{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} ( أ.د زغلول النجار
قال تعالى -في الآية الثالثة والأربعين من سورة النور-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ}.
هذه الآية احتوت على عدد من الحقائق العلمية التي لم يُدْرِكْها أهل العلوم المُكْتَسَبة إلا في العقود المتأخرة. ونعيش في هذا المقال مع الآية الكريمة وفهْمِها في ضوء العلم الحديث، مع بيان دور البَرَدِ في حدوث ظاهرة البَرْقِ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ}، ولم يكتشفه العلم إلا في منتصف الثمانينات من القرن العشرين.
فهم الآية في ضوء المعارف المُكْتَسَبة
أولاً: النصف الأول من الآية:
يقول عزَّ مِن قائل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}.
الفعل (يزجي) معناه: يسوق سوقاً رفيقاً (من زجى الشيء يزجيه تزجية وإزجاء؛ أي: دفعه برفق).
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الرياح -المُصَرَّفة حسب المشيئة الإلهية- هي التي تثير السحاب, وأن السحاب في بدء استثارته يكون في كثير من الأحوال على هيئة القِطَع الصغيرة المتناثرة في صفحة السماء الدنيا, ثم تأتي الرياح لتسوق هذه القطع الصغيرة المتناثرة من السحاب سوقاً رفيقاً (وهو الإزجاء).
ولَمَّا كانت سرعة تحرك قطع السحاب الصغيرة أبطأ من سرعة الرياح التي تسوقها, فإن عملية إزجائها تستغرق وقتاً من الزمن حتى تؤدي في النهاية إلى تجميعها في كتلة سحابية ضخمة, ولذلك استخدم القرآن الكريم حرف العطف (ثُمَّ) الذي يدل على الترتيب مع التراخي; ويزداد بطء السحابة في تحركها كلما زادت كتلتها, وكلما قربت من منطقة التجمع (حيث يؤلف الله تعالى بينها؛ أي: يضم بعضها إلى بعض في التئام ومواءمة), وهنا تتلاحم مكونات السحب الصغيرة المجتمعة على بعضها البعض وتمتزج امتزاجاً كاملاً في جسم واحد كبير (وهو المقصود بالتآلف).
ومع بطء تحرك هذا التجمع السحابي الكبير تزداد سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلى داخله, ويزداد ارتفاع مكوناته إلى أعلى, ويؤدي ذلك إلى جلب مزيد من بخار الماء إلى داخله; وباستمرار ارتفاع مكونات هذا التجمع السحابي إلى مستويات عليا من نطاق المناخ تزداد الفرص لتكثف ما به من بخار الماء, مما يزيد في سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلى داخل هذا التجمع من السحب, وبالتالي إلى زيادة تدفق بخار الماء إلى قلبه, وزيادة نموه,
وكذلك زيادة فرصه في الارتفاع إلى أعلى على هيئة أعداد من سلاسل السحب التي تأخذ شكل السلاسل الجبلية ذات القمم السامقة, والتي تتعدد بتعدد التيارات الهوائية الصاعدة إلى داخلها, والمرتفعة بمكوناتها إلى أعلى مستويات تصلها قوة اندفاع تلك التيارات الصاعدة, وهذه التيارات الهوائية الصاعدة تكون في أعلى سرعاتها في وسط السحب, وتتضاءل سرعاتها على الأطراف فيظهر تأثيرها على هيئة النافورات المتدفقة بمائها إلى أعلى, أو فوهات البراكين الثائرة التي تلقي بملايين الأطنان من الحمم إلى أعلى فتتساقط متجمعة ومتكدسة على جوانب المخروط البركاني.
وتؤدي هذه العملية إلى إلقاء السحب بعضها فوق بعض على جوانب تيارات الهواء الصاعدة بما فيها من بخار الماء المتكثف لتتجمع حول القمة المتكونة, وهذا هو المقصود (بالرَكْم) لأن (الركم) في اللغة: هو إلقاء الشيء بعضه فوق بعض [من (رَكَم) الشيء؛ أي: اجتمعت أجزاؤه شيئاً فوق شيء فأصبح (ركاماً)]. و(رَكْمُ) السحاب يؤدي إلى نموه الرأسي باستمرار على هيئة سلسلة من القمم الجبلية المفصولة بعدد من التلال والهضاب والأودية.
وكلما زاد نمو تجمعات السحب رأسيّاً زاد سمكها وزاد ركمها, ومن هنا كانت تسمية هذا النوع من تجمعات السحب باسم السحب الركامية (Cumuliformor Heap Clouds) وترجمة هذا التعبير الإنجليزي هو: السحب المكدسة أو المتجمعة على هيئة أكوام متراصة فوق بعضها؛ تمييزاً لها عن غيرها من أنواع السحب, وإبرازاً لدور الركم في تكوينها.
ومن السحب الركامية أنواع منخفضة إلى متوسطة الارتفاع يزيد ارتفاع قواعدها على كيلومترين فوق مستوى سطح البحر, ومنها السحب العالية التي تجاوز قممها الخمسة عشر كيلومتراً فوق مستوى سطح البحر, وتتجاوز قواعدها الستة كيلومترات فوق هذا المستوى.
وتتحرك السحب الركامية إلى حيث أراد الله تعالى لها أن تصل, وتظل عوامل الركم فيها مستمرة ما دامت تيارات الهواء الصاعدة إلى قلبها مندفعة بقوة تمكنها من الاحتفاظ بحمولتها من قطيرات الماء وحبات البرد وبلورات الثلج. وعندما تضعف قوة الرياح الصاعدة أو عندما تزيد حمولة هذا التجمع من السحب على قدرة حملها فإن عملية الركم تتوقف وتبدأ مكوناتها في الهبوط إلى الأرض.
وأول ما ينزل منها الماء, وقد يصاحبه أو يتلوه نزول البرد الذي يتلوه نزول الثلج; ولذلك تقول الآية الكريمة: {فترى الودق يخرج من خلاله}. والفاء من حروف العطف التي تدل على الترتيب والتعقيب مع الاشتراك وبدونه. و{الودق} هو المطر. و{مِن خلاله} أي: من فتوق السحاب الركامي ومخارجه, لأن (خلال): جمع (خَلَل) على وزن جبال وجبل. وقد ثبت علميّاً أنه بتباطؤ سرعة التيارات الهوائية الصاعدة أو توقفها تتكون مناطق خلخلة في قاعدة السحب الركامية، فينزل منها الماء -بإرادة الله تعالى وتقديره- أولاً من مناطق الخلخلة تلك التي تظل تتسع لتشمل قاعدة السحابة بأكملها حين يسود تيار الهواء الهابط, وقد يصاحبه كلٌّ من البرد والثلج أو يتلوه تباعاً, وذلك حسب ارتفاع ومكونات السحابة الركامية، وتوزيع درجات الحرارة والرطوبة فيها.
ثانياً: النصف الثاني من الآية:
قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ}.
{من جبال}: أي من السحب الركامية المرتفعة التي تشبه الجبال في شكلها وارتفاعها وقممها. (فيها من برد): أي في هذه الجبال من السحب الركامية التي تعلو قممها عن خمسة عشر كيلومتراً فوق مستوى سطح البحر يوجد البرد.
والبَرَدُ -لغة- هو: ما يبرد من المطر في الهواء فيتجمد ويصلب. وعلى ذلك فهو يشمل الثلج أيضاً, وهما لا يتكونان في الغلاف الغازي للأرض إلا في السحب الركامية.
و البرد عادة ما يُصاحَب بالعواصف البرقية الرعدية, ويصل حجم حبيباته إلى عدة سنتيمترات في طول قطرها, وتكون في هذه الحالة ظاهرة مدمرة خاصة للنباتات ولبعض الحيوانات، وبالتالي للإنسان, كما قد تصيب بعض المنشآت بأضرار بالغة, ومن هنا كان البرد من جند الله, ينزله حسب تقديره ومشيئته في المكان والزمان المحددين انتقاماً من العاصين, وابتلاء للصالحين, وعبرة للناجين.
{يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار}: (السَّنا) هو الضوء الساطع. و{سنا برقه} أي: شدة ضوء برقه. و{يذهب بالأبصار} أي يخطفها فيفقدها البصر بالتماعها من شدة ضوء البرق. والضمير في {برقه} يعود على البرد, بمعنى أن مرد ظاهرة البرق يعود إلى البرد. وهي حقيقة لم تدركها العلوم المكتسبة إلا في منتصف الثمانينات من القرن العشرين!
دور البَرَدِ في حدوث ظاهرة البَرْق
إلى منتصف الثمانينات من القرن العشرين بقي تعريف البرق بأنه: تفريغ كهربي بين سحابتين تحمل كلٌّ منهما شحنة كهربية مختلفة, أو بين جزأين مختلفين من سحابة واحدة يحمل كلٌّ منهما شحنة كهربية مختلفة. وإذا ما تمت عملية التفريغ الكهربي تلك بين السحب والأرض سُمِّيت الظاهرة باسم (الصاعقة).
ويصاحب ظاهرة البرق انطلاق حرارة عالية قد تصل إلى عشرات الآلاف من الدرجات المئوية؛ مما يؤدي إلى تسخين فجائي وشديد لكتل من الهواء التي ينتشر البرق فيها فتتمدد فجأة, وينتج عن تمددها سلسلة من أمواج التضاغط والتخلخل في الهواء المحلي ينتج عنها أمواج صوتية على هيئة جلجلة أو فرقعات شديدة تظل تتردد وتنعكس بين السحب الركامية وقواعدها, وبينها وبين الغلاف الغازي للأرض أو المرتفعات المحيطة بها, أو بينها وبين سطح الأرض مباشرة.
وتعرف هذه الموجات الصوتية وتردداتها ورجعها باسم (الرعد).
في أواخر الأربعينات من القرن العشرين أثبتت التجارب المختبرية أنه عند انصهار الثلج تتولد شحنات كهربائية لا تتوقف حتى تتم عملية الانصهار.
وعلى العكس من ذلك أثبتت التجارب المعملية أن الماء عند تجمده من محلول ملحي يتولد تيار كهربائي مصاحب بفرق جهد كهربي ملحوظ بين كتلة الثلج والمحلول المائي المالح المغموسة فيه وعلى السطح الفاصل بينهما, وأن هذا الفرق في الجهد الكهربي يتلاشى باكتمال عملية التجمد. كذلك ثبت أن شحنة كهربائية يمكن أن تنتقل بين بلورتين من بلورات الثلج بمجرد اصطدامهما.
وقد أشارت هذه النتائج المعملية إلى إمكانية أن يكون نمو بلورات الثلج وحبيبات البرد وانصهارها داخل السحب الركامية هو أحد أسباب تولد الشحنات الكهربائية في داخل تلك السحب, وبالتالي لتكوّن ظاهرتي البرق والرعد فيها.
وبعد ذلك لاحظ أخصائيو الأرصاد الجوية أن تياراً كهربائيّاً يتولد في أثناء سقوط كلٍّ من الثلج والبرد والمطر وأنه ينساب إلى أعلى, في اتجاه معاكس لاتجاه سقوطها من السحب الركامية.
وفي منتصف الستينات من القرن العشرين ثبت بالملاحظة تولد قوة كهربائية عند تلامس قطعتين من الثلج في درجتي حرارة مختلفتين، أو عند انزلاق إحداهما على الأخرى، وذلك بالتأثير الحراري, وأن وجود فقاعات هوائية حبيسة في داخل تلك البلورات الثلجية يؤثر في نوع الشحنة الكهربائية من ناحية كونها موجبة أو سالبة. كذلك تتولد شحنات كهربائية عند تصادم قطرات الماء الشديدة البرودة مع بلورات الثلج أو حبات البرد أو مع أي خليط منهما.
ومعنى ذلك أن شحنات كهربائية تتولد عندما يتحول الماء من حال إلى حال: من الماء شديد البرودة إلى البرد أو إلى الثلج, كما تتولد عند تصادم أو ملامسة أي من هذه الحالات مع بعضها البعض, وكلما طرأ على كلِّ حالة من حالات الماء الصلبة والسائلة والغازية طارئ يغير من شكلها أو حجمها أو كتلتها أو درجة حرارتها.
هذه التجارب والملاحظات المتكررة انتهت في الثمانينات من القرن العشرين إلى اعتبار البرد بمعناه الشامل للماء شديد البرودة, ولحبات البرد ولبلورات الثلج, هو المولد الحقيقي لشحنات الكهرباء ومن ثم لظاهرة البرق.
وحبّات البرد هي تلك الحبات الكرية وشبه الكرية التي تتكون من راقات من الثلج على هيئة إضافات متتالية لثلج جاف غير متبلور على هيئة الزبد فوق إحدى نوي التبلور, سواء كانت تلك النواة بلورة من الثلج أو قطعة منه أو هباءة من الغبار أو الهباب الناجم عن عمليات الاحتراق المختلفة, أو مما تقذف به البراكين عبر فوهاتها من غازات وأبخرة, أو ما ينتج عن احتراق الشهب باحتكاكها بالغلاف الغازي للأرض في أجزائه العليا, أو من الأملاح المختلفة التي يمكن أن تحملها الأبخرة المتصاعدة من أسطح البحار والمحيطات, أو غير ذلك من ملوثات الهواء.
وعندما يتم تكثف بخار الماء تحت الصفر المئوي بحوالي الثلاثين درجة فإنه يتحول إلى ثلج مباشرة عند توافر نوي التكاثف الصلبة, دون مروره بمرحلة قطران الماء السائل.
أما إذا حدثت عملية التكثف في هذه الدرجات المنخفضة من الحرارة دون توافر نوي التكثف الصلبة تتكون نقط من الماء شديد البرودة الذي لا يتجمد على الرغم من الانخفاض الشديد لدرجة الحرارة إلى ما دون درجة تكوّن الجليد, وتظل نقط الماء الشديد البرودة تلك في حالة من عدم الاستقرار يجعلها قابلة للتجمد بمجرد تصادمها مع بعضها البعض أو مع أي جسم صلب, وبذلك يتكون البرد, وبتكونه ينشأ البرق, ويصاحبه الرعد, وتنزل الثلوج والبرد وتهطل الأمطار بإذن الله, وذلك لأن ضغط التشبع بالنسبة للماء السائل أكبر من ضغط التشبع بالنسبة إلى الثلج في نفس درجة الحرارة,
ومن هنا فإن سحابة ركامية بها مقادير كافية من قطرات الماء الشديد البرودة تصبح مهيأة لإنزال المطر بإذن الله تعالى بمجرد تجمد تلك القطرات.
والسحابات الركامية عادة ما تكون لها قمم ناصعة البياض لتوافر بلورات الثلج فيها, وبمجرد تساقط شيء من تلك البلورات الثلجية إلى المنطقة الوسطى من السحابة وهي غنية بقطرات من الماء شديد البرودة يبدأ البرد في التشكل, وتنشط ظاهرتا البرق والرعد, وتكون السحابة مرشحة لإنزال الماء بأمر من الله تعالى وبرحمة منه وفضل على هيئة زخَّات قليلة تبدأ من وسط السحابة, ثم لا تلبث أن تنتشر في كل قاعدتها.
ومصدر الشحنات الكهربائية المندفعة من السحب الركامية إلى سطح الأرض وبالعكس أثناء هطول كلٍّ من الأمطار والثلوج يوجد على ارتفاعات تكاد تنحصر بين سطحين في الغلاف الغازي للأرض تتراوح درجتا حرارتهما بين (15) درجة مئوية تحت الصفر, و(25) درجة مئوية تحت الصفر, وعلى الرغم من اختلاف أنواع السحب الركامية مكاناً وزماناً وبناء, وفي عوامل التكوين إلا أن هذا الحيز الحراري يبقى مثبتاً.
ويصحب عملية تكوّن كلٍّ من الثلج والبرد تخلُّق مجال كهربائي إذا وصل تركيز بلورات الثلج في الحيز المحصور بين (-15م), (-25 م) إلى عشر بلورات في اللتر الواحد.
من هنا توصل العلماء في منتصف الثمانينات من القرن العشرين إلى أن البرد بمعناه الواسع هو السبب الرئيسي في تكوّن ظاهرة البرق، والتي يصاحبها الرعد بإذن الله, وهي حقيقة سبق القرآن الكريم إلى تأكيدها من قبل ألف وأربعمئة سنة، وذلك في الآية التي نحن بصددها التي أكدت إزجاءَ السحاب, ثم التأليفَ بينه, ثم جعْلَه ركاماً, ثم إنزالَ الودق من خلاله. وفَصَلَ بين المراحل الثلاث الأولى بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي؛ لأن كلَّ مرحلة منها تستغرق فترة زمنية حتى تتم, فلما وصل إلى المرحلة الرابعة فصلها بحرف العطف (فـ) الذي من معانيه الترتيب مع التعقيب، لأن نزول المطر بإذن الله تعالى يتم بعد إتمام عملية الركم مباشرة, وأن هذا الماء ينزل من خلال وسط قاعدة السحابة الركامية أولاً -وهي منطقة ضعف تنتج عن توقف اندفاع تيارات الهواء الصاعد أو ضعفها, وغلبة تيار الهواء الهابط عليها-, ثم بعد ذلك ينزل من جوانب قاعدة السحابة أو منها كلها.
كذلك فإنَّ وَصْفَ السُّحُب الركامية بلفظ الجبال, وقصر نزول البرد عليها, وحدوث البرق بلمعانه الخاطف, ونسبة البرق إلى البرد, كل ذلك من الحقائق العلمية التي لم تصل إليها المعارف المكتسبة إلا بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلاف العلماء, ومئات السنين؛
حتى تبلور شيء من فهم الإنسان لها في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وسَبَقَ القرآن الكريم بالإشارة إليها في آية واحدة نرى فيها من الإيجاز والشمول والكمال والجمال والدقة في التعبير والإحاطة بالمعاني ما لا يقدر عليه إلا الله الخالق سبحانه وتعالى
قال تعالى -في الآية الثالثة والأربعين من سورة النور-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ}.
هذه الآية احتوت على عدد من الحقائق العلمية التي لم يُدْرِكْها أهل العلوم المُكْتَسَبة إلا في العقود المتأخرة. ونعيش في هذا المقال مع الآية الكريمة وفهْمِها في ضوء العلم الحديث، مع بيان دور البَرَدِ في حدوث ظاهرة البَرْقِ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ}، ولم يكتشفه العلم إلا في منتصف الثمانينات من القرن العشرين.
فهم الآية في ضوء المعارف المُكْتَسَبة
أولاً: النصف الأول من الآية:
يقول عزَّ مِن قائل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}.
الفعل (يزجي) معناه: يسوق سوقاً رفيقاً (من زجى الشيء يزجيه تزجية وإزجاء؛ أي: دفعه برفق).
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الرياح -المُصَرَّفة حسب المشيئة الإلهية- هي التي تثير السحاب, وأن السحاب في بدء استثارته يكون في كثير من الأحوال على هيئة القِطَع الصغيرة المتناثرة في صفحة السماء الدنيا, ثم تأتي الرياح لتسوق هذه القطع الصغيرة المتناثرة من السحاب سوقاً رفيقاً (وهو الإزجاء).
ولَمَّا كانت سرعة تحرك قطع السحاب الصغيرة أبطأ من سرعة الرياح التي تسوقها, فإن عملية إزجائها تستغرق وقتاً من الزمن حتى تؤدي في النهاية إلى تجميعها في كتلة سحابية ضخمة, ولذلك استخدم القرآن الكريم حرف العطف (ثُمَّ) الذي يدل على الترتيب مع التراخي; ويزداد بطء السحابة في تحركها كلما زادت كتلتها, وكلما قربت من منطقة التجمع (حيث يؤلف الله تعالى بينها؛ أي: يضم بعضها إلى بعض في التئام ومواءمة), وهنا تتلاحم مكونات السحب الصغيرة المجتمعة على بعضها البعض وتمتزج امتزاجاً كاملاً في جسم واحد كبير (وهو المقصود بالتآلف).
ومع بطء تحرك هذا التجمع السحابي الكبير تزداد سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلى داخله, ويزداد ارتفاع مكوناته إلى أعلى, ويؤدي ذلك إلى جلب مزيد من بخار الماء إلى داخله; وباستمرار ارتفاع مكونات هذا التجمع السحابي إلى مستويات عليا من نطاق المناخ تزداد الفرص لتكثف ما به من بخار الماء, مما يزيد في سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلى داخل هذا التجمع من السحب, وبالتالي إلى زيادة تدفق بخار الماء إلى قلبه, وزيادة نموه,
وكذلك زيادة فرصه في الارتفاع إلى أعلى على هيئة أعداد من سلاسل السحب التي تأخذ شكل السلاسل الجبلية ذات القمم السامقة, والتي تتعدد بتعدد التيارات الهوائية الصاعدة إلى داخلها, والمرتفعة بمكوناتها إلى أعلى مستويات تصلها قوة اندفاع تلك التيارات الصاعدة, وهذه التيارات الهوائية الصاعدة تكون في أعلى سرعاتها في وسط السحب, وتتضاءل سرعاتها على الأطراف فيظهر تأثيرها على هيئة النافورات المتدفقة بمائها إلى أعلى, أو فوهات البراكين الثائرة التي تلقي بملايين الأطنان من الحمم إلى أعلى فتتساقط متجمعة ومتكدسة على جوانب المخروط البركاني.
وتؤدي هذه العملية إلى إلقاء السحب بعضها فوق بعض على جوانب تيارات الهواء الصاعدة بما فيها من بخار الماء المتكثف لتتجمع حول القمة المتكونة, وهذا هو المقصود (بالرَكْم) لأن (الركم) في اللغة: هو إلقاء الشيء بعضه فوق بعض [من (رَكَم) الشيء؛ أي: اجتمعت أجزاؤه شيئاً فوق شيء فأصبح (ركاماً)]. و(رَكْمُ) السحاب يؤدي إلى نموه الرأسي باستمرار على هيئة سلسلة من القمم الجبلية المفصولة بعدد من التلال والهضاب والأودية.
وكلما زاد نمو تجمعات السحب رأسيّاً زاد سمكها وزاد ركمها, ومن هنا كانت تسمية هذا النوع من تجمعات السحب باسم السحب الركامية (Cumuliformor Heap Clouds) وترجمة هذا التعبير الإنجليزي هو: السحب المكدسة أو المتجمعة على هيئة أكوام متراصة فوق بعضها؛ تمييزاً لها عن غيرها من أنواع السحب, وإبرازاً لدور الركم في تكوينها.
ومن السحب الركامية أنواع منخفضة إلى متوسطة الارتفاع يزيد ارتفاع قواعدها على كيلومترين فوق مستوى سطح البحر, ومنها السحب العالية التي تجاوز قممها الخمسة عشر كيلومتراً فوق مستوى سطح البحر, وتتجاوز قواعدها الستة كيلومترات فوق هذا المستوى.
وتتحرك السحب الركامية إلى حيث أراد الله تعالى لها أن تصل, وتظل عوامل الركم فيها مستمرة ما دامت تيارات الهواء الصاعدة إلى قلبها مندفعة بقوة تمكنها من الاحتفاظ بحمولتها من قطيرات الماء وحبات البرد وبلورات الثلج. وعندما تضعف قوة الرياح الصاعدة أو عندما تزيد حمولة هذا التجمع من السحب على قدرة حملها فإن عملية الركم تتوقف وتبدأ مكوناتها في الهبوط إلى الأرض.
وأول ما ينزل منها الماء, وقد يصاحبه أو يتلوه نزول البرد الذي يتلوه نزول الثلج; ولذلك تقول الآية الكريمة: {فترى الودق يخرج من خلاله}. والفاء من حروف العطف التي تدل على الترتيب والتعقيب مع الاشتراك وبدونه. و{الودق} هو المطر. و{مِن خلاله} أي: من فتوق السحاب الركامي ومخارجه, لأن (خلال): جمع (خَلَل) على وزن جبال وجبل. وقد ثبت علميّاً أنه بتباطؤ سرعة التيارات الهوائية الصاعدة أو توقفها تتكون مناطق خلخلة في قاعدة السحب الركامية، فينزل منها الماء -بإرادة الله تعالى وتقديره- أولاً من مناطق الخلخلة تلك التي تظل تتسع لتشمل قاعدة السحابة بأكملها حين يسود تيار الهواء الهابط, وقد يصاحبه كلٌّ من البرد والثلج أو يتلوه تباعاً, وذلك حسب ارتفاع ومكونات السحابة الركامية، وتوزيع درجات الحرارة والرطوبة فيها.
ثانياً: النصف الثاني من الآية:
قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ}.
{من جبال}: أي من السحب الركامية المرتفعة التي تشبه الجبال في شكلها وارتفاعها وقممها. (فيها من برد): أي في هذه الجبال من السحب الركامية التي تعلو قممها عن خمسة عشر كيلومتراً فوق مستوى سطح البحر يوجد البرد.
والبَرَدُ -لغة- هو: ما يبرد من المطر في الهواء فيتجمد ويصلب. وعلى ذلك فهو يشمل الثلج أيضاً, وهما لا يتكونان في الغلاف الغازي للأرض إلا في السحب الركامية.
و البرد عادة ما يُصاحَب بالعواصف البرقية الرعدية, ويصل حجم حبيباته إلى عدة سنتيمترات في طول قطرها, وتكون في هذه الحالة ظاهرة مدمرة خاصة للنباتات ولبعض الحيوانات، وبالتالي للإنسان, كما قد تصيب بعض المنشآت بأضرار بالغة, ومن هنا كان البرد من جند الله, ينزله حسب تقديره ومشيئته في المكان والزمان المحددين انتقاماً من العاصين, وابتلاء للصالحين, وعبرة للناجين.
{يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار}: (السَّنا) هو الضوء الساطع. و{سنا برقه} أي: شدة ضوء برقه. و{يذهب بالأبصار} أي يخطفها فيفقدها البصر بالتماعها من شدة ضوء البرق. والضمير في {برقه} يعود على البرد, بمعنى أن مرد ظاهرة البرق يعود إلى البرد. وهي حقيقة لم تدركها العلوم المكتسبة إلا في منتصف الثمانينات من القرن العشرين!
دور البَرَدِ في حدوث ظاهرة البَرْق
إلى منتصف الثمانينات من القرن العشرين بقي تعريف البرق بأنه: تفريغ كهربي بين سحابتين تحمل كلٌّ منهما شحنة كهربية مختلفة, أو بين جزأين مختلفين من سحابة واحدة يحمل كلٌّ منهما شحنة كهربية مختلفة. وإذا ما تمت عملية التفريغ الكهربي تلك بين السحب والأرض سُمِّيت الظاهرة باسم (الصاعقة).
ويصاحب ظاهرة البرق انطلاق حرارة عالية قد تصل إلى عشرات الآلاف من الدرجات المئوية؛ مما يؤدي إلى تسخين فجائي وشديد لكتل من الهواء التي ينتشر البرق فيها فتتمدد فجأة, وينتج عن تمددها سلسلة من أمواج التضاغط والتخلخل في الهواء المحلي ينتج عنها أمواج صوتية على هيئة جلجلة أو فرقعات شديدة تظل تتردد وتنعكس بين السحب الركامية وقواعدها, وبينها وبين الغلاف الغازي للأرض أو المرتفعات المحيطة بها, أو بينها وبين سطح الأرض مباشرة.
وتعرف هذه الموجات الصوتية وتردداتها ورجعها باسم (الرعد).
في أواخر الأربعينات من القرن العشرين أثبتت التجارب المختبرية أنه عند انصهار الثلج تتولد شحنات كهربائية لا تتوقف حتى تتم عملية الانصهار.
وعلى العكس من ذلك أثبتت التجارب المعملية أن الماء عند تجمده من محلول ملحي يتولد تيار كهربائي مصاحب بفرق جهد كهربي ملحوظ بين كتلة الثلج والمحلول المائي المالح المغموسة فيه وعلى السطح الفاصل بينهما, وأن هذا الفرق في الجهد الكهربي يتلاشى باكتمال عملية التجمد. كذلك ثبت أن شحنة كهربائية يمكن أن تنتقل بين بلورتين من بلورات الثلج بمجرد اصطدامهما.
وقد أشارت هذه النتائج المعملية إلى إمكانية أن يكون نمو بلورات الثلج وحبيبات البرد وانصهارها داخل السحب الركامية هو أحد أسباب تولد الشحنات الكهربائية في داخل تلك السحب, وبالتالي لتكوّن ظاهرتي البرق والرعد فيها.
وبعد ذلك لاحظ أخصائيو الأرصاد الجوية أن تياراً كهربائيّاً يتولد في أثناء سقوط كلٍّ من الثلج والبرد والمطر وأنه ينساب إلى أعلى, في اتجاه معاكس لاتجاه سقوطها من السحب الركامية.
وفي منتصف الستينات من القرن العشرين ثبت بالملاحظة تولد قوة كهربائية عند تلامس قطعتين من الثلج في درجتي حرارة مختلفتين، أو عند انزلاق إحداهما على الأخرى، وذلك بالتأثير الحراري, وأن وجود فقاعات هوائية حبيسة في داخل تلك البلورات الثلجية يؤثر في نوع الشحنة الكهربائية من ناحية كونها موجبة أو سالبة. كذلك تتولد شحنات كهربائية عند تصادم قطرات الماء الشديدة البرودة مع بلورات الثلج أو حبات البرد أو مع أي خليط منهما.
ومعنى ذلك أن شحنات كهربائية تتولد عندما يتحول الماء من حال إلى حال: من الماء شديد البرودة إلى البرد أو إلى الثلج, كما تتولد عند تصادم أو ملامسة أي من هذه الحالات مع بعضها البعض, وكلما طرأ على كلِّ حالة من حالات الماء الصلبة والسائلة والغازية طارئ يغير من شكلها أو حجمها أو كتلتها أو درجة حرارتها.
هذه التجارب والملاحظات المتكررة انتهت في الثمانينات من القرن العشرين إلى اعتبار البرد بمعناه الشامل للماء شديد البرودة, ولحبات البرد ولبلورات الثلج, هو المولد الحقيقي لشحنات الكهرباء ومن ثم لظاهرة البرق.
وحبّات البرد هي تلك الحبات الكرية وشبه الكرية التي تتكون من راقات من الثلج على هيئة إضافات متتالية لثلج جاف غير متبلور على هيئة الزبد فوق إحدى نوي التبلور, سواء كانت تلك النواة بلورة من الثلج أو قطعة منه أو هباءة من الغبار أو الهباب الناجم عن عمليات الاحتراق المختلفة, أو مما تقذف به البراكين عبر فوهاتها من غازات وأبخرة, أو ما ينتج عن احتراق الشهب باحتكاكها بالغلاف الغازي للأرض في أجزائه العليا, أو من الأملاح المختلفة التي يمكن أن تحملها الأبخرة المتصاعدة من أسطح البحار والمحيطات, أو غير ذلك من ملوثات الهواء.
وعندما يتم تكثف بخار الماء تحت الصفر المئوي بحوالي الثلاثين درجة فإنه يتحول إلى ثلج مباشرة عند توافر نوي التكاثف الصلبة, دون مروره بمرحلة قطران الماء السائل.
أما إذا حدثت عملية التكثف في هذه الدرجات المنخفضة من الحرارة دون توافر نوي التكثف الصلبة تتكون نقط من الماء شديد البرودة الذي لا يتجمد على الرغم من الانخفاض الشديد لدرجة الحرارة إلى ما دون درجة تكوّن الجليد, وتظل نقط الماء الشديد البرودة تلك في حالة من عدم الاستقرار يجعلها قابلة للتجمد بمجرد تصادمها مع بعضها البعض أو مع أي جسم صلب, وبذلك يتكون البرد, وبتكونه ينشأ البرق, ويصاحبه الرعد, وتنزل الثلوج والبرد وتهطل الأمطار بإذن الله, وذلك لأن ضغط التشبع بالنسبة للماء السائل أكبر من ضغط التشبع بالنسبة إلى الثلج في نفس درجة الحرارة,
ومن هنا فإن سحابة ركامية بها مقادير كافية من قطرات الماء الشديد البرودة تصبح مهيأة لإنزال المطر بإذن الله تعالى بمجرد تجمد تلك القطرات.
والسحابات الركامية عادة ما تكون لها قمم ناصعة البياض لتوافر بلورات الثلج فيها, وبمجرد تساقط شيء من تلك البلورات الثلجية إلى المنطقة الوسطى من السحابة وهي غنية بقطرات من الماء شديد البرودة يبدأ البرد في التشكل, وتنشط ظاهرتا البرق والرعد, وتكون السحابة مرشحة لإنزال الماء بأمر من الله تعالى وبرحمة منه وفضل على هيئة زخَّات قليلة تبدأ من وسط السحابة, ثم لا تلبث أن تنتشر في كل قاعدتها.
ومصدر الشحنات الكهربائية المندفعة من السحب الركامية إلى سطح الأرض وبالعكس أثناء هطول كلٍّ من الأمطار والثلوج يوجد على ارتفاعات تكاد تنحصر بين سطحين في الغلاف الغازي للأرض تتراوح درجتا حرارتهما بين (15) درجة مئوية تحت الصفر, و(25) درجة مئوية تحت الصفر, وعلى الرغم من اختلاف أنواع السحب الركامية مكاناً وزماناً وبناء, وفي عوامل التكوين إلا أن هذا الحيز الحراري يبقى مثبتاً.
ويصحب عملية تكوّن كلٍّ من الثلج والبرد تخلُّق مجال كهربائي إذا وصل تركيز بلورات الثلج في الحيز المحصور بين (-15م), (-25 م) إلى عشر بلورات في اللتر الواحد.
من هنا توصل العلماء في منتصف الثمانينات من القرن العشرين إلى أن البرد بمعناه الواسع هو السبب الرئيسي في تكوّن ظاهرة البرق، والتي يصاحبها الرعد بإذن الله, وهي حقيقة سبق القرآن الكريم إلى تأكيدها من قبل ألف وأربعمئة سنة، وذلك في الآية التي نحن بصددها التي أكدت إزجاءَ السحاب, ثم التأليفَ بينه, ثم جعْلَه ركاماً, ثم إنزالَ الودق من خلاله. وفَصَلَ بين المراحل الثلاث الأولى بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي؛ لأن كلَّ مرحلة منها تستغرق فترة زمنية حتى تتم, فلما وصل إلى المرحلة الرابعة فصلها بحرف العطف (فـ) الذي من معانيه الترتيب مع التعقيب، لأن نزول المطر بإذن الله تعالى يتم بعد إتمام عملية الركم مباشرة, وأن هذا الماء ينزل من خلال وسط قاعدة السحابة الركامية أولاً -وهي منطقة ضعف تنتج عن توقف اندفاع تيارات الهواء الصاعد أو ضعفها, وغلبة تيار الهواء الهابط عليها-, ثم بعد ذلك ينزل من جوانب قاعدة السحابة أو منها كلها.
كذلك فإنَّ وَصْفَ السُّحُب الركامية بلفظ الجبال, وقصر نزول البرد عليها, وحدوث البرق بلمعانه الخاطف, ونسبة البرق إلى البرد, كل ذلك من الحقائق العلمية التي لم تصل إليها المعارف المكتسبة إلا بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلاف العلماء, ومئات السنين؛
حتى تبلور شيء من فهم الإنسان لها في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وسَبَقَ القرآن الكريم بالإشارة إليها في آية واحدة نرى فيها من الإيجاز والشمول والكمال والجمال والدقة في التعبير والإحاطة بالمعاني ما لا يقدر عليه إلا الله الخالق سبحانه وتعالى