله عليه وسلم- "بأنه متواصل الأحزان" فالحديث ضعيف، والضعيف لا تقوم به حجة.
ويعارضه الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، أنه كان -صلي الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الهم والحزن.
وفي هذا قال الإمام علي رضي الله عنه: "إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة".
وقال: "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي" !
وفي هذا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوي لها علي الحق".
ولهذا قال -صلي الله عليه وسلم-: "ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له".
وقد كان -صلي الله عليه وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقًا.
وأن لا يشتمل علي تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي.
قال تعالي: (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان). (الحجرات: 11).
وجاء في الحديث الصحيح: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" رواه مسلم.
وذكرت عائشة أمام النبي -صلي الله عليه وسلم- إحدي ضرائرها، فوصفتها بالقصر تعيبها به، فقال: "يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" قالت: وحكيت له إنسانًا -أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك- فقال: "ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا". (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح).
ولا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم.
فقد روي أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: حدثنا أصحاب محمد -صلي الله عليه وسلم-، أنهم كانوا يسيرون مع النبي -صلي الله عليه وسلم- فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلي حبل معه فأخذه، ففزع فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا".
وعن النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في مسير، فخفق رجل علي راحلته -أي نعس- فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله: "لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا" رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات. والسياق يدل علي أن الذي فعل ذلك كان يمازحه.
وقد جاء في الحديث الآخر: "لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادا" رواه الترمذي وحسنه.
ولا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب.
ومن ممادح الشعراء:
إذا جد عند الجد أرضاك جده * * * وذو باطل إن شئت ألهاك باطله !
وقال آخر:
أهازل حيث الهزل يحسن بالفتي* * * وإني إذا جد الرجال لذو جد !
وقد قال أبو الطيب:
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا * *مضر كوضع السيف في موضع الندي
وقد عاب الله تعالي علي المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولي بهم أن يبكوا، فقال تعالي: (أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون). (النجم: 59-61).
وعاب علي المنافقين فرحهم وضحكهم لتخلفهم عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- في غزوة تبوك وافتعالهم الأعذار الكاذبة للقعود مع الخوالف، فقال تعالي: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا جزاء بما كانوا يكسبون). (التوبة: 81، 82).
وأن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل.
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي: "ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة.
وقد ورد عن علي رضي عنه قوله: "أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح".
فالمبالغة في المزاح كالمماراة، كلتاهما تؤدي إلي إيغار الصدور.
إن المزاح ينبت الضغينة ... وحمل ضغن في الحشا مؤونه
وكثرة الضحك من الرعونه ... والصمت عن فضل الكلام زينه
وقال سعيد بن العاص لابنه: "اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب البهاء، ويجريء عليك السفهاء، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحش المخالطين.
عن الفضيل بن مرزوق عن رجل عن أبي جعفر قال إياكم والضحك أو قال وكثرة الضحك فإنه يمج العلم مجا . / الطبقات الكبرى 5/323.
فليس الضحك منهي عنه لذاته ولكن لما يمكن أن يؤدي إلى نتائج وأخلاق لا يرضاها الإسلام
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
- مساهمة رقم 6
الوصية السادسة : لاَ تَغْضَبْ
الوصية السادسة : لاَ تَغْضَبْ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : مُرْنِي بِأَمْرٍ ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، قَالَ : فَمَرَّ ، أَوْ فَذَهَبَ ، ثُمَّ رَجَعَ ، قَالَ : مُرْنِي بِأَمْرٍ ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، قَالَ : فَرَدَّدَ مِرَارًا ، كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ فَيَقُولُ : لاَ تَغْضَبْ.
- وفي رواية : أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ ، فَقَالَ : مُرْنِي بِأَمْرٍ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ حَتَّى أَعْقِلَهُ ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ : لاَ تَغْضَبْ.
- وفي رواية : أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِى ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ. قال الرجل ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
أخرجه البُخاري" 6116 وأحمد2/362(8729) " و"التِّرمِذي" 2020 . البيهقي في سننه الكبرى ج 10/ ص 105 حديث رقم: 20065.
أولاً : ما هو الغضب ؟ :
قال أهل اللغة الغَضَبُ نَقِيضُ الرِّضَا وقد غَضِبَ عليه غَضَباً ومَغْضَبَةً وأَغْضَبْتُه أَنا فَتَغَضَّبَ وغَضِبَ له غَضِبَ على غيره من أَجله وذلك إِذا كان حَيّاً فإِن كان ميتاً قلت غَضِبَ به قال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة يَرْثِي أَخاه عَبْدَاللّه:
فإِن تُعْقِب الأَيامُ والدَّهْرُ فاعْلَمُوا * * * بني قَارِبٍ أَنَّا غِضَابٌ بمَعْبَدِ
وقولهم غَضَبَ الخَيْلِ على اللُّجُم كَنَوْا بغَضَبِها عن عَضِّها على اللُّجُم كأَنها إِنما تَعَضُّها لذلك وقوله أَنشده ثعلب
تَغْضَبُ أَحْياناً على اللِّجامِ * * * كغَضَبِ النارِ على الضِّرَامِ
وجَعَلَ للنار غَضَباً على الاستعارة أَيضاً وإِنما عَنى شِدَّةَ التهابها ( لسان العرب لابن منظور 5/3262).
والغضب: هو حالة نفسية، تبعث على هياج الإنسان و ثورته قولاً أو عملاً، وهو مفتاح الشرور و رأس الآثام.
وقال أحدهم : الغضب: هو تصرف لا شعوري وانفعال يهيج الأعصاب ويحرك العواطف ويعطل التفكير ويفقد الاتزان ويزيد في عمل القلب ويرفع ضغط الدم ويزداد تدفقه على الدماغ وتضطرب الأعضاء ويظهر ذلك بجلاء على ملامح الإنسان فيتغير لونه وترتعد فرائسه وترتجف أطرافه ويخرج عن اعتداله00 وتقبح صورته ويخرج عن طوقه فاٍن لم يكبح جماح نفسه تفلت لسانه فنطق بما يشين من الشتم والفحش بما يندم عليه ولات ساعة مندم , وامتدت يده لتسبقه إلى الضرب والعنف والقتل .
ثانياً : أسباب الغضب :
قال الغزالي في الأحياء : الأسباب المهيجة للغضب هي الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعا ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها ( الإحياء 3/172 ).
وقال المقدسي :" من أسباب الغضب الحسد، والحرص، فمتى كان العبد حريصاً على شئ، أعماه حرصه وأصمه، وغطى نور بصيرته التي يعرف بها مداخل الشيطان . وكذلك إذا كان حسوداً فيجد الشيطان حينئذ الفرصة، فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته، وإن كان منكراً أو فاحشاً . ( المقدسي : مختصرمنهاج القاصدين 3/1).
وهناك أسباب أخرى منها : المزاح الزائد ,والإعجاب بالنفس , والتعالي على الآخرين., و السخرية والاستهزاء واعتقاد أن الغضب من كمال الرجولة.
ثالثاً: أنواع الغضب :
قال ابن عرفة: الغضب من المخلوقين شىءٌ يُداخل قلوبَهم، ويكون منه محمود ومذموم، فالمذموم ما كان في غير الحقِّ. وأَمّا غضب الله عزَّ وجلَّ، فهو إِنكاره على من عصاه فيعاقبه.( بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز أبادي 1168) .
فالغضب نوعان :
الأول : الغضب المحمود :
وهو ما كان لله –تعالى- عندما تنتهك محارمه ، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان إذ أن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان قال تعالى عن موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بعد علمه باتخاذ قومه العجل ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف :150) .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل- ( رواه مسلم ).
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال : خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ ، فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ . فَقَالَ : بِهَذَا أُمِرْتُمْ ، أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ ؟! تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ . بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ.
قَالَ : فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو : مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ ، تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ ، وَتَخَلُّفِي عَنْهُ ( أخرجه أحمد 2/178(6668) .
قال شوقي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
فإذا غضبت فإنما هي غضبة * * * للحق لا ضغن ولا شحناء
الثاني : الغضب المذموم :
وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحمية الجاهلية ، والانتصار للنفس , أو لأمر من أمور الدنيا الزائلة .
وهذه القصة توضح الفرق بين الغضب المحمود الذي لا يكون إلا لله وبين الغضب المذموم الذي يكون من أجل الدنيا .
فقد ذكر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في الإحياء : أن رجلاً عابداً بلغه أن قوماً يعبدون شجرة فخرج لقطعها فقال له إبليس إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك فقال لا بد من قطعها فقاتله فصرعه العابد فقال أنت رجل فقير فارجع إلى عبادتك وأجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة ولو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها وما عليك إذا لم تعبدها أنت قال نعم فلما أصبح وجد دينارين في ثاني يوم لم يجد فخرج لقطعها فصرعه إبليس فقال له العابد كيف غلبتك أولاً ثم غلبتني ثانياً فقال لأن غضبك أولاً كان لله وثانياً للدينارين ( الأحياء 3/38).
رابعاً : آثار الغضب وأضراره :
آثار الغضب وأضرار كثيرة ، منها ما فيه إضرار بالنفس ومنها ما فيه إضرار بالآخرين .
فمن الأضرار التي تقع على النفس : ما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب وهو أمر خطير كما يصف الأطباء كتجلّط الدم ، وارتفاع الضغط ، وزيادة ضربات القلب ، وتسارع معدل التنفس ، وهذا قد يؤدي إلى سكته مميتة أو مرض السكري وغيره . نسأل الله العافية .
ولو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرآة حين غضبه لكره نفسه ومنظره ، فلو رأى تغير لونه وشدة رعدته ، وارتجاف أطرافه ، وتغير خلقته ، وانقلاب سحنته ، واحمرار وجهه ، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه ، واشمأز من هيئته ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر ، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله !.
بل قد يؤدي الغضب إلى سب الدين والعياذ بالله , بل والى الخروج كلية من الملة .
روي أن جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني لما أراد أن يسلم ، كتب إلى عمر بن الخطاب يعلمه بذلك ويستأذنه في لقدوم عليه ، فسرّ عمر لذلك والمسلمون ، فكتب إليه : إن أقدم ولك مالنا وعليك ما علينا ، فخرج جبلة في خمسمائة فارس ، فلما دنا من المدينة لبس جبلة تاجه وألبس جنوده ثياباً منسوجة من الذهب والفضة ، ودخل المدينة فلم يبق احد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان ، فلما انتهى إلى عمر رحَّب به وأدنى مجلسه ! ثم أراد الحج ، فخرج معه جبلة ، فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من بني فزارة فحلّه ، فالتفت إليه جبلة مغضباً ، فلطمه فهشم أنفه ، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب ، فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت انفه ! فقال : إنه وطئ إزاري فحلّه ؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ، فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت ، فإما أن ترضيه وإلا أقدته منك . قال : أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة ! قال عمر : يا جبلة ، انه قد جمعك وإياه الإسلام فما تفضله بشئ إلا بالتقوى والعافية ، قال جبلة : والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية ، قال عمر : دع عنك هذا ، فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك ، قال جبلة : إذن أتنصر ، قال : إن تنصرت ضربت عنقك . فقال جبلة : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين . قال : لك ذلك ، ولما كان الليل خرج جبلة وأصحابه من مكة ، وسار إلى القسطنطينية فتنصّر ، ثم إن جبلة طال به العهد في الكفر فتفكر في حاله فجعل يبكي وأنشأ يقول:
تنصرت الأشراف من عار لطمة * * * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة * * * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فباليت أمي لم تلدني وليتني * * * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة * * * وكنت أسير في ربيعة أو مضر
وباليت لي بالشام أدنى معيشة * * *أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
( أبو الفداء : المختصر في أخبار البشر 1/111 , تفسير النكت والعيون للماوردي 2/332) .
ومن الأضرار التي تقع على الغير : انطلاق اللسان بالشتم والسب والفحش وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب ، وقد يصل الأمر إلى القتل.
روى عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدّثه قال : إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة ( حبل مضفور ) فقال : يا رسول الله هذا قتل أخي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقتلته ؟ قال : نعم قتلته . قال : كيف قتلته ؟ قال : كنت أنا وهو نختبط ( نضرب الشجر ليسقط ورقه من أجل العلف ) من شجرة ، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه ( جانب الرأس ) فقتلته إلى آخر القصة .
(رواه مسلم في صحيحه 1307 ترتيب عبد الباقي) .
ومن أعظم الأمور السيئة التي تنتج عن الغضب وتسبب الويلات الاجتماعية وانفصام عرى الأسرة وتحطم كيانها ، هو الطلاق . واسأل أكثر الذين يطلقون نساءهم كيف طلقوا ومتى ، فسينبئونك : لقد كانت لحظة غضب .
فينتج عن ذلك تشريد الأولاد ، والندم والخيبة ، والعيش المرّ ، وكله بسبب الغضب . ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم ، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكن مخالفة الشريعة لا تنتج إلا الخسارة .
فالغضب نزغة من نزغات الشيطان ، يقع بسببه من السيئات والمصائب مالا يعلمه إلا الله .
قال سليمان ابن داود عليهما السلام يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم وعن عكرمة في قوله تعالى وسيدا وحصورا قال السيد الذي لا يغلبه الغضب . ( الإحياء 3/164 ).
قال الشاعر :
ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتهم عدوّاً لعقل المرءِ أعدى من الغضبْ
قال الحسن يا ابن آدم كلما غضبت وثبت ويوشك أن تثب وثبة فتقع في النار وعن ذي القرنين أنه لقي ملكا من الملائكة فقال علمني علما ازداد به إيمانا ويقينا قال لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب فرد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا لينا للقريب والبعيد ولا تكن جبارا عنيدا وعن وهب بن منبه أن راهبا كان في صومعته فأراد الشيطان أن يضله فلم يستطع فجاءه حتى ناداه فقال له افتح فلم يجبه فقال افتح فإني إن ذهبت ندمت فلم يلتفت إليه فقال إني أنا المسيح قال الراهب وإن كنت المسيح فما أصنع بك أليس قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغيره لم نقبله منك فقال إني الشيطان وقد أردت أن أضلك فلم أستطع فجئتك لتسألني عما شئت فأخبرك فقال ما أريد أن أسألك عن شيء قال فولى مدبرا فقال الراهب ألا تسمع قال بلى قال أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم فقال الحدة إن الرجل إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة ( الإحياء 3/164 ).
قال شوقي :
غضبت فضاع أمري من يدي * * * والأمر يخرج من يد الغضبان
خامساً: علاج الغضب :
جاء في الشريعة الإسلامية ذكرُ واسع لهذا الخلق الذميم ، وورد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية علاجات للتخلص من هذا الداء وللحدّ من آثاره ، فمن ذلك :
1- الاستعاذة بالله من الشيطان :
قال تعالى : " وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ " ( الأعراف 200 -201 ) . وقال : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (36) سورة فصلت.
وعن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجلان يستبّان ، فأحدهما احمرّ وجهه واتفخت أوداجه ( عروق من العنق ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ( رواه البخاري ، الفتح 6/337 ومسلم/2610 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله ، سكن غضبه ( صحيح الجامع الصغير رقم 695) .
2- السكوت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا غضب أحدكم فليسكت " ( رواه الإمام أحمد المسند 1/329 وفي صحيح الجامع 693 ، 4027 ) .
وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته ، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين .
3- التغيير من الهيئة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) . وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه ، حدثت له في ذلك قصة : فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقّه أي كسره أو حطّمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء ويتسبب في هدم الحوض، وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ؟ قال فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم .... وذكر الحديث بقصته في( مسند أحمد 5/152 وانظر صحيح الجامع رقم 694 ) .
وفي رواية كان أبو ذر يسقي على حوضٍ فأغضبه رجل فقعد .... ( فيض القدير ، المناوي 1/408 ) .
قال العلامة الخطابي - رحمه الله - في شرحه على أبي داود : ( القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى ، والمضطجع ممنوع منهما ، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد . والله أعلم ( سنن أبي داود ، ومعه معالم السنن 5/141 ) .
5- الوضوء والصلاة :
عَنْ عَطِيَّةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ.أخرجه أحمد 4/226(18148) . وأبو داود (4784).
قال ابن تيمية : " وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا حَرَكَةُ الدَّمِ ؛ فَإِذَا سَكَنَ غَلَيَانُ الدَّمِ سَكَنَ الْغَضَبُ .( مجموع الفتاوي 5/569).
روي أن معاوية - رضي الله عنه – حبس العطاء يوماً ، فقام إليه أبو مسلم الخولاني –رضي الله عنه- فقال له : "يا معاوية إنه ليس من كدك ، ولا من كد أبيك ، ولا من كد أمك" ، فغضب معاوية غضباً شديداً ، ونزل عن المنبر، وقال للناس :" مكانكم " ، وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج إليهم وقد اغتسل فقال : " إن أبا مسلم كلَّمني بكلام أغضبني ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: " الغضب من الشيطان ، والشيطان خلق من نار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليغتسل ، وإني دخلت فاغتسلت ، وصدق أبو مسلم ، إنه ليس من كدِّي، ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم".( إحياء علوم الدين 2/344).
ولقد اكتشف العلماء في عصر العلم الحالي أن سقوط فوتونات الضوء على رذاذ الماء يعمل على انتشار أيونات سالبة الشحنة من جزيئات الماء المتناثر في الهواء ،وتلك الشحنات السالبة هي شحنات كهرومغناطيسية تؤثر على جسم الإنسان المتوضئ بالماء تأثيرا صحيا حسنا ،فهي تسبب الاسترخاء العضلي كمل تؤثر على نفسية الإنسان تأثيرا شفائيا عجيبا، فتزيل أي توتر عصبي أو انفعالي نفسي أو غضب ، وأكدت الدراسات العلمية أن الاغتسال بالماء في وجود الضوء يسبب الاسترخاء عصبيا ونفسيا ولم يتوصل العلماء إلى السبب الأصيل في قدرة رذاذ الماء في الشفاء النفسي من الغضب ،لذلك علل بعض الناس أن تأثير الماء تأثيرا سحري.
4- تذكر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال لا تغضب . فردّد ذلك مراراً ، قال لا تغضب ( رواه البخاري فتح الباري 10/456 ) .
وعن علي بن الحسين: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب.
في التوراة: اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فأصبر وأرض بنصرتي، فإن نصري لك خير من نصرتك لنفسك.
بكر بن عبد الله المزني: أطفئوا الغضب بذكر جهنم.( الزمخشري : ربيع الأبرار 1/144).
5- تذكر ثواب من يكظم غيظه :
قال تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34- 36].
ومن صفات المؤمنين المتقين : { ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم ، ما تشرئبّ الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم ، ومن أخلاقهم أنهم : { إذا ما غضبوا هم يغفرون } .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تغضب ولك الجنة " ( حديث صحيح : صحيح الجامع 7374 . وعزاه ابن حجر إلى الطبراني ، انظر الفتح 4/465 ) .
ومما ورد من الأجر العظيم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ومن كظم غيظاً ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة " ( رواه الطبراني 12/453 وهو في صحيح الجامع 176) .
وأجر عظيم آخر في قوله عليه الصلاة والسلام : ( من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) ( رواه أبو داود 4777 وغيره ، وحسنّه في صحيح الجامع 6518 ) .
6- تذكر فضل الحلم والعفو :
قال تعالى : {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (37) سورة الشورى.
وعن علي بن الحسين قال إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل فيقوم ناس من الناس فيقال انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين فيقولون إلى الجنة قالوا قبل الحساب قالوا نعم قالوا من أنتم قالوا أهل الفضل قالوا وما كان فضلكم قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا أسى علينا غفرنا قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ثم يناد مناد ليقم أهل الصبر فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال له مثل ذلك فيقولون نحن أهل الصبر قالوا ما كان صبركم قالوا صبرنا أنفسنا على طاعة الله وصبرناها عن معصية الله عز و جل قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ( أبو نعيم : حلية الأولياء 3/139 ).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله تبارك وتعالى للطالب فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء قال يا رب فليحمل من أوزاري قال وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب أرفع بصرك فأنظر في الجنان فرفع رأسه فقال يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا قال هذا لمن أعطى الثمن قال يا رب ومن يملك ذلك قال أنت تملكه قال بماذا قال بعفوك عن أخيك قال يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله عز وجل فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين . ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه , رواه الحاكم في مستدركه ج 4/ ص 620 حديث رقم: 8718 ) .
وحدَّثوا أن جعفر الصادق كان ذات يوم يصب خادمه على يده الماء، فسقط منه الإبريق، وتناثر الماء على سيده، فنظر جعفر الصادق مُغضَبا، فقال له خادمه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}. فقال: كظمتُ غيظي. قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. قال: عفوتُ عنك. قال: الخادم: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. فقال له جعفر الصادق: اذهب فأنت حُر لوجه الله.
وكان الأحنف بن قيس ممَّن يُضرب به المثل في الحلم، وقيل له ممَّن تعلمتَ الحلم؟ فقال: تعلمتُه من قيس بن عاصم، كانت جارية له تحمل سفُّودا من حديد، فوقع منها على ولده الصغير، فعَقَرَه فمات، فدهشت الجارية واضطربت. فقال الرجل: لا يُسكِّن روعها إلا العتق، فقال لها: اذهبي فأنت حرة لا بأس عليك.
7- معرفة أن الرجولة الحقيقة في السيطرة على النفس عند الغضب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه أحمد 2/236 والحديث متفق عليه .
وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة . قال عليه الصلاة والسلام : ( الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) ( رواه الإمام أحمد 5/367 ، وحسنه في صحيح الجامع 3859) .
فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يصطرعون ، فقال : ماهذا ؟ قالوا : فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال : أفلا أدلكم على من هو أشد منه ، رجلٌ ظلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه ( رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن . الفتح 10/519 ) .
قال الشاعر :
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته * * عند القتال ونار الحرب تشتعـل
لكن من كفَّ طرْفًا أو ثَنى قدما * * عن الحرام، فذاك الفارس البطل
وقال آخر :
ليست الأحلامُ في حالِ الرضا إنّما الأحلامُ في حال الغضبْ
8- التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب :
وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، وهو أسوتنا وقدوتنا ، واضحة في أحاديث كثيرة ، ومن أبرزها : عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم ( ما بين العنق والكتف ) وقد أثرت بها حاشية البرد ، ثم قال : يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ، ثم أمر له بعطاء ( متفق عليه فتح الباري 10/375) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل ( العطاء الكثير ) ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر رضي الله عنه حتى همّ أن يوقع به ، فقال الحر بن قيس ، ( وكان من جلساء عمر ) : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه ، صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل ( رواه البخاري الفتح 4/304 ) .
فهكذا يكون المسلم ، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أحد الصحابة تعوذ بالله من الشيطان ، فقال لمن ذكره : أترى بي بأس أمجنون أنا ؟ اذهب ( رواه البخاري فتح 1/465 ) .
وأسمع رجل أبا الدرداء – رضي الله عنه- كلاما , فقال : يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
قال المعتمر بن سليمان كان رجل ممن كان قبلكم يغضب فيشتد غضبه فكتب صحائف وأعطى كل صحيفة رجلا وقال للأول إذا غضبت فأعطني هذه وقال للثاني إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه وقال للثالث إذا ذهب غضبي فأعطني هذه فاشتد غضبه يوما فأعطي الصحيفة الأولى فإذا فيها ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضا فسكن بعض غضبه فأعطي الثانية فإذا فيها ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء فأعطي الثالثة فإذا فيها خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك أي لا تعطل الحدود( الإحياء 3/175).
قيل لابن المبارك رحمه الله تعالى اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة قال ترك الغضب.
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : مُرْنِي بِأَمْرٍ ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، قَالَ : فَمَرَّ ، أَوْ فَذَهَبَ ، ثُمَّ رَجَعَ ، قَالَ : مُرْنِي بِأَمْرٍ ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، قَالَ : فَرَدَّدَ مِرَارًا ، كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ فَيَقُولُ : لاَ تَغْضَبْ.
- وفي رواية : أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ ، فَقَالَ : مُرْنِي بِأَمْرٍ وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ حَتَّى أَعْقِلَهُ ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، فَأَعَادَهُ عَلَيْهِ ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ : لاَ تَغْضَبْ.
- وفي رواية : أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِى ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ ، فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ : لاَ تَغْضَبْ. قال الرجل ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله.
أخرجه البُخاري" 6116 وأحمد2/362(8729) " و"التِّرمِذي" 2020 . البيهقي في سننه الكبرى ج 10/ ص 105 حديث رقم: 20065.
أولاً : ما هو الغضب ؟ :
قال أهل اللغة الغَضَبُ نَقِيضُ الرِّضَا وقد غَضِبَ عليه غَضَباً ومَغْضَبَةً وأَغْضَبْتُه أَنا فَتَغَضَّبَ وغَضِبَ له غَضِبَ على غيره من أَجله وذلك إِذا كان حَيّاً فإِن كان ميتاً قلت غَضِبَ به قال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة يَرْثِي أَخاه عَبْدَاللّه:
فإِن تُعْقِب الأَيامُ والدَّهْرُ فاعْلَمُوا * * * بني قَارِبٍ أَنَّا غِضَابٌ بمَعْبَدِ
وقولهم غَضَبَ الخَيْلِ على اللُّجُم كَنَوْا بغَضَبِها عن عَضِّها على اللُّجُم كأَنها إِنما تَعَضُّها لذلك وقوله أَنشده ثعلب
تَغْضَبُ أَحْياناً على اللِّجامِ * * * كغَضَبِ النارِ على الضِّرَامِ
وجَعَلَ للنار غَضَباً على الاستعارة أَيضاً وإِنما عَنى شِدَّةَ التهابها ( لسان العرب لابن منظور 5/3262).
والغضب: هو حالة نفسية، تبعث على هياج الإنسان و ثورته قولاً أو عملاً، وهو مفتاح الشرور و رأس الآثام.
وقال أحدهم : الغضب: هو تصرف لا شعوري وانفعال يهيج الأعصاب ويحرك العواطف ويعطل التفكير ويفقد الاتزان ويزيد في عمل القلب ويرفع ضغط الدم ويزداد تدفقه على الدماغ وتضطرب الأعضاء ويظهر ذلك بجلاء على ملامح الإنسان فيتغير لونه وترتعد فرائسه وترتجف أطرافه ويخرج عن اعتداله00 وتقبح صورته ويخرج عن طوقه فاٍن لم يكبح جماح نفسه تفلت لسانه فنطق بما يشين من الشتم والفحش بما يندم عليه ولات ساعة مندم , وامتدت يده لتسبقه إلى الضرب والعنف والقتل .
ثانياً : أسباب الغضب :
قال الغزالي في الأحياء : الأسباب المهيجة للغضب هي الزهو والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعا ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها ( الإحياء 3/172 ).
وقال المقدسي :" من أسباب الغضب الحسد، والحرص، فمتى كان العبد حريصاً على شئ، أعماه حرصه وأصمه، وغطى نور بصيرته التي يعرف بها مداخل الشيطان . وكذلك إذا كان حسوداً فيجد الشيطان حينئذ الفرصة، فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته، وإن كان منكراً أو فاحشاً . ( المقدسي : مختصرمنهاج القاصدين 3/1).
وهناك أسباب أخرى منها : المزاح الزائد ,والإعجاب بالنفس , والتعالي على الآخرين., و السخرية والاستهزاء واعتقاد أن الغضب من كمال الرجولة.
ثالثاً: أنواع الغضب :
قال ابن عرفة: الغضب من المخلوقين شىءٌ يُداخل قلوبَهم، ويكون منه محمود ومذموم، فالمذموم ما كان في غير الحقِّ. وأَمّا غضب الله عزَّ وجلَّ، فهو إِنكاره على من عصاه فيعاقبه.( بصائر ذوى التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز أبادي 1168) .
فالغضب نوعان :
الأول : الغضب المحمود :
وهو ما كان لله –تعالى- عندما تنتهك محارمه ، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان إذ أن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان قال تعالى عن موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بعد علمه باتخاذ قومه العجل ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف :150) .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل- ( رواه مسلم ).
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال : خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ ، فَكَأَنَّمَا يُفْقَأُ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ . فَقَالَ : بِهَذَا أُمِرْتُمْ ، أَوْ لِهَذَا خُلِقْتُمْ ؟! تَضْرِبُونَ الْقُرْآنَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ . بِهَذَا هَلَكَتِ الأُمَمُ قَبْلَكُمْ.
قَالَ : فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو : مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ ، تَخَلَّفْتُ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، مَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ ، وَتَخَلُّفِي عَنْهُ ( أخرجه أحمد 2/178(6668) .
قال شوقي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :
فإذا غضبت فإنما هي غضبة * * * للحق لا ضغن ولا شحناء
الثاني : الغضب المذموم :
وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحمية الجاهلية ، والانتصار للنفس , أو لأمر من أمور الدنيا الزائلة .
وهذه القصة توضح الفرق بين الغضب المحمود الذي لا يكون إلا لله وبين الغضب المذموم الذي يكون من أجل الدنيا .
فقد ذكر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في الإحياء : أن رجلاً عابداً بلغه أن قوماً يعبدون شجرة فخرج لقطعها فقال له إبليس إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك فقال لا بد من قطعها فقاتله فصرعه العابد فقال أنت رجل فقير فارجع إلى عبادتك وأجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة ولو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها وما عليك إذا لم تعبدها أنت قال نعم فلما أصبح وجد دينارين في ثاني يوم لم يجد فخرج لقطعها فصرعه إبليس فقال له العابد كيف غلبتك أولاً ثم غلبتني ثانياً فقال لأن غضبك أولاً كان لله وثانياً للدينارين ( الأحياء 3/38).
رابعاً : آثار الغضب وأضراره :
آثار الغضب وأضرار كثيرة ، منها ما فيه إضرار بالنفس ومنها ما فيه إضرار بالآخرين .
فمن الأضرار التي تقع على النفس : ما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب وهو أمر خطير كما يصف الأطباء كتجلّط الدم ، وارتفاع الضغط ، وزيادة ضربات القلب ، وتسارع معدل التنفس ، وهذا قد يؤدي إلى سكته مميتة أو مرض السكري وغيره . نسأل الله العافية .
ولو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرآة حين غضبه لكره نفسه ومنظره ، فلو رأى تغير لونه وشدة رعدته ، وارتجاف أطرافه ، وتغير خلقته ، وانقلاب سحنته ، واحمرار وجهه ، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه ، واشمأز من هيئته ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر ، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله !.
بل قد يؤدي الغضب إلى سب الدين والعياذ بالله , بل والى الخروج كلية من الملة .
روي أن جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني لما أراد أن يسلم ، كتب إلى عمر بن الخطاب يعلمه بذلك ويستأذنه في لقدوم عليه ، فسرّ عمر لذلك والمسلمون ، فكتب إليه : إن أقدم ولك مالنا وعليك ما علينا ، فخرج جبلة في خمسمائة فارس ، فلما دنا من المدينة لبس جبلة تاجه وألبس جنوده ثياباً منسوجة من الذهب والفضة ، ودخل المدينة فلم يبق احد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان ، فلما انتهى إلى عمر رحَّب به وأدنى مجلسه ! ثم أراد الحج ، فخرج معه جبلة ، فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من بني فزارة فحلّه ، فالتفت إليه جبلة مغضباً ، فلطمه فهشم أنفه ، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب ، فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت انفه ! فقال : إنه وطئ إزاري فحلّه ؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ، فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت ، فإما أن ترضيه وإلا أقدته منك . قال : أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة ! قال عمر : يا جبلة ، انه قد جمعك وإياه الإسلام فما تفضله بشئ إلا بالتقوى والعافية ، قال جبلة : والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية ، قال عمر : دع عنك هذا ، فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك ، قال جبلة : إذن أتنصر ، قال : إن تنصرت ضربت عنقك . فقال جبلة : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين . قال : لك ذلك ، ولما كان الليل خرج جبلة وأصحابه من مكة ، وسار إلى القسطنطينية فتنصّر ، ثم إن جبلة طال به العهد في الكفر فتفكر في حاله فجعل يبكي وأنشأ يقول:
تنصرت الأشراف من عار لطمة * * * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة * * * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فباليت أمي لم تلدني وليتني * * * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة * * * وكنت أسير في ربيعة أو مضر
وباليت لي بالشام أدنى معيشة * * *أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
( أبو الفداء : المختصر في أخبار البشر 1/111 , تفسير النكت والعيون للماوردي 2/332) .
ومن الأضرار التي تقع على الغير : انطلاق اللسان بالشتم والسب والفحش وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب ، وقد يصل الأمر إلى القتل.
روى عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدّثه قال : إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة ( حبل مضفور ) فقال : يا رسول الله هذا قتل أخي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقتلته ؟ قال : نعم قتلته . قال : كيف قتلته ؟ قال : كنت أنا وهو نختبط ( نضرب الشجر ليسقط ورقه من أجل العلف ) من شجرة ، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه ( جانب الرأس ) فقتلته إلى آخر القصة .
(رواه مسلم في صحيحه 1307 ترتيب عبد الباقي) .
ومن أعظم الأمور السيئة التي تنتج عن الغضب وتسبب الويلات الاجتماعية وانفصام عرى الأسرة وتحطم كيانها ، هو الطلاق . واسأل أكثر الذين يطلقون نساءهم كيف طلقوا ومتى ، فسينبئونك : لقد كانت لحظة غضب .
فينتج عن ذلك تشريد الأولاد ، والندم والخيبة ، والعيش المرّ ، وكله بسبب الغضب . ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم ، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكن مخالفة الشريعة لا تنتج إلا الخسارة .
فالغضب نزغة من نزغات الشيطان ، يقع بسببه من السيئات والمصائب مالا يعلمه إلا الله .
قال سليمان ابن داود عليهما السلام يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم وعن عكرمة في قوله تعالى وسيدا وحصورا قال السيد الذي لا يغلبه الغضب . ( الإحياء 3/164 ).
قال الشاعر :
ولم أرَ في الأعداء حين اختبرتهم عدوّاً لعقل المرءِ أعدى من الغضبْ
قال الحسن يا ابن آدم كلما غضبت وثبت ويوشك أن تثب وثبة فتقع في النار وعن ذي القرنين أنه لقي ملكا من الملائكة فقال علمني علما ازداد به إيمانا ويقينا قال لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب فرد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك وكن سهلا لينا للقريب والبعيد ولا تكن جبارا عنيدا وعن وهب بن منبه أن راهبا كان في صومعته فأراد الشيطان أن يضله فلم يستطع فجاءه حتى ناداه فقال له افتح فلم يجبه فقال افتح فإني إن ذهبت ندمت فلم يلتفت إليه فقال إني أنا المسيح قال الراهب وإن كنت المسيح فما أصنع بك أليس قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغيره لم نقبله منك فقال إني الشيطان وقد أردت أن أضلك فلم أستطع فجئتك لتسألني عما شئت فأخبرك فقال ما أريد أن أسألك عن شيء قال فولى مدبرا فقال الراهب ألا تسمع قال بلى قال أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم فقال الحدة إن الرجل إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة ( الإحياء 3/164 ).
قال شوقي :
غضبت فضاع أمري من يدي * * * والأمر يخرج من يد الغضبان
خامساً: علاج الغضب :
جاء في الشريعة الإسلامية ذكرُ واسع لهذا الخلق الذميم ، وورد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية علاجات للتخلص من هذا الداء وللحدّ من آثاره ، فمن ذلك :
1- الاستعاذة بالله من الشيطان :
قال تعالى : " وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ " ( الأعراف 200 -201 ) . وقال : {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (36) سورة فصلت.
وعن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجلان يستبّان ، فأحدهما احمرّ وجهه واتفخت أوداجه ( عروق من العنق ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ( رواه البخاري ، الفتح 6/337 ومسلم/2610 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله ، سكن غضبه ( صحيح الجامع الصغير رقم 695) .
2- السكوت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا غضب أحدكم فليسكت " ( رواه الإمام أحمد المسند 1/329 وفي صحيح الجامع 693 ، 4027 ) .
وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته ، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين .
3- التغيير من الهيئة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) . وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه ، حدثت له في ذلك قصة : فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقّه أي كسره أو حطّمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء ويتسبب في هدم الحوض، وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ؟ قال فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم .... وذكر الحديث بقصته في( مسند أحمد 5/152 وانظر صحيح الجامع رقم 694 ) .
وفي رواية كان أبو ذر يسقي على حوضٍ فأغضبه رجل فقعد .... ( فيض القدير ، المناوي 1/408 ) .
قال العلامة الخطابي - رحمه الله - في شرحه على أبي داود : ( القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى ، والمضطجع ممنوع منهما ، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد . والله أعلم ( سنن أبي داود ، ومعه معالم السنن 5/141 ) .
5- الوضوء والصلاة :
عَنْ عَطِيَّةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ.أخرجه أحمد 4/226(18148) . وأبو داود (4784).
قال ابن تيمية : " وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ هُوَ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ وَهَذَا حَرَكَةُ الدَّمِ ؛ فَإِذَا سَكَنَ غَلَيَانُ الدَّمِ سَكَنَ الْغَضَبُ .( مجموع الفتاوي 5/569).
روي أن معاوية - رضي الله عنه – حبس العطاء يوماً ، فقام إليه أبو مسلم الخولاني –رضي الله عنه- فقال له : "يا معاوية إنه ليس من كدك ، ولا من كد أبيك ، ولا من كد أمك" ، فغضب معاوية غضباً شديداً ، ونزل عن المنبر، وقال للناس :" مكانكم " ، وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج إليهم وقد اغتسل فقال : " إن أبا مسلم كلَّمني بكلام أغضبني ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: " الغضب من الشيطان ، والشيطان خلق من نار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليغتسل ، وإني دخلت فاغتسلت ، وصدق أبو مسلم ، إنه ليس من كدِّي، ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم".( إحياء علوم الدين 2/344).
ولقد اكتشف العلماء في عصر العلم الحالي أن سقوط فوتونات الضوء على رذاذ الماء يعمل على انتشار أيونات سالبة الشحنة من جزيئات الماء المتناثر في الهواء ،وتلك الشحنات السالبة هي شحنات كهرومغناطيسية تؤثر على جسم الإنسان المتوضئ بالماء تأثيرا صحيا حسنا ،فهي تسبب الاسترخاء العضلي كمل تؤثر على نفسية الإنسان تأثيرا شفائيا عجيبا، فتزيل أي توتر عصبي أو انفعالي نفسي أو غضب ، وأكدت الدراسات العلمية أن الاغتسال بالماء في وجود الضوء يسبب الاسترخاء عصبيا ونفسيا ولم يتوصل العلماء إلى السبب الأصيل في قدرة رذاذ الماء في الشفاء النفسي من الغضب ،لذلك علل بعض الناس أن تأثير الماء تأثيرا سحري.
4- تذكر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال لا تغضب . فردّد ذلك مراراً ، قال لا تغضب ( رواه البخاري فتح الباري 10/456 ) .
وعن علي بن الحسين: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب.
في التوراة: اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فأصبر وأرض بنصرتي، فإن نصري لك خير من نصرتك لنفسك.
بكر بن عبد الله المزني: أطفئوا الغضب بذكر جهنم.( الزمخشري : ربيع الأبرار 1/144).
5- تذكر ثواب من يكظم غيظه :
قال تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34- 36].
ومن صفات المؤمنين المتقين : { ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم ، ما تشرئبّ الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم ، ومن أخلاقهم أنهم : { إذا ما غضبوا هم يغفرون } .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تغضب ولك الجنة " ( حديث صحيح : صحيح الجامع 7374 . وعزاه ابن حجر إلى الطبراني ، انظر الفتح 4/465 ) .
ومما ورد من الأجر العظيم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " ومن كظم غيظاً ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة " ( رواه الطبراني 12/453 وهو في صحيح الجامع 176) .
وأجر عظيم آخر في قوله عليه الصلاة والسلام : ( من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) ( رواه أبو داود 4777 وغيره ، وحسنّه في صحيح الجامع 6518 ) .
6- تذكر فضل الحلم والعفو :
قال تعالى : {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (37) سورة الشورى.
وعن علي بن الحسين قال إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل فيقوم ناس من الناس فيقال انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين فيقولون إلى الجنة قالوا قبل الحساب قالوا نعم قالوا من أنتم قالوا أهل الفضل قالوا وما كان فضلكم قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا أسى علينا غفرنا قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ثم يناد مناد ليقم أهل الصبر فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال له مثل ذلك فيقولون نحن أهل الصبر قالوا ما كان صبركم قالوا صبرنا أنفسنا على طاعة الله وصبرناها عن معصية الله عز و جل قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ( أبو نعيم : حلية الأولياء 3/139 ).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله تبارك وتعالى للطالب فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء قال يا رب فليحمل من أوزاري قال وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب أرفع بصرك فأنظر في الجنان فرفع رأسه فقال يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا قال هذا لمن أعطى الثمن قال يا رب ومن يملك ذلك قال أنت تملكه قال بماذا قال بعفوك عن أخيك قال يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله عز وجل فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين . ( هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه , رواه الحاكم في مستدركه ج 4/ ص 620 حديث رقم: 8718 ) .
وحدَّثوا أن جعفر الصادق كان ذات يوم يصب خادمه على يده الماء، فسقط منه الإبريق، وتناثر الماء على سيده، فنظر جعفر الصادق مُغضَبا، فقال له خادمه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}. فقال: كظمتُ غيظي. قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. قال: عفوتُ عنك. قال: الخادم: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. فقال له جعفر الصادق: اذهب فأنت حُر لوجه الله.
وكان الأحنف بن قيس ممَّن يُضرب به المثل في الحلم، وقيل له ممَّن تعلمتَ الحلم؟ فقال: تعلمتُه من قيس بن عاصم، كانت جارية له تحمل سفُّودا من حديد، فوقع منها على ولده الصغير، فعَقَرَه فمات، فدهشت الجارية واضطربت. فقال الرجل: لا يُسكِّن روعها إلا العتق، فقال لها: اذهبي فأنت حرة لا بأس عليك.
7- معرفة أن الرجولة الحقيقة في السيطرة على النفس عند الغضب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه أحمد 2/236 والحديث متفق عليه .
وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة . قال عليه الصلاة والسلام : ( الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) ( رواه الإمام أحمد 5/367 ، وحسنه في صحيح الجامع 3859) .
فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يصطرعون ، فقال : ماهذا ؟ قالوا : فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال : أفلا أدلكم على من هو أشد منه ، رجلٌ ظلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه ( رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن . الفتح 10/519 ) .
قال الشاعر :
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته * * عند القتال ونار الحرب تشتعـل
لكن من كفَّ طرْفًا أو ثَنى قدما * * عن الحرام، فذاك الفارس البطل
وقال آخر :
ليست الأحلامُ في حالِ الرضا إنّما الأحلامُ في حال الغضبْ
8- التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب :
وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، وهو أسوتنا وقدوتنا ، واضحة في أحاديث كثيرة ، ومن أبرزها : عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم ( ما بين العنق والكتف ) وقد أثرت بها حاشية البرد ، ثم قال : يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ، ثم أمر له بعطاء ( متفق عليه فتح الباري 10/375) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل ( العطاء الكثير ) ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر رضي الله عنه حتى همّ أن يوقع به ، فقال الحر بن قيس ، ( وكان من جلساء عمر ) : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه ، صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل ( رواه البخاري الفتح 4/304 ) .
فهكذا يكون المسلم ، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أحد الصحابة تعوذ بالله من الشيطان ، فقال لمن ذكره : أترى بي بأس أمجنون أنا ؟ اذهب ( رواه البخاري فتح 1/465 ) .
وأسمع رجل أبا الدرداء – رضي الله عنه- كلاما , فقال : يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
قال المعتمر بن سليمان كان رجل ممن كان قبلكم يغضب فيشتد غضبه فكتب صحائف وأعطى كل صحيفة رجلا وقال للأول إذا غضبت فأعطني هذه وقال للثاني إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه وقال للثالث إذا ذهب غضبي فأعطني هذه فاشتد غضبه يوما فأعطي الصحيفة الأولى فإذا فيها ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضا فسكن بعض غضبه فأعطي الثانية فإذا فيها ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء فأعطي الثالثة فإذا فيها خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك أي لا تعطل الحدود( الإحياء 3/175).
قيل لابن المبارك رحمه الله تعالى اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة قال ترك الغضب.
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى).
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
- مساهمة رقم 7
الوصية السابعة : لا تباغضوا ولا تحاسدوا
الوصية السابعة : لا تباغضوا ولا تحاسدوا
عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:لاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ.
أخرجه مالك "الموطأ" 2639 . و"الحُمَيدي" 1183 و"البُخَارِي" 8/23(6065) (الأدب المفرد) 398. و"أبو داود" 4910 والتِّرْمِذِيّ" 1935 .انظر حديث رقم : 4072 في صحيح الجامع .
قال ابن عبد البر في " التمهيد " : ( وفي هذا الحديث من الفقه أنَّه لا يحلُّ التباغض لأنَّ التباغض مفسدة للدين حالقة له ولهذا أمر- صلَّى الله عليه وسلم - بالتواد والتحاب حتى قال تهادوا تحابوا ). انتهى كلامه .
وقال الإمام النووي في شرحه على مسلم : ( قال العلماء في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال وإباحتها في الثلاث الأول بنص الحديث والثاني بمفهومه قالوا : وإنما عفي عنها في الثلاث لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك فعفى عن الهجرة في الثلاثة ليذهب ذلك العارض ) . انتهى كلامه .
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه ( رياض الصالحين ): باب النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر .
التباغض بالقلوب، والتقاطع بالأفعال والأقوال أيضاً، والتدابر بالأفعال أيضا، أما التباغض بالقلوب فأن يبغض الإنسان أخاه المؤمن، وهذا أعني بغض المؤمن حرام، لأي شيء تبغضه ؟ ! قد يقول أبغضه لأنه يعصي الله عز وجل فنقول: وإذا عصى الله لا تبغضه بغضاً مطلقاً الذي أبغضه بغضاً مطلقاً على حال هو الكافر لأنه ليس فيه خير، أما المؤمن وإن عصى وإن أصر على معصية يجب أن تحبه على ما معه من الإيمان وأن تكرهه على ما معه من الفسق والعصيان .
قال الله تعالى (( إنما المؤمنون أخوة )) 0 الحجرات 10.
وقال جل من قائل أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )) المائدة/ 54.
وقال تعالى ((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ))0 الفتح / 29.
وقال: النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم [رواه مسلم.
ويتضح من هذا الحديث الشريف أن هناك ارتباطا بين التباغض والتحاسد.. فالتحاسد هو أن يحسد الإنسان شخصا آخر على ما أنعم الله عليه به, وأن يتمني زوال نعمته.. ولا يمكن أن يتمني الإنسان زوال نعمة شخص يحبه.. وبالتالي فهو يبغضه, إذ يتمني له الشر أو زوال النعمة.. وهاتان الخصلتان ليستا من الإيمان في شيء, فالمؤمن يحب الخير للآخرين كما يحبه لنفسه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
فالذي يبغض الناس ويحقد عليهم إيمانه ناقص.. وحسناته تتآكل بفعل حسده للآخرين الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فهو في النهاية يلحق الأذى بنفسه, ويحرمها من ثواب ما قدمه من عمل صالح في مجالات أخري.. فلم لا يرتقي الإنسان بنفسه, وينتزع الحقد والبغضاء من قلبه .
فالمسلم الحقُّ يجب أن يكون سليم الصدر، لا يحقد على أحد، ولا يتمنَّى ضررًا لأحد، وأن يبيت وليس في نفسه لأحدٍ من المسلمين غشًّا ولا حسدًا، فهذه طريق الجنة.
ومن وسائل الإسلام أيضًا في التحذير من ضغائن الصدور، وفي الحثِّ على سلامتها أن المتخاصميْن لا تُرفع لهم أعمال إلاَّ أن يتصالحوا؛ لذلك قال r: "ثَلاثَةٌ لا تُرْفَعُ صَلاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ . ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أمّ قومًا وهم له كارهون (971) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال الألباني: ضعيف بهذا اللفظ، وحسن بلفظ: "العبد الآبق" مكان "أخوان متصارمان". وابن حبان (1757)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
والشحناء التي كرهها الإسلام، وكره ما يدفع إليها، أو ينشأ عنها هي التي تنشب من أَجْلِ الدنيا وأهوائها، أمَّا البغضُ لله، والغضبُ للحقِّ، والثورة للشرف فشأنٌ آخر؛ بل إنَّ من أماراتِ الإيمان الصحيح والإخلاصِ لله وحده - بُغْضَ مَنْ يفسقون عن أمر الله، أو يعتدون على حدوده، قال r: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ" أبو داود: كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4681) عن أبي أمامة ، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (380)، والترمذي (2521.
قيل : يا رسول الله ! أي الناس أفضل ؟ قال : " كل مخموم القلب ، صدوق اللسان " ؛ قالوا : صدوق اللسان نعرفه ؛ فما مخموم القلب ؟ - قال : التقي النقي؛لا إثم فيه،ولا بغض،ولا غـل،ولا حسد . سند صحيح - ابن ماجه 4216.
قال الشاعر :
جار الزمان عليهم فى تقلبه * * * حتى تبدلت الأخلاق والشيم
دبَّ التباغض يمشى في أحشائهم مرضا* * * به انبرت أعظمٌ منهم وجَفَّ دم
فأصبح الذل يمشى بين أظهرهم * * * مشتى الأمير وهم من حوله خدم
فالتباغض والتدابر والتهاجر يفسد الود وينافر بين القلوب , وأما التحاسد فهو داء عضال, وشر وبيل يضر بصاحبه قبل أن يضر بالآخرين , وأول خطيئة كانت في الوجود هي خطيئة الحسد حيث حسد إبليس آدم وأبي أن يسجد له فحمله الحسد على المعصية , وكان سبباً في طرده من رحمة الله تعالى , كما أن أول جريمة حدثت على ظهر الأرض كانت بسبب الحسد حينما حسد قابيل أخاه هابيل , ولقد نهى الإسلام عن الحسد وحذر منه لما له من خطر على الدين , قال تعالى ذماً لأهل الكفر والضلال {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (109) سورة البقرة.
والمسلم يستعيذ بالله من شر الحسد, قال تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (5) سورة الفلق.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لا يزال فيهم الخير والصلاح ما لم ينتشر بينهم الحسد والبغضاء.
عَنْ ضَمُرَةَ بن ثَعْلَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا". أخرجه الطبراني (8/309 ، رقم 8157) . قال الهيثمى (8/78) : رجاله ثقات, السلسلة الصحيحة 9/172.
وروى الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد اللَّه إخوانًا».[البخاري حديث 6076، ومسلم حديث 2559].
والحاسد يضر نفسه قبل أن يضر غيره فيظل في عذاب دائم وفي ألم مستمر وفي حزن متواصل,وهو صاحب قلب ميت ونفس خبيثة , وقديما قيل : " لا راحة مع الحسد " .
ولقد انتشر هذا الداء بين الناس اليوم , ولا يكاد يخلو جسد من حسد , بل وأصبح الناس – ولا حول ولا قوة إلا بالله - لا يحسدون الأحياء فقط, بل وصل الحسد إلى الأموات, فيقولون كان مشهد فلان ( أي جنازته ) كيت وكيت , وصلى عليه فلان وفلان , وترك كذا وكذا , قال الشاعر :
همْ يحسدوني على موتي فوا أسفاً * * * حتى على الموتِ لا أخلو مِنَ الحسدِ
وهذا كله من ضعف الإيمان, ومن عدم الرضا واليقين بما وهب الرحمن المنان .
قال الشافعي رحمه الله تعالى :
وداريت كل الناس لكن حاسدي *** مداراته عزَّت وعزَّ منالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمةٍ *** إذا كان لا يرضيه إلا زوالها ؟
وذكرت كتب السنة هذه القصة الرائعة في فضل سلامة الصدر ونبذ التحاسد والتباغض , عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ:بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، تَنْطُِفُ لِحْيَتُهُ مَاءً مِنْ وَضُوئِهِ ، مُعَلِّقٌ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَقَالَ : إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِي ، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْو ِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَحِلَّ يَمِينِي فَعَلْتَ ، فَقَالَ : نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ : فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يُحَدِّثُ : أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً ، أَوْ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ بِشَيْءٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ وَكَبَّرَ ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ : غَيْرَ أَنِّي لاَ أَسْمَعُهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْرًا ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَلاَثُ لَيَالٍ كِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ ، قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللهِ ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلاَ هَجْرَةٌ ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول لك ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فِي ثَلاَثِ مَجَالِسَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ تِلْكَ الثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَأَرَدْتُ آوِي إِلَيْكَ ، فَأَنْظُرَ عَمَلَكَ ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَبِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي ، فَقَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي غِلاًّ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلاَ أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ.
أخرجه أحمد 3/166(12727) وقال محققه شعيب الأرناؤط : إسناده صحيح على شرط الشيخين , ورواه الترمذي ( 3694 ) و"النَّسائي" ، في "عمل اليوم والليلة" 863 , والطبراني والحاكم في المستدرك ( 3/73 ) وصححه ووافقه الذهبي .
روى الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تَحْلِقُ الشعر ولكن تحلق الدين». [صحيح الترمذي 2038 وصحيح الجامع (3361) صحيح لغيره).قال المباركفوري : " تَحْلِق الدِّين أي َتَسْتَأْصِلهُ كَمَا يَسْتَأْصِل الْمُوسَى الشَّعْر" عون المعبود 9/297.
وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمان والحسد». [صحيح النسائي 2912] .
ذكر عكرمة هذه القصة التي تبين أن الحسد من الممكن أن يقلب الحقائق ويصير الحق باطلاً والباطل حقاً، قال: كانت القضاة ثلاثة - يعني: في بني إسرائيل - فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا فبعث الله ملكا على فرس فمر على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا الملك العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال: يا عبد الله ! عجلي وابن بقرتي، فقال الملك: بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال: القاضي بيني وبينك.
قال: لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة، فتكلم صاحب العجل فقال له: مر بي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده، قال: ومع الملك ثلاث درات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة، وقال: اقض لي، فقال: كيف يسوغ هذا؟ فقال: نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له.
فقال صاحب العجل: لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها، وقال: لا أقضي بينكما اليوم، فقالا: ولم لا تقضي بيننا؟ فقال: لأني حائض، فقال الملك: سبحان الله !! رجل يحيض !؟.فقال القاضي: سبحان الله ! وهل تنتج الفرس عجلا؟ فقضى لصاحب البقرة.فقال الملك: إنكم إنما ابتليتم، وقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك. ( ابن كثير : البداية والنهاية 9/ 274) .
قال رجل لشريح القاضي: إني لأحسدك على ما أرى من صبرك على الخصوم ووقوفك على غامض الحكم. فقال: ما نفعك الله بذلك ولاضرني.
وقال علي : لا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول .والحسود لا يسود.
قال بعض الحكماء : ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد .
وقال بعضهم : لله درُّ الحسدِ ما أعدلَه ، بدأ بصاحبهِ فقتلَه .
قال الشاعر :
يا حاسداً لي على نعمتي * * * أتدري على من أسأتَ الأدبْ
أسأتَ على الله في فعلهِ * * * لأنكَ لم ترضَ لي ما قسمْ
فأخزاكَ ربي بأنْ زادني* * * وسدَّ عليكَ وجوهَ الطلبْ
قال معاوية لابنه : يا بني ، إياك والحسد ، فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك .
قال الكميت الأسدي:
إن يحسدونني فإني غير لائمهم * * * قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم * * * ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
أنا الذي يجدوني في صدورهم * * * لا أرتقي صدراً منها ولا أرِدُ
وقانا الله وإياكم من شر التباغض والتدابر والتقاطع , ومن شر الحسد والحاسدين والحقد والحاقدين, وطهر قلوب المؤمنين , وجعلهم أخوة في الله متحابين متآلفين
عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:لاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ.
أخرجه مالك "الموطأ" 2639 . و"الحُمَيدي" 1183 و"البُخَارِي" 8/23(6065) (الأدب المفرد) 398. و"أبو داود" 4910 والتِّرْمِذِيّ" 1935 .انظر حديث رقم : 4072 في صحيح الجامع .
قال ابن عبد البر في " التمهيد " : ( وفي هذا الحديث من الفقه أنَّه لا يحلُّ التباغض لأنَّ التباغض مفسدة للدين حالقة له ولهذا أمر- صلَّى الله عليه وسلم - بالتواد والتحاب حتى قال تهادوا تحابوا ). انتهى كلامه .
وقال الإمام النووي في شرحه على مسلم : ( قال العلماء في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال وإباحتها في الثلاث الأول بنص الحديث والثاني بمفهومه قالوا : وإنما عفي عنها في الثلاث لأن الآدمي مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك فعفى عن الهجرة في الثلاثة ليذهب ذلك العارض ) . انتهى كلامه .
قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه ( رياض الصالحين ): باب النهي عن التباغض والتقاطع والتدابر .
التباغض بالقلوب، والتقاطع بالأفعال والأقوال أيضاً، والتدابر بالأفعال أيضا، أما التباغض بالقلوب فأن يبغض الإنسان أخاه المؤمن، وهذا أعني بغض المؤمن حرام، لأي شيء تبغضه ؟ ! قد يقول أبغضه لأنه يعصي الله عز وجل فنقول: وإذا عصى الله لا تبغضه بغضاً مطلقاً الذي أبغضه بغضاً مطلقاً على حال هو الكافر لأنه ليس فيه خير، أما المؤمن وإن عصى وإن أصر على معصية يجب أن تحبه على ما معه من الإيمان وأن تكرهه على ما معه من الفسق والعصيان .
قال الله تعالى (( إنما المؤمنون أخوة )) 0 الحجرات 10.
وقال جل من قائل أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )) المائدة/ 54.
وقال تعالى ((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ))0 الفتح / 29.
وقال: النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم [رواه مسلم.
ويتضح من هذا الحديث الشريف أن هناك ارتباطا بين التباغض والتحاسد.. فالتحاسد هو أن يحسد الإنسان شخصا آخر على ما أنعم الله عليه به, وأن يتمني زوال نعمته.. ولا يمكن أن يتمني الإنسان زوال نعمة شخص يحبه.. وبالتالي فهو يبغضه, إذ يتمني له الشر أو زوال النعمة.. وهاتان الخصلتان ليستا من الإيمان في شيء, فالمؤمن يحب الخير للآخرين كما يحبه لنفسه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
فالذي يبغض الناس ويحقد عليهم إيمانه ناقص.. وحسناته تتآكل بفعل حسده للآخرين الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فهو في النهاية يلحق الأذى بنفسه, ويحرمها من ثواب ما قدمه من عمل صالح في مجالات أخري.. فلم لا يرتقي الإنسان بنفسه, وينتزع الحقد والبغضاء من قلبه .
فالمسلم الحقُّ يجب أن يكون سليم الصدر، لا يحقد على أحد، ولا يتمنَّى ضررًا لأحد، وأن يبيت وليس في نفسه لأحدٍ من المسلمين غشًّا ولا حسدًا، فهذه طريق الجنة.
ومن وسائل الإسلام أيضًا في التحذير من ضغائن الصدور، وفي الحثِّ على سلامتها أن المتخاصميْن لا تُرفع لهم أعمال إلاَّ أن يتصالحوا؛ لذلك قال r: "ثَلاثَةٌ لا تُرْفَعُ صَلاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ . ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب من أمّ قومًا وهم له كارهون (971) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال الألباني: ضعيف بهذا اللفظ، وحسن بلفظ: "العبد الآبق" مكان "أخوان متصارمان". وابن حبان (1757)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
والشحناء التي كرهها الإسلام، وكره ما يدفع إليها، أو ينشأ عنها هي التي تنشب من أَجْلِ الدنيا وأهوائها، أمَّا البغضُ لله، والغضبُ للحقِّ، والثورة للشرف فشأنٌ آخر؛ بل إنَّ من أماراتِ الإيمان الصحيح والإخلاصِ لله وحده - بُغْضَ مَنْ يفسقون عن أمر الله، أو يعتدون على حدوده، قال r: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ" أبو داود: كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4681) عن أبي أمامة ، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (380)، والترمذي (2521.
قيل : يا رسول الله ! أي الناس أفضل ؟ قال : " كل مخموم القلب ، صدوق اللسان " ؛ قالوا : صدوق اللسان نعرفه ؛ فما مخموم القلب ؟ - قال : التقي النقي؛لا إثم فيه،ولا بغض،ولا غـل،ولا حسد . سند صحيح - ابن ماجه 4216.
قال الشاعر :
جار الزمان عليهم فى تقلبه * * * حتى تبدلت الأخلاق والشيم
دبَّ التباغض يمشى في أحشائهم مرضا* * * به انبرت أعظمٌ منهم وجَفَّ دم
فأصبح الذل يمشى بين أظهرهم * * * مشتى الأمير وهم من حوله خدم
فالتباغض والتدابر والتهاجر يفسد الود وينافر بين القلوب , وأما التحاسد فهو داء عضال, وشر وبيل يضر بصاحبه قبل أن يضر بالآخرين , وأول خطيئة كانت في الوجود هي خطيئة الحسد حيث حسد إبليس آدم وأبي أن يسجد له فحمله الحسد على المعصية , وكان سبباً في طرده من رحمة الله تعالى , كما أن أول جريمة حدثت على ظهر الأرض كانت بسبب الحسد حينما حسد قابيل أخاه هابيل , ولقد نهى الإسلام عن الحسد وحذر منه لما له من خطر على الدين , قال تعالى ذماً لأهل الكفر والضلال {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (109) سورة البقرة.
والمسلم يستعيذ بالله من شر الحسد, قال تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (5) سورة الفلق.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لا يزال فيهم الخير والصلاح ما لم ينتشر بينهم الحسد والبغضاء.
عَنْ ضَمُرَةَ بن ثَعْلَبَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا". أخرجه الطبراني (8/309 ، رقم 8157) . قال الهيثمى (8/78) : رجاله ثقات, السلسلة الصحيحة 9/172.
وروى الشيخان عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد اللَّه إخوانًا».[البخاري حديث 6076، ومسلم حديث 2559].
والحاسد يضر نفسه قبل أن يضر غيره فيظل في عذاب دائم وفي ألم مستمر وفي حزن متواصل,وهو صاحب قلب ميت ونفس خبيثة , وقديما قيل : " لا راحة مع الحسد " .
ولقد انتشر هذا الداء بين الناس اليوم , ولا يكاد يخلو جسد من حسد , بل وأصبح الناس – ولا حول ولا قوة إلا بالله - لا يحسدون الأحياء فقط, بل وصل الحسد إلى الأموات, فيقولون كان مشهد فلان ( أي جنازته ) كيت وكيت , وصلى عليه فلان وفلان , وترك كذا وكذا , قال الشاعر :
همْ يحسدوني على موتي فوا أسفاً * * * حتى على الموتِ لا أخلو مِنَ الحسدِ
وهذا كله من ضعف الإيمان, ومن عدم الرضا واليقين بما وهب الرحمن المنان .
قال الشافعي رحمه الله تعالى :
وداريت كل الناس لكن حاسدي *** مداراته عزَّت وعزَّ منالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمةٍ *** إذا كان لا يرضيه إلا زوالها ؟
وذكرت كتب السنة هذه القصة الرائعة في فضل سلامة الصدر ونبذ التحاسد والتباغض , عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ:بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، تَنْطُِفُ لِحْيَتُهُ مَاءً مِنْ وَضُوئِهِ ، مُعَلِّقٌ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ مَرْتَبَتِهِ الأُولَى ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَقَالَ : إِنِّي لاَحَيْتُ أَبِي ، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لاَ أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْو ِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَحِلَّ يَمِينِي فَعَلْتَ ، فَقَالَ : نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ : فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يُحَدِّثُ : أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً ، أَوْ ثَلاَثَ لَيَالٍ ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ بِشَيْءٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ وَكَبَّرَ ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ : غَيْرَ أَنِّي لاَ أَسْمَعُهُ يَقُولُ إِلاَّ خَيْرًا ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَلاَثُ لَيَالٍ كِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ ، قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللهِ ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلاَ هَجْرَةٌ ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول لك ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فِي ثَلاَثِ مَجَالِسَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ تِلْكَ الثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَأَرَدْتُ آوِي إِلَيْكَ ، فَأَنْظُرَ عَمَلَكَ ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَبِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهُ ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي ، فَقَالَ : مَا هُوَ إِلاَّ مَا رَأَيْتَ ، غَيْرَ أَنِّي لاَ أَجِدُ فِي نَفْسِي غِلاًّ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلاَ أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ ، وَهِيَ الَّتِي لاَ نُطِيقُ.
أخرجه أحمد 3/166(12727) وقال محققه شعيب الأرناؤط : إسناده صحيح على شرط الشيخين , ورواه الترمذي ( 3694 ) و"النَّسائي" ، في "عمل اليوم والليلة" 863 , والطبراني والحاكم في المستدرك ( 3/73 ) وصححه ووافقه الذهبي .
روى الترمذي عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تَحْلِقُ الشعر ولكن تحلق الدين». [صحيح الترمذي 2038 وصحيح الجامع (3361) صحيح لغيره).قال المباركفوري : " تَحْلِق الدِّين أي َتَسْتَأْصِلهُ كَمَا يَسْتَأْصِل الْمُوسَى الشَّعْر" عون المعبود 9/297.
وروى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمان والحسد». [صحيح النسائي 2912] .
ذكر عكرمة هذه القصة التي تبين أن الحسد من الممكن أن يقلب الحقائق ويصير الحق باطلاً والباطل حقاً، قال: كانت القضاة ثلاثة - يعني: في بني إسرائيل - فمات واحد فجعل الآخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا فبعث الله ملكا على فرس فمر على رجل يسقي بقرة معها عجل، فدعا الملك العجل فتبع العجل الفرس، فجاء صاحبه ليرده فقال: يا عبد الله ! عجلي وابن بقرتي، فقال الملك: بل هو عجلي وابن فرسي، فخاصمه حتى أعيا، فقال: القاضي بيني وبينك.
قال: لقد رضيت، فارتفعا إلى أحد القضاة، فتكلم صاحب العجل فقال له: مر بي على فرس فدعا عجلي فتبعه فأبى أن يرده، قال: ومع الملك ثلاث درات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة، وقال: اقض لي، فقال: كيف يسوغ هذا؟ فقال: نرسل العجل خلف الفرس والبقرة فأيهما تبعها فهو ابنها، ففعل ذلك فتبع الفرس فقضى له.
فقال صاحب العجل: لا أرضى، بيني وبينك القاضي الآخر، ففعلا مثل ذلك، ثم أتيا الثالث فقصا عليه قصتهما، وناوله الملك الدرة الثالثة فلم يأخذها، وقال: لا أقضي بينكما اليوم، فقالا: ولم لا تقضي بيننا؟ فقال: لأني حائض، فقال الملك: سبحان الله !! رجل يحيض !؟.فقال القاضي: سبحان الله ! وهل تنتج الفرس عجلا؟ فقضى لصاحب البقرة.فقال الملك: إنكم إنما ابتليتم، وقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك. ( ابن كثير : البداية والنهاية 9/ 274) .
قال رجل لشريح القاضي: إني لأحسدك على ما أرى من صبرك على الخصوم ووقوفك على غامض الحكم. فقال: ما نفعك الله بذلك ولاضرني.
وقال علي : لا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول .والحسود لا يسود.
قال بعض الحكماء : ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد .
وقال بعضهم : لله درُّ الحسدِ ما أعدلَه ، بدأ بصاحبهِ فقتلَه .
قال الشاعر :
يا حاسداً لي على نعمتي * * * أتدري على من أسأتَ الأدبْ
أسأتَ على الله في فعلهِ * * * لأنكَ لم ترضَ لي ما قسمْ
فأخزاكَ ربي بأنْ زادني* * * وسدَّ عليكَ وجوهَ الطلبْ
قال معاوية لابنه : يا بني ، إياك والحسد ، فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك .
قال الكميت الأسدي:
إن يحسدونني فإني غير لائمهم * * * قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم * * * ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
أنا الذي يجدوني في صدورهم * * * لا أرتقي صدراً منها ولا أرِدُ
وقانا الله وإياكم من شر التباغض والتدابر والتقاطع , ومن شر الحسد والحاسدين والحقد والحاقدين, وطهر قلوب المؤمنين , وجعلهم أخوة في الله متحابين متآلفين
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
- مساهمة رقم 8
الوصية الثامنة : قل آمنت بالله ثم استقم
الوصية الثامنة : قل آمنت بالله ثم استقم
عن عُرْوَةَ , عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِِ الثَّقَفِىِّ , قَالَ:قُلْتُ : يَارَسُولَ اللهِ , قُلْ لِى في الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بعدك. قَالَ : قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمَّ اسْتَقِمْ. أخرجه أحمد 3/413(15494) و"مسلم"1/47(68) .
والمعنى: استقيموا واثبتوا على التقوى حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، كما في الحديث قال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستقامة : " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)" سورة هود .
وقال سبحانه مبيناً جزاء أهل الاستقامة في الدنيا والآخرة : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) سورة فصلت .
وقال : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) سورة الأحقاف.
وقال : " وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) سورة الجن .
وخرّج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بنِ عمرو بن العاص : أنَّ معاذَ ابن جبل أراد سفراً ، فقال : يا رسولَ الله أوصني ، قال : (( اعبد الله ، ولا تشرك به شيئاً )) قال : يا رسول الله زِدني ، قال : (( إذا أسأتَ فأحسنْ )) ، قال :يا رسول الله زدني ، قال : (( استقم ولْتُحْسِنْ خلقك )) . أخرجه ابن حبان ( 1922 ) و الحاكم ( 4 / 244 )الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 230 .
1- معنى الاستقامة:
الاستقامة في اللغة : ضد الاعوجاج والانحراف فالشَّيء المستقيم هو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه، وهذا يأتي في الحسيات، تقول: هذا طريق مستقيم و هذا طريق مُعْوَجٌّ. انظر: التعريفات للجرجاني ص37 .
ومعناها في الشرع كما قال ابن حجر : " قَوْله ( اِسْتَقِيمُوا )أَيْ اُسْلُكُوا طَرِيق الِاسْتِقَامَة وَهِيَ كِنَايَة عَنْ التَّمَسُّك بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى فِعْلًا وَتَرْكًا ، عَنْ أَبِي نُعَيْم شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ " فَإِنْ اِسْتَقَمْتُمْ فَقَدْ سَبَقْتُمْ ". الفتح 20/334.
والاستقامة تتضمن في الشرع أمرين:
السَّير على الطريق.
الاستمرار و الثبات عليه حتى الممات .
فالأول: السير على الطريق :
وهذا المعنى يُفَسِّرُهُ قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران:102] .
اتقوه حق التقوى بحسب الاستطاعة ، قال تعالى: (( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16].
والثاني: الاستمرار والثبات عليه حتى الممات:
وذلك في قوله تعالى: (( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) [آل عمران:102] .
فهذا يتضمن الأمر بالدوام والاستمرار .
2- طرق تحقيق الاستقامة:
وكي يحقق العبد الاستقامة , ويسلك طريقها لا بد له من هذه الأشياء :
أولاً : الإخلاص لله تعالى :
قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة:5).
عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ.
أخرجه النسائي 6/25 وفي "الكبرى" 4333.
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ ، وَالرِّفْعَةِ ، وَالدِّينِ ، وَالنَّصْرِ ، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ (وَهُوَ يَشُكُّ فِي السَّادِسَةِ) ، قَالَ : فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ. أخرجه أحمد 5/134(21539) ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2825 في صحيح الجامع .
ثانياً: متابعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولاً وعملاً .
قال - تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (آل عمران:31).
قال الحسن البصري: قوم ادعوا محبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فابتلاهم الله بهذه الآية: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم من محبة الله تعالى ,وطاعته من طاعة الله سبحانه قال تعالى : "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)سورة النساء.
عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛أَنَّ رَجُلاً قََالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ؟ قَالَ : لاَ ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، قَالَ : فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.قَالَ أَنَسٌ : فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ ، بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
قَالَ : فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، لِحُبِّي إِيَّاهُمْ ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ. رواه أحمد (13419 و13886) ، وعَبْد بن حُمَيْد (1296) ، ومُسْلم (7520) .
تعصي الإله وأنت تظهر حبه * * * هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته * * * إن المحب لمن يحب مطيع
وقال آخر:
وقال الشاعر:
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي * * * حباً ما ذاك في إمكان
وكذا تعادي جاهداً أحبابه * * أين المحبةُ يا أخا الشيطان؟
شرط المحبة أن توافق من تحبُّ * * على محبته بلا عصيان
فإذا ادّعيت له المحبة مع خلافك * * ما يحب فأنت ذو بهتان
ثالثاً : فعل الطاعات واجتناب المحرمات :
فإن مما يعين العبد المسلم إلى الوصول إلى الاستقامة وتحقيقها محافظته على الطاعات فرائض كانت أو نوافل ، وهي من أهمّ الوسائل التي تجلب للعبد محبة سيده ومولاه .
ففي الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - :قال : قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - :قال الله - عز وجل - : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ، حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ. أخرجه البخاري 8/131(6502).
أمرتك الخير لكن ما إتمرت به * * * وما استقمت فما قولي لك استقم
وقال ابن المعتز:
خلّ الذنوبَ صغيرها* * * وكبيرها فهو التُّقى
واصنع كماشٍ فوق أرض* * * الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرةً * * * إن الجبال من الحصى
وقال آخر:
من يتق الله يحمد في عواقبه * * * ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استجار بغير الله في فزع * * * فإن ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصماً * * * فإنه الركن إن خانتك أركان
فيا من راح في المعاصي وغَدا، يقول: سأتوبُ اليومَ أو غدا، يا مَن أصبحَ قلبه في الهوى مبدَّدًا، وأمسَى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيَّدًا، تذكَّر ليلةً تبيتُ في القبر منفرِدًا، وبادِر بالمتابِ ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، واعلَم أنَّ الله يبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النهار.
ويا من تقلَّبتَ في أنواعِ العبادة، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلست بدار إقامة، واحذَر الإدلاء والرّياء فرُبّ عملٍ صغير تعظِّمه النّية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، يقول بعض السلف: "من سرّه أن يكمُل له عمله فليحسِن نيته".
وكن على خوفٍ ووجَل من عدَم قبولِ العمل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فقلتُ: أهُم الذين يشرَبون الخمر ويسرِقون؟ فقال رسول الله : ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا تقبَل منهم، أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61])) أخرجه الترمذي,سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وأخرجه أيضا أحمد (6/205)، وابن ماجه في الزهد (4198)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2537).
قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيّع تقواه فقد ضيّع نفسه والله الغني عنه، ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بطبعها حافظة له من الأذى! على العكس، كما جرى لسفينة مولى رسول الله r ، سفينة مولى النبي r أطلق عليه هذا الاسم؛ لأنهم كانوا في سفرهم يحمّلونه كل أثقالهم فسموه سفينة وكان مولى للنبي r؛ إذ كسر به المركب الذي يركبه، وخرج إلى الجزيرة، فرأى الأسد فقال له سفينة: أنا سفينة مولى رسول الله r يقول: فجعل يمشي معه حتى دلّه على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه، ثم رجع، وهذا الحديث حديث حسن.رواه البزار في مسنده (5/265) حديث (3838) .
فالمسلم المستقيم تتطابق أفعاله مع أقوله , فتراه حيث أمره الله تعالى , وتفتقده حيث نهاه .
رابعاً العلم :
إن الله تعالى أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يستزيد من العلم فقال: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (طه : 114).
وروى الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه من حديث أبي شريح الخزاعي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفَهُ بِيَدِ اللهِ، وَطَرَفَهُ بِأَيْدِيكُمْ؛ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا، وَلَنْ تَهْلَكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا . أخرجه ابن أَبي شَيْبَة 10/481 (30006) وابن حِبَّان (122) .
وفي سنن ابن ماجة من حديث كثير بن قيس قال : كنتُ جالسا مع أبي الدَّرْدَاء في مسجد دِمَشْقَ ، فجاءه رجل ، فقال : يا أبا الدرداء، إِني جئْتُكَ من مدينَةِ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ، لحديث بلغني أَنَّكَ تُحَدِّثُه عن رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما جئتُ لحاجة ، قال : فإِني سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول : « مَن سَلَكَ طريقا يَطلُبُ فيه علما : سَلَكَ الله بِهِ طريقا من طُرُقِ الجنَّة، وَإِنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضى لطالبِ العلم ، وَإِنَّ العالمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن في السمواتِ ومَن في الأرضِ ، والحِيتَانُ في جَوفِ الماء ، وَإِن فَضْلَ العالمِ على العَابِدِ كَفضل القمر ليلة البدرِ على سائرِ الكَوَاكِب، وَإِن العُلماءَ وَرَثَةُ الأنبياء، وَإِنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا دِينارا ولا دِرْهما ، وَرَّثُوا العلم ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظّ وَافِر ».أخرجه أحمد 5/196(22059) و"الدارِمِي" 342 و"أبو داود"3641 و"ابن ماجة"223 .
خامسا : الذكر
ففي مسند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - : لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ . أخرجه أحمد 3/198(13079).
وما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ: يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ. أخرجه ابن أَبي شَيْبَة "أحمد" 2/252(7421و"الدارِمِي" 344 و"مسلم" 6952 .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ يَقُولُ:جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَقَالَ الآخَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَىَّ فَمُرْنِى بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ فَقَالَ لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.أخرجه أحمد 4/188(17832) و"ابن ماجة" والتِّرْمِذِيّ" 2329 و3375.
قال شقيق أربعة أشياء من طريق الاستقامة لا يترك أمر الله لشدة تنزل به ولا يتركه لشيء يقع في يده من الدنيا فلا يعمل بهوى أحد ولا يعمل بهوى نفسه لأن الهوى مذموم ليعمل بالكتاب والسنة. الحلية 8/71.
فاجعل إيمانك بالله تعالى طريقا تصل به إليه سبحانه , واجعل استقامتك تطبيقاً عملياً لهذا الإيمان, فقد ربط الله بين الإيمان والعمل , قال سبحانه : " وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)سورة البقرة . وقال : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) سورة البقرة .وقال : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)سورة فصلت .
اللهم اجعلنا ممن,يقولون فيعملون, ويعملون فيخلصون,ويخلصون فيقبلون
عن عُرْوَةَ , عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِِ الثَّقَفِىِّ , قَالَ:قُلْتُ : يَارَسُولَ اللهِ , قُلْ لِى في الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بعدك. قَالَ : قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمَّ اسْتَقِمْ. أخرجه أحمد 3/413(15494) و"مسلم"1/47(68) .
والمعنى: استقيموا واثبتوا على التقوى حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، كما في الحديث قال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستقامة : " فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)" سورة هود .
وقال سبحانه مبيناً جزاء أهل الاستقامة في الدنيا والآخرة : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) سورة فصلت .
وقال : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) سورة الأحقاف.
وقال : " وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) سورة الجن .
وخرّج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بنِ عمرو بن العاص : أنَّ معاذَ ابن جبل أراد سفراً ، فقال : يا رسولَ الله أوصني ، قال : (( اعبد الله ، ولا تشرك به شيئاً )) قال : يا رسول الله زِدني ، قال : (( إذا أسأتَ فأحسنْ )) ، قال :يا رسول الله زدني ، قال : (( استقم ولْتُحْسِنْ خلقك )) . أخرجه ابن حبان ( 1922 ) و الحاكم ( 4 / 244 )الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 230 .
1- معنى الاستقامة:
الاستقامة في اللغة : ضد الاعوجاج والانحراف فالشَّيء المستقيم هو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه، وهذا يأتي في الحسيات، تقول: هذا طريق مستقيم و هذا طريق مُعْوَجٌّ. انظر: التعريفات للجرجاني ص37 .
ومعناها في الشرع كما قال ابن حجر : " قَوْله ( اِسْتَقِيمُوا )أَيْ اُسْلُكُوا طَرِيق الِاسْتِقَامَة وَهِيَ كِنَايَة عَنْ التَّمَسُّك بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى فِعْلًا وَتَرْكًا ، عَنْ أَبِي نُعَيْم شَيْخ الْبُخَارِيّ فِيهِ " فَإِنْ اِسْتَقَمْتُمْ فَقَدْ سَبَقْتُمْ ". الفتح 20/334.
والاستقامة تتضمن في الشرع أمرين:
السَّير على الطريق.
الاستمرار و الثبات عليه حتى الممات .
فالأول: السير على الطريق :
وهذا المعنى يُفَسِّرُهُ قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران:102] .
اتقوه حق التقوى بحسب الاستطاعة ، قال تعالى: (( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن:16].
والثاني: الاستمرار والثبات عليه حتى الممات:
وذلك في قوله تعالى: (( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) [آل عمران:102] .
فهذا يتضمن الأمر بالدوام والاستمرار .
2- طرق تحقيق الاستقامة:
وكي يحقق العبد الاستقامة , ويسلك طريقها لا بد له من هذه الأشياء :
أولاً : الإخلاص لله تعالى :
قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة:5).
عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ.
أخرجه النسائي 6/25 وفي "الكبرى" 4333.
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ ، وَالرِّفْعَةِ ، وَالدِّينِ ، وَالنَّصْرِ ، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ (وَهُوَ يَشُكُّ فِي السَّادِسَةِ) ، قَالَ : فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌ. أخرجه أحمد 5/134(21539) ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2825 في صحيح الجامع .
ثانياً: متابعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قولاً وعملاً .
قال - تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (آل عمران:31).
قال الحسن البصري: قوم ادعوا محبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فابتلاهم الله بهذه الآية: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم من محبة الله تعالى ,وطاعته من طاعة الله سبحانه قال تعالى : "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)سورة النساء.
عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛أَنَّ رَجُلاً قََالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ ؟ قَالَ : لاَ ، إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، قَالَ : فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.قَالَ أَنَسٌ : فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ ، بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
قَالَ : فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، لِحُبِّي إِيَّاهُمْ ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَعْمَلْ بِعَمَلِهِمْ. رواه أحمد (13419 و13886) ، وعَبْد بن حُمَيْد (1296) ، ومُسْلم (7520) .
تعصي الإله وأنت تظهر حبه * * * هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته * * * إن المحب لمن يحب مطيع
وقال آخر:
وقال الشاعر:
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي * * * حباً ما ذاك في إمكان
وكذا تعادي جاهداً أحبابه * * أين المحبةُ يا أخا الشيطان؟
شرط المحبة أن توافق من تحبُّ * * على محبته بلا عصيان
فإذا ادّعيت له المحبة مع خلافك * * ما يحب فأنت ذو بهتان
ثالثاً : فعل الطاعات واجتناب المحرمات :
فإن مما يعين العبد المسلم إلى الوصول إلى الاستقامة وتحقيقها محافظته على الطاعات فرائض كانت أو نوافل ، وهي من أهمّ الوسائل التي تجلب للعبد محبة سيده ومولاه .
ففي الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - :قال : قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - :قال الله - عز وجل - : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ، حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ. أخرجه البخاري 8/131(6502).
أمرتك الخير لكن ما إتمرت به * * * وما استقمت فما قولي لك استقم
وقال ابن المعتز:
خلّ الذنوبَ صغيرها* * * وكبيرها فهو التُّقى
واصنع كماشٍ فوق أرض* * * الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرةً * * * إن الجبال من الحصى
وقال آخر:
من يتق الله يحمد في عواقبه * * * ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استجار بغير الله في فزع * * * فإن ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصماً * * * فإنه الركن إن خانتك أركان
فيا من راح في المعاصي وغَدا، يقول: سأتوبُ اليومَ أو غدا، يا مَن أصبحَ قلبه في الهوى مبدَّدًا، وأمسَى بالجهل جلمدًا، وبالشهوات محبوسًا مقيَّدًا، تذكَّر ليلةً تبيتُ في القبر منفرِدًا، وبادِر بالمتابِ ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبلَ أن لا تُقالَ العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، واعلَم أنَّ الله يبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النهار.
ويا من تقلَّبتَ في أنواعِ العبادة، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلست بدار إقامة، واحذَر الإدلاء والرّياء فرُبّ عملٍ صغير تعظِّمه النّية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، يقول بعض السلف: "من سرّه أن يكمُل له عمله فليحسِن نيته".
وكن على خوفٍ ووجَل من عدَم قبولِ العمل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ رسول الله عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، فقلتُ: أهُم الذين يشرَبون الخمر ويسرِقون؟ فقال رسول الله : ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا تقبَل منهم، أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61])) أخرجه الترمذي,سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وأخرجه أيضا أحمد (6/205)، وابن ماجه في الزهد (4198)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2537).
قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيّع تقواه فقد ضيّع نفسه والله الغني عنه، ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بطبعها حافظة له من الأذى! على العكس، كما جرى لسفينة مولى رسول الله r ، سفينة مولى النبي r أطلق عليه هذا الاسم؛ لأنهم كانوا في سفرهم يحمّلونه كل أثقالهم فسموه سفينة وكان مولى للنبي r؛ إذ كسر به المركب الذي يركبه، وخرج إلى الجزيرة، فرأى الأسد فقال له سفينة: أنا سفينة مولى رسول الله r يقول: فجعل يمشي معه حتى دلّه على الطريق، فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه، ثم رجع، وهذا الحديث حديث حسن.رواه البزار في مسنده (5/265) حديث (3838) .
فالمسلم المستقيم تتطابق أفعاله مع أقوله , فتراه حيث أمره الله تعالى , وتفتقده حيث نهاه .
رابعاً العلم :
إن الله تعالى أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يستزيد من العلم فقال: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (طه : 114).
وروى الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه من حديث أبي شريح الخزاعي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفَهُ بِيَدِ اللهِ، وَطَرَفَهُ بِأَيْدِيكُمْ؛ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا، وَلَنْ تَهْلَكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا . أخرجه ابن أَبي شَيْبَة 10/481 (30006) وابن حِبَّان (122) .
وفي سنن ابن ماجة من حديث كثير بن قيس قال : كنتُ جالسا مع أبي الدَّرْدَاء في مسجد دِمَشْقَ ، فجاءه رجل ، فقال : يا أبا الدرداء، إِني جئْتُكَ من مدينَةِ الرَّسولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ، لحديث بلغني أَنَّكَ تُحَدِّثُه عن رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما جئتُ لحاجة ، قال : فإِني سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول : « مَن سَلَكَ طريقا يَطلُبُ فيه علما : سَلَكَ الله بِهِ طريقا من طُرُقِ الجنَّة، وَإِنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضى لطالبِ العلم ، وَإِنَّ العالمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَن في السمواتِ ومَن في الأرضِ ، والحِيتَانُ في جَوفِ الماء ، وَإِن فَضْلَ العالمِ على العَابِدِ كَفضل القمر ليلة البدرِ على سائرِ الكَوَاكِب، وَإِن العُلماءَ وَرَثَةُ الأنبياء، وَإِنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا دِينارا ولا دِرْهما ، وَرَّثُوا العلم ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظّ وَافِر ».أخرجه أحمد 5/196(22059) و"الدارِمِي" 342 و"أبو داود"3641 و"ابن ماجة"223 .
خامسا : الذكر
ففي مسند الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - : لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ . أخرجه أحمد 3/198(13079).
وما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ: يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ. أخرجه ابن أَبي شَيْبَة "أحمد" 2/252(7421و"الدارِمِي" 344 و"مسلم" 6952 .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ يَقُولُ:جَاءَ أَعْرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ وَقَالَ الآخَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَىَّ فَمُرْنِى بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ فَقَالَ لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.أخرجه أحمد 4/188(17832) و"ابن ماجة" والتِّرْمِذِيّ" 2329 و3375.
قال شقيق أربعة أشياء من طريق الاستقامة لا يترك أمر الله لشدة تنزل به ولا يتركه لشيء يقع في يده من الدنيا فلا يعمل بهوى أحد ولا يعمل بهوى نفسه لأن الهوى مذموم ليعمل بالكتاب والسنة. الحلية 8/71.
فاجعل إيمانك بالله تعالى طريقا تصل به إليه سبحانه , واجعل استقامتك تطبيقاً عملياً لهذا الإيمان, فقد ربط الله بين الإيمان والعمل , قال سبحانه : " وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)سورة البقرة . وقال : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) سورة البقرة .وقال : " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)سورة فصلت .
اللهم اجعلنا ممن,يقولون فيعملون, ويعملون فيخلصون,ويخلصون فيقبلون
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
- مساهمة رقم 9
الوصية التاسعة : وخالق الناس بخلق حسن
الوصية التاسعة : وخالق الناس بخلق حسن
عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ.
أخرجه أحمد 5/228(22337) و"الدارِمِي" 2791 و"التِّرمِذي" 1987 وقال حديث حسن.
1- اتق الله حيثما كنت :
التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه ,وهي كما عرفها ابن مسعود :أن يطاع الله فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى .. ، وأن يشكر فلا يكفر .
وعرفها ابن عباس بقوله " هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
وعرفها طلق بن حبيب بقوله:التقوى هى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله.. على نور من الله ، تخافُ عقابَ الله.
عن أبي يزيد أن التقوى هي التورع عن كل ما فيه شبهة وعن محمد بن حنيف أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله تعالي وعن سهل المتقي كل من تبرأ عن حوله وقدرته وقيل التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك وعن ميمون بن مهران لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر وعن أبي تراب بين يدي التقوى خمس عقبات لا يناله من يجاوزهن إيثار الشدة على النعمة وإيثار الضعف على القوة وإيثار الذل على العزة ، وإيثار الجهد على الراحة وإيثار الموت على الحياة وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون بحيث لو جعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستح ممن ينظر إليه وقيل التقوى أن نزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخل
فالتقوى هي الغاية من العبادة و هي أساس الخير في الدنيا والآخرة.
والهدف الأسمى من الصوم تربية المسلم على التقوى والإخلاص ومراقبة الله تعالى في السر والعلن . لذا فقد جعل الله الصوم له وحده فقال في الحديث القدسي :" كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إِلاَّ الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ، مَرَّتَيْنِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا : إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَرِحَ بِصِيَامِهِ. أخرجه عبد الرَّزَّاق (7893) و"ابن أبي شَيْبَة" 3/3 (8879) و"أحمد" 2/266(7596)). و"البُخاري" (7492) و"مسلم" 2676 .
قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صفى صفى له، ومن كَدَّر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال.
فالمؤمن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فليعلم أن الله الرقيب الحسيب يراه , قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (2) سورة الزمر.
وقال : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (11) سورة الزمر.
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ. أخرجه النسائي 6/25 وفي "الكبرى" 4333.
وفي الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بِيضًا، يجعلُها اللهُ هباءً منثورا". قال ثوبان: صفهم لنا أنْ لا نكون منهم يا رسول الله! قال: "أما إنهم إخوانُكم، ومن جِلدَتِكم، ويأخذون مِن الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خَلَوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها".أخرجه ابن ماجه ( 4245 ) ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5028 في صحيح الجامع .
قيل لبعض الحكماء: ما سبب الذنب؟ قال: الخطرة. فإنْ تداركتَ الخطرة بالرجوع إلى الله ذَهَبَتْ، وإنْ لم تفعل تولدتْ عنها الفكرة، فإنْ تداركتَها بالرجوع إلى الله بطلتْ، وإلا فعند ذلك تخالط الوسوسة الفكرة؛ فتتولد عنها الشهوة.. وكل ذلك باطن في القلب لم يظهر على الجوارح، فإنْ استدركتَ الشهوة وإلا تولد منها الطلب، فإنْ تداركتَ الطلب، وإلا تولد منه الفعل. قال الشاعر :
اللـه يعلـم كـل ما تضمـر * * * يعلم ما تخفـي وما تظهر
وإن خدعت الناس لم تستطع * * * خداع من يطوي ومن ينشر
وقال آخر :
لا تَحْقِرنَّ مِنَ الذنوبِ صَغِيرا * * * إن الصَّغير غدًا يعود كبيرا
إن الصغير ولو تقادم عهده * * * عند الإله مُسَطَّرٌ تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة لا تكن * * * صعب القياد وشمرن تشميرا
إن المُحِبَّ إذا أحب إلههُ * * * طار الفؤاد وأُلْهِم التفكيرا
فاسأل هدايتك الإله بِنِيَّة * * * فَكَفَى بِرَبّكَ هاديا ونصيرا
قال عبد الله بن دينار: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة، فعَرَّسنا ( التَّعْريسُ: نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة ) في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعِ! بعني شاة من هذه الغنم.. فقال: إني مملوك.. فقال: قل لسيدك أكلها الذئب! قال: فأين الله؟! قال: فبكى عمر، ثم غَدَا إلى المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أنْ تعتقك في الآخرة.
وعن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم، قال: بينا أنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس بالمدينة؛ إذ أعياه فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه! قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أماه! أوَ علمتِ بما كان مِن عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ فقالت: وما كان مِن عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أنْ لا يُشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنتاه! قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر! فقالت الصبية لأمها: يا أماه! والله ما كنتُ لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا.. وعمر يسمع كل ذلك! فقال: يا أسلم! عَلِّم الباب، واعرف الموضع..
فلما أصبح الصبح قال: يا أسلم! امضِ إلى ذلك الموضع فانظر مَن القائلة، ومَن المقول لها؟ وهل لهم مِن زوج؟ قال أسلم: فأتيتُ الموضع فنظرتُ؛ فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس لها رجل.. فأتيتُ عمر بن الخطاب فأخبرتُه.. فدعا عمر ولده فجمعهم، فقال: هل فيكم مَن يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه أحد منكم إلى هذه الجارية! فقال عبد الله: لي زوجة. وقال عبد الرحمن: لي زوجة. وقال عاصم: يا أبتاه! لا زوجة لي فزوجني. فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتًا، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز.
قال الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، رَحِمَهُ اللهُ يُنْشِدُ:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا * * فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * * وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
غَفَلْنَا الْعُمُرَ وَاللهِ حَتَّى تَدَارَكَتْ * * عَلَيْنَا ذُنُوبٌ بَعْدَهُنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى * * وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
أراد أحد الأساتذة الكرام أن معنى المراقبة والإخلاص والتقوى ، فدفع لكل تلميذ من تلاميذه دجاجة أو طائر وهو يقول: فليذهب كل تلميذ وليذبح هذا الطائر في مكان لا يراه فيه أحد، فذهب كل تلميذ بطائره في مكان يغيب فيه عن أعين الناس حتى يذبح طائره ويعود به إلى أستاذه، ونظر الأستاذ فوجد تلميذاً نجيباً جاء بطائره ولم يذبحه فقال له، لماذا لم تذبح طائرك؟! فقال: يا أستاذي لقد طلبت منا أن نبحث عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان ذهبت إليه إلا ورأيت أن الله يراني، فأين أذبحه؟!.
وإذا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فـي ظُلمَةٍ * * والنَّفْسُ داعِيَةٌ إلى الطغيانِ
فاستحِي مِن نَظَرِ الإلهِ وقُلْ لهـا: * * إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يراني
كان بمدينة "مرو" رجل اسمه "نوح بن مريم"، وكان رئيس "مرو" وقاضيها، وكان له نعمة كبيرة وحال موفورة، وكانت له ابنة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال؛ قد خطبها جماعة من الأكابر والرؤساء وذوي النعمة والثروة؛ فلم يُنعِم بها لأحد منهم، وتحير في أمرها، ولم يدرِ لأيهم يزوجها؟! وقال: إن زوجتُها لفلان أسخطتُ فلانًا! وكان له غلام هندي تقي اسمه "مبارك"، وكان له بستان عامر الأشجار والفاكهة والثمار.. فقال للغلام: أريد أن تمضي وتحفظ البستان..
ثم أراد أن يختبره! فقال له: يا مبارك! ناولني عنقود عنب.. فناوله عنقودًا من العنب؛ فوجده حامضًا، فقال له سيده: أعطني غير هذا؛ فناوله عنقودًا حامضًا! فقال له سيده: ما السبب في أنك لا تناولني من هذا الكثير غير الحامض؟! فقال: لأني لا أعلم أحامض هو أم حلو! فقال له سيده: سبحان الله! لك في هذا البستان شهر كامل؛ ما تعرف الحامض من الحلو؟! فقال: وحقك أيها السيد؛ إنني ما ذقته، ولم أعلم أحامض أم حلو! فقال له: لم لا تأكل منه؟ فقال: لأنك أمرتني بحفظه، ولم تأمرني بأكله؛ فما كنت أخونك..! فعجب القاضي منه، وقال له: حفظ الله عليك أمانتك.وعلم القاضي أن الغلام غزير العقل، فقال له: أيها الغلام! قد وقع لي رغبة فيك، وينبغي أن تفعل ما آمرك به.. فقال الغلام: أنا مطيع لله ولك. فقال القاضي: اعلم أن لي بنتًا جميلة، وقد خطبها كثير من الرؤساء والمتقدمين؛ ولا أعلم لمن أزوجها؛ فأشر عليّ بما ترى..! فقال الغلام: إن الكفار في زمن الجاهلية كانوا يريدون الأصل والنسب والبيت والحسب، واليهود والنصارى يطلبون الحسن والجمال، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الناس يطلبون الدين والتُّقَى. أما في زماننا هذا ف الناس يطلبون المال؛ فاختر من هذه الأربعة ما تريد.. فقال القاضي: قد اخترتُ الدين والأمانة، وجربتُ منك العفة والصيانة.فقال الغلام: أيها السيد! أنا عبد رقيق، هندي أسود، ابتعتَني بمالك؛ كيف تزوجني بابنتك، وترضاني؟! فقال له القاضي: قم بنا إلى البيت لندبر هذا الأمر.. فلما صارا إلى المنزل، قال القاضي لزوجته: اعلمي أن هذا الغلام الهندي دَيِّن تَقي وقد رغبت في صلاحه، وأريد أن أزوجه ابنتي؛ فما تقولين؟ فقالت: الأمر إليك، ولكن أمضي إلى الصبية وأُخبرها، وأُعيد عليك جوابها.. فجاءت المرأة إلى الصبية وأدت إليها رسالة أبيها؛ فقالت: مهما أمرتماني به فعلتُه، ولا أخرج من تحت حكمكما، ولا أعاندكما بالمخالفة، بل أبركما.. فزوج القاضي ابنته بالمبارك، وأعطاهما مالاً عظيمًا؛ فأولدها المبارك ولدًا، وسماه "عبد الله"، وهو معروف في جميع العالم؛ فهو "عبد الله بن المبارك" صاحب العلم والزهد ورواية الأحاديث؛ فما دامت الدنيا يُحدَّث عنه يروي.] [التبر المسبوك].
أنت العليم بظاهري وبباطني* * بالسر بل أخفى وبالإعلان
أنت السميع لمنطقي وحروفه* * أنت الخبير بموقفي ومكاني
إن لم أكن أهلا لتوفيق فمـُن* * فلأنت أهل المن والإحسان
يا رب أنت المرتجى والمبتـغى* * وأنا الفقير بذلتـي وهواني
يا رب أنت خلقتني وبرأتـني* * جملت بالتوحيد نطق لساني
ونشرت لي في العلمين محاسنا* * وسترت عن أبصارهم عصياني
تالله لو علموا قبيح سريـرتي* * لأبى السلام علي من يلقـاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي * * ولبؤت بعد كـرامة بـهوان
لكن سترت معايبي ومثالـبي * * وحلمت عن جهلي وعن عصياني
فلك المحامد والمدائح كلــها* * بخواطري وجوانحي ولســاني
قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لي يومًا: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إليَّ، الله شاهدي. فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمتُه، فقال: قل في كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة. فقلته؛ فوقع في قلبي حلاوته. فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتُك، ودُم عليه إلى أن تدخل القبر؛ فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين؛ فوجدت لذلك حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يومًا: يا سهل! مَن كان الله معه، وناظرًا إليه، وشاهده؛ أيعصيه؟ إياك والمعصية. [الإحياء] .
أنشد أبو الدرداء - رضي الله عنه -:
يريد المرء أن يؤتى مناه * * ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي * * وتقوى الله أفضل ما استفادا
وللتقوى ثمرات كثيرة منها :
1ـ محبة الله تعالى :
قال تعالى : ( إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) .
وقال : (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76) .
2ـ رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة :
قال تعالى : ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) (لأعراف:156).
3ـ سبب لعون الله ونصره وتأييده :
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128) .
4ـ حصن الخائف وأمانه من كل ما يخاف ويحذر ، من سوء ومكروه في الدنيا والآخرة :
قال تعالى : (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الزمر:61) .
5ـ تبعث في القلب النور وتقوي بصيرته فيميز بين ما ينفعه وما يضره :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (لأنفال:29) .
وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد:28) .
6ـ تعطي العبد قوة لغلبة الشيطان :
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201) .
7ـ وسيلة لنيل الأجر العظيم :
قال تعالى : ( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (الطلاق:5) .
8ـ توسيع الرزق وفتح مزيد من الخيرات :
قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لأعراف:96).
وقال :(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (الطلاق: من الآية3) .
9ـ تفريج الكرب وتيسير الأمور :
قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(الطلاق: من الآية2).
وقال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)(الطلاق: من الآية4).
10ـ النصر على الأعداء ورد كيدهم والنجاة منن شرهم :
قال تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120) .
وقال : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (فصلت:18) .
11ـ أن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة :
قال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).
12ـ أنها الميزان الذي يقرب العبد من ربه ويدنيه :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) .
13ـ من أسباب قبول العمل:
قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) .
وقال : (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ )(الحج: من الآية37) .
14ـ سبب لمغفرة الذنوب :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد:28) .
وقال : (يَا أَيُّهَا الٍٍَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71)
15ـ التقوى ثوابها الجنة :
(قال تعالى : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) .
وقال : (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30) )جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) (النحل:31) .
وقال : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)(الشعراء:90).
ففي التقوى جماع كل خير .و سبب لتفريج الكروب وسعة الرزق.و سبب للفوز بالجنة.
ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إليه أميره في الشام زيتًا في قِرَب ليبيعه، ويجعل المال في بيت مال المسلمين، فجعل عمر يُفرغه للناس في آنيتهم، وكان كلما فرغت قِـربة من قِرَب الزيت قلبها، ثم عصرها وألقاها بجانبه، وكان بجواره ابن صغير له، فكان الصغير كلما ألقى أبوه قِربَة من القِرَب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان.. فعل ذلك بأربع قِرَب أو خمس، فالتفت إليه عمر فجأة، فإذا شعر الصغير حسنٌ، ووجهه حسن.. فقال: ادهنت؟ قال: نعم.. قال: مِن أين؟ قال: مما يبقى في هذه القِرَب.. فقال عمر: إني أرى رأسك قد شبع مِن زيت المسلمين مِن غير عِوَض.. لا والله؛ لا يحاسبني الله على ذلك.. ثم جره بيده إلى الحلاق، وحلق رأسه خوفًا مِن قطرة وقطرتين.
2- اتبع السيئة الحسنة تمحها :
المسلم صاحب نفس لوامة تلومه على المعصية فيراجع ويحاسب نفسه ويتبع السيئة بالحسنة ,ومن الحسنات التي تدفع السيئات: العفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين، وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين. قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} وقال صلى الله عليه وسلم : "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" وكم في النصوص من ترتيب المغفرة على كثير من الطاعات.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ:كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ ، قَالَ : وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ ، قَالَ : وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا ، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ ، قَالَ : أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ ، أَوْ قَالَ : حَدَّكَ. أخرجه البُخَارِي 8/206(6823) و"مسلم" 8/102 (7106) .
عَنْ شَدَّادٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ , قَالَ:بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إني أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ فَسَكَتَ عَنْهُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو أُمَامَةَ فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إني أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلاَةَ مَعَنَا ف َقَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ.
أخرجه أحمد 5/251(22516) و"مسلم" 5/103(7107) و"أبو داود" 4381 و"النَّسائي" في "الكبرى" 7272 و"ابن خزيمة" 311 .
ومما يكفر الله به الخطايا: المصائب؛ فإنه لا يصيب المؤمن من هَمٍّ ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله عنه بها خطاياه. وهي إما فوات محبوب، أو حصول مكروه بدني أو قلبي، أو مالي، داخلي أو خارجي، لكن المصائب بغير فعل العبد. فلهذا أمره بما هو من فعله، وهو أن يتبع السيئة الحسنة. ثم لما ذكر حق الله – وهو الوصية بالتقوى الجامعة لعقائد الدين وأعماله الباطنة والظاهرة – قال "وخالق الناس بخلق حسن".
عن عبد الله بن عمرو أن معاذ بن جبل أراد سفرا فقال : يا رسول الله أوصني قال : أعبد الله و لا تشرك به شيئا قال : يا رسول الله زدني قال : إذا أسأت فاحسن قال : يا رسول الله زدني قال : استقم و لتحسن خلقك.
أخرجه ابن حبان ( 1922 ) و الحاكم ( 4 / 244 )قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 230 .
3- خالق الناس بخلق حسن:
رغب الإسلام في الخلق الحسن , عنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الثَّرْثَارُونَ ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ : الْمُتَكَبِّرُونَ.أخرجه التِّرْمِذِي (2018) الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 434.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَل فِي الْمِيزَان مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ». أبو داود ( 4799 ) باب في حسن الخلق ، تعليق الألباني "صحيح".
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ.أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" 284.
وأول الخلق الحسن: أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وأخص ما يكون بالخلق الحسن: سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته ومشقة حشمته. وقد يحسن المزح أحياناً إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.
ومن الخلق الحسن: أن تعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل.
فمن اتقى الله، وحقق تقواه، وخالق الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلق الحسن فقد حاز الخير كله؛ لأنه قام بحق الله وحقوق العباد ولأنه كان من المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله.
عن عكرمة ، عَن أبي هُرَيرة ؛ أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء قال عكرمة أراه قال : في دم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن كفوا فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال له : إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال : أحسنت إليك ؟ فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشير خيرا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك كنت جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي نفس أصحبي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم قال : نعم قال فحدثني الحكم أن عكرمة قال : قال أبو هُرَيرة فلما جاء الأعرابي قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي أكذلك ؟ قال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشير خيرا.
قال أبو هُرَيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلاَّ نفورا فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأعلم بها فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار. رواه البزار وقال : هذا الحديث لاَ نعلمُهُ يُرْوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلاَّ من هذا الوجه بهذا الإسناد. مسند البزار 2/465 , وفي سنده ضعف , و ابن الجوزي : الوفا بتعريف فضائل المصطفى 305 .
قال الشاعر:
إذا لم تتسع أخلاق قومٍ * * * تضيق بهم فسيحات البلاد ِ
إذا المرء لم يُخلق لبيباً * * * فليس اللبُّ عن قِدم الولادِ
وقال آخر:
فتى مثل صفو الماء أما لقاؤه * * * فبشر وأما وعده فجميل
يسرك مراءه ويشرق وجهه* * * إذا اعتل مذموم الفعال بخيل
عييٌ عن الفحشاء أما لسانه * * * فعف وأما طرفه فكليل
وقال ثالث :
أُحِبُّ مَكَارِمَ الاخْلاَقِ جَهْدِي * وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا
وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا * وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ * وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا
اللهم ارزقنا التقوى وجملنا بحسن الأخلاق ,واجعلنا هداة مهدين , واجعلنا ممن يحب طاعتك ويكره معصيتك
عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ ، أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، قَالَ : زِدْنِي ، قَالَ : خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ.
أخرجه أحمد 5/228(22337) و"الدارِمِي" 2791 و"التِّرمِذي" 1987 وقال حديث حسن.
1- اتق الله حيثما كنت :
التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه ,وهي كما عرفها ابن مسعود :أن يطاع الله فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى .. ، وأن يشكر فلا يكفر .
وعرفها ابن عباس بقوله " هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
وعرفها طلق بن حبيب بقوله:التقوى هى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله.. على نور من الله ، تخافُ عقابَ الله.
عن أبي يزيد أن التقوى هي التورع عن كل ما فيه شبهة وعن محمد بن حنيف أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله تعالي وعن سهل المتقي كل من تبرأ عن حوله وقدرته وقيل التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك وعن ميمون بن مهران لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر وعن أبي تراب بين يدي التقوى خمس عقبات لا يناله من يجاوزهن إيثار الشدة على النعمة وإيثار الضعف على القوة وإيثار الذل على العزة ، وإيثار الجهد على الراحة وإيثار الموت على الحياة وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون بحيث لو جعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستح ممن ينظر إليه وقيل التقوى أن نزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخل
فالتقوى هي الغاية من العبادة و هي أساس الخير في الدنيا والآخرة.
والهدف الأسمى من الصوم تربية المسلم على التقوى والإخلاص ومراقبة الله تعالى في السر والعلن . لذا فقد جعل الله الصوم له وحده فقال في الحديث القدسي :" كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إِلاَّ الصِّيَامَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ، مَرَّتَيْنِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا : إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَرِحَ بِصِيَامِهِ. أخرجه عبد الرَّزَّاق (7893) و"ابن أبي شَيْبَة" 3/3 (8879) و"أحمد" 2/266(7596)). و"البُخاري" (7492) و"مسلم" 2676 .
قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم، فلا يدخله الرياء في فعله، من صفى صفى له، ومن كَدَّر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يُكال للعبد كما كال.
فالمؤمن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فليعلم أن الله الرقيب الحسيب يراه , قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (2) سورة الزمر.
وقال : {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (11) سورة الزمر.
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ شَىْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ. أخرجه النسائي 6/25 وفي "الكبرى" 4333.
وفي الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بِيضًا، يجعلُها اللهُ هباءً منثورا". قال ثوبان: صفهم لنا أنْ لا نكون منهم يا رسول الله! قال: "أما إنهم إخوانُكم، ومن جِلدَتِكم، ويأخذون مِن الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خَلَوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها".أخرجه ابن ماجه ( 4245 ) ( صحيح ) انظر حديث رقم : 5028 في صحيح الجامع .
قيل لبعض الحكماء: ما سبب الذنب؟ قال: الخطرة. فإنْ تداركتَ الخطرة بالرجوع إلى الله ذَهَبَتْ، وإنْ لم تفعل تولدتْ عنها الفكرة، فإنْ تداركتَها بالرجوع إلى الله بطلتْ، وإلا فعند ذلك تخالط الوسوسة الفكرة؛ فتتولد عنها الشهوة.. وكل ذلك باطن في القلب لم يظهر على الجوارح، فإنْ استدركتَ الشهوة وإلا تولد منها الطلب، فإنْ تداركتَ الطلب، وإلا تولد منه الفعل. قال الشاعر :
اللـه يعلـم كـل ما تضمـر * * * يعلم ما تخفـي وما تظهر
وإن خدعت الناس لم تستطع * * * خداع من يطوي ومن ينشر
وقال آخر :
لا تَحْقِرنَّ مِنَ الذنوبِ صَغِيرا * * * إن الصَّغير غدًا يعود كبيرا
إن الصغير ولو تقادم عهده * * * عند الإله مُسَطَّرٌ تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة لا تكن * * * صعب القياد وشمرن تشميرا
إن المُحِبَّ إذا أحب إلههُ * * * طار الفؤاد وأُلْهِم التفكيرا
فاسأل هدايتك الإله بِنِيَّة * * * فَكَفَى بِرَبّكَ هاديا ونصيرا
قال عبد الله بن دينار: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة، فعَرَّسنا ( التَّعْريسُ: نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة ) في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: يا راعِ! بعني شاة من هذه الغنم.. فقال: إني مملوك.. فقال: قل لسيدك أكلها الذئب! قال: فأين الله؟! قال: فبكى عمر، ثم غَدَا إلى المملوك، فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أنْ تعتقك في الآخرة.
وعن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم، قال: بينا أنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس بالمدينة؛ إذ أعياه فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه! قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أماه! أوَ علمتِ بما كان مِن عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ فقالت: وما كان مِن عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أنْ لا يُشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنتاه! قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر! فقالت الصبية لأمها: يا أماه! والله ما كنتُ لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا.. وعمر يسمع كل ذلك! فقال: يا أسلم! عَلِّم الباب، واعرف الموضع..
فلما أصبح الصبح قال: يا أسلم! امضِ إلى ذلك الموضع فانظر مَن القائلة، ومَن المقول لها؟ وهل لهم مِن زوج؟ قال أسلم: فأتيتُ الموضع فنظرتُ؛ فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس لها رجل.. فأتيتُ عمر بن الخطاب فأخبرتُه.. فدعا عمر ولده فجمعهم، فقال: هل فيكم مَن يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه أحد منكم إلى هذه الجارية! فقال عبد الله: لي زوجة. وقال عبد الرحمن: لي زوجة. وقال عاصم: يا أبتاه! لا زوجة لي فزوجني. فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتًا، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز.
قال الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، رَحِمَهُ اللهُ يُنْشِدُ:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا * * فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * * وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
غَفَلْنَا الْعُمُرَ وَاللهِ حَتَّى تَدَارَكَتْ * * عَلَيْنَا ذُنُوبٌ بَعْدَهُنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى * * وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
أراد أحد الأساتذة الكرام أن معنى المراقبة والإخلاص والتقوى ، فدفع لكل تلميذ من تلاميذه دجاجة أو طائر وهو يقول: فليذهب كل تلميذ وليذبح هذا الطائر في مكان لا يراه فيه أحد، فذهب كل تلميذ بطائره في مكان يغيب فيه عن أعين الناس حتى يذبح طائره ويعود به إلى أستاذه، ونظر الأستاذ فوجد تلميذاً نجيباً جاء بطائره ولم يذبحه فقال له، لماذا لم تذبح طائرك؟! فقال: يا أستاذي لقد طلبت منا أن نبحث عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان ذهبت إليه إلا ورأيت أن الله يراني، فأين أذبحه؟!.
وإذا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فـي ظُلمَةٍ * * والنَّفْسُ داعِيَةٌ إلى الطغيانِ
فاستحِي مِن نَظَرِ الإلهِ وقُلْ لهـا: * * إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يراني
كان بمدينة "مرو" رجل اسمه "نوح بن مريم"، وكان رئيس "مرو" وقاضيها، وكان له نعمة كبيرة وحال موفورة، وكانت له ابنة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال؛ قد خطبها جماعة من الأكابر والرؤساء وذوي النعمة والثروة؛ فلم يُنعِم بها لأحد منهم، وتحير في أمرها، ولم يدرِ لأيهم يزوجها؟! وقال: إن زوجتُها لفلان أسخطتُ فلانًا! وكان له غلام هندي تقي اسمه "مبارك"، وكان له بستان عامر الأشجار والفاكهة والثمار.. فقال للغلام: أريد أن تمضي وتحفظ البستان..
ثم أراد أن يختبره! فقال له: يا مبارك! ناولني عنقود عنب.. فناوله عنقودًا من العنب؛ فوجده حامضًا، فقال له سيده: أعطني غير هذا؛ فناوله عنقودًا حامضًا! فقال له سيده: ما السبب في أنك لا تناولني من هذا الكثير غير الحامض؟! فقال: لأني لا أعلم أحامض هو أم حلو! فقال له سيده: سبحان الله! لك في هذا البستان شهر كامل؛ ما تعرف الحامض من الحلو؟! فقال: وحقك أيها السيد؛ إنني ما ذقته، ولم أعلم أحامض أم حلو! فقال له: لم لا تأكل منه؟ فقال: لأنك أمرتني بحفظه، ولم تأمرني بأكله؛ فما كنت أخونك..! فعجب القاضي منه، وقال له: حفظ الله عليك أمانتك.وعلم القاضي أن الغلام غزير العقل، فقال له: أيها الغلام! قد وقع لي رغبة فيك، وينبغي أن تفعل ما آمرك به.. فقال الغلام: أنا مطيع لله ولك. فقال القاضي: اعلم أن لي بنتًا جميلة، وقد خطبها كثير من الرؤساء والمتقدمين؛ ولا أعلم لمن أزوجها؛ فأشر عليّ بما ترى..! فقال الغلام: إن الكفار في زمن الجاهلية كانوا يريدون الأصل والنسب والبيت والحسب، واليهود والنصارى يطلبون الحسن والجمال، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الناس يطلبون الدين والتُّقَى. أما في زماننا هذا ف الناس يطلبون المال؛ فاختر من هذه الأربعة ما تريد.. فقال القاضي: قد اخترتُ الدين والأمانة، وجربتُ منك العفة والصيانة.فقال الغلام: أيها السيد! أنا عبد رقيق، هندي أسود، ابتعتَني بمالك؛ كيف تزوجني بابنتك، وترضاني؟! فقال له القاضي: قم بنا إلى البيت لندبر هذا الأمر.. فلما صارا إلى المنزل، قال القاضي لزوجته: اعلمي أن هذا الغلام الهندي دَيِّن تَقي وقد رغبت في صلاحه، وأريد أن أزوجه ابنتي؛ فما تقولين؟ فقالت: الأمر إليك، ولكن أمضي إلى الصبية وأُخبرها، وأُعيد عليك جوابها.. فجاءت المرأة إلى الصبية وأدت إليها رسالة أبيها؛ فقالت: مهما أمرتماني به فعلتُه، ولا أخرج من تحت حكمكما، ولا أعاندكما بالمخالفة، بل أبركما.. فزوج القاضي ابنته بالمبارك، وأعطاهما مالاً عظيمًا؛ فأولدها المبارك ولدًا، وسماه "عبد الله"، وهو معروف في جميع العالم؛ فهو "عبد الله بن المبارك" صاحب العلم والزهد ورواية الأحاديث؛ فما دامت الدنيا يُحدَّث عنه يروي.] [التبر المسبوك].
أنت العليم بظاهري وبباطني* * بالسر بل أخفى وبالإعلان
أنت السميع لمنطقي وحروفه* * أنت الخبير بموقفي ومكاني
إن لم أكن أهلا لتوفيق فمـُن* * فلأنت أهل المن والإحسان
يا رب أنت المرتجى والمبتـغى* * وأنا الفقير بذلتـي وهواني
يا رب أنت خلقتني وبرأتـني* * جملت بالتوحيد نطق لساني
ونشرت لي في العلمين محاسنا* * وسترت عن أبصارهم عصياني
تالله لو علموا قبيح سريـرتي* * لأبى السلام علي من يلقـاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي * * ولبؤت بعد كـرامة بـهوان
لكن سترت معايبي ومثالـبي * * وحلمت عن جهلي وعن عصياني
فلك المحامد والمدائح كلــها* * بخواطري وجوانحي ولســاني
قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لي يومًا: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إليَّ، الله شاهدي. فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمتُه، فقال: قل في كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة. فقلته؛ فوقع في قلبي حلاوته. فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتُك، ودُم عليه إلى أن تدخل القبر؛ فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين؛ فوجدت لذلك حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يومًا: يا سهل! مَن كان الله معه، وناظرًا إليه، وشاهده؛ أيعصيه؟ إياك والمعصية. [الإحياء] .
أنشد أبو الدرداء - رضي الله عنه -:
يريد المرء أن يؤتى مناه * * ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي * * وتقوى الله أفضل ما استفادا
وللتقوى ثمرات كثيرة منها :
1ـ محبة الله تعالى :
قال تعالى : ( إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) .
وقال : (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76) .
2ـ رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة :
قال تعالى : ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) (لأعراف:156).
3ـ سبب لعون الله ونصره وتأييده :
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128) .
4ـ حصن الخائف وأمانه من كل ما يخاف ويحذر ، من سوء ومكروه في الدنيا والآخرة :
قال تعالى : (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الزمر:61) .
5ـ تبعث في القلب النور وتقوي بصيرته فيميز بين ما ينفعه وما يضره :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (لأنفال:29) .
وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد:28) .
6ـ تعطي العبد قوة لغلبة الشيطان :
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201) .
7ـ وسيلة لنيل الأجر العظيم :
قال تعالى : ( ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) (الطلاق:5) .
8ـ توسيع الرزق وفتح مزيد من الخيرات :
قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لأعراف:96).
وقال :(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (الطلاق: من الآية3) .
9ـ تفريج الكرب وتيسير الأمور :
قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)(الطلاق: من الآية2).
وقال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)(الطلاق: من الآية4).
10ـ النصر على الأعداء ورد كيدهم والنجاة منن شرهم :
قال تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120) .
وقال : (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (فصلت:18) .
11ـ أن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة :
قال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).
12ـ أنها الميزان الذي يقرب العبد من ربه ويدنيه :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) .
13ـ من أسباب قبول العمل:
قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) .
وقال : (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ )(الحج: من الآية37) .
14ـ سبب لمغفرة الذنوب :
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحديد:28) .
وقال : (يَا أَيُّهَا الٍٍَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71)
15ـ التقوى ثوابها الجنة :
(قال تعالى : وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133) .
وقال : (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30) )جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) (النحل:31) .
وقال : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ)(الشعراء:90).
ففي التقوى جماع كل خير .و سبب لتفريج الكروب وسعة الرزق.و سبب للفوز بالجنة.
ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إليه أميره في الشام زيتًا في قِرَب ليبيعه، ويجعل المال في بيت مال المسلمين، فجعل عمر يُفرغه للناس في آنيتهم، وكان كلما فرغت قِـربة من قِرَب الزيت قلبها، ثم عصرها وألقاها بجانبه، وكان بجواره ابن صغير له، فكان الصغير كلما ألقى أبوه قِربَة من القِرَب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان.. فعل ذلك بأربع قِرَب أو خمس، فالتفت إليه عمر فجأة، فإذا شعر الصغير حسنٌ، ووجهه حسن.. فقال: ادهنت؟ قال: نعم.. قال: مِن أين؟ قال: مما يبقى في هذه القِرَب.. فقال عمر: إني أرى رأسك قد شبع مِن زيت المسلمين مِن غير عِوَض.. لا والله؛ لا يحاسبني الله على ذلك.. ثم جره بيده إلى الحلاق، وحلق رأسه خوفًا مِن قطرة وقطرتين.
2- اتبع السيئة الحسنة تمحها :
المسلم صاحب نفس لوامة تلومه على المعصية فيراجع ويحاسب نفسه ويتبع السيئة بالحسنة ,ومن الحسنات التي تدفع السيئات: العفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين، وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين. قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} وقال صلى الله عليه وسلم : "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" وكم في النصوص من ترتيب المغفرة على كثير من الطاعات.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ:كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ ، قَالَ : وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ ، قَالَ : وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا ، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ ، قَالَ : أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ ، أَوْ قَالَ : حَدَّكَ. أخرجه البُخَارِي 8/206(6823) و"مسلم" 8/102 (7106) .
عَنْ شَدَّادٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ , قَالَ:بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إني أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ فَسَكَتَ عَنْهُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو أُمَامَةَ فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إني أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَىَّ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلاَةَ مَعَنَا ف َقَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ.
أخرجه أحمد 5/251(22516) و"مسلم" 5/103(7107) و"أبو داود" 4381 و"النَّسائي" في "الكبرى" 7272 و"ابن خزيمة" 311 .
ومما يكفر الله به الخطايا: المصائب؛ فإنه لا يصيب المؤمن من هَمٍّ ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله عنه بها خطاياه. وهي إما فوات محبوب، أو حصول مكروه بدني أو قلبي، أو مالي، داخلي أو خارجي، لكن المصائب بغير فعل العبد. فلهذا أمره بما هو من فعله، وهو أن يتبع السيئة الحسنة. ثم لما ذكر حق الله – وهو الوصية بالتقوى الجامعة لعقائد الدين وأعماله الباطنة والظاهرة – قال "وخالق الناس بخلق حسن".
عن عبد الله بن عمرو أن معاذ بن جبل أراد سفرا فقال : يا رسول الله أوصني قال : أعبد الله و لا تشرك به شيئا قال : يا رسول الله زدني قال : إذا أسأت فاحسن قال : يا رسول الله زدني قال : استقم و لتحسن خلقك.
أخرجه ابن حبان ( 1922 ) و الحاكم ( 4 / 244 )قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 230 .
3- خالق الناس بخلق حسن:
رغب الإسلام في الخلق الحسن , عنْ جَابِرٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الثَّرْثَارُونَ ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ : الْمُتَكَبِّرُونَ.أخرجه التِّرْمِذِي (2018) الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 434.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :«مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَل فِي الْمِيزَان مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ». أبو داود ( 4799 ) باب في حسن الخلق ، تعليق الألباني "صحيح".
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الْقَائِمِ بِاللَّيْلِ.أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" 284.
وأول الخلق الحسن: أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وأخص ما يكون بالخلق الحسن: سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته ومشقة حشمته. وقد يحسن المزح أحياناً إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.
ومن الخلق الحسن: أن تعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل.
فمن اتقى الله، وحقق تقواه، وخالق الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلق الحسن فقد حاز الخير كله؛ لأنه قام بحق الله وحقوق العباد ولأنه كان من المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله.
عن عكرمة ، عَن أبي هُرَيرة ؛ أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء قال عكرمة أراه قال : في دم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال : أحسنت إليك ؟ قال الأعرابي : لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن كفوا فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال له : إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال : أحسنت إليك ؟ فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشير خيرا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك كنت جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي نفس أصحبي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم قال : نعم قال فحدثني الحكم أن عكرمة قال : قال أبو هُرَيرة فلما جاء الأعرابي قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي أكذلك ؟ قال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشير خيرا.
قال أبو هُرَيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلاَّ نفورا فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأعلم بها فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار. رواه البزار وقال : هذا الحديث لاَ نعلمُهُ يُرْوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلاَّ من هذا الوجه بهذا الإسناد. مسند البزار 2/465 , وفي سنده ضعف , و ابن الجوزي : الوفا بتعريف فضائل المصطفى 305 .
قال الشاعر:
إذا لم تتسع أخلاق قومٍ * * * تضيق بهم فسيحات البلاد ِ
إذا المرء لم يُخلق لبيباً * * * فليس اللبُّ عن قِدم الولادِ
وقال آخر:
فتى مثل صفو الماء أما لقاؤه * * * فبشر وأما وعده فجميل
يسرك مراءه ويشرق وجهه* * * إذا اعتل مذموم الفعال بخيل
عييٌ عن الفحشاء أما لسانه * * * فعف وأما طرفه فكليل
وقال ثالث :
أُحِبُّ مَكَارِمَ الاخْلاَقِ جَهْدِي * وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا
وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا * وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السِّبَابَا
وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ * وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا
اللهم ارزقنا التقوى وجملنا بحسن الأخلاق ,واجعلنا هداة مهدين , واجعلنا ممن يحب طاعتك ويكره معصيتك
الحلاجي محمد- Servo di Allah
- Sesso :
Numero di messaggi : 6998
- مساهمة رقم 10
الوصية العاشرة : اتقوا الظلم واتقوا الشح
الوصية العاشرة : اتقوا الظلم واتقوا الشح
عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ ، فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ.
- وفي رواية : اتَّقُوا الظُّلْمَ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ.
أخرجه أحمد 3/323(14515) و"البُخَارِي" ، في (الأدب المفرد) 483. و"مسلم" 8/18(6668) .
أ- اتقوا الظلم :
الظلم نوعان :
1- ظلم العبد لنفسه: وذلك بأن يورده المهالك ,وأعظم الظلم وأشده الشرك بالله عز وجلَّ قال الله تعالى: "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ َعظِيمٌ" (لقمان: 13).
قال تعالى " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) سورة النساء , وقال : " وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) سورة الحج .
2- ظلم العبد للعباد : وهو نوعان: ظلم بترك الواجب لهم، وظلم بالعدوان عليهم بأخذ أو بانتهاك حرماتهم.
فمثال الأول ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: ((مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُحِلْتَ عَلَى مَلِىءٍ فَاتْبَعْهُ وَلاَ تَبِعْ بَيْعَتَيْنِ فِى بَيْعَةٍ.أَخْرَجَهُ أحمد 2/71(5395) و(ابن ماجة) 2404 عن ابن عمر.
يعني ممانعة الإنسان الذي عليه دين عن الوفاء وهو غني قادرٌ على الوفاء ظلم، وهذا منع ما يجب ؛ لأن الواجب على الإنسان أن يبادر بالوفاء إذا كان له قدرة، ولا يحل له أن يؤخر، فإن أخر الوفاء وهو قادر عليه؛ كان ظالماً والعياذ بالله.
والظلم ظلمات يوم القيامة، وكل ساعة أو لحظة تمضي على المماطل فإنه لا يزداد بها إلا إثماً والعياذ بالله، وربما يعسر الله عليه أمره فلا يستطيع الوفاء إما بخلاً وإما إعداماً؛ لأن الله تعالى يقول: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)(الطلاق:4) .
فمفهوم الآية أن من لا يتقي الله لا يجعل له من أمره يسراً، ولذلك يجب على الإنسان القادر أن يبادر بالوفاء إذا طلبه صاحبه، أو أجله وانتهى الأجل.
والظلم له صور كثيرة منها :
1- اقتطاع شيء من الأرض. عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ , أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ , ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. أخرجه مسلم 5/57(4139).
2- الاعتداء على الناس في أعراضهم بالغيبة أو النميمة والخوض فيهم دونما حجة أو برهان أو ما أشبه ذلك، فإن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، فإن كان في حضرته؛ فهو سب وشتم، فإذا ظلم الناس بالغيبة بأن قال : فلان طويل. فلان قصير. فلان سيء الخلق. فلان فيه كذا، فهذه غيبة وظلم يحاسب عليها يوم القيامة.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ , رضى الله عنه , فَعَزَلَهُ , وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا ، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّى ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ , فَقَالَ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ , إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّى. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : أَمَّا أَنَا وَاللهِ , فإني كُنْتُ أُصَلِّى بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرِمُ عَنْهَا ، أُصَلِّى صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ. قَالَ : ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ , فَأَرْسَلَ مَعَهُ , رَجُلاً أَوْ رِجَالاً , إِلَى الْكُوفَةِ ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا ، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ , يُقَالُ لَهُ : أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ , يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ. قَالَ : أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا , فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ ، وَلاَ يَقْس ِمُ بِالسَّوِيَّةِ ، وَلاَ يَعْدِلُ في الْقَضِيَّةِ , قَالَ سَعْدٌ : أَمَا وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا ، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً , فَأَطِلْ عُمْرَهُ ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ : شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ ، أَصَابَتْني دَعْوَةُ سَعْدٍ , قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِى في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.
- وفي رواية : قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ : لَقَدْ شَكَوْكَ في كُلِّ شَىْءٍ , حَتَّى الصَّلاَةِ. قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ في الأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ في الأُخْرَيَيْنِ ، وَلاَ آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ :صَدَقْتَ. ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ ، أَوْ ظني بِكَ. أخرجه "أحمد" 1/176(1518) و"البُخَاريّ" 1/192(755) و"مسلم" 2/38(948) و"النَّسَائي" 2/174.
3- وكذلك أيضاً إذا جحد ما يجب عليه جحوداً؛ بأن كان لفلان عليه حق، فيقول ليس له علي حق ويكتم، فإن هذا ظلم؛ لأنه إذا كانت المماطلة ظلماً فهذا أظلم، كمن جحد شيئاً واجباً عليه، فإنه ظالم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا ، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا ، أَتْلَفَهُ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ. أخرب أحمد 2/361(8718) و"البُخاري" 2387 .
ولا بد أن يدرك كل ظالم أن الله بعدله لن يترك ظالما على ظلمه , مر رسول الله بالجيش في طريقه إلى تبوك ديار ثمود، فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم؛ إلا أن تكونوا باكين"، ثم قَنَّع رأسه، وأسرع بالسير حتى جاز الوادى. وكان المسلمون قد استقوا من بئرها، فنهاهم النبي خ عن شرب مائها والوضوء منه للصلاة، حتى أمر أن يُعلف العجين الذي عُجن بمياههم للإبل؛ لتأثير شؤم المعصية في الماء.
قال محمد بن يزيد المبرد (تاريخ بغداد 14/131) حدثني محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قال قال أبى لأبيه يحيى بن خالد بن برمك وهم في القيود والحبس يا أبت بعد الأمر والنهى والأموال العظيمة اصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس قال فقال له أبوه يا بني دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها . ثم انشأ يقول :
رب قوم قد غدوا في نعمة * * * زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم * * * ثم أبكاهم دما حين نطق
وعن وهب بن منبه قال : ( بني جبار من الجبابرة قصراً وشيّده فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه كوخاً تأوي إليه ، فركب الجبار يوماً وطاف حول القصر، فرأى الكوخ فقال : لمن هذا ؟ فقيل: لامرأة فقيرة تأوي إليه فأمر به فهُدم، فجاءت العجوز فرأته مهدوماً، فقالت : من هدمه ؟ فقيل : الملك رآه فهدمه فرفعت العجوز رأسها إلى السماء، وقالت : يارب إذا لم أكن أنا حاضرة فأين كنت أنت ؟ قال : فأمر الله جبريل أن يقلب القصر على من فيه فَقَلَبَه ) الكبائر , للذهبي .
روى وكيع في أخبار القضاة في ترجمة شريك بن عبد الله النخعي ، رحمه الله، وكان قاضياً مشهوراً، أنه جاءه رجلٌ نصراني على بغلة، وكان مقرباً من زوجة الخليفة؛ لأنه كان يشتري لها الذهب وحاجياتها، فظن أن له مكانة، فكان يظلم الناس وعنده من يسنده ويعينه على ظلمه، فظلم هذا النصراني رجلاً مسلماً، فرفع المسلم شكاته لـ شريك بن عبد الله رحمه الله، فجاء هذا الرجل النصراني على بغلة منتفخاً، فلما نزل من على بغلته أمر به شريك فجلد جلداً قوياً فتوعد شريكاً ، أنه سيشتكيه إلى امرأة الخليفة، وركب النصراني البغلة، وجعل يضربها بعنف، فقال له شريك : قاتلك الله! لا تضربها، فإنها أذكر لله منك: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44]، لا يوجد الجحود والكفر إلا في بني آدم والجن، فكل المخلوقات مستقيمة على صراط الله، وهي أذكر لله عز وجل من كثيرٍ من بني آدم، إن الحيوان البهيم أفضل من الكافر، قال الله عز وجل: { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف:179] { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [الفرقان:44]، يعني: ا لأنعام أفضل منهم.
يقول الشاعر:
إذا جار الوزير وكاتباه وقاضي * * * الأرض أجحف في القضاءِ
فويل ثم ويل ثم ويل لقاضي* * * الأرض من قاضي السماءِ
وقال أبو العتاهية:
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا * * * غداً عند الإله من الظلوم
أما والله إنَّ الظُّلم شؤمٌ * * * وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى دياَّن يوم الدّين نمضي* * * وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا * * * غداً عند الإله من الملوم
وقال آخر:
لا تظلمن إذا كنت مقتدرا * * * فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه* * * يدعو عليك وعين الله لم تنم
وقال محمود الوراق:
إني وَهَبْتُ لظالمي ظُلْمي* * * وشكرْتُ ذَاكَ له على عِلْمِي
ورأيته أسْدَى إليَ يداً * * * لَمَّا أبان بجَهْلِهِ حِلْمِي
رَجَعَتْ إساءتُهُ عليه، وَلِي* * * فَضْل فعادَ مُضاعَفَ الْجُرْم
فكأنما الإحْسَانُ كان لهُ * * * وأنا المسيءُ إليه في الزعْمِ
ما زال يَظْلِمُني وأرحمهُ * * * حتى رَثَيْتُ له من الظلم
وعلى كل حال؛ فعلى المسلم أن يتق الظلم بجميع الأنواع، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، يكون على صاحبه والعياذ بالله ظلمات بحسب الظلم الذي وقع منه؛ الكبير ظلماته كبيرة والكثير ظلماته كثيرة ، وكل شيء بحسبه، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47) .
وفي هذا دليلٌ على أن الظلم من كبائر الذنوب؛ لأنه لا وعيد إلا على كبيرة من كبائر الذنوب، فظلم العباد وظلم الخالق عزَّ وجلَّ رب العباد؛ كله من كبائر الذنوب.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنَّهُ قَالَ : يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي ، إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" 490 و"مسلم" 8/16(6664) و"ابن حِبان" 619 .
ب- اتقوا الشح :
نهى الله تعالى عن البخل والشح قال سبحانه : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعسْرَى) (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل: 11،8) .وقال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(التغابن: 16).
والبخل: هو منع ما يجب وما ينبغي بذله.
و الشح: هو الطمع فيما ليس عنده، وهو أشد من البخل؛ لأن الشحيح يطمع فيما عند الناس ويمنع ما عنده، والبخيل يمنع ما عنده مما أوجب الله عليه من زكاة ونفقات، ومما ينبغي بذله فيما تقتضيه المروءة.
وكلاهما - أعني البخل والشح- خلقان ذميمان، فإن الله سبحانه وتعالى ذم من يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، وقال (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(التغابن: 16).
قال الخطابي : (الشح) ابلغ في المنع من البخل ,وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع , وأكثر ما يقال البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء , والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة . عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي 1682.
فالمسلم كريم لا يحب البخل فهو يعلم أن الكرم سبيل إلى مرضاة الله تعالى , وأن ما ينفقه هو الذي يبقى له عند الله , عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِىِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ . فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْحَرَّةِ فَإِذَا هُوَ في أَذْنَابِ شِرَاجٍ وَإِذَا شِرَاجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَبِعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلاَنٌ بِالاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحَابَةِ . فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ سَأَلَتْنِى عَنِ اسْمِى قَالَ إِنِّى سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحَابِ الذي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكِ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَا إِذَا قُلْتَ هَذَا فإني أَنْظُرُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآك ُلُ أَنَا وَعِيَالِى ثُلُثَهُ وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ. أخرجه أحمد 2/296(7928) و"مسلم" 8/222 و223 ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2864 في صحيح الجامع .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها" صحيح: رواه الطبراني في "الكبير والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "صحيح الجامع" رقم (1800).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم :أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف . [ متفق عليه ].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟!فقال صلى الله عليه وسلم : إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته ، أو كسوت عورته ، أو قضيت له حاجة . رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني (954) في صحيح الترغيب .
وقد جاء في بعض الإسرائيليات : قال موسى لرب العزة عزَّ وجل : فما جزاء من أطعم مسكينا ابتغاء وجهك ؟ قال : يا موسى آمر مناديا ينادي على رؤوس الخلائق إن فلان بن فلان من عتقاء الله من النار.[ حلية الأولياء (6/19) .
عن أبي بردة قال لما حضر أبا موسى الوفاة قال يا بني اذكروا صاحب الرغيف قال كان رجل يتعبد في صومعة أراه قال سبعين سنة لا ينزل إلا في يوم واحد قال فشبه أو شب الشيطان في عينه امرأة فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال قال ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد فآواه الليل إلى دكان كان عليه اثني عشر مسكينا فأدركه العياء فرمى بنفسه بين رجلين منهم وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة فيعطي كل إنسان رغيفا فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفا ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائبا فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفا فقال المتروك لصاحب الرغيف مالك لم تعطني رغيفي ما كان بك عنه غنى فقال أتراني أمسكته عنك سل هل أعطيت أحدا منكم رغيفين قالوا لا قال تراني أمسكته عنك والله لا أعطيك الليلة شيئا فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه فدفعه إلى الرجل الذي ترك فأصبح التائب ميتا قال فوزنت السبعون سنة بالسبع الليالي فرجحت السبع الليالي ثم وزنت السبع الليالي بالرغيف فرجح الرغيف فقال أبو موسى يا بني اذكروا صاحب الرغيف . ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه 8 /107. وأبو نعيم في : حلية الأولياء 1/263 .
قال الشافعي :
وإن كثرت عيوبك في البرايا * * * وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب * * * يغطيه كما قيل السخاء
وقال آخر:
أخو البشر محمود على كلّ حالةٍ * * * ولن يعدم البغضاء من كان عابساً
ويسرع بخل المرء في هتك عرضه * * * ولم أر مثل الجود للعرض حارساً
وقال شمس الدين البديوي
إذا المرء وافى منزلا منك قاصدا * * * قراك وأرمته لديك المسالك
فكن باسما في وجهه متهللا * * * وقل مرحبا أهلا ويوم مبارك
وقدم له ما تستطيع من القرى * * * عجولا ولا تبخل بما هو هالك
فقد قيل بيت سالف متقدم * * * تداوله زيد وعمرو ومالك
بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
وأما البخل فانه يشين صاحبه ويجعله مصدرا للتندر بين الناس , لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله دائما من البخل والشح , عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ.صحيح البخاري
قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم ، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف ، فقال: لأن أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن، فقال: ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله هاهنا، وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود، ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة.
وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم ، لان يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد، إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي ، وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي، واسم البخيل فيه حزم، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع وكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية وسمعة ، وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه ، وعرى ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه.
قال أبو نواس يصف أحد البخلاء:
أبو هند نزلت عليه يوما* * * فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحما سمينا* * * أكلناه على طبق الكلام
فكان كمن سقى الظمآن إلا* * * وكنت كمن تغدى بالكلام
قال آخر يصف عرسا:
مات في عرس سليمان* * * من الجوع جماعة
لم يكن ذلك عرسا* * * إنما كان مجاعة
ونزل على أبي حفصة الشاعر ،رجل من اليمامة فأخلى له المنزل،ثم هرب مخافة أن يلزمه قراه في تلك الليلة،فخرج الضيف واشترى ما احتاج إليه، ثم رجع وكتب إليه:
يا أيها الخارج من بيته* * * وهاربا من شدة الخوف
وقال ابن الرومي:
يقتر عيسى على نفسه* * * وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره* * * تنفس من منخر واحد
أعاذنا الله تعالى من الظلم ومن البخل ورزقنا الرضا بما قضا , والشر على ما أنعم
عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ ، فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ.
- وفي رواية : اتَّقُوا الظُّلْمَ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ.
أخرجه أحمد 3/323(14515) و"البُخَارِي" ، في (الأدب المفرد) 483. و"مسلم" 8/18(6668) .
أ- اتقوا الظلم :
الظلم نوعان :
1- ظلم العبد لنفسه: وذلك بأن يورده المهالك ,وأعظم الظلم وأشده الشرك بالله عز وجلَّ قال الله تعالى: "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ َعظِيمٌ" (لقمان: 13).
قال تعالى " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) سورة النساء , وقال : " وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) سورة الحج .
2- ظلم العبد للعباد : وهو نوعان: ظلم بترك الواجب لهم، وظلم بالعدوان عليهم بأخذ أو بانتهاك حرماتهم.
فمثال الأول ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: ((مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُحِلْتَ عَلَى مَلِىءٍ فَاتْبَعْهُ وَلاَ تَبِعْ بَيْعَتَيْنِ فِى بَيْعَةٍ.أَخْرَجَهُ أحمد 2/71(5395) و(ابن ماجة) 2404 عن ابن عمر.
يعني ممانعة الإنسان الذي عليه دين عن الوفاء وهو غني قادرٌ على الوفاء ظلم، وهذا منع ما يجب ؛ لأن الواجب على الإنسان أن يبادر بالوفاء إذا كان له قدرة، ولا يحل له أن يؤخر، فإن أخر الوفاء وهو قادر عليه؛ كان ظالماً والعياذ بالله.
والظلم ظلمات يوم القيامة، وكل ساعة أو لحظة تمضي على المماطل فإنه لا يزداد بها إلا إثماً والعياذ بالله، وربما يعسر الله عليه أمره فلا يستطيع الوفاء إما بخلاً وإما إعداماً؛ لأن الله تعالى يقول: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)(الطلاق:4) .
فمفهوم الآية أن من لا يتقي الله لا يجعل له من أمره يسراً، ولذلك يجب على الإنسان القادر أن يبادر بالوفاء إذا طلبه صاحبه، أو أجله وانتهى الأجل.
والظلم له صور كثيرة منها :
1- اقتطاع شيء من الأرض. عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ , أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ , ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. أخرجه مسلم 5/57(4139).
2- الاعتداء على الناس في أعراضهم بالغيبة أو النميمة والخوض فيهم دونما حجة أو برهان أو ما أشبه ذلك، فإن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، فإن كان في حضرته؛ فهو سب وشتم، فإذا ظلم الناس بالغيبة بأن قال : فلان طويل. فلان قصير. فلان سيء الخلق. فلان فيه كذا، فهذه غيبة وظلم يحاسب عليها يوم القيامة.
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ , رضى الله عنه , فَعَزَلَهُ , وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا ، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّى ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ , فَقَالَ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ , إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّى. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : أَمَّا أَنَا وَاللهِ , فإني كُنْتُ أُصَلِّى بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرِمُ عَنْهَا ، أُصَلِّى صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ. قَالَ : ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ , فَأَرْسَلَ مَعَهُ , رَجُلاً أَوْ رِجَالاً , إِلَى الْكُوفَةِ ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا ، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ , يُقَالُ لَهُ : أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ , يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ. قَالَ : أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا , فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ ، وَلاَ يَقْس ِمُ بِالسَّوِيَّةِ ، وَلاَ يَعْدِلُ في الْقَضِيَّةِ , قَالَ سَعْدٌ : أَمَا وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا ، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً , فَأَطِلْ عُمْرَهُ ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ : شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ ، أَصَابَتْني دَعْوَةُ سَعْدٍ , قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِى في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.
- وفي رواية : قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ : لَقَدْ شَكَوْكَ في كُلِّ شَىْءٍ , حَتَّى الصَّلاَةِ. قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ في الأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ في الأُخْرَيَيْنِ ، وَلاَ آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ :صَدَقْتَ. ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ ، أَوْ ظني بِكَ. أخرجه "أحمد" 1/176(1518) و"البُخَاريّ" 1/192(755) و"مسلم" 2/38(948) و"النَّسَائي" 2/174.
3- وكذلك أيضاً إذا جحد ما يجب عليه جحوداً؛ بأن كان لفلان عليه حق، فيقول ليس له علي حق ويكتم، فإن هذا ظلم؛ لأنه إذا كانت المماطلة ظلماً فهذا أظلم، كمن جحد شيئاً واجباً عليه، فإنه ظالم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا ، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا ، أَتْلَفَهُ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ. أخرب أحمد 2/361(8718) و"البُخاري" 2387 .
ولا بد أن يدرك كل ظالم أن الله بعدله لن يترك ظالما على ظلمه , مر رسول الله بالجيش في طريقه إلى تبوك ديار ثمود، فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم؛ إلا أن تكونوا باكين"، ثم قَنَّع رأسه، وأسرع بالسير حتى جاز الوادى. وكان المسلمون قد استقوا من بئرها، فنهاهم النبي خ عن شرب مائها والوضوء منه للصلاة، حتى أمر أن يُعلف العجين الذي عُجن بمياههم للإبل؛ لتأثير شؤم المعصية في الماء.
قال محمد بن يزيد المبرد (تاريخ بغداد 14/131) حدثني محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قال قال أبى لأبيه يحيى بن خالد بن برمك وهم في القيود والحبس يا أبت بعد الأمر والنهى والأموال العظيمة اصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس قال فقال له أبوه يا بني دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها . ثم انشأ يقول :
رب قوم قد غدوا في نعمة * * * زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم * * * ثم أبكاهم دما حين نطق
وعن وهب بن منبه قال : ( بني جبار من الجبابرة قصراً وشيّده فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه كوخاً تأوي إليه ، فركب الجبار يوماً وطاف حول القصر، فرأى الكوخ فقال : لمن هذا ؟ فقيل: لامرأة فقيرة تأوي إليه فأمر به فهُدم، فجاءت العجوز فرأته مهدوماً، فقالت : من هدمه ؟ فقيل : الملك رآه فهدمه فرفعت العجوز رأسها إلى السماء، وقالت : يارب إذا لم أكن أنا حاضرة فأين كنت أنت ؟ قال : فأمر الله جبريل أن يقلب القصر على من فيه فَقَلَبَه ) الكبائر , للذهبي .
روى وكيع في أخبار القضاة في ترجمة شريك بن عبد الله النخعي ، رحمه الله، وكان قاضياً مشهوراً، أنه جاءه رجلٌ نصراني على بغلة، وكان مقرباً من زوجة الخليفة؛ لأنه كان يشتري لها الذهب وحاجياتها، فظن أن له مكانة، فكان يظلم الناس وعنده من يسنده ويعينه على ظلمه، فظلم هذا النصراني رجلاً مسلماً، فرفع المسلم شكاته لـ شريك بن عبد الله رحمه الله، فجاء هذا الرجل النصراني على بغلة منتفخاً، فلما نزل من على بغلته أمر به شريك فجلد جلداً قوياً فتوعد شريكاً ، أنه سيشتكيه إلى امرأة الخليفة، وركب النصراني البغلة، وجعل يضربها بعنف، فقال له شريك : قاتلك الله! لا تضربها، فإنها أذكر لله منك: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء:44]، لا يوجد الجحود والكفر إلا في بني آدم والجن، فكل المخلوقات مستقيمة على صراط الله، وهي أذكر لله عز وجل من كثيرٍ من بني آدم، إن الحيوان البهيم أفضل من الكافر، قال الله عز وجل: { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف:179] { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [الفرقان:44]، يعني: ا لأنعام أفضل منهم.
يقول الشاعر:
إذا جار الوزير وكاتباه وقاضي * * * الأرض أجحف في القضاءِ
فويل ثم ويل ثم ويل لقاضي* * * الأرض من قاضي السماءِ
وقال أبو العتاهية:
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا * * * غداً عند الإله من الظلوم
أما والله إنَّ الظُّلم شؤمٌ * * * وما زال المسيء هو الظَّلوم
إلى دياَّن يوم الدّين نمضي* * * وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا * * * غداً عند الإله من الملوم
وقال آخر:
لا تظلمن إذا كنت مقتدرا * * * فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه* * * يدعو عليك وعين الله لم تنم
وقال محمود الوراق:
إني وَهَبْتُ لظالمي ظُلْمي* * * وشكرْتُ ذَاكَ له على عِلْمِي
ورأيته أسْدَى إليَ يداً * * * لَمَّا أبان بجَهْلِهِ حِلْمِي
رَجَعَتْ إساءتُهُ عليه، وَلِي* * * فَضْل فعادَ مُضاعَفَ الْجُرْم
فكأنما الإحْسَانُ كان لهُ * * * وأنا المسيءُ إليه في الزعْمِ
ما زال يَظْلِمُني وأرحمهُ * * * حتى رَثَيْتُ له من الظلم
وعلى كل حال؛ فعلى المسلم أن يتق الظلم بجميع الأنواع، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، يكون على صاحبه والعياذ بالله ظلمات بحسب الظلم الذي وقع منه؛ الكبير ظلماته كبيرة والكثير ظلماته كثيرة ، وكل شيء بحسبه، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47) .
وفي هذا دليلٌ على أن الظلم من كبائر الذنوب؛ لأنه لا وعيد إلا على كبيرة من كبائر الذنوب، فظلم العباد وظلم الخالق عزَّ وجلَّ رب العباد؛ كله من كبائر الذنوب.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنَّهُ قَالَ : يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا ، فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي ، إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" 490 و"مسلم" 8/16(6664) و"ابن حِبان" 619 .
ب- اتقوا الشح :
نهى الله تعالى عن البخل والشح قال سبحانه : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعسْرَى) (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل: 11،8) .وقال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(التغابن: 16).
والبخل: هو منع ما يجب وما ينبغي بذله.
و الشح: هو الطمع فيما ليس عنده، وهو أشد من البخل؛ لأن الشحيح يطمع فيما عند الناس ويمنع ما عنده، والبخيل يمنع ما عنده مما أوجب الله عليه من زكاة ونفقات، ومما ينبغي بذله فيما تقتضيه المروءة.
وكلاهما - أعني البخل والشح- خلقان ذميمان، فإن الله سبحانه وتعالى ذم من يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، وقال (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(التغابن: 16).
قال الخطابي : (الشح) ابلغ في المنع من البخل ,وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع , وأكثر ما يقال البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء , والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة . عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي 1682.
فالمسلم كريم لا يحب البخل فهو يعلم أن الكرم سبيل إلى مرضاة الله تعالى , وأن ما ينفقه هو الذي يبقى له عند الله , عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِىِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ . فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْحَرَّةِ فَإِذَا هُوَ في أَذْنَابِ شِرَاجٍ وَإِذَا شِرَاجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَبِعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلاَنٌ بِالاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحَابَةِ . فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ سَأَلَتْنِى عَنِ اسْمِى قَالَ إِنِّى سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحَابِ الذي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكِ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَا إِذَا قُلْتَ هَذَا فإني أَنْظُرُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآك ُلُ أَنَا وَعِيَالِى ثُلُثَهُ وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ. أخرجه أحمد 2/296(7928) و"مسلم" 8/222 و223 ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2864 في صحيح الجامع .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها" صحيح: رواه الطبراني في "الكبير والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "شعب الإيمان" "صحيح الجامع" رقم (1800).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم :أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف . [ متفق عليه ].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟!فقال صلى الله عليه وسلم : إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته ، أو كسوت عورته ، أو قضيت له حاجة . رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني (954) في صحيح الترغيب .
وقد جاء في بعض الإسرائيليات : قال موسى لرب العزة عزَّ وجل : فما جزاء من أطعم مسكينا ابتغاء وجهك ؟ قال : يا موسى آمر مناديا ينادي على رؤوس الخلائق إن فلان بن فلان من عتقاء الله من النار.[ حلية الأولياء (6/19) .
عن أبي بردة قال لما حضر أبا موسى الوفاة قال يا بني اذكروا صاحب الرغيف قال كان رجل يتعبد في صومعة أراه قال سبعين سنة لا ينزل إلا في يوم واحد قال فشبه أو شب الشيطان في عينه امرأة فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال قال ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد فآواه الليل إلى دكان كان عليه اثني عشر مسكينا فأدركه العياء فرمى بنفسه بين رجلين منهم وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة فيعطي كل إنسان رغيفا فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفا ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائبا فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفا فقال المتروك لصاحب الرغيف مالك لم تعطني رغيفي ما كان بك عنه غنى فقال أتراني أمسكته عنك سل هل أعطيت أحدا منكم رغيفين قالوا لا قال تراني أمسكته عنك والله لا أعطيك الليلة شيئا فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه فدفعه إلى الرجل الذي ترك فأصبح التائب ميتا قال فوزنت السبعون سنة بالسبع الليالي فرجحت السبع الليالي ثم وزنت السبع الليالي بالرغيف فرجح الرغيف فقال أبو موسى يا بني اذكروا صاحب الرغيف . ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه 8 /107. وأبو نعيم في : حلية الأولياء 1/263 .
قال الشافعي :
وإن كثرت عيوبك في البرايا * * * وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب * * * يغطيه كما قيل السخاء
وقال آخر:
أخو البشر محمود على كلّ حالةٍ * * * ولن يعدم البغضاء من كان عابساً
ويسرع بخل المرء في هتك عرضه * * * ولم أر مثل الجود للعرض حارساً
وقال شمس الدين البديوي
إذا المرء وافى منزلا منك قاصدا * * * قراك وأرمته لديك المسالك
فكن باسما في وجهه متهللا * * * وقل مرحبا أهلا ويوم مبارك
وقدم له ما تستطيع من القرى * * * عجولا ولا تبخل بما هو هالك
فقد قيل بيت سالف متقدم * * * تداوله زيد وعمرو ومالك
بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
وأما البخل فانه يشين صاحبه ويجعله مصدرا للتندر بين الناس , لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله دائما من البخل والشح , عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ.صحيح البخاري
قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم ، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف ، فقال: لأن أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن، فقال: ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله هاهنا، وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود، ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة.
وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم ، لان يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد، إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي ، وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي، واسم البخيل فيه حزم، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع وكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية وسمعة ، وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه ، وعرى ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه.
قال أبو نواس يصف أحد البخلاء:
أبو هند نزلت عليه يوما* * * فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحما سمينا* * * أكلناه على طبق الكلام
فكان كمن سقى الظمآن إلا* * * وكنت كمن تغدى بالكلام
قال آخر يصف عرسا:
مات في عرس سليمان* * * من الجوع جماعة
لم يكن ذلك عرسا* * * إنما كان مجاعة
ونزل على أبي حفصة الشاعر ،رجل من اليمامة فأخلى له المنزل،ثم هرب مخافة أن يلزمه قراه في تلك الليلة،فخرج الضيف واشترى ما احتاج إليه، ثم رجع وكتب إليه:
يا أيها الخارج من بيته* * * وهاربا من شدة الخوف
وقال ابن الرومي:
يقتر عيسى على نفسه* * * وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره* * * تنفس من منخر واحد
أعاذنا الله تعالى من الظلم ومن البخل ورزقنا الرضا بما قضا , والشر على ما أنعم