الْحَجُّ
(أَحكَامُهُ وكيْفِيَّتُهُ)*
لفضيلةِ الشَّيخ
عَلي بنِ حَسن بن عَلي الحَلَبي
-حفظهُ اللهُ-
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله.
أما بعد:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد:
فإننا نعيش أيامًا مباركة بين يدي عشرٍ مِن ذي الحجِّة، والتي يُصادف يوم الثَّامن منها يومٌ مِن أعظمِ أعمالِ وأيَّامِ السُّنَّة؛ ذلكم أن فيه بدء الحجِّ، وبدء تطبيقِ ركنٍ من أركان الإسلام؛ كما قال الله -تباركَ وتَعالى-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] {وَمَنْ كَفَرَ}: أي مَن ترك الحجَّ وهو قادرٌ عليه؛ فقد وقع في نوعٍ من أنواع الكفر -والعياذُ باللهِ-، كما قال عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: " مَن ملَك الزَّاد والرَّاحلة ولم يحجَّ؛ فليَمُتْ إن شاءَ نصرانيًّا، أو يهوديًّا، أو مجوسيًّا، {ومَن كفر فإنَّ اللهَ غني عن العالَمين} ".
والنَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- يقول -كما في حديثِ ابن عمر-: " بُني الإسلامُ على خمسِ: شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت من استطاعَ إليه سبيلًا "، هذا من حيث الفرضُ.
أما مِن حيث السُّنَّة والفضلُ والأجر: فيقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " تابِعوا بين الحجِّ والعُمْرة؛ فإنهما يَنْفِيان الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكيرُ خَبَث الحديدِ".
وقال -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- فيما يَرويه عن ربِّه في الحديث القدسيِّ- قال: " قال اللهُ تعالى: إنَّ عبدًا أصحَحْتُ لهُ في بَدَنِه، ووسَّعتُ لهُ في رزقِه، لا يَفِدُ إليَّ كلَّ خمسة أعوام؛ لَمحْروم "، والحِرمان -هنا-: حِرمان الأجر لمن هو متيسِّرٌ له، وليس المقصود به حرمانًا من المعاصي، أو يترتَّب عليه فيها المعاصي؛ إنما هي حِرمان المزيد مِن الأجر، مِن الباب المفتوح للأجر المفسوح، والذي يتيسَّر لمن يتيسَّر له، ثم يردُّ ويرفضُه!
والنَّبـي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حـجَّ مع أصحابـه، علَّمهم الحـجَّ الكريم، وكــان يقـول: " لِتأخُذوا عنِّي مَناسِكَكُم " واللَّام -هنا-: لام الأمر؛ أي: خُذوا عنِّي مناسكَكم. وكما قال الإمامُ أبو زُرعة الرَّازي: " حجَّ مع رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أكثرُ من مائةِ ألفٍ من أصحاب رسولِ الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، كلُّهم يتتبَّع حجَّهُ، كلُّهم يتتبَّع فِعله، كلُّهم يتتبَّع هديَه -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.
والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حجَّ حجّةً قارنة؛ أي: أنه ساق معه الهَدْي، ولم يَدخل إلا مُحرِمًا، ولم يُحلَّ، وبقي على إحرامِه إلى أن رمَى (الجمرةَ الكُبرى) في (يوم العيد) -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
وحديث حجَّة النَّبي حديثٌ من طِوال الأحاديث، وقد رواه الإمامُ مسلم في صحيحِه، من حديث جابر بن عبد اللهِ -رضيَ اللهُ عنهُ-، ولو أردنا أن نسوقَ الحديثَ وشَرحَه -جملةً جملة-؛ لاقتضانا ذلك لا أقول درسًا ودرسَين وثلاثة دروس؛ بل قد يكون ذلك يقتَضِينا عشرة دُروس؛ لما في ذلك من تفصيلٍ، ومِن شروح، ومن بياناتٍ وتنبيهاتٍ ذكرها شُرَّاح هذا الحديث؛ بل إن هذا الحديثَ قد أفرده بالشَّرح والبيانِ عددٌ من علماء الإسلام -من قبلُ ومِن بعد-.
ومع أن النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حجَّ قارنًا؛ إلا أنه فضَّل (حجَّ التَّمتُّع). و(حجُّ التَّمتُّع): هو الحجُّ الذي يَدخل به صاحبُه بعُمْرة، ثم يتحلَّل إلى يوم الثَّامن، ثم يُهِلُّ بالحجِّ من مكانِه، مُتوجِّهًا إلى (مِنى) في اليوم الثَّامن، وهو يوم (التَّروِية) -على ما سنبيِّن-.
فقال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-حاضًّا، وحاثًّا، ومبيِّنًا فضل (التَّمتُّع)-، قال: " لو استقبلتُ مِن أمري ما استَدْبَرتُ؛ لما سُقتُ الهَدْيَ، ولجعلتُها عُمْرة "؛ لأن مِن الفوارق بين القارِن والمُتمتِّع: أن القارِن يَسوقُ الهَدْي معه، يسوق الذَّبيحة، يسوقُ الأنعام التي يُريد أن ينحرَها في يوم النَّحْر؛ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، (يوم العيد) هو يوم النَّحْر؛ فقال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- " لو استقبلتُ مِن أمري ما استدبرتُ؛ لما سُقتُ الهَدْي، ولجعلتُها عُمرَة ".
جاء أحدُ الصَّحابة يَستفسِر، ويَستفصِل، ويَسأل رسولَ الله-عليهِ الصَّلاة والسَّلام- قال: يا رسول الله! -وقد سمعَه يقول: " دخلت العُمْرة في الحجِّ، دخلت العُمْرة في الحجِّ "، وشبَّك بين أصابعه-عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، قال: يا رسول الله! ألِعامنا هذا؟ أو لأَبَدِ الأبَد؟ قال: " بل لِأَبَدِ الأَبَدِ ".
هذا دفع بعضَ أهل العلم يذهب إلى أن (حجَّ التَّمتُّع) واجب، وإن كان في المسألة خلاف بين أهل العلم؛ لكن الحقيقة: أن دليل القائلين بالوُجوب؛ ليس هيِّنًا، وليس سهلاً، وإن كُنا نصحِّح -لا شكَّ، ولا ريبَ- (حجَّ القارِن)، و(حجَّ المُفرِد)، كما نُقل ذلك عن عددٍ من الصَّحابة الكبار -رضيَ اللهُ عنهُم- بعد وفاة رسول اللهِ الكريم -عليه أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم-.
الحجُّ -كما قلت- نستطيع أن نشرحه في مجلس، نستطيع أن نشرحَه بدقيقة، نستطيع أن نشرحه بعشر ساعات؛ لأن تفاصيل الحجِّ وتداخلاتِها كثيرة، لكن -كما قيل-ويُروَى حديثًا ولا يَصِح، لكنه بمعنى المثلِ الجيِّد-: (خيرُ الأمورِ أوساطُها).
من هذا الباب: نذكر صِفة الحجِّ على وجهِ الاختصار:
في يوم الثَّامن يُسمَّى يوم (التَّروِية)، وسُمي يوم (التَّروِية)؛ لأن الصَّحابة كانوا يجلبون الماء إلى (مِنى) حتى يكتفوا به في إقامتهم في (مِنى) أيام الحجِّ؛ ليرتووا به، ويُرَوُّوا به إخوانَهم ومَن معهم.
في يوم (التَّروِية) -وهو اليوم الثَّامن-: يُستحبُّ الاغتسال والتطيُّب قبل الإحرام. طبعًا: نحن سنتكلم عن الحجِّ، أما (العُمْرة) فأظن أن الأكثرين يعرِفونها؛ فليست العُمْرة -من حيث العُموم- إلا الإحرام والطَّواف والسَّعي والحلْق؛ هذه هي أهم أمورِ العُمْرة، بينها سُننٌ -سنذكرها في معرض صِفة الحجِّ-.
فـ(الحجُّ المُتمتِّع): في أي يوم يدخله مِن ميقاتِه، يعني: ينوي عُمرةً، ويُهلُّ بعُمرة، يقول: (لبَّيكَ اللهمَّ! بِعُمرةٍ، مُتمتِّعًا فيها إلى الحجِّ)؛ لأنه بعد أن ينتهي العُمْرة؛ سيتمتَّع بما أحلهُ اللهُ له مما كان قد حَرُم عليه قبل الإحرامِ -كالطِّيب والزَّوجة وغير ذلك مِن المباحات-.
وله أن يقول: (اللهمَّ! مَـحِلِّي حيث حبستَني)، لا يقول: (مَحَلِّي) -بفتحِ الحاء-؛ وإنما يقول: (مَحِلِّي). ما الفَرق بين (المَحَلِّ) و(المَحِلِّ)؟ المَحَلُّ: هو المكان، و(المَحِلُّ): هو موضعُ الحِلِّ، الموضِع الذي يتحلَّل منه المُحرِم إذا أصابه بأسٌ، أو مرضٌ، أو ضيمٌ. فمَن قال: (اللهمَّ! مَـحِلِّي حيث حبستَني)، ثم لم يُكمِل حجَّهُ؛ لا يجب عليه دمُ الإحْصار: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} [البقرة: 196]، فالذي يشترط مثلَ هذا الاشتراطِ؛ ليس عليه ذنب، ويقطع حجَّه إلى أن يُيسِّر الله له الحجَّ الآخر.
ثم يتوجَّه مُلبيًّا: (لبَّيكَ اللهمَّ! لبَّيكَ لا شريك لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمة لك والمُلك، لا شريكَ لك)؛ هذه أشهر أنواع التَّلبيَة؛ لكن كان الصَّحابة يخلطون تلبيتَهم بالتَّهليل والتَّكبير -هذا من السُّنن التي لا نعرفها ولا يعرفها الكثيرون-: (اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ)، وأيضًا: كانوا يُلبُّون: (لبَّيكَ إلهَ الحقِّ)، (لبَّيكَ ذا المعارِج، لبَّيكَ ذا الفواضِل، لبَّيكَ ذا الكوامِل، لبَّيكَ وسَعدَيْك، والخيرُ في يَديْك، والرَّغباء إليكَ والعمل)؛ هذه كلُّها من ألفاظ التَّلبيَة المشروعة المسنونة الواردة عن النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-.
فإذا وصل إلى بيت اللهِ الحَرام: يدخل -كما يدخل أي مصلٍّ- مُقدمًا الرِّجل اليُمنى، مُصليًّا على النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، سائلًا ربَّه الرَّحمة، ثم إذا كان وقت صلاة؛ يُصلِّي مع المسلمين، إذا كان تَعِبًا يريد الرَّاحة؛ يُصلِّي ركعتين تحية المسجد ثم يجلس، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، لكن؛ إذا كان نشيطًا، ودخل ولم يجدْ وقتَ صلاة؛ لا يُسَن له أن يصليَ تحية المسجد؛ (هنا) قال الفُقهاء: (تحية البيت الطَّواف).
(تحية البيت الطَّواف) في أي صورة؟ (تحيةُ البيت الطَّواف) في صورة واحدة: وهي صورة الدَّاخل إلى الحرَم ليبدأ بالطَّواف؛ فلا يقدِّم على الطَّواف شيئًا. لكن؛ إذا أراد الرَّاحة؛ يُصلي ركعتين تحية المسجد قبل الجلوس؛ " إذا دخل أحدُكُم المسجد؛ فلا يجلِسْ حتى يُصلِّي رَكعَتَيْن "، إذا دخل ووجد الجماعة قائمة؛ أيضًا: يُصلِّي -مباشرة- الفريضة، ولا ينتظر ولا يؤخِّر.
أما ما يتوهَّمه بعض النَّاس: مِن أن كل داخل إلى المسجد الحرام؛ فإن تحيةَ البيت عنده هي الطَّواف دون تحية المسجد؛ فهذا خطأ!
يتوجَّه إلى الحجَر الأسود، ويُشير بيده قائلًا: (بِسم الله، واللهُ أكبرُ)، ثم يبدأ بسبعة أشواط، فإذا انتهى منها؛ ذهب إلى زمزم ليشرب منها ويتضلَّع، والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- يقول: " ماء زمزم لِما شُرب له "، ثم يصلِّي ركعتين خلفَ مقام إبراهيم، {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] يقرأ في الرَّكعة الأولى: سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الرَّكعة الثانية: "سورة الإخلاص".
وبالمناسبة: هاتان السُّورتان تُسمَّيان: (سُورتي الإخلاص)، ليس -فقط- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص؛ بل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} مع الأخرى -بالتَّغليب اللغوي- تُسمَّيان: (سورتي الإخلاص).
فإذا انتهى: يذهب مباشرةً إلى (الصَّفا)، فإذا اقترب من (الصَّفا) يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، ثم يصعد على (الصَّفا)، ويحاول رؤية الكعبة. في بعض الأماكن تُرى، وإلا -يعني- التَّوسعة الجديدة، وكثرة الأعمدة تمنع، لكن؛ في بعض المواقف إذا تحرَّاها؛ يَرى. هذا في (الصَّفا). في (المروَة) لا يمكن، لا تمكن الرؤية عند (المروَة).
فإذا وقف على (الصَّفا): يدعو بأدعية -سنذكرها بعد قليل-، ثم ينزل إلى (المروَة)، ذهابه شوط وإيابُه شوط، حتى ينتهي إلى سبعة أشواط، يكون سابعها أين؟ عند (المروَة).
بعض النَّاس يظنون أن كل ذهاب وإياب شوط! وليس كذلك! بل إن كل ذهابٍ شَوط، وكل إياب شوط آخر.
فإذا انتهى من الشَّوْط السَّابع وقرأ الأذكار-كما قلت-التي سنكرِّرها الآن، وسنذكرها-بعد قليل-: فإنه مباشرة يذهب ليتحلَّل؛ حتى يكون ذلك حلالَه وتمتُّعه الشرعي.
جاء رجل إلى النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- يَستفصله عن الحِلِّ؛ يعني: ماذا أحلَّ اللهُ لنا؟ وماذا حرَّم؟ قال النَّبيُّ -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " الحلُّ كلُّه " أي: كل ما مُنعتَ منه قبل إحرامِك مما أحلَّه اللهُ لك؛ فهو مُباح عليكَ -الآن-. " الحِلُّ كلُّه ": قال بعضُ أهل العلم: " الحِلُّ كلُّه " تستلزم كل الأفعال المباحة، مستغرقةً الزمان كلَّه، والمكان كلَّه ضمن ما شرعه الله -تباركَ وتَعالى-.
في يوم الثَّامن يكون المُتمتِّع حلالاً في ضُحى اليوم: يُحرِم: (لبَّيكَ اللهمَّ! بحَجَّةٍ) -انتهينا الآن من العُمْرة، الآن الحَج-يوم الثَّامن-؛ (لبَّيكَ اللهمَّ! بحَجَّةٍ)، ثم يقول: (اللهمَّ! مَحِلِّي حيث حبَسْتَني)، ثم يتوجه ملبيًّا إلى (مِنى).
طبعًا -كما قلنا-: قبل الإحرام يُستحبُّ له الاغتسال والتطيُّب، لكن؛ يُشترط عند التطيُّب: أن لا يتضمَّخ بالطِّيب. ما معنى (التَّضمُّخ)؟ هو الإكثار مِن الطِّيب، يُستحبُّ له التطيُّب، لكن؛ مِن غير إكثار -أن يدَّهن في بَدَنِه، في كلِّ جسده، أو في شعرِه، أو في رأسه!- يعني: يأتي بالشيء اليسير.
والسُّنَّة في الإحرام بالحَجِّ -بعد هذا الغُسل والتطيُّب-: أن يكون قبل الزَّوال؛ يعني: قبل الظُّهر؛ قبل أن تزول الشَّمس من كبد السَّماء.
وأفضل ألفاظ التَّلبيَة: أن يقول: (لبَّيكَ اللهمَّ! بحجَّةٍ، لا رِياءَ فيها، ولا سُمعَة). أيضًا: إذا قالها عند العُمْرة: (لبَّيكَ اللهمَّ! بعُمْرة، لا رِياءَ فيها، ولا سُمعة)؛ يكون -لا شكَّ، ولا ريبَ- هذا هو الأفضل، وهذا هو الخير والأكمل -إن شاء اللهُ-تعالى-.
لماذا نقول: (لا رياءَ فيها، ولا سُمعة)؛ لأن موضع الحجِّ -للأسف-؛ يعني صار في النَّاس موضع مُراءاة، كما قال ذلك الشاعر -رحمهُ اللهُ- الشَّيخ خير الدِّين وانلي:
حجُّوا ولبُّوا وطافُوا كعبةَ الحرَمِ
حجُّوا ليُحْصُوه كمْ حجُّوا أو اعْتَمَروا
كأنما الحجُّ مَرمَى لُعبةِ القَدَمِ!
يعني: (والله أنا حججت مرتين)! (لا، لا؛ أنا حججت أربع مرات)! صار مفاخرة!! إذا رجع من الحج، يرى أهله -وقد يكون ذلك بوصية منه-: (حجٌّ مبرور، وسعيٌ مشكور، أهلاً وسهلًا بالحاجِّ فلان الفلاني)! وهذا قد يكون طمعَه، وقد يكون رغبتَه!
المسلم الذي يريد وجه الله والدار الآخرة يُطبِّق عملًا ما قاله بلسانِه قولًا: (لبَّيكَ اللهمَّ! بحجَّةٍ، لا رياءَ فيها، ولا سُمعة), ثم يقول: (اللهمَّ! مَحِلِّي حيث حبَسْتَني). ثم يُكثِر من التَّلبيَة -على الصفة التي ذكرناها-: (لبَّيكَ اللهمَّ! لبَّيكَ...)، ونقول: (لبَّيكَ ذا الفواضِل، لبَّيكَ ذا المعارِج) ، وأن نهلِّل، وأن نكبِّر، كل ذلك في يوم (التَّروِية) -وهو يوم الثَّامن-.
فإذا وصل إلى (مِنى): يصلي الظُّهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفَجر في (مِنى)، ويستمر مُلبِّيًا -طول اليوم- من اليوم الثَّامن حتى يوم (جمرة العَقَبة)؛ وهو (يوم العيد).
إذًا: عندنا يوم ثمانية [الذي] هو يوم (التَّروِية)، ويوم تسعة -كاملًا- [الذي] هو يوم (عَرَفة)، إلى رمي (جمرة العَقَبة) وهو (يوم العيد)، وهو ثالث أيام الحجِّ.
طبعًا: الصَّلاة تُقصَر؛ الرُّباعية -في أيام (مِنى)- تُقصَر ولا تُجمع.
قد يقول قائل: لماذا؟
نقول: أولًا: " صَلُّوا كَما رأيْتُمونِي أُصَلِّي "، ثانيا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65]. فكيف إذا كانت الصَّلاة -ها هنا- جزءًا مِن النُّسُك؟ لذلك: أهل مكة وهم مقيمون فيها، ومن كان قريبًا من (مِنى) ممن حجَّ مع رسولِ الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ صلَّى مع صَلاتِه؛ مع أنه ليس مسافرًا، قد يكون -هنالك- مُسافرون، كما قد يكون -هنالك- مُقيمون؛ الجميع صلَّوا صلاةً واحدةً؛ قَصرًا بلا جَمع.
في أيام (مِنى) يتساهل بعض النَّاس؛ فتضيعُ منهم الصَّلاة؛ فالأصل: الحرصُ على صلاة الجماعة، وبخاصة أنها أيام مباركة: " ما مِن أيامٍ العملُ الصَّالح فيهنَّ أحب إلى اللهِ مِن عَشرِ ذِي الحِجَّة "، فكيف إذاوافقت شرفَ المكان، وشَرَف الزَّمان، وشرف العَمَل؟ ثلاث درجات مِن درجات العمل الصَّالح والأجر والمثوبة مِن الله -تباركَ وتَعالى-.
أيضًا مما يتساهل فيه الناس -يقول لك: (أنا تعبان! أنا أريد أن أستريح)!-: (سُنة الفجر وصلاة الوتر)، والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حرص الحرص -كلَّه- أن لا يفوِّت ذلك -لا في حجٍّ ولا في غيره-، على خلاف في ليلة (مُزدَلِفة) -كما سنذكُره بعد قليلٍ -إن شاء الله-تعالى-.
أيضًا: يُسَنُّ له أن يُكثر من الذِّكر، وتلاوة القرآن، وشُهود مجالس العلم، والسؤال عن العلم؛ هذا كلُّه مشروع ومَسنُون؛ بل مُستحبٌّ أن يفعله الحاجُّ.
وكثيرٌ من النَّاس يتهاونون بالمبيت في (مِنى)؛ فنراهم يجلسون إلى السَّاعة الحادية عشرة.. إلى السَّاعة الثانية عشرة إلى منتصف الليل، ثم يغادرونها! المبيت: سُنَّة مؤكَّدة؛ بل ذهب بعض أهل العلم إلى الوجوب، حتى لو لم يكن معه نوم. المبيت لا يلزم منه النَّوم؛ أن تقضي ليلتك هنا؛ هذا مَبيت، لا يلزم معه أن يكونَ ثمةَ نومٌ، كما قلت: كثير من الناس يتهاون! وهذا غلط.
في يوم التاسع؛ وهو يوم (عَرَفة): يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- : "خيرُ ما قُلتُ أنا والنَّبيونَ مِن قَبلي: لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير"، و "خيرُ يومٍ طلعتْ عليهِ الشَّمسُ: (يوم عَرَفة)"، فيُكثر الإنسان من التَّهليل؛ من هذه الشهادة العظيمة التي قامت لها السَّماوات والأرض، والتي لم يَخلق الله الخلق إلا من أجلِها، ولم يُنزل الكتب إلا من أجلها، ولم يُرسل الرُّسُل -سبحانهُ وتعالى- إلا مِن أجلها.
فيبدأ الحُجَّاج الذين باتوا في (مِنى) يتوجَّهون إلى (عَرَفة)، متى؟ بعد طلوع الشَّمس. طبعًا: ليس بالضرورة بعدها مباشرة، من الممكن أن يكون ذلك -يعني- بعد ارتفاعها.. عند الضحى.. المهم: أن يُبكِّروا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وأن يكون توقيت خروجهم مع طلوع الشَّمس.
في الطريق: يمرُّون على (نَمِرَة): و(نَمِرَة): مكان ليس من (عَرَفة). هذا من السُّنَّة: أن ينزلوا بـ(نَمِرَة) شيئًا يَسيرًا؛ لأن الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- فعَلَ ذلك؛ وإن كان هذا -في الحقيقة- غير متيسِّر لكثير من الناس اليوم. قد يتيسَّر لبعض الحريصين -إذا كانوا مُنفرِدين، أو كانوا قِلة-؛ أما مَن كان مع حملة كبرى، أو مع مجموعة من الناس؛ لا يستطيع أن يفعل، خاصة مع كثرة الزحام -كما تعلمون-.
فيبقى الأمر بالذِّكر، والدُّعاء، والتَّهليل، والتَّسبيح، وقراءة القرآن في هذا اليوم العظيم، اليوم المبارَك، اليوم الذي لا يومَ مِثله؛ (يوم عَرَفة)، إلى أن تغيبَ الشَّمس.
لكن: أثناء النهار عندنا ظهر، وعندنا عصر؛ نصلِّيهما جمعًا وقصرًا، جمع تقديم، نُصلِّي الصلاتين: الظُّهر والعصر، حتى لو كان يوم جمعة؛ لا تُصلَّى الجمعة؛ وإنما يُصلَّى الظُّهر مع العصر، مجموعتين جمعَ تقديم.
طبعًا: هنالك خُطبة يَخطب بها إمامُ المسلمين -أو مَن وَكلهُ إمام المسلمن- في الناس، في مسجد (نَمِرَة)؛ يُذكِّر فيها المسلمين بالعقيدة الصَّحيحة.. بالعلم النافع.. بالعمل الصَّالح.. بالإخلاص لله.. بالاتِّباع لسُنَّة رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، يوجِّههم إلى مكارم الأخلاق، وإلى محاسن الخِلال، وإلى أفاضل الشِّيَم -مما ينبغي على المسلم أن يسلكَه وأن يتَّبعَه-.
ثم بعد ذلك: يبقى مستمرًّا متضرعًا إلى الله، رافعًا يديه في الدُّعاء، مُتبتِّلًا، خاشعًا، متبذِّلًا إلى أن تغربَ الشَّمس.
الوقوف في (عَرَفة) إلى غروب الشَّمس.
سألني سائل -بالأمسِ القريب-، قال: لو أن أحدًا خرج قبل الغروب؛ يجوز أم لا يجوز؟
نقول: يجوز.
لكن: الواقع الحالي -الآن-: أن الخروج من (عَرَفة) -قبل غروب الشَّمس- ممنوع، ليس من باب أنه لا يجوز؛ ولكن من باب تنظيم الطَّريق، وتنظيم السَّير، وتنظيم الحافلات -التي لا أقول هي بالمئات؛ بل بالآلاف؛ بل بعشرات الآلاف!-. فجزى اللهُ خيرًا أولياء أمور تلك البلاد الطَّيبة على ما يقدِّمونه من جُهد وجِهاد وبذل -لا يعلم حقيقتَه وقدْرَه إلا ربُّ العالمين-سبحانهُ وتعالى-. نعم.
فأثناء يوم (عَرَفة): يُسَنُّ الإحسان إلى الحُجَّاج بـ: (إطعام الطعام، وسقي الماء)؛ فقد ورد: أن هذا (بِرُّ الحجِّ)؛ " بِرُّ الحج: إطعام الطعام، وسقيُ الماءِ " -أو كما قال-عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ حتى يشعر الإنسان بحقيقةِ الأخوَّة؛ أنتَ تأكل، وتشرب، وتتمتَّع، قد يوجد غيرُك ليس عنده شيءٌ مِن ذلك! فحتى يكون منك مشاركة؛ تشعر بها بحقيقة ما قاله النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " والذي نفسي بيدِه؛ لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِه " تفعل هذا؛ لتنال هذا البِرَّ، وهذا الأجر، وهذه المثوبة.
كثيرٌ مِن الناس يَذهبون إلى الجبَل؛ ما يُسمُّونه بـ (جبل الرَّحمة)، يتكلَّفون الصعودَ عليه، وبعضهم يتصوَّر قُربَه، أو يتصوَّر قُرب الجمَل المُزيَّن.. وما أشبه! هذا كلُّه لا أصلَ له في السُّنَّة، أي دقيقة تفوِّتها فيما لا فائدة منه في ذلك اليوم العظيم الجليل الكبير، تُفوِّتها من أجرِك، ومِن ذِكرك لله، ومِن تسبيحِك، ومن تعظيمِك، ومن دعائِك، ومن خشيتك؟! "احرِصْ على ما ينفعُك"، ولن ينفعك شيءٌ بقدر ما ينفعك عملك الصَّالح -في هذا اليوم العظيم-. نعم.
فكثير من الناس عندما تغرب الشَّمس يتذكَّرون! يقولون: (أضعنا يومَنا)! لكن ما فائدة ذلك، كما قال الله -تعالى-: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] لا ينفع الندم! نعم.
الآن: إذا انتهينا من (عرفات)؛ نتوجَّه إلى (مُزدَلِفة).
إيش معنى: (مُزدَلِفة)؟ يُقال: (فلان ازدَلَف الطريق) يعني: (انتقل مِن.. إلى..).
(مُزدَلِفة): هي مكان الانطلاق مِن (عَرَفة) إلى المكان الآخر الذي فيه ركن أو واجب آخر مِن واجبات الحجِّ، وهو: المَبيت في (مُزدَلِفة). فيكون ذلك الخروج بسَكينة ووقارٍ . وإن كنَّا في حجِّ هذه الأيام؛ لا نرى سكينةً ولا نرى وقارًا! للأسف! في ليلة الخروج والنَّفرة مِن (عرَفة) إلى (مُزدَلِفة)؛ تكون الحافلات في سِباق -كأنه سباق الموت-للأسف-، مع شدة ما يقوم به رجالُ الأمن -جزاهم الله [خيرًا]-، وتنظيم الطريق -حتى الكشَّافة والمتبرِّعون- مِن تنظيم، ومِن تسهيل، ومن تيسير..-؛ لكن الأمر لا يطاق إلا برحمةٍ مِن الله -سبحانه وتعالى-. الله هو الذي يُنزِّل رحمتَه على عبادِه بأن تنتهي هذه الليلة، وأن ينتهي هذا الانتقال مِن (عرفَة) إلى (مزدَلِفة) على خيرٍ وبركة. نعم.
إذا وصلنا إلى (مُزدَلِفة)؛ الأصل: أن نصلِّي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان واحد وإقامتين. هكذا الجمع-طبعًا- دائمًا؛ يكون أذان واحد، ولكن؛ معه إقامتان. وذلك قبل أن نتهيأ للجلوس -مِن باب المسارعة-، وطبعًا يكون جمع تقديمٍ، مباشرة إذا وصلنا؛ نصلِّي جمع تقديم؛ الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- صلَّى جمعَ تقديم، ولكن؛ أكثر الحُجَّاج يَصِلون متأخِّرين؛ فيجوز لهم -من باب العذر- أن يصلوها جمع تأخير، وأما السُّنَّة أن يُصلَّى جمعَ تقديم.
هنا نصل إلى ما وعدنا من الجواب عليه في موضوع صلاة الوتر في (مُزدَلِفة):
المنقول عن الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- أنه جمعَ وقصَر ونام، هل صلى الوتر أم لم يصلِّ؟
اختلف أهل العلم، وأدلتهم مُتقاربة، اجتهاديَّة، مَبنية على القرائن. الذين قالوا أنه صلَّى الوِتر قالوا: هي جَمع وقَصر -كأي صلاة، وكأي سفر-، والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- كان يحافظ على وِتره في كلِّ أحوالِه، ولم يكن يُفوِّته، فما الفرقُ بين هذا وبين غيرِه؟ الذين قالوا أنه لا يصلِّي؛ عكسوا الأمر؛ ماذا قالوا؟ قالوا: هذا حجٌّ، له أحكامه الخاصة، وله ظروفُه الخاصة، لو كان صلَّى الوتر؛ لنُقِل، فلما لم يُنقَل؛ دلَّ أنه لم يُفعَل.
فأنا أقول: مَن فعل -ممن هيأه الله للحجِّ والإكثار من الحج-: إذا فعل تارةً، وترك تارة؛ سيوافق السُّنَّة -بإذن الله-تباركَ وتَعالى-. أمَّا مَن لم يفعل، أو مَن لم يحج إلا حجة واحدة أولى؛ فالأقرب إلى السُّنَّة -عندي-: أنه لا يصلي الوِتر؛ لأن أحكام الحجِّ غير أحكام الإقامة في بلاد المسلمين.
ثم -كما قُلنا- بعد أن صلَّى المغرب والعشاء؛ يُسارِع إلى النَّوم.
كثير من الناس يَقضون ليلة (مُزدَلِفة) بالبحث عن الحِجارة؛ حجارة يرمون بها في اليوم التَّالي؛ تراهم يُجمِّعونها، ويسهرون عليها! وبعضهم ينظِّفها! وبعضُهم أعدَّ لها كيسًا خاصًّا مرتَّبًا مهذَّبًا! هذا -كلُّه- من التكلُّف!! الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- لم يُنقل عنه أنه التقطَ الحصيات، أو التُقِطت له في (مُزدَلِفة)؛ وإنما التُقِطت له في (مِنى). نعم؛ أنا أعلم أنه قد ورد عن بعض الصَّحابة أنه التَقط حصياتِه من (مُزدَلِفة)، لكن مِن غير اعتقاد أنَّ هذا الأفضل، مِن غير أن يكون ذلك شُغلاً له عن السُّنَّة؛ في التَّعجيل والتَّبكير والرَّاحة؛ استعدادًا لليوم العاشِر وهو يوم الحجِّ الأكبر؛ اليوم الذي فيه أكثر أعمال الحجِّ -في اليوم العاشر-، فيه شيء مِن المشقة، إذا لم تكنْ مُرتاحًا؛ ستَتْعَب وتُتعِب. لذلك: نام النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- بعد الصَّلاة مباشرة؛ ليهيئ نفسه -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- ليوم الحجِّ الأكبر. نعم.
المبيت في (مُزدَلِفة) واجب، وبعض أهل العلم ذهب إلى أنه ركن، وبعض أهل العلم قال: المبيت واجب، والرُّكن: صلاة الفجر في (مُزدَلِفة).
والذي أراه: أن أرجح الأقوال: أن المبيتَ واجب، وأن صلاة الفجر واجبة، وليست رُكنًا؛ لأنه لا يُعرف في الحجِّ ترخُّصٌ بِرُكنٍ. هل رأينا من رُخِّص له تركُ يومِ (عَرَفة)، ترك الوقوف في (عَرَفة)؟ لا يُعلم. هل رأينا من رُخِّص له ترك (طواف الإفاضَة)؟ لا نعلم. هكذا الأركان.
لكن؛ في صلاة الفجر في (مُزدَلِفة)، وفي المبيت في (مُزدَلِفة): الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- رخَّص للضعفاء من الرِّجال، والضُّعفاء من النِّساء أن يَدفعوا بعد منتصفِ الليل؛ يذهبوا بعد منتصف الليل؛ لينتظروا الصباح؛ " خشية حَطمة الناس "، الحديث يقول: " خشية حَطَمة الناس "؛ يعني: الناس وهم خارجون باندفاع؛ خشية أن يصاب هؤلاء الضعفاء -مِن امرأة.. مِن شيخ.. من عجوز.. مِن ضعيف.. من مريض.. مِن كسِير.. مِن عَرِج-، يعني: يكون لهم وضعُهم، ويخرجون عن هذا الزِّحام، وعن هذه الحَطَمة.
ولكن السُّنَّة: انتظار طلوع الشَّمس حتى تُرمَى (جمرة العَقَبة).
نحن نرى -الآن- في الحجِّ أناسًا يَدفعون بعد منتصف الليل -ونحن في طريقنا إلى (مِنى)-مثلاً-أو إلى الحرَم- نَراهم قد انتهَوا! حالِقين! لابِسين! رمَوا الجمرةَ! وطافوا! وسَعَوا! وتطيَّبوا... وممكن أن بعضهم فعل شيئًا آخر!! وو.. إلى آخر هذه الأمور! حقيقة: هذا خلاف السُّنَّة، السُّنَّة قال: " ولا تَرمُوا حتى تطلع الشَّمس " هذا نص حديث رسول الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-. إذًا: هذا الانتقال، وهذا التَّبكير، وهذا الدَّفع؛ خشية حطمة الناس -لا لشيءٍ آخر-. نعم.
المشعَر الحرام: أيضًا الوقوف عنده سُنَّة -لكن قد يكون ذلك صعبًا-؛ حتى يكبِّر الله -سبحانهُ وتعالى- عند المشعَر الحرام، هذا مِن السُّنَن، وليس مِن واجبات الحجِّ -فضلاً عن أن يكون من أركانه-. ويظل إلى أن ينتشر الضِّياء -قبل طلوع الشَّمس-، يعني: يُصلِّي الفجر ويبدأ بالحركة، لكن قبل أن يُباشرَها؛ يبقى يدعو ربَّه حتى ينتشر الضياء قبل طلوع الشَّمس، فإذا طلعت الشَّمس؛ يبدأ متوجِّهًا إلى (مِنى).
كما قلنا: الذهاب إلى المشْعر الحرام سُنَّة، ولكنه ليس فرضًا ولا رُكنًا؛ قال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " وقفتُ ها هُنا، و(جَمْعٌ) " جَمْعٌ: يعني (مُزدَلِفة) " و(جَمْعٌ) كلُّها مَوقِف " كل مكان، والمشعر الحرام جزء من (مُزدَلِفة)، يعني: لو وقفتَ في المشعَر الحرام أو في غيره؛ فهذا كلُّه وقوف شرعيٌّ، وهو قد فَعَله، وأذِن به، وتوسع فيه رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِه وسلَّم-.
يوم العاشر: وهو يوم النَّحْر. اليوم الثَّامن: (يوم التَّروِية)، اليوم التاسع: (يوم عَرَفة)، اليوم العاشر: (يوم النَّحر)؛ وهو (يوم العيد).
تبدأ بالدَّفع من (مُزدَلِفة) قبل طلوع الشمس -كما قُلنا- بالسَّكينة والوقار، كما دخلتها بسكينةٍ ووقار؛ تخرج منها بسكينةٍ ووقار، مُتوجِّهًا إلى (مِنى).
طبعًا في (يوم العيد) نعجِّل بذِكر شيء: في (يوم العِيد) ما سئل رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن شيء -قُدِّم ولا أُخِّر-؛ إلا قال: " لا حَرَج، لا حَرَجَ"، أو: " افعلْ ولا حَرَج ".
لذلك: بعض النَّاس يبدؤون بالطَّواف قبل (مِنى)؛ هذا لا حَرج، وإن كانت السُّنَّة أن يبدأ بـ(مِنى) ليرمي الجمرة قبل الطَّواف والسَّعي، لكن إن فعلَ؛ فلا مانع ولا حرج بنصِّ حديث رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
أثناء مرورِه: يَمُرُّ بوادٍ اسمُه: (وادي مُحسِّر). مِن السُّنَّة عند المرور بـ(وادي مُحسِّر): الإسراع. ويُقال -وهذا لعله القول الرَّاجح-: أن (وادي مُحسِّر) هو الموضع الذي كان فيه ذِكْرُ خَبرِ الفيل، ورميِ الطَّير الأبابيل لهؤلاء الفِيَلة الذين قام أهلُها وأصحابُها ليرموا بها الكعبة، ونصرهم الله -تباركَ وتَعالى-كما هو معروف في القرآن الكريم-.
وهو في مرورِه: لا يكفُّ عن الدُّعاء، والتَّلبيَة، والتَّهليل، والتَّكبير -كما ذكرنا-، إلى أن يَصِلَ عند (جمرة العَقَبة) -كما قلنا-، وهو أول عملٍ من أعمال (يوم العيد).
فإذا وقف عند (العَقَبة): يقطع التَّلبيَة، فيقف عند (الجَمْرة) جاعلاً (مِنى) عن يمينِه، و(مكَّة) عن يسارِه، ثم يرمي (جَمرة العَقَبة) سَبعَ حصَيات. سبع حصيات: يعني الحبة أو الحصاة مثل الحِمِّصة -كما نقول باللَّهجة العامية: (مثل حبَّة الحمُّص)، وفي اللغة العربية: (الحِمِّص)-. فيرميها بسَبع حصيات كالحِمِّصة. طبعًا: ليس عندنا ميزان دقيق نقول: هذي حمِّصة أصلية كبيرة صغيرة! الأمر يقدَّر تقديرًا. لكن (مش) الواحد يأتي بدبش وصخر وقطع حجريَّة عظيمة! كما رأينا بعض النَّاس يرمون بالأحذية.. وبما أشبه ذلك!! هذا غلط! وهذا ليس من السُّنَّة! هذا مِن الغُلُوِّ. الأمرُ أصلُه -كلُّه- تعبديٌّ؛ فلا تتخيَّل أن هذه الحصا إذا كبرت تكون أعظم! لا؛ إذا وافقتَ فيها السُّنَّة؛ تكون أعظم، ولو كان خيرًا لسبقنا رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-. نعم.
الأصل عندَ الرَّمي: أن تحرص على الرَّمي في الحوضِ. والآن -الحمدُ لله- الحوض -مَن لم يعرف؛ فليعرف-: الحوض -الآن- موسَّع، وصار له طرق داخلة، وطرق خارجة، يستطيع الحاج أن يصلها بكل يُسر، وبكل سرعة؛ بل يستطيع أن يرمي وهو واقف على طرف الحوض! بينما ذلك في السَّنوات الماضية-قبل ثلاث سنوات قبل التَّوسعة-؛ كان الأمر ذا حرج عظيم، وكانت تقع -هنالك- مقتلة عُظمى؛ لكن -الآن-الحمد لله- تيسَّرت الأمور، وصار الحاجُّ يستطيع أن يرمي بسهولةٍ بنفسِه؛ لذلك أرى أن التوسُّع في التَّوكيل -الآن-، في موضوع التَّوكيل.. واحد عنده زوجته.. عنده أمُّه.. عنده أختُه.. عنده ابنتُه؛ يقول لها: (اجلسي أنا أتوكَّل عنك)! هذا خطأ! التَّوكيل إذا وُجد ضرورة مُلحَّة، ليس أي ضرورة، ضرورة ملحَّة. لكن الواقع الحالي ليس فيه مثل هذه الضَّرورة -لا في قليلٍ، ولا في كثيرٍ-.
إذا انتهى من الرَّمي: يذبح الهَدْي؛ الهَدْي السَّمين، الصَّحيح، الخالي من العيوب، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فيذبحُه. ومِن السُّنَّة: أن يقف على الذَّبح بنفسِه، وأن يُباشرَه بنفسه، إذا استطاع أن يذبح بيده؛ فليذبحْ، هكذا فعل رسول الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-. ثم بعد ذلك: يحلق شعرَ رأسِه، والحَلْق أفضل مِن التَّقصير. الحلق يكون بـ(الموسَى) -ما نسمِّيه باللَّهجة العامية: (المُوس)-، الحلْق يكون بالموسَى، والتَّقصير يكون بما هو أقل مِن الموسى، أن يكون للشَّعر أصول.
أمَّا ما يفعله بعض الحُجَّاج -اليوم-: يأتي بمقص صغير، يأخذ من هنا قطعة، ومن هنا قطعة، ومن هنا قطعة... هذا ليس له أصل في السُّنَّة، هذا أشبه ما يكون بفعل النِّساء! المرأة هي التي تقصُّ قدر الأُنملة من رأسها، الآن قدر الأنملة؛ صار لكثير من الرِّجال -وللأسف الشديد!-.
السُّنَّة -إذا أردت التَّقصير-: تقصِّر شعرك كلَّه -من كل أطرافِه-، والأفضل: الحلْق؛ الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- قال: " اللهمَّ! اغفِر للمحلِّقين، اللهمَّ! اغفر للمُحلِّقين، اللهمَّ! اغْفِر للمُحلِّقين "، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصِّرين" -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- . نعم.
بعد رمي (جمرة العَقَبة): يكون المحرِم قد حلَّ الإحلالَ أو (التَّحلُّل الأصغر).
و(التَّحلُّل الأصغر): هو الذي أحلَّ الله له به كل شيء إلا النِّساء، وهذا يُسمَّى: (التَّحلُّل الأول). وبعض العلماء يشترط مع الرَّمي للتَّحلل الأول: الحلْق والتَّقصير. قالوا: لا بُد أن يفعل فِعلين ليس فعلًا واحدًا. وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه بالرَّمي وحده؛ يكون قد حلَّ التَّحلُّلَ الأوَّل.
بعد أن يتحلَّل (التَّحلُّل الأوَّل): يُسَنُّ له أن يتنظَّف ويتطيَّب. يعني: مضى عليه قريب من يومين، وهو في عمل، وفي عُسر.. مع أنه يستطيع في (يوم عَرَفة) أن يغتسل، ويستطيع أن يغيِّر الإزار والرِّداء. طبعًا نحن لم نذكر -وهذا الذي فوَّته علينا أنه من البدَهيات-: أن الحاج إذا أحرم ينزِعُ كلَّ ثيابِه؛ إلا إزارًا ورداءً يقي فيهما عورَتَه، ويتَّقي بهما الحرَّ والقرَّ، لا يلبس شيئًا، غير غطاء يضعُه على نصفِه الأعلى، وآخر يضعه على نصفِه الأسفل. أول أيام (مِنى)، وأثناء يوم (عَرَفة) يستطيع أن يغيِّر، يستطيع أن يغتسل، لكن؛ لا يتطيَّب.
بعض النَّاس تسأل عن معجون الأسنان.. بعض النَّاس تسأل عن الصَّابون الذي فيها شيء من العِطر، هذا -معجون الأسنان، أو الصَّابون- لا يُسمَّى طِيبًا -لا في لغةٍ، ولا في عُرْف-، وخاصة الصَّابون أن الرائحة القليلة التي فيه؛ تذهب مع غَسل المادة -مباشرة-؛ فهذا لا بأس به -إن شاء الله-تعالى-.
إذًا: بعد أن يتحلَّل، ويتنظَّف، ويتطيَّب؛ يتوجَّه إلى مكة إلى المسجد الحرام؛ ليطوف (طواف الإفاضَة)، و(طواف الإفاضَة) رُكنٌ لا يتمُّ الحجُّ إلى به.
كما قلنا: لا نعرف في أركان الحجِّ ركنًا يُستغنى عنه، أو يتساهلُ فيه، أو يُتسامَح لبعض النَّاس عنه، أو يؤذن لهم بتَركه؛ هذا مِن أعظم الأدلة على أن (مُزدَلِفة) والمبيت بها، وصلاة الفجر فيها ليس ركنًا. نعم.
فيطوف (طواف الإفاضَة)، وبعد ذلك يَسعى بين (الصَّفا) و(المروَة). والسَّعي بين (الصَّفا) و(المروَة)، و(طواف الإفاضَة) للمتمتع والمُفرِد والقارِن.
بعضُ أهل العلم يقول: هذا السَّعي الثاني للقارِن والمُتمتِّع والمفرِد؛ مُستحب ليس بواجب. وبعضهم قال: واجب. وبعضهم قال: رُكن. (رُكن) لمن؟ للمتمتِّع والقارِن. بعضهم قال: لا، الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- ورد عنه الفِعل، ولم يَرد عنه الأمرُ به، وورد عن بعض الصَّحابة أنهم تركوا ولم يَسْعَوا؛ فهذا دليل.. قال بعض الصَّحابة: (فاكتفينا بسَعيِنا الأوَّل)-وهو سعيُ العُمْرة-.
مَن أخَّر سعيَه الأول إلى (يوم العيد) ليضمَّه إلى (طواف الإفاضَة)؛ يُجزئه؛ فيكون سعيُه (يوم العيد) ماذا؟ رُكنًا. أما مَن سعى السَّعي الأول مع (طواف القُدوم) -وهو طواف العُمْرة-؛ فحينئذٍ نقول له -على ما هو الرَّاجح-: أنه سُنَّة، وليس بواجب.
وأرجو التنبُّه إلى شيء -أيها الإخوة!-: أننا عندما نقول: (سُنَّة) نقول سُنَّة؛ لتُفعَل، لا نقول: (سُنَّة) لتُترك! يعني: بعض النَّاس نقول له -مثلًا-: (من السُّنَّة: إعفاء اللحية)، يقول لك: (هي سُنَّة يا شيخ!)! يعني: سُنة نتركها؟ أم سُنة نفعلها؟! هي سُنَّة لتُفعَل، لا نقول (سُنَّة) لتُترك. إذًا: إذا قلنا سُنة؛ فالسُّنَّة فعلُها. نعم؛ تركُها قد لا يكون إثمًا -أقصد: السَّعي في (يوم العيد)-، لكن؛ فِعلها -لا شكَّ، ولا ريبَ- أفضل.
كما ذكرنا: السُّنَّة في (يوم العيد) ترتيب أعمال اليوم -على ما بيَّنا-، ولكن؛ لو قُدِّم شيء، أو أُخر شيء، فكما ذكر النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- كان يقول للسَّائل: " لا حَرج، لا حرَج ". هذه أعمال اليوم العاشر.
اليوم الثَّامن: يوم (التَّروِية)، التاسع: يوم (عَرَفة)، العاشر: (يوم العيد)، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: (أيام التَّشريق).
لماذا سُميت: (أيام التَّشريق)؟ لأنها كانت تؤخَذ الذبائح -التي يذبحها الحُجَّاج-، وتقطَّع، وتملَّح، وتُشرَّق في الشَّمس، لتُجفَّف؛ ويأخذها الحُجَّاج إلى بلادهم -مَن يستطيع منهم ذلك-. مِن هنا سُمِّيت: (أيَّام التَّشريق)، والنَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: "أيام التَّشريق: أيامُ أكلٍ، وشُربٍ، وذِكرٍ لله "؛ يعني: يتوسَّع المسلم الحاج -في أيام التشريق- توسعًا أفضل من ذلك الضِّيق الذي كان هو فيه. لا أقول الضِّيق من حيث النَّفسيَّة والقُلوب، لا؛ هو في أعظم حالاتِه، لكن هو مشغول بالذِّكر، حتى لقمة الطعام التي يأكلها؛ قد يأكلها بسرعة؛ ليتفرَّغ لذِكر الله، ودعائه، والتبتُّل إليه، والتَّضرع له -سبحانهُ وتعالى-.
(يوم العيد): يرمي جمرة واحدة، وهي (الجمرة الكُبرى) بعد طلوع الشمس مباشرة.
في (أيام التَّشريق): تختلف الأوضاع. الرَّمي يكون بعد الزَّوال -بعد صلاة الظُّهر-، ويكون سبعًا سبعًا لكل جمرة؛ يبدأ مِن الصُّغرى، فالوُسطى، فالكُبرى، يرمي سَبع حصيات كلَّ جَمرة. لا يجوز أن ترميها معًا. بعض النَّاس [بيقول لك: ما أنا بدي أرميها.. أرميها مرة واحدة]! لا يجوز؛ ترميها حصاةً حصاة. نعم.
أيضًا: يكبِّر مع كل حصاة -في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني-.
إذا أراد أن يتعجَّل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] يعني: الأفضل التأخُّر، لكن إذا لم يتأخَّر؛ لا إثمَ عليه -بنص القرآن-، بِشَرط: إذا أراد أن يتعجَّل؛ يرمي في اليوم الثاني قبل غروب الشَّمس، فإذا غربت عليه شمسُ اليوم الثاني؛ وجب أن يَبِيتَ ليرميَ اليومَ الثالث؛ لتتمَّ له رمياتُ ثلاثة أيام. نعم.
بعد الرَّمي: يستقبل القِبلة، ويدعو بمِقدار سورة البقرة -هذا لمن استطاع-، وذلك: عند (الصغرى) أمامها، وعند (الوُسطى) على شمالِها تدعو، عند (الكُبرى): لا يوجد دعاء.
أيضًا: قد يقول قائل، ويسأل سائل: ما الحكمة (عند (الصغرى) أمامها، وعند (الوُسطى) على شمالِها، وعند الكُبرى لا تفعل؟)، نقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، "خُذوا عنِّي مناسِكَكُم.." هكذا فعل رسول الله؛ نفعل -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، هكذا قال؛ نقول، هكذا سكت؛ نسكُت، هكذا سكن؛ نسكُن. ليس هنالك مجال؛ إلا مجال الاستسلام التام لأمرِ ربِّ العالمين -سبحانهُ وتعالى-. نعم.
كما قلنا: (المبيت بمِنى) -ولو من غير نوم- (واجِب)، والمتساهِل فيه؛ قد يقع عليه إثمٌ؛ بل يقع عليه إِثم، وقد يُلزَم بدمٍ، كما قال ابنُ عباس: " مَن ترك نُسُكًا؛ فعليه دَم "، كل مَن ترك نسكًا بتعمُّد؛ عليه إثمٌ ودَم.
واحد جاء يسألني -مرةً-: (فعلت كذا وكذا؛ هل عليَّ دم؟) قلتُ له: (لا؛ عليك إثم)، قال: (الحمد لله)!! يعني: المهم (صاحبي وحبيبي؛ لا تقرِّب على جَيبي)! هكذا لسانُ حالِهم! كما قال بعضُ مشايخِنا: (والله لو ذبحتَ كل شِياه الدُّنيا؛ أهون مِن إثم تُوقِعه في عُنقك). لكن الناس -الآن- تتساهل -وللأسف الشديد- إلا مَن رحم الله -سبحانهُ وتعالى-.
بالنِّسبة لأيام (مِنى): الصَّلوات -كلها- تُصلَّى جمعًا مع قصرِ الرباعيَّة إلى ركعتين. هذا في أيام (مِنى) -غير اليوم الأول- في أيام (مِنى) الثلاثة.
وطبعًا الأصل استغلال هذه الأوقات بالذِّكر والعمل الصَّالح، ولو توسعنا بشيء من الطعام والشَّراب كما قال رسول الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ فهذا -لا شكَّ، ولا ريبَ- هو خير.
(طواف الوَداع) هو آخر شيء. قد يكون واحد انتهى من (مِنى)، وجلس في (مكَّة)، أو في (العزيزيَّة) -كما يقولون-، وعنده يومين أو ثلاثة -بعد انتهاء أيام الحج، وقد أتم كل شيء-، الآن بقي عليه (طواف الوَداع)، كما قال -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " لا يَنفِرَنَّ أحدُكم حتى يكونَ آخر عهدِه بالبيتِ ".
هذا الطَّواف -(طواف الوَداع)- لا يجوز أن يفعله إلا في آخر شيء؛ بحيث لا يتبعه شيءٌ آخر. أما يطوف ويذهب إلى الفندق لينام.. يطوف ويذهب ليتسوق ويشتري! هذا لا يجوز؛ لأنه لا يكون آخر عهده في (مكة) بالبيت، يكون آخر عهده بالسُّوق.. يكون آخر عهده بالمطعم.. يكون آخر عهده بالفندق.. هذا خلاف السُّنَّة، هذا لا يجوز.
لكن: فلنفرض أن مَن طاف الوداع وخرج، مرَّ في الطريق اشترى زجاجة ماء، أو اشترى طعامًا -كما يقال- (على الماشي) يأكله في الحافلة؛ هذا لا مانع منه -إن شاء الله-، ولا حرج عليه فيه.
وهذا آخر ما أعاننا الله عليه -على وجه التلخيص والاختصار-، سائلاً ربي -سبحانهُ وتعالى- لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، والهُدى والرَّشاد؛ إنه -سبحانه- ولي ذلك والقادر عليه، وصلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين. سددنا اللهُ وإياكم بالحق إلى الحق؛ إنه -سبحانه- سميعٌ مُجيب.
الأسئلة:
س/ ما الصَّحيح في حُكم (المبِيت في مُزدَلِفة)؟ وهل صحيح أن الشَّيخ الألباني -رحمه الله- كان يقول بركنيته؟
ج/ كان شيخنا -رحمه الله- يقول بركنيَّة صلاة الفجر في (مُزدَلِفة)، أما (المَبيت)؛ فكان يوجِبه. وقد ذكرنا الترجيح، والذي أخالف فيه شيخنا وأستاذنا -على إمامته وجلالته-رحمه الله-، فما تعلمنا منه إلا الاتِّباع دون التَّقليد.
شيخُنا -رحمه الله- استدلَّ على الرُّكنية بحديث: " مَن وقف مَوقِفَنا هذا، وصلَّى صلاتَنا هذه؛ فقد قَضى تَفثَه، وتَمَّ حجُّه ". هذا الحديث هو الذي يستدل بهِ شيخُنا في الموضوع. وهذا يُسمَّى -عند الفُقهاء-: (دِلالة الاقتِران)؛ هو جَعَلَ حُكم الصَّلاة؛ حُكم الوُقوف بـ(عَرَفة)؛ بدليل أنَّه ذكَرَهُما معًا. وهذا -كما قلتُ- مِن (دلالة الاقتران)؛ وهي دلالة ضعيفة -عند الأصوليِّين-، ولا يجوز أن نأخذ حُكمًا لمجرد اقترانِه بحكمٍ آخر، إلا بدليل خاص، والدَّليل الخاص الذي جعلنا لا نقبل أن تكونَ (صلاة الفجر في مُزدلفة) رُكنًا: أن الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- أذِن للضُّعفاء والعَجَزة والنِّساء بِتركها، ولو كانت رُكنًا؛ لما أمر بذلك -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-.
س/ يقول: ما الفَرق بين (جبل الرَّحمة) و(جبل عَرَفة) ؟
ج/ (جبل عَرَفة) كبير. (جبل الرَّحمة) جزء صغير منه، سُمِّي: (جبل
(أَحكَامُهُ وكيْفِيَّتُهُ)*
لفضيلةِ الشَّيخ
عَلي بنِ حَسن بن عَلي الحَلَبي
-حفظهُ اللهُ-
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله.
أما بعد:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد:
فإننا نعيش أيامًا مباركة بين يدي عشرٍ مِن ذي الحجِّة، والتي يُصادف يوم الثَّامن منها يومٌ مِن أعظمِ أعمالِ وأيَّامِ السُّنَّة؛ ذلكم أن فيه بدء الحجِّ، وبدء تطبيقِ ركنٍ من أركان الإسلام؛ كما قال الله -تباركَ وتَعالى-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] {وَمَنْ كَفَرَ}: أي مَن ترك الحجَّ وهو قادرٌ عليه؛ فقد وقع في نوعٍ من أنواع الكفر -والعياذُ باللهِ-، كما قال عمرُ -رضيَ اللهُ عنهُ-: " مَن ملَك الزَّاد والرَّاحلة ولم يحجَّ؛ فليَمُتْ إن شاءَ نصرانيًّا، أو يهوديًّا، أو مجوسيًّا، {ومَن كفر فإنَّ اللهَ غني عن العالَمين} ".
والنَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- يقول -كما في حديثِ ابن عمر-: " بُني الإسلامُ على خمسِ: شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت من استطاعَ إليه سبيلًا "، هذا من حيث الفرضُ.
أما مِن حيث السُّنَّة والفضلُ والأجر: فيقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " تابِعوا بين الحجِّ والعُمْرة؛ فإنهما يَنْفِيان الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكيرُ خَبَث الحديدِ".
وقال -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- فيما يَرويه عن ربِّه في الحديث القدسيِّ- قال: " قال اللهُ تعالى: إنَّ عبدًا أصحَحْتُ لهُ في بَدَنِه، ووسَّعتُ لهُ في رزقِه، لا يَفِدُ إليَّ كلَّ خمسة أعوام؛ لَمحْروم "، والحِرمان -هنا-: حِرمان الأجر لمن هو متيسِّرٌ له، وليس المقصود به حرمانًا من المعاصي، أو يترتَّب عليه فيها المعاصي؛ إنما هي حِرمان المزيد مِن الأجر، مِن الباب المفتوح للأجر المفسوح، والذي يتيسَّر لمن يتيسَّر له، ثم يردُّ ويرفضُه!
والنَّبـي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حـجَّ مع أصحابـه، علَّمهم الحـجَّ الكريم، وكــان يقـول: " لِتأخُذوا عنِّي مَناسِكَكُم " واللَّام -هنا-: لام الأمر؛ أي: خُذوا عنِّي مناسكَكم. وكما قال الإمامُ أبو زُرعة الرَّازي: " حجَّ مع رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أكثرُ من مائةِ ألفٍ من أصحاب رسولِ الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، كلُّهم يتتبَّع حجَّهُ، كلُّهم يتتبَّع فِعله، كلُّهم يتتبَّع هديَه -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.
والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حجَّ حجّةً قارنة؛ أي: أنه ساق معه الهَدْي، ولم يَدخل إلا مُحرِمًا، ولم يُحلَّ، وبقي على إحرامِه إلى أن رمَى (الجمرةَ الكُبرى) في (يوم العيد) -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
وحديث حجَّة النَّبي حديثٌ من طِوال الأحاديث، وقد رواه الإمامُ مسلم في صحيحِه، من حديث جابر بن عبد اللهِ -رضيَ اللهُ عنهُ-، ولو أردنا أن نسوقَ الحديثَ وشَرحَه -جملةً جملة-؛ لاقتضانا ذلك لا أقول درسًا ودرسَين وثلاثة دروس؛ بل قد يكون ذلك يقتَضِينا عشرة دُروس؛ لما في ذلك من تفصيلٍ، ومِن شروح، ومن بياناتٍ وتنبيهاتٍ ذكرها شُرَّاح هذا الحديث؛ بل إن هذا الحديثَ قد أفرده بالشَّرح والبيانِ عددٌ من علماء الإسلام -من قبلُ ومِن بعد-.
ومع أن النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حجَّ قارنًا؛ إلا أنه فضَّل (حجَّ التَّمتُّع). و(حجُّ التَّمتُّع): هو الحجُّ الذي يَدخل به صاحبُه بعُمْرة، ثم يتحلَّل إلى يوم الثَّامن، ثم يُهِلُّ بالحجِّ من مكانِه، مُتوجِّهًا إلى (مِنى) في اليوم الثَّامن، وهو يوم (التَّروِية) -على ما سنبيِّن-.
فقال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-حاضًّا، وحاثًّا، ومبيِّنًا فضل (التَّمتُّع)-، قال: " لو استقبلتُ مِن أمري ما استَدْبَرتُ؛ لما سُقتُ الهَدْيَ، ولجعلتُها عُمْرة "؛ لأن مِن الفوارق بين القارِن والمُتمتِّع: أن القارِن يَسوقُ الهَدْي معه، يسوق الذَّبيحة، يسوقُ الأنعام التي يُريد أن ينحرَها في يوم النَّحْر؛ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، (يوم العيد) هو يوم النَّحْر؛ فقال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- " لو استقبلتُ مِن أمري ما استدبرتُ؛ لما سُقتُ الهَدْي، ولجعلتُها عُمرَة ".
جاء أحدُ الصَّحابة يَستفسِر، ويَستفصِل، ويَسأل رسولَ الله-عليهِ الصَّلاة والسَّلام- قال: يا رسول الله! -وقد سمعَه يقول: " دخلت العُمْرة في الحجِّ، دخلت العُمْرة في الحجِّ "، وشبَّك بين أصابعه-عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، قال: يا رسول الله! ألِعامنا هذا؟ أو لأَبَدِ الأبَد؟ قال: " بل لِأَبَدِ الأَبَدِ ".
هذا دفع بعضَ أهل العلم يذهب إلى أن (حجَّ التَّمتُّع) واجب، وإن كان في المسألة خلاف بين أهل العلم؛ لكن الحقيقة: أن دليل القائلين بالوُجوب؛ ليس هيِّنًا، وليس سهلاً، وإن كُنا نصحِّح -لا شكَّ، ولا ريبَ- (حجَّ القارِن)، و(حجَّ المُفرِد)، كما نُقل ذلك عن عددٍ من الصَّحابة الكبار -رضيَ اللهُ عنهُم- بعد وفاة رسول اللهِ الكريم -عليه أفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم-.
الحجُّ -كما قلت- نستطيع أن نشرحه في مجلس، نستطيع أن نشرحَه بدقيقة، نستطيع أن نشرحه بعشر ساعات؛ لأن تفاصيل الحجِّ وتداخلاتِها كثيرة، لكن -كما قيل-ويُروَى حديثًا ولا يَصِح، لكنه بمعنى المثلِ الجيِّد-: (خيرُ الأمورِ أوساطُها).
من هذا الباب: نذكر صِفة الحجِّ على وجهِ الاختصار:
في يوم الثَّامن يُسمَّى يوم (التَّروِية)، وسُمي يوم (التَّروِية)؛ لأن الصَّحابة كانوا يجلبون الماء إلى (مِنى) حتى يكتفوا به في إقامتهم في (مِنى) أيام الحجِّ؛ ليرتووا به، ويُرَوُّوا به إخوانَهم ومَن معهم.
في يوم (التَّروِية) -وهو اليوم الثَّامن-: يُستحبُّ الاغتسال والتطيُّب قبل الإحرام. طبعًا: نحن سنتكلم عن الحجِّ، أما (العُمْرة) فأظن أن الأكثرين يعرِفونها؛ فليست العُمْرة -من حيث العُموم- إلا الإحرام والطَّواف والسَّعي والحلْق؛ هذه هي أهم أمورِ العُمْرة، بينها سُننٌ -سنذكرها في معرض صِفة الحجِّ-.
فـ(الحجُّ المُتمتِّع): في أي يوم يدخله مِن ميقاتِه، يعني: ينوي عُمرةً، ويُهلُّ بعُمرة، يقول: (لبَّيكَ اللهمَّ! بِعُمرةٍ، مُتمتِّعًا فيها إلى الحجِّ)؛ لأنه بعد أن ينتهي العُمْرة؛ سيتمتَّع بما أحلهُ اللهُ له مما كان قد حَرُم عليه قبل الإحرامِ -كالطِّيب والزَّوجة وغير ذلك مِن المباحات-.
وله أن يقول: (اللهمَّ! مَـحِلِّي حيث حبستَني)، لا يقول: (مَحَلِّي) -بفتحِ الحاء-؛ وإنما يقول: (مَحِلِّي). ما الفَرق بين (المَحَلِّ) و(المَحِلِّ)؟ المَحَلُّ: هو المكان، و(المَحِلُّ): هو موضعُ الحِلِّ، الموضِع الذي يتحلَّل منه المُحرِم إذا أصابه بأسٌ، أو مرضٌ، أو ضيمٌ. فمَن قال: (اللهمَّ! مَـحِلِّي حيث حبستَني)، ثم لم يُكمِل حجَّهُ؛ لا يجب عليه دمُ الإحْصار: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} [البقرة: 196]، فالذي يشترط مثلَ هذا الاشتراطِ؛ ليس عليه ذنب، ويقطع حجَّه إلى أن يُيسِّر الله له الحجَّ الآخر.
ثم يتوجَّه مُلبيًّا: (لبَّيكَ اللهمَّ! لبَّيكَ لا شريك لك لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمة لك والمُلك، لا شريكَ لك)؛ هذه أشهر أنواع التَّلبيَة؛ لكن كان الصَّحابة يخلطون تلبيتَهم بالتَّهليل والتَّكبير -هذا من السُّنن التي لا نعرفها ولا يعرفها الكثيرون-: (اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلا اللهُ)، وأيضًا: كانوا يُلبُّون: (لبَّيكَ إلهَ الحقِّ)، (لبَّيكَ ذا المعارِج، لبَّيكَ ذا الفواضِل، لبَّيكَ ذا الكوامِل، لبَّيكَ وسَعدَيْك، والخيرُ في يَديْك، والرَّغباء إليكَ والعمل)؛ هذه كلُّها من ألفاظ التَّلبيَة المشروعة المسنونة الواردة عن النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-.
فإذا وصل إلى بيت اللهِ الحَرام: يدخل -كما يدخل أي مصلٍّ- مُقدمًا الرِّجل اليُمنى، مُصليًّا على النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، سائلًا ربَّه الرَّحمة، ثم إذا كان وقت صلاة؛ يُصلِّي مع المسلمين، إذا كان تَعِبًا يريد الرَّاحة؛ يُصلِّي ركعتين تحية المسجد ثم يجلس، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، لكن؛ إذا كان نشيطًا، ودخل ولم يجدْ وقتَ صلاة؛ لا يُسَن له أن يصليَ تحية المسجد؛ (هنا) قال الفُقهاء: (تحية البيت الطَّواف).
(تحية البيت الطَّواف) في أي صورة؟ (تحيةُ البيت الطَّواف) في صورة واحدة: وهي صورة الدَّاخل إلى الحرَم ليبدأ بالطَّواف؛ فلا يقدِّم على الطَّواف شيئًا. لكن؛ إذا أراد الرَّاحة؛ يُصلي ركعتين تحية المسجد قبل الجلوس؛ " إذا دخل أحدُكُم المسجد؛ فلا يجلِسْ حتى يُصلِّي رَكعَتَيْن "، إذا دخل ووجد الجماعة قائمة؛ أيضًا: يُصلِّي -مباشرة- الفريضة، ولا ينتظر ولا يؤخِّر.
أما ما يتوهَّمه بعض النَّاس: مِن أن كل داخل إلى المسجد الحرام؛ فإن تحيةَ البيت عنده هي الطَّواف دون تحية المسجد؛ فهذا خطأ!
يتوجَّه إلى الحجَر الأسود، ويُشير بيده قائلًا: (بِسم الله، واللهُ أكبرُ)، ثم يبدأ بسبعة أشواط، فإذا انتهى منها؛ ذهب إلى زمزم ليشرب منها ويتضلَّع، والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- يقول: " ماء زمزم لِما شُرب له "، ثم يصلِّي ركعتين خلفَ مقام إبراهيم، {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] يقرأ في الرَّكعة الأولى: سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الرَّكعة الثانية: "سورة الإخلاص".
وبالمناسبة: هاتان السُّورتان تُسمَّيان: (سُورتي الإخلاص)، ليس -فقط- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص؛ بل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} مع الأخرى -بالتَّغليب اللغوي- تُسمَّيان: (سورتي الإخلاص).
فإذا انتهى: يذهب مباشرةً إلى (الصَّفا)، فإذا اقترب من (الصَّفا) يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْـمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، ثم يصعد على (الصَّفا)، ويحاول رؤية الكعبة. في بعض الأماكن تُرى، وإلا -يعني- التَّوسعة الجديدة، وكثرة الأعمدة تمنع، لكن؛ في بعض المواقف إذا تحرَّاها؛ يَرى. هذا في (الصَّفا). في (المروَة) لا يمكن، لا تمكن الرؤية عند (المروَة).
فإذا وقف على (الصَّفا): يدعو بأدعية -سنذكرها بعد قليل-، ثم ينزل إلى (المروَة)، ذهابه شوط وإيابُه شوط، حتى ينتهي إلى سبعة أشواط، يكون سابعها أين؟ عند (المروَة).
بعض النَّاس يظنون أن كل ذهاب وإياب شوط! وليس كذلك! بل إن كل ذهابٍ شَوط، وكل إياب شوط آخر.
فإذا انتهى من الشَّوْط السَّابع وقرأ الأذكار-كما قلت-التي سنكرِّرها الآن، وسنذكرها-بعد قليل-: فإنه مباشرة يذهب ليتحلَّل؛ حتى يكون ذلك حلالَه وتمتُّعه الشرعي.
جاء رجل إلى النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- يَستفصله عن الحِلِّ؛ يعني: ماذا أحلَّ اللهُ لنا؟ وماذا حرَّم؟ قال النَّبيُّ -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " الحلُّ كلُّه " أي: كل ما مُنعتَ منه قبل إحرامِك مما أحلَّه اللهُ لك؛ فهو مُباح عليكَ -الآن-. " الحِلُّ كلُّه ": قال بعضُ أهل العلم: " الحِلُّ كلُّه " تستلزم كل الأفعال المباحة، مستغرقةً الزمان كلَّه، والمكان كلَّه ضمن ما شرعه الله -تباركَ وتَعالى-.
في يوم الثَّامن يكون المُتمتِّع حلالاً في ضُحى اليوم: يُحرِم: (لبَّيكَ اللهمَّ! بحَجَّةٍ) -انتهينا الآن من العُمْرة، الآن الحَج-يوم الثَّامن-؛ (لبَّيكَ اللهمَّ! بحَجَّةٍ)، ثم يقول: (اللهمَّ! مَحِلِّي حيث حبَسْتَني)، ثم يتوجه ملبيًّا إلى (مِنى).
طبعًا -كما قلنا-: قبل الإحرام يُستحبُّ له الاغتسال والتطيُّب، لكن؛ يُشترط عند التطيُّب: أن لا يتضمَّخ بالطِّيب. ما معنى (التَّضمُّخ)؟ هو الإكثار مِن الطِّيب، يُستحبُّ له التطيُّب، لكن؛ مِن غير إكثار -أن يدَّهن في بَدَنِه، في كلِّ جسده، أو في شعرِه، أو في رأسه!- يعني: يأتي بالشيء اليسير.
والسُّنَّة في الإحرام بالحَجِّ -بعد هذا الغُسل والتطيُّب-: أن يكون قبل الزَّوال؛ يعني: قبل الظُّهر؛ قبل أن تزول الشَّمس من كبد السَّماء.
وأفضل ألفاظ التَّلبيَة: أن يقول: (لبَّيكَ اللهمَّ! بحجَّةٍ، لا رِياءَ فيها، ولا سُمعَة). أيضًا: إذا قالها عند العُمْرة: (لبَّيكَ اللهمَّ! بعُمْرة، لا رِياءَ فيها، ولا سُمعة)؛ يكون -لا شكَّ، ولا ريبَ- هذا هو الأفضل، وهذا هو الخير والأكمل -إن شاء اللهُ-تعالى-.
لماذا نقول: (لا رياءَ فيها، ولا سُمعة)؛ لأن موضع الحجِّ -للأسف-؛ يعني صار في النَّاس موضع مُراءاة، كما قال ذلك الشاعر -رحمهُ اللهُ- الشَّيخ خير الدِّين وانلي:
حجُّوا ولبُّوا وطافُوا كعبةَ الحرَمِ
حجُّوا ليُحْصُوه كمْ حجُّوا أو اعْتَمَروا
كأنما الحجُّ مَرمَى لُعبةِ القَدَمِ!
يعني: (والله أنا حججت مرتين)! (لا، لا؛ أنا حججت أربع مرات)! صار مفاخرة!! إذا رجع من الحج، يرى أهله -وقد يكون ذلك بوصية منه-: (حجٌّ مبرور، وسعيٌ مشكور، أهلاً وسهلًا بالحاجِّ فلان الفلاني)! وهذا قد يكون طمعَه، وقد يكون رغبتَه!
المسلم الذي يريد وجه الله والدار الآخرة يُطبِّق عملًا ما قاله بلسانِه قولًا: (لبَّيكَ اللهمَّ! بحجَّةٍ، لا رياءَ فيها، ولا سُمعة), ثم يقول: (اللهمَّ! مَحِلِّي حيث حبَسْتَني). ثم يُكثِر من التَّلبيَة -على الصفة التي ذكرناها-: (لبَّيكَ اللهمَّ! لبَّيكَ...)، ونقول: (لبَّيكَ ذا الفواضِل، لبَّيكَ ذا المعارِج) ، وأن نهلِّل، وأن نكبِّر، كل ذلك في يوم (التَّروِية) -وهو يوم الثَّامن-.
فإذا وصل إلى (مِنى): يصلي الظُّهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفَجر في (مِنى)، ويستمر مُلبِّيًا -طول اليوم- من اليوم الثَّامن حتى يوم (جمرة العَقَبة)؛ وهو (يوم العيد).
إذًا: عندنا يوم ثمانية [الذي] هو يوم (التَّروِية)، ويوم تسعة -كاملًا- [الذي] هو يوم (عَرَفة)، إلى رمي (جمرة العَقَبة) وهو (يوم العيد)، وهو ثالث أيام الحجِّ.
طبعًا: الصَّلاة تُقصَر؛ الرُّباعية -في أيام (مِنى)- تُقصَر ولا تُجمع.
قد يقول قائل: لماذا؟
نقول: أولًا: " صَلُّوا كَما رأيْتُمونِي أُصَلِّي "، ثانيا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65]. فكيف إذا كانت الصَّلاة -ها هنا- جزءًا مِن النُّسُك؟ لذلك: أهل مكة وهم مقيمون فيها، ومن كان قريبًا من (مِنى) ممن حجَّ مع رسولِ الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ صلَّى مع صَلاتِه؛ مع أنه ليس مسافرًا، قد يكون -هنالك- مُسافرون، كما قد يكون -هنالك- مُقيمون؛ الجميع صلَّوا صلاةً واحدةً؛ قَصرًا بلا جَمع.
في أيام (مِنى) يتساهل بعض النَّاس؛ فتضيعُ منهم الصَّلاة؛ فالأصل: الحرصُ على صلاة الجماعة، وبخاصة أنها أيام مباركة: " ما مِن أيامٍ العملُ الصَّالح فيهنَّ أحب إلى اللهِ مِن عَشرِ ذِي الحِجَّة "، فكيف إذاوافقت شرفَ المكان، وشَرَف الزَّمان، وشرف العَمَل؟ ثلاث درجات مِن درجات العمل الصَّالح والأجر والمثوبة مِن الله -تباركَ وتَعالى-.
أيضًا مما يتساهل فيه الناس -يقول لك: (أنا تعبان! أنا أريد أن أستريح)!-: (سُنة الفجر وصلاة الوتر)، والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حرص الحرص -كلَّه- أن لا يفوِّت ذلك -لا في حجٍّ ولا في غيره-، على خلاف في ليلة (مُزدَلِفة) -كما سنذكُره بعد قليلٍ -إن شاء الله-تعالى-.
أيضًا: يُسَنُّ له أن يُكثر من الذِّكر، وتلاوة القرآن، وشُهود مجالس العلم، والسؤال عن العلم؛ هذا كلُّه مشروع ومَسنُون؛ بل مُستحبٌّ أن يفعله الحاجُّ.
وكثيرٌ من النَّاس يتهاونون بالمبيت في (مِنى)؛ فنراهم يجلسون إلى السَّاعة الحادية عشرة.. إلى السَّاعة الثانية عشرة إلى منتصف الليل، ثم يغادرونها! المبيت: سُنَّة مؤكَّدة؛ بل ذهب بعض أهل العلم إلى الوجوب، حتى لو لم يكن معه نوم. المبيت لا يلزم منه النَّوم؛ أن تقضي ليلتك هنا؛ هذا مَبيت، لا يلزم معه أن يكونَ ثمةَ نومٌ، كما قلت: كثير من الناس يتهاون! وهذا غلط.
في يوم التاسع؛ وهو يوم (عَرَفة): يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- : "خيرُ ما قُلتُ أنا والنَّبيونَ مِن قَبلي: لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَهُ لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير"، و "خيرُ يومٍ طلعتْ عليهِ الشَّمسُ: (يوم عَرَفة)"، فيُكثر الإنسان من التَّهليل؛ من هذه الشهادة العظيمة التي قامت لها السَّماوات والأرض، والتي لم يَخلق الله الخلق إلا من أجلِها، ولم يُنزل الكتب إلا من أجلها، ولم يُرسل الرُّسُل -سبحانهُ وتعالى- إلا مِن أجلها.
فيبدأ الحُجَّاج الذين باتوا في (مِنى) يتوجَّهون إلى (عَرَفة)، متى؟ بعد طلوع الشَّمس. طبعًا: ليس بالضرورة بعدها مباشرة، من الممكن أن يكون ذلك -يعني- بعد ارتفاعها.. عند الضحى.. المهم: أن يُبكِّروا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وأن يكون توقيت خروجهم مع طلوع الشَّمس.
في الطريق: يمرُّون على (نَمِرَة): و(نَمِرَة): مكان ليس من (عَرَفة). هذا من السُّنَّة: أن ينزلوا بـ(نَمِرَة) شيئًا يَسيرًا؛ لأن الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- فعَلَ ذلك؛ وإن كان هذا -في الحقيقة- غير متيسِّر لكثير من الناس اليوم. قد يتيسَّر لبعض الحريصين -إذا كانوا مُنفرِدين، أو كانوا قِلة-؛ أما مَن كان مع حملة كبرى، أو مع مجموعة من الناس؛ لا يستطيع أن يفعل، خاصة مع كثرة الزحام -كما تعلمون-.
فيبقى الأمر بالذِّكر، والدُّعاء، والتَّهليل، والتَّسبيح، وقراءة القرآن في هذا اليوم العظيم، اليوم المبارَك، اليوم الذي لا يومَ مِثله؛ (يوم عَرَفة)، إلى أن تغيبَ الشَّمس.
لكن: أثناء النهار عندنا ظهر، وعندنا عصر؛ نصلِّيهما جمعًا وقصرًا، جمع تقديم، نُصلِّي الصلاتين: الظُّهر والعصر، حتى لو كان يوم جمعة؛ لا تُصلَّى الجمعة؛ وإنما يُصلَّى الظُّهر مع العصر، مجموعتين جمعَ تقديم.
طبعًا: هنالك خُطبة يَخطب بها إمامُ المسلمين -أو مَن وَكلهُ إمام المسلمن- في الناس، في مسجد (نَمِرَة)؛ يُذكِّر فيها المسلمين بالعقيدة الصَّحيحة.. بالعلم النافع.. بالعمل الصَّالح.. بالإخلاص لله.. بالاتِّباع لسُنَّة رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، يوجِّههم إلى مكارم الأخلاق، وإلى محاسن الخِلال، وإلى أفاضل الشِّيَم -مما ينبغي على المسلم أن يسلكَه وأن يتَّبعَه-.
ثم بعد ذلك: يبقى مستمرًّا متضرعًا إلى الله، رافعًا يديه في الدُّعاء، مُتبتِّلًا، خاشعًا، متبذِّلًا إلى أن تغربَ الشَّمس.
الوقوف في (عَرَفة) إلى غروب الشَّمس.
سألني سائل -بالأمسِ القريب-، قال: لو أن أحدًا خرج قبل الغروب؛ يجوز أم لا يجوز؟
نقول: يجوز.
لكن: الواقع الحالي -الآن-: أن الخروج من (عَرَفة) -قبل غروب الشَّمس- ممنوع، ليس من باب أنه لا يجوز؛ ولكن من باب تنظيم الطَّريق، وتنظيم السَّير، وتنظيم الحافلات -التي لا أقول هي بالمئات؛ بل بالآلاف؛ بل بعشرات الآلاف!-. فجزى اللهُ خيرًا أولياء أمور تلك البلاد الطَّيبة على ما يقدِّمونه من جُهد وجِهاد وبذل -لا يعلم حقيقتَه وقدْرَه إلا ربُّ العالمين-سبحانهُ وتعالى-. نعم.
فأثناء يوم (عَرَفة): يُسَنُّ الإحسان إلى الحُجَّاج بـ: (إطعام الطعام، وسقي الماء)؛ فقد ورد: أن هذا (بِرُّ الحجِّ)؛ " بِرُّ الحج: إطعام الطعام، وسقيُ الماءِ " -أو كما قال-عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ حتى يشعر الإنسان بحقيقةِ الأخوَّة؛ أنتَ تأكل، وتشرب، وتتمتَّع، قد يوجد غيرُك ليس عنده شيءٌ مِن ذلك! فحتى يكون منك مشاركة؛ تشعر بها بحقيقة ما قاله النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " والذي نفسي بيدِه؛ لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفسِه " تفعل هذا؛ لتنال هذا البِرَّ، وهذا الأجر، وهذه المثوبة.
كثيرٌ مِن الناس يَذهبون إلى الجبَل؛ ما يُسمُّونه بـ (جبل الرَّحمة)، يتكلَّفون الصعودَ عليه، وبعضهم يتصوَّر قُربَه، أو يتصوَّر قُرب الجمَل المُزيَّن.. وما أشبه! هذا كلُّه لا أصلَ له في السُّنَّة، أي دقيقة تفوِّتها فيما لا فائدة منه في ذلك اليوم العظيم الجليل الكبير، تُفوِّتها من أجرِك، ومِن ذِكرك لله، ومِن تسبيحِك، ومن تعظيمِك، ومن دعائِك، ومن خشيتك؟! "احرِصْ على ما ينفعُك"، ولن ينفعك شيءٌ بقدر ما ينفعك عملك الصَّالح -في هذا اليوم العظيم-. نعم.
فكثير من الناس عندما تغرب الشَّمس يتذكَّرون! يقولون: (أضعنا يومَنا)! لكن ما فائدة ذلك، كما قال الله -تعالى-: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] لا ينفع الندم! نعم.
الآن: إذا انتهينا من (عرفات)؛ نتوجَّه إلى (مُزدَلِفة).
إيش معنى: (مُزدَلِفة)؟ يُقال: (فلان ازدَلَف الطريق) يعني: (انتقل مِن.. إلى..).
(مُزدَلِفة): هي مكان الانطلاق مِن (عَرَفة) إلى المكان الآخر الذي فيه ركن أو واجب آخر مِن واجبات الحجِّ، وهو: المَبيت في (مُزدَلِفة). فيكون ذلك الخروج بسَكينة ووقارٍ . وإن كنَّا في حجِّ هذه الأيام؛ لا نرى سكينةً ولا نرى وقارًا! للأسف! في ليلة الخروج والنَّفرة مِن (عرَفة) إلى (مُزدَلِفة)؛ تكون الحافلات في سِباق -كأنه سباق الموت-للأسف-، مع شدة ما يقوم به رجالُ الأمن -جزاهم الله [خيرًا]-، وتنظيم الطريق -حتى الكشَّافة والمتبرِّعون- مِن تنظيم، ومِن تسهيل، ومن تيسير..-؛ لكن الأمر لا يطاق إلا برحمةٍ مِن الله -سبحانه وتعالى-. الله هو الذي يُنزِّل رحمتَه على عبادِه بأن تنتهي هذه الليلة، وأن ينتهي هذا الانتقال مِن (عرفَة) إلى (مزدَلِفة) على خيرٍ وبركة. نعم.
إذا وصلنا إلى (مُزدَلِفة)؛ الأصل: أن نصلِّي المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا بأذان واحد وإقامتين. هكذا الجمع-طبعًا- دائمًا؛ يكون أذان واحد، ولكن؛ معه إقامتان. وذلك قبل أن نتهيأ للجلوس -مِن باب المسارعة-، وطبعًا يكون جمع تقديمٍ، مباشرة إذا وصلنا؛ نصلِّي جمع تقديم؛ الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- صلَّى جمعَ تقديم، ولكن؛ أكثر الحُجَّاج يَصِلون متأخِّرين؛ فيجوز لهم -من باب العذر- أن يصلوها جمع تأخير، وأما السُّنَّة أن يُصلَّى جمعَ تقديم.
هنا نصل إلى ما وعدنا من الجواب عليه في موضوع صلاة الوتر في (مُزدَلِفة):
المنقول عن الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- أنه جمعَ وقصَر ونام، هل صلى الوتر أم لم يصلِّ؟
اختلف أهل العلم، وأدلتهم مُتقاربة، اجتهاديَّة، مَبنية على القرائن. الذين قالوا أنه صلَّى الوِتر قالوا: هي جَمع وقَصر -كأي صلاة، وكأي سفر-، والرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- كان يحافظ على وِتره في كلِّ أحوالِه، ولم يكن يُفوِّته، فما الفرقُ بين هذا وبين غيرِه؟ الذين قالوا أنه لا يصلِّي؛ عكسوا الأمر؛ ماذا قالوا؟ قالوا: هذا حجٌّ، له أحكامه الخاصة، وله ظروفُه الخاصة، لو كان صلَّى الوتر؛ لنُقِل، فلما لم يُنقَل؛ دلَّ أنه لم يُفعَل.
فأنا أقول: مَن فعل -ممن هيأه الله للحجِّ والإكثار من الحج-: إذا فعل تارةً، وترك تارة؛ سيوافق السُّنَّة -بإذن الله-تباركَ وتَعالى-. أمَّا مَن لم يفعل، أو مَن لم يحج إلا حجة واحدة أولى؛ فالأقرب إلى السُّنَّة -عندي-: أنه لا يصلي الوِتر؛ لأن أحكام الحجِّ غير أحكام الإقامة في بلاد المسلمين.
ثم -كما قُلنا- بعد أن صلَّى المغرب والعشاء؛ يُسارِع إلى النَّوم.
كثير من الناس يَقضون ليلة (مُزدَلِفة) بالبحث عن الحِجارة؛ حجارة يرمون بها في اليوم التَّالي؛ تراهم يُجمِّعونها، ويسهرون عليها! وبعضهم ينظِّفها! وبعضُهم أعدَّ لها كيسًا خاصًّا مرتَّبًا مهذَّبًا! هذا -كلُّه- من التكلُّف!! الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- لم يُنقل عنه أنه التقطَ الحصيات، أو التُقِطت له في (مُزدَلِفة)؛ وإنما التُقِطت له في (مِنى). نعم؛ أنا أعلم أنه قد ورد عن بعض الصَّحابة أنه التَقط حصياتِه من (مُزدَلِفة)، لكن مِن غير اعتقاد أنَّ هذا الأفضل، مِن غير أن يكون ذلك شُغلاً له عن السُّنَّة؛ في التَّعجيل والتَّبكير والرَّاحة؛ استعدادًا لليوم العاشِر وهو يوم الحجِّ الأكبر؛ اليوم الذي فيه أكثر أعمال الحجِّ -في اليوم العاشر-، فيه شيء مِن المشقة، إذا لم تكنْ مُرتاحًا؛ ستَتْعَب وتُتعِب. لذلك: نام النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- بعد الصَّلاة مباشرة؛ ليهيئ نفسه -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- ليوم الحجِّ الأكبر. نعم.
المبيت في (مُزدَلِفة) واجب، وبعض أهل العلم ذهب إلى أنه ركن، وبعض أهل العلم قال: المبيت واجب، والرُّكن: صلاة الفجر في (مُزدَلِفة).
والذي أراه: أن أرجح الأقوال: أن المبيتَ واجب، وأن صلاة الفجر واجبة، وليست رُكنًا؛ لأنه لا يُعرف في الحجِّ ترخُّصٌ بِرُكنٍ. هل رأينا من رُخِّص له تركُ يومِ (عَرَفة)، ترك الوقوف في (عَرَفة)؟ لا يُعلم. هل رأينا من رُخِّص له ترك (طواف الإفاضَة)؟ لا نعلم. هكذا الأركان.
لكن؛ في صلاة الفجر في (مُزدَلِفة)، وفي المبيت في (مُزدَلِفة): الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- رخَّص للضعفاء من الرِّجال، والضُّعفاء من النِّساء أن يَدفعوا بعد منتصفِ الليل؛ يذهبوا بعد منتصف الليل؛ لينتظروا الصباح؛ " خشية حَطمة الناس "، الحديث يقول: " خشية حَطَمة الناس "؛ يعني: الناس وهم خارجون باندفاع؛ خشية أن يصاب هؤلاء الضعفاء -مِن امرأة.. مِن شيخ.. من عجوز.. مِن ضعيف.. من مريض.. مِن كسِير.. مِن عَرِج-، يعني: يكون لهم وضعُهم، ويخرجون عن هذا الزِّحام، وعن هذه الحَطَمة.
ولكن السُّنَّة: انتظار طلوع الشَّمس حتى تُرمَى (جمرة العَقَبة).
نحن نرى -الآن- في الحجِّ أناسًا يَدفعون بعد منتصف الليل -ونحن في طريقنا إلى (مِنى)-مثلاً-أو إلى الحرَم- نَراهم قد انتهَوا! حالِقين! لابِسين! رمَوا الجمرةَ! وطافوا! وسَعَوا! وتطيَّبوا... وممكن أن بعضهم فعل شيئًا آخر!! وو.. إلى آخر هذه الأمور! حقيقة: هذا خلاف السُّنَّة، السُّنَّة قال: " ولا تَرمُوا حتى تطلع الشَّمس " هذا نص حديث رسول الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-. إذًا: هذا الانتقال، وهذا التَّبكير، وهذا الدَّفع؛ خشية حطمة الناس -لا لشيءٍ آخر-. نعم.
المشعَر الحرام: أيضًا الوقوف عنده سُنَّة -لكن قد يكون ذلك صعبًا-؛ حتى يكبِّر الله -سبحانهُ وتعالى- عند المشعَر الحرام، هذا مِن السُّنَن، وليس مِن واجبات الحجِّ -فضلاً عن أن يكون من أركانه-. ويظل إلى أن ينتشر الضِّياء -قبل طلوع الشَّمس-، يعني: يُصلِّي الفجر ويبدأ بالحركة، لكن قبل أن يُباشرَها؛ يبقى يدعو ربَّه حتى ينتشر الضياء قبل طلوع الشَّمس، فإذا طلعت الشَّمس؛ يبدأ متوجِّهًا إلى (مِنى).
كما قلنا: الذهاب إلى المشْعر الحرام سُنَّة، ولكنه ليس فرضًا ولا رُكنًا؛ قال النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " وقفتُ ها هُنا، و(جَمْعٌ) " جَمْعٌ: يعني (مُزدَلِفة) " و(جَمْعٌ) كلُّها مَوقِف " كل مكان، والمشعر الحرام جزء من (مُزدَلِفة)، يعني: لو وقفتَ في المشعَر الحرام أو في غيره؛ فهذا كلُّه وقوف شرعيٌّ، وهو قد فَعَله، وأذِن به، وتوسع فيه رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِه وسلَّم-.
يوم العاشر: وهو يوم النَّحْر. اليوم الثَّامن: (يوم التَّروِية)، اليوم التاسع: (يوم عَرَفة)، اليوم العاشر: (يوم النَّحر)؛ وهو (يوم العيد).
تبدأ بالدَّفع من (مُزدَلِفة) قبل طلوع الشمس -كما قُلنا- بالسَّكينة والوقار، كما دخلتها بسكينةٍ ووقار؛ تخرج منها بسكينةٍ ووقار، مُتوجِّهًا إلى (مِنى).
طبعًا في (يوم العيد) نعجِّل بذِكر شيء: في (يوم العِيد) ما سئل رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن شيء -قُدِّم ولا أُخِّر-؛ إلا قال: " لا حَرَج، لا حَرَجَ"، أو: " افعلْ ولا حَرَج ".
لذلك: بعض النَّاس يبدؤون بالطَّواف قبل (مِنى)؛ هذا لا حَرج، وإن كانت السُّنَّة أن يبدأ بـ(مِنى) ليرمي الجمرة قبل الطَّواف والسَّعي، لكن إن فعلَ؛ فلا مانع ولا حرج بنصِّ حديث رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
أثناء مرورِه: يَمُرُّ بوادٍ اسمُه: (وادي مُحسِّر). مِن السُّنَّة عند المرور بـ(وادي مُحسِّر): الإسراع. ويُقال -وهذا لعله القول الرَّاجح-: أن (وادي مُحسِّر) هو الموضع الذي كان فيه ذِكْرُ خَبرِ الفيل، ورميِ الطَّير الأبابيل لهؤلاء الفِيَلة الذين قام أهلُها وأصحابُها ليرموا بها الكعبة، ونصرهم الله -تباركَ وتَعالى-كما هو معروف في القرآن الكريم-.
وهو في مرورِه: لا يكفُّ عن الدُّعاء، والتَّلبيَة، والتَّهليل، والتَّكبير -كما ذكرنا-، إلى أن يَصِلَ عند (جمرة العَقَبة) -كما قلنا-، وهو أول عملٍ من أعمال (يوم العيد).
فإذا وقف عند (العَقَبة): يقطع التَّلبيَة، فيقف عند (الجَمْرة) جاعلاً (مِنى) عن يمينِه، و(مكَّة) عن يسارِه، ثم يرمي (جَمرة العَقَبة) سَبعَ حصَيات. سبع حصيات: يعني الحبة أو الحصاة مثل الحِمِّصة -كما نقول باللَّهجة العامية: (مثل حبَّة الحمُّص)، وفي اللغة العربية: (الحِمِّص)-. فيرميها بسَبع حصيات كالحِمِّصة. طبعًا: ليس عندنا ميزان دقيق نقول: هذي حمِّصة أصلية كبيرة صغيرة! الأمر يقدَّر تقديرًا. لكن (مش) الواحد يأتي بدبش وصخر وقطع حجريَّة عظيمة! كما رأينا بعض النَّاس يرمون بالأحذية.. وبما أشبه ذلك!! هذا غلط! وهذا ليس من السُّنَّة! هذا مِن الغُلُوِّ. الأمرُ أصلُه -كلُّه- تعبديٌّ؛ فلا تتخيَّل أن هذه الحصا إذا كبرت تكون أعظم! لا؛ إذا وافقتَ فيها السُّنَّة؛ تكون أعظم، ولو كان خيرًا لسبقنا رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-. نعم.
الأصل عندَ الرَّمي: أن تحرص على الرَّمي في الحوضِ. والآن -الحمدُ لله- الحوض -مَن لم يعرف؛ فليعرف-: الحوض -الآن- موسَّع، وصار له طرق داخلة، وطرق خارجة، يستطيع الحاج أن يصلها بكل يُسر، وبكل سرعة؛ بل يستطيع أن يرمي وهو واقف على طرف الحوض! بينما ذلك في السَّنوات الماضية-قبل ثلاث سنوات قبل التَّوسعة-؛ كان الأمر ذا حرج عظيم، وكانت تقع -هنالك- مقتلة عُظمى؛ لكن -الآن-الحمد لله- تيسَّرت الأمور، وصار الحاجُّ يستطيع أن يرمي بسهولةٍ بنفسِه؛ لذلك أرى أن التوسُّع في التَّوكيل -الآن-، في موضوع التَّوكيل.. واحد عنده زوجته.. عنده أمُّه.. عنده أختُه.. عنده ابنتُه؛ يقول لها: (اجلسي أنا أتوكَّل عنك)! هذا خطأ! التَّوكيل إذا وُجد ضرورة مُلحَّة، ليس أي ضرورة، ضرورة ملحَّة. لكن الواقع الحالي ليس فيه مثل هذه الضَّرورة -لا في قليلٍ، ولا في كثيرٍ-.
إذا انتهى من الرَّمي: يذبح الهَدْي؛ الهَدْي السَّمين، الصَّحيح، الخالي من العيوب، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فيذبحُه. ومِن السُّنَّة: أن يقف على الذَّبح بنفسِه، وأن يُباشرَه بنفسه، إذا استطاع أن يذبح بيده؛ فليذبحْ، هكذا فعل رسول الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-. ثم بعد ذلك: يحلق شعرَ رأسِه، والحَلْق أفضل مِن التَّقصير. الحلق يكون بـ(الموسَى) -ما نسمِّيه باللَّهجة العامية: (المُوس)-، الحلْق يكون بالموسَى، والتَّقصير يكون بما هو أقل مِن الموسى، أن يكون للشَّعر أصول.
أمَّا ما يفعله بعض الحُجَّاج -اليوم-: يأتي بمقص صغير، يأخذ من هنا قطعة، ومن هنا قطعة، ومن هنا قطعة... هذا ليس له أصل في السُّنَّة، هذا أشبه ما يكون بفعل النِّساء! المرأة هي التي تقصُّ قدر الأُنملة من رأسها، الآن قدر الأنملة؛ صار لكثير من الرِّجال -وللأسف الشديد!-.
السُّنَّة -إذا أردت التَّقصير-: تقصِّر شعرك كلَّه -من كل أطرافِه-، والأفضل: الحلْق؛ الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- قال: " اللهمَّ! اغفِر للمحلِّقين، اللهمَّ! اغفر للمُحلِّقين، اللهمَّ! اغْفِر للمُحلِّقين "، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصِّرين" -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- . نعم.
بعد رمي (جمرة العَقَبة): يكون المحرِم قد حلَّ الإحلالَ أو (التَّحلُّل الأصغر).
و(التَّحلُّل الأصغر): هو الذي أحلَّ الله له به كل شيء إلا النِّساء، وهذا يُسمَّى: (التَّحلُّل الأول). وبعض العلماء يشترط مع الرَّمي للتَّحلل الأول: الحلْق والتَّقصير. قالوا: لا بُد أن يفعل فِعلين ليس فعلًا واحدًا. وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه بالرَّمي وحده؛ يكون قد حلَّ التَّحلُّلَ الأوَّل.
بعد أن يتحلَّل (التَّحلُّل الأوَّل): يُسَنُّ له أن يتنظَّف ويتطيَّب. يعني: مضى عليه قريب من يومين، وهو في عمل، وفي عُسر.. مع أنه يستطيع في (يوم عَرَفة) أن يغتسل، ويستطيع أن يغيِّر الإزار والرِّداء. طبعًا نحن لم نذكر -وهذا الذي فوَّته علينا أنه من البدَهيات-: أن الحاج إذا أحرم ينزِعُ كلَّ ثيابِه؛ إلا إزارًا ورداءً يقي فيهما عورَتَه، ويتَّقي بهما الحرَّ والقرَّ، لا يلبس شيئًا، غير غطاء يضعُه على نصفِه الأعلى، وآخر يضعه على نصفِه الأسفل. أول أيام (مِنى)، وأثناء يوم (عَرَفة) يستطيع أن يغيِّر، يستطيع أن يغتسل، لكن؛ لا يتطيَّب.
بعض النَّاس تسأل عن معجون الأسنان.. بعض النَّاس تسأل عن الصَّابون الذي فيها شيء من العِطر، هذا -معجون الأسنان، أو الصَّابون- لا يُسمَّى طِيبًا -لا في لغةٍ، ولا في عُرْف-، وخاصة الصَّابون أن الرائحة القليلة التي فيه؛ تذهب مع غَسل المادة -مباشرة-؛ فهذا لا بأس به -إن شاء الله-تعالى-.
إذًا: بعد أن يتحلَّل، ويتنظَّف، ويتطيَّب؛ يتوجَّه إلى مكة إلى المسجد الحرام؛ ليطوف (طواف الإفاضَة)، و(طواف الإفاضَة) رُكنٌ لا يتمُّ الحجُّ إلى به.
كما قلنا: لا نعرف في أركان الحجِّ ركنًا يُستغنى عنه، أو يتساهلُ فيه، أو يُتسامَح لبعض النَّاس عنه، أو يؤذن لهم بتَركه؛ هذا مِن أعظم الأدلة على أن (مُزدَلِفة) والمبيت بها، وصلاة الفجر فيها ليس ركنًا. نعم.
فيطوف (طواف الإفاضَة)، وبعد ذلك يَسعى بين (الصَّفا) و(المروَة). والسَّعي بين (الصَّفا) و(المروَة)، و(طواف الإفاضَة) للمتمتع والمُفرِد والقارِن.
بعضُ أهل العلم يقول: هذا السَّعي الثاني للقارِن والمُتمتِّع والمفرِد؛ مُستحب ليس بواجب. وبعضهم قال: واجب. وبعضهم قال: رُكن. (رُكن) لمن؟ للمتمتِّع والقارِن. بعضهم قال: لا، الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- ورد عنه الفِعل، ولم يَرد عنه الأمرُ به، وورد عن بعض الصَّحابة أنهم تركوا ولم يَسْعَوا؛ فهذا دليل.. قال بعض الصَّحابة: (فاكتفينا بسَعيِنا الأوَّل)-وهو سعيُ العُمْرة-.
مَن أخَّر سعيَه الأول إلى (يوم العيد) ليضمَّه إلى (طواف الإفاضَة)؛ يُجزئه؛ فيكون سعيُه (يوم العيد) ماذا؟ رُكنًا. أما مَن سعى السَّعي الأول مع (طواف القُدوم) -وهو طواف العُمْرة-؛ فحينئذٍ نقول له -على ما هو الرَّاجح-: أنه سُنَّة، وليس بواجب.
وأرجو التنبُّه إلى شيء -أيها الإخوة!-: أننا عندما نقول: (سُنَّة) نقول سُنَّة؛ لتُفعَل، لا نقول: (سُنَّة) لتُترك! يعني: بعض النَّاس نقول له -مثلًا-: (من السُّنَّة: إعفاء اللحية)، يقول لك: (هي سُنَّة يا شيخ!)! يعني: سُنة نتركها؟ أم سُنة نفعلها؟! هي سُنَّة لتُفعَل، لا نقول (سُنَّة) لتُترك. إذًا: إذا قلنا سُنة؛ فالسُّنَّة فعلُها. نعم؛ تركُها قد لا يكون إثمًا -أقصد: السَّعي في (يوم العيد)-، لكن؛ فِعلها -لا شكَّ، ولا ريبَ- أفضل.
كما ذكرنا: السُّنَّة في (يوم العيد) ترتيب أعمال اليوم -على ما بيَّنا-، ولكن؛ لو قُدِّم شيء، أو أُخر شيء، فكما ذكر النَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- كان يقول للسَّائل: " لا حَرج، لا حرَج ". هذه أعمال اليوم العاشر.
اليوم الثَّامن: يوم (التَّروِية)، التاسع: يوم (عَرَفة)، العاشر: (يوم العيد)، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: (أيام التَّشريق).
لماذا سُميت: (أيام التَّشريق)؟ لأنها كانت تؤخَذ الذبائح -التي يذبحها الحُجَّاج-، وتقطَّع، وتملَّح، وتُشرَّق في الشَّمس، لتُجفَّف؛ ويأخذها الحُجَّاج إلى بلادهم -مَن يستطيع منهم ذلك-. مِن هنا سُمِّيت: (أيَّام التَّشريق)، والنَّبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: "أيام التَّشريق: أيامُ أكلٍ، وشُربٍ، وذِكرٍ لله "؛ يعني: يتوسَّع المسلم الحاج -في أيام التشريق- توسعًا أفضل من ذلك الضِّيق الذي كان هو فيه. لا أقول الضِّيق من حيث النَّفسيَّة والقُلوب، لا؛ هو في أعظم حالاتِه، لكن هو مشغول بالذِّكر، حتى لقمة الطعام التي يأكلها؛ قد يأكلها بسرعة؛ ليتفرَّغ لذِكر الله، ودعائه، والتبتُّل إليه، والتَّضرع له -سبحانهُ وتعالى-.
(يوم العيد): يرمي جمرة واحدة، وهي (الجمرة الكُبرى) بعد طلوع الشمس مباشرة.
في (أيام التَّشريق): تختلف الأوضاع. الرَّمي يكون بعد الزَّوال -بعد صلاة الظُّهر-، ويكون سبعًا سبعًا لكل جمرة؛ يبدأ مِن الصُّغرى، فالوُسطى، فالكُبرى، يرمي سَبع حصيات كلَّ جَمرة. لا يجوز أن ترميها معًا. بعض النَّاس [بيقول لك: ما أنا بدي أرميها.. أرميها مرة واحدة]! لا يجوز؛ ترميها حصاةً حصاة. نعم.
أيضًا: يكبِّر مع كل حصاة -في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني-.
إذا أراد أن يتعجَّل: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] يعني: الأفضل التأخُّر، لكن إذا لم يتأخَّر؛ لا إثمَ عليه -بنص القرآن-، بِشَرط: إذا أراد أن يتعجَّل؛ يرمي في اليوم الثاني قبل غروب الشَّمس، فإذا غربت عليه شمسُ اليوم الثاني؛ وجب أن يَبِيتَ ليرميَ اليومَ الثالث؛ لتتمَّ له رمياتُ ثلاثة أيام. نعم.
بعد الرَّمي: يستقبل القِبلة، ويدعو بمِقدار سورة البقرة -هذا لمن استطاع-، وذلك: عند (الصغرى) أمامها، وعند (الوُسطى) على شمالِها تدعو، عند (الكُبرى): لا يوجد دعاء.
أيضًا: قد يقول قائل، ويسأل سائل: ما الحكمة (عند (الصغرى) أمامها، وعند (الوُسطى) على شمالِها، وعند الكُبرى لا تفعل؟)، نقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، "خُذوا عنِّي مناسِكَكُم.." هكذا فعل رسول الله؛ نفعل -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، هكذا قال؛ نقول، هكذا سكت؛ نسكُت، هكذا سكن؛ نسكُن. ليس هنالك مجال؛ إلا مجال الاستسلام التام لأمرِ ربِّ العالمين -سبحانهُ وتعالى-. نعم.
كما قلنا: (المبيت بمِنى) -ولو من غير نوم- (واجِب)، والمتساهِل فيه؛ قد يقع عليه إثمٌ؛ بل يقع عليه إِثم، وقد يُلزَم بدمٍ، كما قال ابنُ عباس: " مَن ترك نُسُكًا؛ فعليه دَم "، كل مَن ترك نسكًا بتعمُّد؛ عليه إثمٌ ودَم.
واحد جاء يسألني -مرةً-: (فعلت كذا وكذا؛ هل عليَّ دم؟) قلتُ له: (لا؛ عليك إثم)، قال: (الحمد لله)!! يعني: المهم (صاحبي وحبيبي؛ لا تقرِّب على جَيبي)! هكذا لسانُ حالِهم! كما قال بعضُ مشايخِنا: (والله لو ذبحتَ كل شِياه الدُّنيا؛ أهون مِن إثم تُوقِعه في عُنقك). لكن الناس -الآن- تتساهل -وللأسف الشديد- إلا مَن رحم الله -سبحانهُ وتعالى-.
بالنِّسبة لأيام (مِنى): الصَّلوات -كلها- تُصلَّى جمعًا مع قصرِ الرباعيَّة إلى ركعتين. هذا في أيام (مِنى) -غير اليوم الأول- في أيام (مِنى) الثلاثة.
وطبعًا الأصل استغلال هذه الأوقات بالذِّكر والعمل الصَّالح، ولو توسعنا بشيء من الطعام والشَّراب كما قال رسول الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-؛ فهذا -لا شكَّ، ولا ريبَ- هو خير.
(طواف الوَداع) هو آخر شيء. قد يكون واحد انتهى من (مِنى)، وجلس في (مكَّة)، أو في (العزيزيَّة) -كما يقولون-، وعنده يومين أو ثلاثة -بعد انتهاء أيام الحج، وقد أتم كل شيء-، الآن بقي عليه (طواف الوَداع)، كما قال -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: " لا يَنفِرَنَّ أحدُكم حتى يكونَ آخر عهدِه بالبيتِ ".
هذا الطَّواف -(طواف الوَداع)- لا يجوز أن يفعله إلا في آخر شيء؛ بحيث لا يتبعه شيءٌ آخر. أما يطوف ويذهب إلى الفندق لينام.. يطوف ويذهب ليتسوق ويشتري! هذا لا يجوز؛ لأنه لا يكون آخر عهده في (مكة) بالبيت، يكون آخر عهده بالسُّوق.. يكون آخر عهده بالمطعم.. يكون آخر عهده بالفندق.. هذا خلاف السُّنَّة، هذا لا يجوز.
لكن: فلنفرض أن مَن طاف الوداع وخرج، مرَّ في الطريق اشترى زجاجة ماء، أو اشترى طعامًا -كما يقال- (على الماشي) يأكله في الحافلة؛ هذا لا مانع منه -إن شاء الله-، ولا حرج عليه فيه.
وهذا آخر ما أعاننا الله عليه -على وجه التلخيص والاختصار-، سائلاً ربي -سبحانهُ وتعالى- لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، والهُدى والرَّشاد؛ إنه -سبحانه- ولي ذلك والقادر عليه، وصلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين. سددنا اللهُ وإياكم بالحق إلى الحق؛ إنه -سبحانه- سميعٌ مُجيب.
الأسئلة:
س/ ما الصَّحيح في حُكم (المبِيت في مُزدَلِفة)؟ وهل صحيح أن الشَّيخ الألباني -رحمه الله- كان يقول بركنيته؟
ج/ كان شيخنا -رحمه الله- يقول بركنيَّة صلاة الفجر في (مُزدَلِفة)، أما (المَبيت)؛ فكان يوجِبه. وقد ذكرنا الترجيح، والذي أخالف فيه شيخنا وأستاذنا -على إمامته وجلالته-رحمه الله-، فما تعلمنا منه إلا الاتِّباع دون التَّقليد.
شيخُنا -رحمه الله- استدلَّ على الرُّكنية بحديث: " مَن وقف مَوقِفَنا هذا، وصلَّى صلاتَنا هذه؛ فقد قَضى تَفثَه، وتَمَّ حجُّه ". هذا الحديث هو الذي يستدل بهِ شيخُنا في الموضوع. وهذا يُسمَّى -عند الفُقهاء-: (دِلالة الاقتِران)؛ هو جَعَلَ حُكم الصَّلاة؛ حُكم الوُقوف بـ(عَرَفة)؛ بدليل أنَّه ذكَرَهُما معًا. وهذا -كما قلتُ- مِن (دلالة الاقتران)؛ وهي دلالة ضعيفة -عند الأصوليِّين-، ولا يجوز أن نأخذ حُكمًا لمجرد اقترانِه بحكمٍ آخر، إلا بدليل خاص، والدَّليل الخاص الذي جعلنا لا نقبل أن تكونَ (صلاة الفجر في مُزدلفة) رُكنًا: أن الرَّسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- أذِن للضُّعفاء والعَجَزة والنِّساء بِتركها، ولو كانت رُكنًا؛ لما أمر بذلك -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-.
س/ يقول: ما الفَرق بين (جبل الرَّحمة) و(جبل عَرَفة) ؟
ج/ (جبل عَرَفة) كبير. (جبل الرَّحمة) جزء صغير منه، سُمِّي: (جبل