قبسات من سراج الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الرحمن السديس
مكة المكرمة
1/12/1424
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- إهلال شهر الحج الأكبر. 2- الشوق إلى بيت الله الحرام. 3- أجواء الحج الإيمانية. 4- مظهر الوحدة في الحج. 5- قضية التوحيد. 6- نعمة الأمن في بلاد الحرمين الشريفين. 7- الحج المبرور. 8- ضرورة التفقه في مناسك الحج. 9- فضل عشر ذي الحجة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ التقوى خير مرقاةٍ لبلوغ المرام، وأمنعُ عاصم لاجتناب الأوزار والآثام، بالتّقوى تنجلي حُلَك السبيل، وتُستنزَل مرضاة العليّ الجليل، فاعمُروا بها ـ رحمكم الله ـ قلوبكم وأوقاتَكم، واستدركوا بها من الطاعات ما فاتكم، مستثمرين شرَفَ الزمان والمكان والمناسَبة.
أيّها المسلمون، ها قد دارَ فلكُ الزمان دورتَه، وأهلَّ علينا شهرٌ عظيم، وأظلَّنا فيه موسم بالخيرات عميم، تبدّى لنا هلالُ شهر ذي الحجة الوليد، ليسكب في قلوبنا نورًا من أنوارِه، وليُتلِع أرواحَنا[1] بفيضٍ من منافعه وأسراره، إنّنا على أعتابِ الموسم الأشهَر وأيّام الحجّ الأكبَر، معدِن الحسناتِ وتكفير السيئات، وكنز الخيراتِ والطاعات، وينبوع المنافع المتكاثرات، أيامٌ قلائل وأمّة الإسلام قاب قوسين أو أدنَى من ميقاتٍ زمانيّ ومكانيّ محبَّب لأداءِ فريضةِ الحجّ إلى بيت الله الحرام، الركنِ الخامس من أركان الإسلام، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
أيّها الحجّاج الميامين، قدِمتم خيرَ مقدَم، طِبتم وطاب ممشاكم، وحقّق الباري سؤلَكم ومُناكم، خِدمتُكم لبلاد الحرمين تاجُ فَخار يتلألأ على صدور أهلِها، ووسامُ شرفٍ يتألَّق في عِقد جيد أبنائها، لقد كابَدتم عناءَ الأسفار وفِراق الديار، ومسّكم الرّهق والوَصَب، وأصابكم التّعَب والنّصَب. وإنّ هذه الأعراضَ الهيّنةَ لتتهاوَى أمام صلابةِ الإيمان وتطلُّب الأجرِ والثّواب مِن الواحد الدّيّان. إنّ الشوقَ إلى هذا البيتِ العتيق والانعطافَ إلى هذه العرصاتِ المقدَّسة والنّزوع إلى هذه المشاهدِ المُنيفة والبِقاع الشّريفة إذا عاينها المحِبّ المعنَّى تبدّدَت لديه كلُّ المشاقّ واللأواء، نعمةً من الله وفضلاً، ولقد خالَطكم ذلك النّفح الإيمانيّ وزايلتموه، كيف والمسجدُ الحرام نصبَ الأعينِ قرّة ومِلءَ القلوب إجلالاً ومسَرّة، ومن رُزق تَفيُّؤ ظِلال هذه الأرجاءِ فقد أنعمَ الله عليه نعمةً كبرى وامتنّ عليه منّةً عُظمى، فحقٌّ على كلِّ قاصدٍ شُكر الباري على ما أولاه وحمدُه على ما خصَّه به وأولاه، ومِن شُكر النعمة أداءُ هذه الفريضة وإتمامها كما شرع الله، قال جلّ في علاه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
حجّاجَ بيتِ الله، ها أنتم أولاءِ في رحابِ الحرمين الشّريفين، تهفو نفوسكم لأداءِ المناسك على التّمام والوقوف بهذه المشاعر العِظام، قلوبُكم خاشعة، أعينُهم دامِعة، أكفُّكم ضارعَة، تجأرُون إلى الله بالإنابةِ والدعاء، وتلهجون بالاستغفارِ والحَمد والثّناء، فلِلّه درُّكم من إخوةٍ متوادّين متراحمين، وأحبّةٍ على رضوان الله متآلفين متعاونين، وصفوةٍ لنسائِم الإيمان وعبيرِه وعبقِه متعرِّضين، ذَوَت في جليل مقصدِكم زينةُ الأثواب، وتلاشت عزّةُ الأنساب، واضمحلّت زخارفُ الألقاب والأحساب، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28]. وتأمّلوا ـ يا رَعاكم الله ـ الأسلوبَ التنكيريّ في سياق الامتِنان ليعمّ كلَّ منافع الدين والدنيا والآخرة.
حجّاجَ بيت الله الحرام، وفي هذه المواكبِ المَهيبة والحشود المباركةِ الحبيبةِ التي اتّحدَت زمانًا ومكانًا شعائرَ ومشاعرَ يعقِد الإسلام وفي أحكمِ ما يكون العَقد بإحدَى منافعِ الحجِّ الجُلَّى مناطَ الوحدة الجماعيّة والروحيّة الصّلبة التي تنحسر دونَها كلُّ المِحَن والمآسي التي ارتكسَت فيها أمّتنا، يقول سبحانه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
ولئِن تبصَّر المسلمون أحوالَهم في هذا المنعطَف الخطيرِ مِن تأريخهم لأيقَنوا بأنّ ما لحِقهم مِن ذلٍّ وضَعف وهوان وما مسَّهم من لُغوب وضنَى فِي كثير مِن المجتمعاتِ إنّما يعود إلى تمزُّق عراهم وتفرُّق هواهم وقواهم. وما شعيرةُ الحجّ ـ أيها الحجّاج الأماجد ـ في مجمعها العتِيد ومظهرِها وجوهرِها الفريد إلاّ ترجمة فعليّة ودعوةٌ عمليّة للمسلمين إلى وجوب الوحدةِ والاتّحاد وثنيٌ لهم عمّا مُنوا به في هذه الحقبةِ المعاصرة من تقاطُع وضعفٍ وتدابر. لقد آن الأوان أن تجعلَ أمّة الإسلام من هذا الموسم الوحدويّ فرصةً لاجتماعها ومناسبةً لاتّحادها بعدما فرّقتها الفتن والأهواءُ وشتّتتها المِحَن واللأواء، والله عز وجل يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
إخوة الإيمان، ضيوفَ الرحمن، وكُبرى القضايا التي قام عليها ركنُ الحجّ الركين، بل قامت عليها جميع الطاعات والعباداتِ هي تجريد التّوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد، وإفراده سبحانه بالعبادةِ دونَ سواه، ونبذ الشّرك وما ضاهاه، يقول جل في علاه: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، ويقول جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
فأعظمُ مقاصِدِ الحجّ ومنافعه ـ يا عباد الله ـ تحقيقُ التوحيد الخالص لله كما قال جل شأنه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وما التلبيةُ التي يلهَج بها الحجيج وتهتزّ لها جنباتُ البلدِ الأمين وتجلجِل بها المشاعر القِداس إلاّ عنوان التوحيد والإيمانِ ودليلُ الطاعة والإذعان، وقد وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إهلالَ رسول الله قائلاً: أهلَّ رسول الله بالتوحيد: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك[2]. ولأجلِ التوحيدِ رُفعَت قواعد هذا البيت المعظّم من أوّل وَهلة، يقول سبحانه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26].
ومع تقرُّر ذلك كلِّه ووضوحه وضوحَ الشمس في رابعة النهار فإنّ البعضَ يأبى إلا أن يشوبَ هذا التوحيدَ بما يُفسد صفاءه ويخدِش بهاءه، فهل يغني شيئًا، هل يغنِي فتيلا أو نقيرًا أو قطميرًا دعاءُ القبور والتمسُّح بالأحجار والستور وسؤالها قضاءَ الحاجات ودفعَ الشرور؟! كلاّ ثمّ كلاّ.
إنّ الغيورَ ليذرِف الدموع الحرّاء السِّجام على ما آلَ إليه في ذلك حالُ بعض أهلِ الإسلام، فالله المستعان.
إنّ الواجبَ على أهلِ الإسلام عمومًا وقاصِدي المسجدِ الحرام خصوصًا أن يكونوا مثلاً عاليًا في إسلام الوجه لله وإفراده بخالص التوحيدِ وصحيح العبادة، مع التمسُّك الجادّ بالسنة ومجانبة البدَع والأهواء المضلَّة والأفكار المنحرِفة والتحلّي بمنهج الإسلام الحقِّ في الوسطية والاعتدال كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
إخوةَ العقيدة، وهذه الرِّحاب الطاهرةُ التي تقضُون فيها أيّامًا معلوماتٍ ومعدودات مباركات قد خصَّها المولى سبحانه بخصائصَ ليست لغيرها، أظهرُها نعمة الأمنِ والأمان والاطمئنان، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35]، وهذا الأمن الربانيُّ المعجِز لكلّ المحاولات البشريّة في إيجاد منطقةٍ حرام ممتدٌّ أثره إلى قيام الساعة لا ينفكّ عن هذا البلد الأمين بحالٍ من الأحوال، ومن همَّ بالإخلال به أذاقه الله عذابًا أليمًا، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. ولئن كان خَلاه لا يُختَلى وشوكُه لا يُعضَد وصيده لا ينفَّر والطير والحيوان والنبات والجماد يعيش فيه في أمنٍ مستمرّ وأمان دائم فكيف بالمسلم حرام الدمِ والعرض والمال؟!
أفرأيتم ـ يا رعاكم الله ـ بعد هذا الأمنِ المطبِق المحكَم دعوةً أبلغ من دعوة الإسلام للرحمة والشَّفقة والسلام والمحبّة والتسامح والوئام ومراعاته المثلى لحقوقِ الإنسان؟! على حين يصطلي العالم بأسرِه بلهيبِ القلق والهلَع والعُنف والفزع والإرهاب والإرعاب. وليس ما يقوم به الصهاينة المعتدون على ثَرى فلسطين المسلمة وعلى مقرُبَة من المسجد الأقصى المبارك إلاّ صورة دموية قاتمَة للصَّلف والإرهاب، وما جدار الفصلِ العنصريّ المزمَع إقامتُه هذه الأيام إلا نموذج أسود كالِح لكلّ صوَر التمييز والعنصريّة وإذكاء أعمالِ الحِقد والكراهية بين الشعوب إمعانًا في الكيلِ لمقدّسات المسلمين ومقدّراتهم.
فيا أيّها الحجّاج الكرام، اللهَ اللهَ في الحفاظِ على هذه العرصَات الطاهِرة والنعَم الظاهرة، والبدارَ البدار إلى تعظيم هذه البقاعِ الشريفة، تأدّبًا وتوقيرًا، محافظة وتطهيرًا، حذارِ من كلّ ما يُعكّر أمنها وأمانَها وسكينتَها واستقرارها، ولا يعزُب عن الأذهان أنّ قضيّةَ قدسيّة الحرمين الشريفين وأمنِ الحرَم والحجيج قضيّة من الأسُس والثوابت التي لا تقبَل الجَدل والمساومات، ولا تخضع للتنازلات والمزايدات، فلا يجوزُ أن يُصرَف الحجّ والمشاعر مطلقًا إلى شعاراتٍ ومهاترات، والله عزّ وجلّ يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، ويقول فيما أخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمه))[3].
ولإحرازِ هذا الفضلِ العظيم والظّفَر بهذا الأجرِ الجزيل ينبغي للحاجّ الكريمِ المبارَك مراعاةُ تحقيق الإخلاص لله والتجرّد من الرياء والسّمعة، منتهِزًا صفاءَ روحه واستعدادَ نفسِه وغِبطتَه بأداء هذا الرّكن العظيم في الطاعة والقرَب واللّهج بذكر الله عزّ وجلّ.
وممّا يوصَى به الإخوة الحجّاج الكرام ـ لا زالوا مكلوئين بالخير والإكرام ـ الاستعدادُ للمناسك بالعِلم النّافع والتفقُّه في الأحكامِ وسؤالِ أهل العلم عمّا يشكل عليهم، مع التحلّي بالأخلاق الحميدةِ والسّجايا الكريمة والآداب القويمة مع إخوانهم المسلمين، والتخلّي عن كلّ ما ينبو عن الخُلُق والآداب مع الله سبحانه أو مع عبادِه ويوقِع في الأذَى الحسِّيّ والمعنويّ.
وممّا ينبغي أن يحرصَ عليه الحاجّ المباركُ الكريم ويتّجِه إليه بكلّيَّته الإقبالُ على الله سبحانه والحِرصُ على أداء الصلاة والمحافظة عليها وتلاوة القرآن والإكثار من ذكرِ الله عزّ وجلّ والاشتغال بما جاء من أجلِه.
تلك ـ أيّها المؤمنون ـ قبساتٌ من سراج الحجّ الوهّاج وإضاءات للحجيجِ وذكرى ومنهاج، وإنّه لخليقٌ بالأمّة الإسلاميّة أن تستلهمَ مِن هذه الفريضة العظيمةِ دروسَ الوحدةِ والعزّة والإباء ومعانيَ الألفة والإخاء والمودّة والصّفاء والمحبّة والنّقاء وإن شطّت بهم الديار واختلفت بينهم اللّغاتُ ونأت الأمصار؛ إذ الحجُّ وما اشتمل عليه من روحانيّة أخّاذةٍ ودروس وعِبَر نفّاذة أنجعُ دواء لعِلل الأمّة وأدوائها ومقاومَة تيّارات النّزاعات والشّقاق فيها، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، كما أنّه خيرُ سبيلٍ للصّدور بالأمّة إلى محاضِن عزِّها وأمجادها وعريق حضارتها ومقوِّماتِها.
فاللهَ اللهَ ـ حجّاج بيتِ الله ـ في تعظيم هذه الشعيرةِ كما أراد الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وأدائها كما سنَّ المصطفى رسولُ الله القائل: ((خذوا عنّي مناسككم))[4]، والحذرَ الحذرَ مِن تعريضِها للنّواقض والنواقص في أركانها وواجباتها وآدابها وسائر أحكامها، والله من وراء القصد، وهو المسؤول سبحانه أن يجعلَ حجَّكم مبرورًا وسعيَكم مشكورًا وذنبَكم مغفورًا، وأن يعيدَكم إلى بلادكم سالمين غانمين مأجورين غيرَ مأزورين، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول ما سمِعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي: يرفعها ويسمو بها.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[3] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1820)، ومسلم في الحج (1350).
[4] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي لا أحج بعد حجتي هذه)).
الخطبة الثانية
الحمد لله فاطرِ الأرض والسموات، له الأسماء الحسنَى وكاملُ الصّفات، خصَّ موسمَ الحجِّ بمزيدٍ من الطاعات والقُرُبات، والبلدَ الأمين حُرمةً وقداسات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها الفوزَ بأعلى الجنّات والنجاةَ من مهاوي الدركات، وأشهد أنّ نبيّنا وحبيبنا وقدوتَنا محمّدًا عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والبيّنات وأحكام الحجِّ النيِّرات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه الهداةِ التُّقاة، والتابعين ومن تبِعهم واقتفى آثارهم يرجو من الله جزيلَ الثواب والصِّلات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ وأطيعوه، وازدلِفوا إليه بالشّكر ولا تعصوه، لا سيّما في هذه الأزمنة الفاضلةِ والأمكنَة المباركة.
أيّها الإخوةُ الأحبّة في الله، ومِن فضل الله سبحانه وكريم ألطافِه ما منَّ به علينا من حلول هذه الأيّام العشرِ الأُوَل من ذي الحجّة التي عظَّم شأنَها ورفع قدرَها وأقسم بها في محكَم كتابه المبين، فقال جلّ جلاله: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "المرادُ بها عشرُ ذي الحجّة كما قاله ابن عبّاس وابنُ الزّبير ومجاهد وغير واحد من السّلَف والخَلَف وهو الصحيح"[1]، وقال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28].
وقد ظاهَرَت السنّة القرآنَ في بيان فضلِها والحثِّ على اغتنامها، أخرج البخاريّ في صحيحه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله قال: ((ما مِن أيّام العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله عزّ وجلّ مِن هذه الأيّام)) يعني أيّامَ عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرَج بنفسِه وماله ثمّ لم يرجع من ذلك بشيء))[2].
الله أكبر، يا له من فضل عظيمٍ وموسمٍ بالخيرات عميم، فيستحبُّ في هذه العشر المباركة الإكثارُ من جميع الأعمالِ الصالحة، مِن صيام وقيامٍ وصدقةٍ وإطعام، وبرّ الوالدين وصِلةِ الأرحام والتّحميد والتّهليل وتلاوةِ القرآن والتواصي بالحقِّ والصّبر عليه والدّعوة والحِسبة، ويُؤكَّد على الإحسان للحجيج ورحمتِهم والرأفة بهم وبذلِ المعروف والخير لهم، لأنّهم وفدُ الله مِن جميع الأنام، فحقٌّ علينا إكرامهم وأداءُ حقوقهم، لا سيّما من القائمين على حملاتِ الحج والعُمرة.
فبادِروا ـ أيّها المؤمنون ـ إلى انتهازِ هذه الفُرَص الثمينةِ والمواسمِ العظيمةِ، فإنّما هي أيّام قلائل، ولكنّها حافلةٌ بالأعمال الجلائل.
كما يُستحبّ في هذه العشر التكبير المطلق، روى الإمام أحمد من حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((فأكثِروا فيهنّ من التكبير والتهليل والتحميد))[3]، قال البخاريّ رحمه الله: "وكان ابن عمر وأبو هريرةَ رضي الله عنهم يخرجان للسّوق ويكبِّران، فيكبِّر الناس بتكبيرها"[4].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
هذا واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحكمَ الكلام وأبلغَه كلامُ من أنزل القرآنَ على عبده فبلَّغَه، النبيّ المصطفى والرّسول المجتبى، خير من أدّى المناسك وأوضَحَها لكلّ ناسك، وقد أمرنا المولى سبحانه في محكمِ القيل وأصدقِ التنزيل بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى قولا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرّ الميامين, والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير القرآن العظيم (4/506).
[2] صحيح البخاري: كتاب العيدين (969) نحوه.
[3] أخرجه أحمد (2/75، 131)، وعبد بن حميد (807)، والبيهقي في الشعب (3750، 3751)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[4] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، والأثر وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب
فقه
الحج والعمرة
عبد الرحمن السديس
مكة المكرمة
1/12/1424
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- إهلال شهر الحج الأكبر. 2- الشوق إلى بيت الله الحرام. 3- أجواء الحج الإيمانية. 4- مظهر الوحدة في الحج. 5- قضية التوحيد. 6- نعمة الأمن في بلاد الحرمين الشريفين. 7- الحج المبرور. 8- ضرورة التفقه في مناسك الحج. 9- فضل عشر ذي الحجة.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ التقوى خير مرقاةٍ لبلوغ المرام، وأمنعُ عاصم لاجتناب الأوزار والآثام، بالتّقوى تنجلي حُلَك السبيل، وتُستنزَل مرضاة العليّ الجليل، فاعمُروا بها ـ رحمكم الله ـ قلوبكم وأوقاتَكم، واستدركوا بها من الطاعات ما فاتكم، مستثمرين شرَفَ الزمان والمكان والمناسَبة.
أيّها المسلمون، ها قد دارَ فلكُ الزمان دورتَه، وأهلَّ علينا شهرٌ عظيم، وأظلَّنا فيه موسم بالخيرات عميم، تبدّى لنا هلالُ شهر ذي الحجة الوليد، ليسكب في قلوبنا نورًا من أنوارِه، وليُتلِع أرواحَنا[1] بفيضٍ من منافعه وأسراره، إنّنا على أعتابِ الموسم الأشهَر وأيّام الحجّ الأكبَر، معدِن الحسناتِ وتكفير السيئات، وكنز الخيراتِ والطاعات، وينبوع المنافع المتكاثرات، أيامٌ قلائل وأمّة الإسلام قاب قوسين أو أدنَى من ميقاتٍ زمانيّ ومكانيّ محبَّب لأداءِ فريضةِ الحجّ إلى بيت الله الحرام، الركنِ الخامس من أركان الإسلام، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
أيّها الحجّاج الميامين، قدِمتم خيرَ مقدَم، طِبتم وطاب ممشاكم، وحقّق الباري سؤلَكم ومُناكم، خِدمتُكم لبلاد الحرمين تاجُ فَخار يتلألأ على صدور أهلِها، ووسامُ شرفٍ يتألَّق في عِقد جيد أبنائها، لقد كابَدتم عناءَ الأسفار وفِراق الديار، ومسّكم الرّهق والوَصَب، وأصابكم التّعَب والنّصَب. وإنّ هذه الأعراضَ الهيّنةَ لتتهاوَى أمام صلابةِ الإيمان وتطلُّب الأجرِ والثّواب مِن الواحد الدّيّان. إنّ الشوقَ إلى هذا البيتِ العتيق والانعطافَ إلى هذه العرصاتِ المقدَّسة والنّزوع إلى هذه المشاهدِ المُنيفة والبِقاع الشّريفة إذا عاينها المحِبّ المعنَّى تبدّدَت لديه كلُّ المشاقّ واللأواء، نعمةً من الله وفضلاً، ولقد خالَطكم ذلك النّفح الإيمانيّ وزايلتموه، كيف والمسجدُ الحرام نصبَ الأعينِ قرّة ومِلءَ القلوب إجلالاً ومسَرّة، ومن رُزق تَفيُّؤ ظِلال هذه الأرجاءِ فقد أنعمَ الله عليه نعمةً كبرى وامتنّ عليه منّةً عُظمى، فحقٌّ على كلِّ قاصدٍ شُكر الباري على ما أولاه وحمدُه على ما خصَّه به وأولاه، ومِن شُكر النعمة أداءُ هذه الفريضة وإتمامها كما شرع الله، قال جلّ في علاه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
حجّاجَ بيتِ الله، ها أنتم أولاءِ في رحابِ الحرمين الشّريفين، تهفو نفوسكم لأداءِ المناسك على التّمام والوقوف بهذه المشاعر العِظام، قلوبُكم خاشعة، أعينُهم دامِعة، أكفُّكم ضارعَة، تجأرُون إلى الله بالإنابةِ والدعاء، وتلهجون بالاستغفارِ والحَمد والثّناء، فلِلّه درُّكم من إخوةٍ متوادّين متراحمين، وأحبّةٍ على رضوان الله متآلفين متعاونين، وصفوةٍ لنسائِم الإيمان وعبيرِه وعبقِه متعرِّضين، ذَوَت في جليل مقصدِكم زينةُ الأثواب، وتلاشت عزّةُ الأنساب، واضمحلّت زخارفُ الألقاب والأحساب، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28]. وتأمّلوا ـ يا رَعاكم الله ـ الأسلوبَ التنكيريّ في سياق الامتِنان ليعمّ كلَّ منافع الدين والدنيا والآخرة.
حجّاجَ بيت الله الحرام، وفي هذه المواكبِ المَهيبة والحشود المباركةِ الحبيبةِ التي اتّحدَت زمانًا ومكانًا شعائرَ ومشاعرَ يعقِد الإسلام وفي أحكمِ ما يكون العَقد بإحدَى منافعِ الحجِّ الجُلَّى مناطَ الوحدة الجماعيّة والروحيّة الصّلبة التي تنحسر دونَها كلُّ المِحَن والمآسي التي ارتكسَت فيها أمّتنا، يقول سبحانه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
ولئِن تبصَّر المسلمون أحوالَهم في هذا المنعطَف الخطيرِ مِن تأريخهم لأيقَنوا بأنّ ما لحِقهم مِن ذلٍّ وضَعف وهوان وما مسَّهم من لُغوب وضنَى فِي كثير مِن المجتمعاتِ إنّما يعود إلى تمزُّق عراهم وتفرُّق هواهم وقواهم. وما شعيرةُ الحجّ ـ أيها الحجّاج الأماجد ـ في مجمعها العتِيد ومظهرِها وجوهرِها الفريد إلاّ ترجمة فعليّة ودعوةٌ عمليّة للمسلمين إلى وجوب الوحدةِ والاتّحاد وثنيٌ لهم عمّا مُنوا به في هذه الحقبةِ المعاصرة من تقاطُع وضعفٍ وتدابر. لقد آن الأوان أن تجعلَ أمّة الإسلام من هذا الموسم الوحدويّ فرصةً لاجتماعها ومناسبةً لاتّحادها بعدما فرّقتها الفتن والأهواءُ وشتّتتها المِحَن واللأواء، والله عز وجل يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
إخوة الإيمان، ضيوفَ الرحمن، وكُبرى القضايا التي قام عليها ركنُ الحجّ الركين، بل قامت عليها جميع الطاعات والعباداتِ هي تجريد التّوحيد الذي هو حقّ الله على العبيد، وإفراده سبحانه بالعبادةِ دونَ سواه، ونبذ الشّرك وما ضاهاه، يقول جل في علاه: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، ويقول جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
فأعظمُ مقاصِدِ الحجّ ومنافعه ـ يا عباد الله ـ تحقيقُ التوحيد الخالص لله كما قال جل شأنه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وما التلبيةُ التي يلهَج بها الحجيج وتهتزّ لها جنباتُ البلدِ الأمين وتجلجِل بها المشاعر القِداس إلاّ عنوان التوحيد والإيمانِ ودليلُ الطاعة والإذعان، وقد وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إهلالَ رسول الله قائلاً: أهلَّ رسول الله بالتوحيد: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك[2]. ولأجلِ التوحيدِ رُفعَت قواعد هذا البيت المعظّم من أوّل وَهلة، يقول سبحانه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26].
ومع تقرُّر ذلك كلِّه ووضوحه وضوحَ الشمس في رابعة النهار فإنّ البعضَ يأبى إلا أن يشوبَ هذا التوحيدَ بما يُفسد صفاءه ويخدِش بهاءه، فهل يغني شيئًا، هل يغنِي فتيلا أو نقيرًا أو قطميرًا دعاءُ القبور والتمسُّح بالأحجار والستور وسؤالها قضاءَ الحاجات ودفعَ الشرور؟! كلاّ ثمّ كلاّ.
إنّ الغيورَ ليذرِف الدموع الحرّاء السِّجام على ما آلَ إليه في ذلك حالُ بعض أهلِ الإسلام، فالله المستعان.
إنّ الواجبَ على أهلِ الإسلام عمومًا وقاصِدي المسجدِ الحرام خصوصًا أن يكونوا مثلاً عاليًا في إسلام الوجه لله وإفراده بخالص التوحيدِ وصحيح العبادة، مع التمسُّك الجادّ بالسنة ومجانبة البدَع والأهواء المضلَّة والأفكار المنحرِفة والتحلّي بمنهج الإسلام الحقِّ في الوسطية والاعتدال كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].
إخوةَ العقيدة، وهذه الرِّحاب الطاهرةُ التي تقضُون فيها أيّامًا معلوماتٍ ومعدودات مباركات قد خصَّها المولى سبحانه بخصائصَ ليست لغيرها، أظهرُها نعمة الأمنِ والأمان والاطمئنان، وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35]، وهذا الأمن الربانيُّ المعجِز لكلّ المحاولات البشريّة في إيجاد منطقةٍ حرام ممتدٌّ أثره إلى قيام الساعة لا ينفكّ عن هذا البلد الأمين بحالٍ من الأحوال، ومن همَّ بالإخلال به أذاقه الله عذابًا أليمًا، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. ولئن كان خَلاه لا يُختَلى وشوكُه لا يُعضَد وصيده لا ينفَّر والطير والحيوان والنبات والجماد يعيش فيه في أمنٍ مستمرّ وأمان دائم فكيف بالمسلم حرام الدمِ والعرض والمال؟!
أفرأيتم ـ يا رعاكم الله ـ بعد هذا الأمنِ المطبِق المحكَم دعوةً أبلغ من دعوة الإسلام للرحمة والشَّفقة والسلام والمحبّة والتسامح والوئام ومراعاته المثلى لحقوقِ الإنسان؟! على حين يصطلي العالم بأسرِه بلهيبِ القلق والهلَع والعُنف والفزع والإرهاب والإرعاب. وليس ما يقوم به الصهاينة المعتدون على ثَرى فلسطين المسلمة وعلى مقرُبَة من المسجد الأقصى المبارك إلاّ صورة دموية قاتمَة للصَّلف والإرهاب، وما جدار الفصلِ العنصريّ المزمَع إقامتُه هذه الأيام إلا نموذج أسود كالِح لكلّ صوَر التمييز والعنصريّة وإذكاء أعمالِ الحِقد والكراهية بين الشعوب إمعانًا في الكيلِ لمقدّسات المسلمين ومقدّراتهم.
فيا أيّها الحجّاج الكرام، اللهَ اللهَ في الحفاظِ على هذه العرصَات الطاهِرة والنعَم الظاهرة، والبدارَ البدار إلى تعظيم هذه البقاعِ الشريفة، تأدّبًا وتوقيرًا، محافظة وتطهيرًا، حذارِ من كلّ ما يُعكّر أمنها وأمانَها وسكينتَها واستقرارها، ولا يعزُب عن الأذهان أنّ قضيّةَ قدسيّة الحرمين الشريفين وأمنِ الحرَم والحجيج قضيّة من الأسُس والثوابت التي لا تقبَل الجَدل والمساومات، ولا تخضع للتنازلات والمزايدات، فلا يجوزُ أن يُصرَف الحجّ والمشاعر مطلقًا إلى شعاراتٍ ومهاترات، والله عزّ وجلّ يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، ويقول فيما أخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمه))[3].
ولإحرازِ هذا الفضلِ العظيم والظّفَر بهذا الأجرِ الجزيل ينبغي للحاجّ الكريمِ المبارَك مراعاةُ تحقيق الإخلاص لله والتجرّد من الرياء والسّمعة، منتهِزًا صفاءَ روحه واستعدادَ نفسِه وغِبطتَه بأداء هذا الرّكن العظيم في الطاعة والقرَب واللّهج بذكر الله عزّ وجلّ.
وممّا يوصَى به الإخوة الحجّاج الكرام ـ لا زالوا مكلوئين بالخير والإكرام ـ الاستعدادُ للمناسك بالعِلم النّافع والتفقُّه في الأحكامِ وسؤالِ أهل العلم عمّا يشكل عليهم، مع التحلّي بالأخلاق الحميدةِ والسّجايا الكريمة والآداب القويمة مع إخوانهم المسلمين، والتخلّي عن كلّ ما ينبو عن الخُلُق والآداب مع الله سبحانه أو مع عبادِه ويوقِع في الأذَى الحسِّيّ والمعنويّ.
وممّا ينبغي أن يحرصَ عليه الحاجّ المباركُ الكريم ويتّجِه إليه بكلّيَّته الإقبالُ على الله سبحانه والحِرصُ على أداء الصلاة والمحافظة عليها وتلاوة القرآن والإكثار من ذكرِ الله عزّ وجلّ والاشتغال بما جاء من أجلِه.
تلك ـ أيّها المؤمنون ـ قبساتٌ من سراج الحجّ الوهّاج وإضاءات للحجيجِ وذكرى ومنهاج، وإنّه لخليقٌ بالأمّة الإسلاميّة أن تستلهمَ مِن هذه الفريضة العظيمةِ دروسَ الوحدةِ والعزّة والإباء ومعانيَ الألفة والإخاء والمودّة والصّفاء والمحبّة والنّقاء وإن شطّت بهم الديار واختلفت بينهم اللّغاتُ ونأت الأمصار؛ إذ الحجُّ وما اشتمل عليه من روحانيّة أخّاذةٍ ودروس وعِبَر نفّاذة أنجعُ دواء لعِلل الأمّة وأدوائها ومقاومَة تيّارات النّزاعات والشّقاق فيها، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، كما أنّه خيرُ سبيلٍ للصّدور بالأمّة إلى محاضِن عزِّها وأمجادها وعريق حضارتها ومقوِّماتِها.
فاللهَ اللهَ ـ حجّاج بيتِ الله ـ في تعظيم هذه الشعيرةِ كما أراد الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وأدائها كما سنَّ المصطفى رسولُ الله القائل: ((خذوا عنّي مناسككم))[4]، والحذرَ الحذرَ مِن تعريضِها للنّواقض والنواقص في أركانها وواجباتها وآدابها وسائر أحكامها، والله من وراء القصد، وهو المسؤول سبحانه أن يجعلَ حجَّكم مبرورًا وسعيَكم مشكورًا وذنبَكم مغفورًا، وأن يعيدَكم إلى بلادكم سالمين غانمين مأجورين غيرَ مأزورين، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول ما سمِعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ خطيئة وإثم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي: يرفعها ويسمو بها.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[3] أخرجه البخاري في الحج (1521، 1820)، ومسلم في الحج (1350).
[4] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي لا أحج بعد حجتي هذه)).
الخطبة الثانية
الحمد لله فاطرِ الأرض والسموات، له الأسماء الحسنَى وكاملُ الصّفات، خصَّ موسمَ الحجِّ بمزيدٍ من الطاعات والقُرُبات، والبلدَ الأمين حُرمةً وقداسات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها الفوزَ بأعلى الجنّات والنجاةَ من مهاوي الدركات، وأشهد أنّ نبيّنا وحبيبنا وقدوتَنا محمّدًا عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والبيّنات وأحكام الحجِّ النيِّرات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه الهداةِ التُّقاة، والتابعين ومن تبِعهم واقتفى آثارهم يرجو من الله جزيلَ الثواب والصِّلات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ وأطيعوه، وازدلِفوا إليه بالشّكر ولا تعصوه، لا سيّما في هذه الأزمنة الفاضلةِ والأمكنَة المباركة.
أيّها الإخوةُ الأحبّة في الله، ومِن فضل الله سبحانه وكريم ألطافِه ما منَّ به علينا من حلول هذه الأيّام العشرِ الأُوَل من ذي الحجّة التي عظَّم شأنَها ورفع قدرَها وأقسم بها في محكَم كتابه المبين، فقال جلّ جلاله: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "المرادُ بها عشرُ ذي الحجّة كما قاله ابن عبّاس وابنُ الزّبير ومجاهد وغير واحد من السّلَف والخَلَف وهو الصحيح"[1]، وقال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28].
وقد ظاهَرَت السنّة القرآنَ في بيان فضلِها والحثِّ على اغتنامها، أخرج البخاريّ في صحيحه من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله قال: ((ما مِن أيّام العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله عزّ وجلّ مِن هذه الأيّام)) يعني أيّامَ عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرَج بنفسِه وماله ثمّ لم يرجع من ذلك بشيء))[2].
الله أكبر، يا له من فضل عظيمٍ وموسمٍ بالخيرات عميم، فيستحبُّ في هذه العشر المباركة الإكثارُ من جميع الأعمالِ الصالحة، مِن صيام وقيامٍ وصدقةٍ وإطعام، وبرّ الوالدين وصِلةِ الأرحام والتّحميد والتّهليل وتلاوةِ القرآن والتواصي بالحقِّ والصّبر عليه والدّعوة والحِسبة، ويُؤكَّد على الإحسان للحجيج ورحمتِهم والرأفة بهم وبذلِ المعروف والخير لهم، لأنّهم وفدُ الله مِن جميع الأنام، فحقٌّ علينا إكرامهم وأداءُ حقوقهم، لا سيّما من القائمين على حملاتِ الحج والعُمرة.
فبادِروا ـ أيّها المؤمنون ـ إلى انتهازِ هذه الفُرَص الثمينةِ والمواسمِ العظيمةِ، فإنّما هي أيّام قلائل، ولكنّها حافلةٌ بالأعمال الجلائل.
كما يُستحبّ في هذه العشر التكبير المطلق، روى الإمام أحمد من حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((فأكثِروا فيهنّ من التكبير والتهليل والتحميد))[3]، قال البخاريّ رحمه الله: "وكان ابن عمر وأبو هريرةَ رضي الله عنهم يخرجان للسّوق ويكبِّران، فيكبِّر الناس بتكبيرها"[4].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
هذا واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحكمَ الكلام وأبلغَه كلامُ من أنزل القرآنَ على عبده فبلَّغَه، النبيّ المصطفى والرّسول المجتبى، خير من أدّى المناسك وأوضَحَها لكلّ ناسك، وقد أمرنا المولى سبحانه في محكمِ القيل وأصدقِ التنزيل بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى قولا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرّ الميامين, والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير القرآن العظيم (4/506).
[2] صحيح البخاري: كتاب العيدين (969) نحوه.
[3] أخرجه أحمد (2/75، 131)، وعبد بن حميد (807)، والبيهقي في الشعب (3750، 3751)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[4] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، والأثر وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب