الأصول الستة لشيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
بشرح الشيخ: عبد الله بن صالح العبيلان حفظه الله
قال الشيخ رحمه الله : [ ستة أصول عظيمة مفيدة جليلة ] ـ
الشرح : الأصول جمع أصل وهو أساس الشيء أو ما يبنى عليه غيره ويطلق ويراد به الدليل كقولهم : الأصل في اشتراط الطهارة للصلاة قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6)ـ وقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) متفق عليه .والمراد بمعناها هنا أنها من مهمات الدين التي لا بد للمسلم من معرفتها ولزوم وحصر المؤلف لها بهذا العدد وهو ستة هذا من أساليب التعليم ليتمكن طالب العلم من حفظها وضبطها . وهو من طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كقوله عليه الصلاة والسلام : ( ثلاث لا يغل عليهن قلب العبد المسلم …) الحديث ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : ( أوصيكم بثلاث ….) الحديث .كل هذا لا يقصد منه الحصر وإنما يراد منه ضبط العلم . فإذا علم الطالب أنها ستة مثلاً فعد خمسة ونسي واحداً علم بأنه نسيه بخلاف ما لو ذكرت من غير تعداد فربما عد خمسة ولم يعلم بأنه أسقط واحداً
وقوله : [ عظيمة مفيدة جليلة ] ـ
الشرح : يدل على اهتمام الشيخ رحمه الله بهذه الأصول حيث وصفها بهذه الأوصاف الثلاثة التي تدل على عظم قدرها
قال الشيخ رحمه الله: [ ومن أعجب العجاب وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ستة أصول بينها الله تعالى بيناً واضحاً للعوام فوق ما يظن الظانون ] ـ
الشرح : الشيء العجيب : هو المستغرب الذي يكون على خلاف العادة كقول كفار قريش : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)فهذا العجب ها هنا ليس على سبيل الاستحسان وإنما هو على سبيل الإنكار ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(الرعد: من الآية5)
وقد يكون التعجب لأمر مستحسن كقوله عليه الصلاة والسلام : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ….) الحديث وقول المؤلف : ومن أعجب العجاب … الخ ، من هذا الباب
قال الشيخ رحمه الله: [ وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ] : الشرح : الآيات : جمع آية وهي إما أن تكون مقروءة كما في القرآن الكريم وإما أن تكون مخلوقة كقوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَار)(فصلت: من الآية37) . وهي دليل على وحدانية الله عز وجل والمراد بها هاهنا الأصول الستة فهي من العلم المأخوذ من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام
قوله : [ على قدرة الملك الغلاب ] ـ
الشرح : الملك : اسم من أسماء الله عز وجل ، ومن صفاته أنه غلاب : أي قاهر لغيره
قوله : [ ستة أصول بينها ] ـ
الشرح : فيه دليل على أن الشيخ لم يأت بهذه الأصول من قبل نفسه وإنما أخذها من القرآن والسنة
قوله : [ بيناً واضحاً للعوام ] ـ
الشرح : فيه دليل على أن هذه الأصول لا تحتاج إلى رسوخ في العلم لمعرفتها لأن الله عز وجل بينها بياناً تاماً
قوله : [ ثم بعد ذلك غلط فيها أذكياء العالم وعقلاء بني آدم إلا أقل القليل ] ـ
الشرح : فيه دليل على أن ذكاء الإنسان لا علاقة له بهدايته كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في علماء الكلام : ( أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء ) ـ
وفيه دليل على سنة الله عز وجل في خلقه وهي أن أكثر الناس في ضلال . قال تعالى : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103) ، وقال تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه)(الأنعام: من الآية116)ـ
قوله : [ وعقلاء بني آدم ]ـ
الشرح : فيه دليل على أنه يستحيل أن يستقل عقل الإنسان بمعرفة المصالح والمفاسد من غير نقلٍ من الشريعة
قوله : [ إلا أقل القليل ] ـ
الشرح : يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) . رواه مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر
ويدل عليه قوله تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سـبأ: من الآية13) ـ
الأصل الأول
قال الشيخ رحمه الله : [ إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له وبيان ضده وهو الشرك بالله ] ـ
الشرح : هذا الأصل هو أعظم أصول الدين على الإطلاق وهو الذي من أجله خلق الله العباد وهو الذي دعا إلي الأنبياء كلهم مع اختلاف شرائعهم قال تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البينة: من الآية5) ـ
ويطلق الإخلاص : ويراد به تصفية الشيء وتجريده من غيره كقولهم : أخلصت الذهب من النحاس أو الفضة ويراد بالإخلاص هاهنا أنواع التوحيد الثلاثة
الأول : توحيد الإلهية أو الألوهية
وهو : إفراد الله عز وجل بالعبادة وهذا النوع من أنواع التوحيد هو الذي خالف فيه أكثر الناس . قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )(النحل: من الآية36)
الثاني : توحيد الربوبية
وهو : توحيد اله عز وجل بأفعاله . بأن يعتقد المرء أنه لا ينفع ولا يضر ولا يرزق ولا يخلق ولا يحيي ولا يميت إلا الله
وهذا النوع أقر به أكثر الناس ومن خالف منهم فيه فقد خالف مكابرة وتعنتاً . فعلى هذا يكون كل واحد من الخلق أقر به . قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14)ـ
، ولذلك يُلزم الله عز وجل من أقر بهذا النوع بتوحيد الإلهية ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )(لقمان: من الآية25) ـ
الثالث : توحيد الأسماء والصفات
وهو : أن يعتقد المسلم أن لله أسماء سمى بها نفسه ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )(لأعراف: من الآية180) ، وأن له صفات اتصف بها . والدليل قوله تعالى : ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)(المؤمنون: من الآية91)ـ
فإنه نزه نفسه عن وصف المشركين له بأن له بنات أو أن الملائكة بناته . ثم أكثر في القرآن من وصف نفسه بأوصاف كثيرة فدل على أنه أرادها وأحبها . كوصف الله عز وجل نفسه بالمحبة والرضى والسمع والبصر واليدين والعينين وغير ذلك من الصفات وطريقة أهل السنة والجماعة في صفات الله عز وجل : أن يثبتوها على وجه يليق بجلال الله وعظمته أي أنهم يعتقدون معناها ولكنهم لا يتكلفون في معرفة كيفيتها .ولما سُئل الإمام مالك عن الاستواء ؟ قال : الاستواء معلوم والكيف مجهول أو قال : غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وجماع الأمر في ذلك أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام
- قسم يقولون : تجري على ظاهرها وهم السلف الصالح الذين يقولون : إنها تثبت على وجه يليق بعظمة الله وكبريائه .- والقسم الآخر المشبهة : الذين يشبهون صفاته بصفات المخلوقين .- وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرهما فهم الجهمية ومن تفرع عنهم ، فقسم منهم يؤلها بمعان أخر وقسم منهم يقولون : الله أعلم بما أراد منها .- وأما القسمان الواقفان . فقسم : يقولون : يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله ويجوز ألا يكون المراد صفة لله . وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم .- وقسم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات .فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عنها . والصواب في آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة السلفية ) . أ. هـ من الرسالة الحموية
قال الشيخ رحمه الله: [ وبيان ضده الذي هو الشرك بالله ]ـ
الشرح : لا يتم بيان الشيء بياناً تاماً إلا بذكر ضده كما قال عمر رضي الله عنه : ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا ظهر في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ) .فلا يستطيع أحد أن يجتنب الشرك بأنواعه ويعتقد العقيدة السليمة وينهج النهج السليم إلا إذا بُين له ما يضاد كل ذلك كما قيل :والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء، وهاهنا قواعد لا بد لطالب العلم من معرفتها فإن كثيراً من المسلمين لا يحبذون تبيين واقع الأمة الإسلامية الديني بحجة أن هذا يمكن للأعداء: الأولى : لا يجوز إخفاء الخلاف أو كتمانه أو التستر عليه وتجاهله لأن الحقيقة لا بد أن تظهر مهما عمل على تأجيلها ولأن معرفة مواطن الزلل من حق جميع المسلمين ليكونوا على بينة من أمرهم فلا يكررون المشكلة نفسها ، ولأن إخفاء الخلاف والظهور بمظهر الوحدة والائتلاف من سنن المغضوب عليهم والضالين حيث وصفهم خالقهم فقال : ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(الحشر: من الآية14) ، فلو كانوا يعقلون عملوا على اجتثاث الخلاف من جذوره فتوحدوا ولم يقروا الخلاف ويظهروا أمام أعدائهم وخصومهم بمظهر الوحدة والائتلاف فإذا مادت الأرض من تحتهم أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم .ولذلك فإن إخفاء الخلاف والتستر عليه دعوة للسير على طريق المغضوب عليهم الذين أمر ربنا في كتابه بمخالفتهم وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة من التشبه بهم واتباع آثارهم . وإخفاء الخلاف أمر نهلك للأفراد والجماعات وسبب انقراض المجتمعات وسقوط الحضارات ومورث للعن الذي لحق ببني إسرائيل بسبب عدم تناهيهم عن المنكر . قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) ـ إن معرفة مواطن الخلل وتصحيحها هي سلامة في البناء وصلابة في القاعدة ، وإقامة للمجتمع على تقوى الله ورضوانه ، والتستر عليها والسكوت عنها بحجة عدم التشويش في الوسط الإسلامي وعدم خلخلة الصف المؤمن من أوهام الإنسان وتلبيس الشيطان ،فالعاملون للإسلام ليسوا بمنأى عن العلل التي أصابت الأمم الماضية والمجتمعات الخالية . قال صلى الله عليه وسلم : " سيصيب أمتي داء الأمم ". فقالوا : يا رسول الله وما داء الأمم؟ قال: " الأشر والبطر والتكاثر والتنافس والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي "ـ رواه الحاكم بإسناد حسن . ومصداقه في قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14) ـ
الثانية : إذا كانت الفرقة والاختلاف أمراً لا مفر منه كما ثبت في الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا فقال : " سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم شديداً فمنعنيها " . فذلك لا يعني ترك التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن المسلمين مكلفون شرعاً بالأخذ بأسباب القضاء عليها . قال تعالى : (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52) ، وقال تعالى : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92) ، فقد بين سبحانه في هاتين الآيتين طريقة الوصول إلى كلمة سواء وذلك بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه الله على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّن الغاية وحدد الوسيلة وهي العبادة الصحيحة التي تثمر التقوى التي تحجز العبد فلا يتعدى حدود الله ، قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: من الآية103) الآية . إلى قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(آل عمران: من الآية110) ـ وهذه الآيات تضع دستوراً للأمة الإسلامية في القضاء على الخلاف من جذوره وذلك بالاعتصام حول حبل الله المتين وهو كتابه المبين وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ولا بد من وجود طائفة تقوم بعملية الحسبة داخل الصف الإسلامي لتقوم الاعوجاج وتصحح الانحراف منذ البداية
إذاً لا بد من فتح باب الحوار والنقد على مصراعيه لتصب كل الخيرات في مجرى الحياة الإسلامية وتسد كل الثغرات ويشعر جميع العاملين بالرقابة التي تحققها ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . إن عملية المناصحة والتقويم والمراجعة ليست بدعاً حديثاً في المجتمع الإسلامي بل إن المنهج القرآني والتدريب النبوي اللذين صاغا الجيل الرباني بلغ الذروة في ذك المدى الذي لم يدع مجالاً للشك والالتباس والتحريف . لقد تناولت عملية التصحيح الرسول القدوة في بعض ما رآه قبل أن ينزل عليه الوحي ومع ذلك لم يكتم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك . وكذلك عرض القرآن جوانب الخطأ والتقصير على المستوى الفردي والجماعي عندما كان يربي الجيل الفريد ليكون الجيل القدوة . فالنصح شرعة تعبدنا الله بها لمن خلصت نيته وصفت سريرته . قال عليه الصلاة والسلام : " الدين النصيحة ( ثلاثاً ) . قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ـ ولكن بعض الذين تحفزهم الغيرة على المصلحة الإسلامية والإخلاص للعمل الإسلامي لا يريدون أن يتم النصح بشكل جلي بحجة أن ذلك يمكِّن للأعداء من معرفة أسرار المسلمين ومن ثم الانقضاض عليهم . إن هؤلاء تختلف في تصورهم طرائق النصح للفرد لتصحيح بعض قصوره أو خطئه والتي تتم في إطاره وإلا خرجت لتصير تشهيراً وتعييراً . وطرائق النصح للفرق والطوائف والجماعات والأحزاب والمذاهب ذات التوجه العام حيث يتم النصح لها بصورة جلية لأن المصلحة الإسلامية تهم جميع المسلمين . وليعلم أن الأعداء الذين نالوا منا ما نالوا أعرف منا بأخطائنا لأنهم لا يزالون يتسللون من خلالها لواذاً فيأتون الإسلام وأهله من قبلها ويعملون على تثبيتها وتربيتها واستمرارها وعدم قدرتنا على إبصارها وتخويفنا من معالجتها . والمتأمل في الواقع يدرك صحة ذلك، إن كثيراً من الذين يحذرون من عملية النقد والنصح ويحذرون منها لا نشك في إخلاصهم ولكننا نشك في إدراكهم للحق والصواب . ولذلك فإن الإخلاص وحده لا يكفي لبلوغ الغاية فكم من مريد للخير لم يبلغه . ولكن من يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه . لقد كان منهج المحدثين الذين أخذوا على عاتقهم بتوفيق الله لهم القيام بالدفاع عن السنن فوضعوا علم الجرح والتعديل ، هذا العلم الذي لو التزمه المسلمون العاملون المعاصرون في حياتهم لكانوا اقرب إلى الصواب . فبعض الرواة الذين كانوا أصحاب عبادة آناء الليل وأطراف النهار حيث لا يتطرق الشك إلى إخلاصهم ومع ذلك ردت روايتهم لعدم قدرتهم على الضبط ولسيطرة الغفلة عليهم . ولقد بلغ الإخلاص ببعضهم أن يضع أحاديث لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندما سئلوا عن قوله عليه الصلاة والسلام : " من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " ، قالوا : نحن ما كذبنا عليه وإنما كذبنا له، قال ابن كثير رحمه الله في ( اختصار علوم الحديث ) : وهذا من كمال جهلهم وقلة عقلهم وكثرة فجورهم وافترائهم فإنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج في كمال شريعته وفضلها إلى غيره . أ . هـ وليعلم هؤلاء الإخوة أنهم كالابن الرؤوم التي بلغت بها غيرتها ومحبتها لوليدها الوحيد إلى عدم تقويم سلوكه وتربيته حفاظاً على شعوره فلما بلغ السعي ألفته عاجزاً عن حل مشكلاته . هذه المحبة الناقصة قد تؤدي إلى هلاكه لأن هذه الأم حالت بينه وبين من يتعاهده ويرعاه خشية أن يخاف من مقابلته أو يتألم من علاجه
الثالثة : ولكن هناك أموراً بالغة الأهمية في عملية النصح والنقد والتقويم منها
ـ لا بد أن تكون عملية النصح والنقد والتقويم مشفوعة بالإشفاق ، قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ـ من كان آمراً بالمعروف فليكن أمره بالمعروف ، ومن كان ناهياً عن المنكر فلا يكونن نهيه منكر ـ لا بد من التزام آداب الإسلام في الحوار والنصح من الجدال بالتي هي أحسن والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ومخاطبة الناس على قدر عقولهم حتى لا يكذب الحق وإعطاء الآخرين الحق في إبداء رأيهم ومن ثم معالجته من جانب الصواب ـ لا بد أن ينصرف النقد والنصح والتوجيه إلى الآراء والأفكار دون الأشخاص بأعيانهم ما لم يكن هناك مصلحة من التعيين ـ اعلم أخي في الله أيدك الله بروح منه أن الخطأ في المعالجة وغياب الموعظة الحسنة عند بعض القائمين بهذا الأمر لا يسوغ للآخرين المطالبة بإلغاء النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم بحجة فقدان السلوك القويم والأسلوب الرشيد وفظاظة الذين يمارسونها وإنما ينبغي إلغاء الفظاظة والغلظة وتهذيبها بمكارم الأخلاق التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ليتمها . ولذلك لا بد من وجود الطائفة المنصورة القائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوارثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيل القدوة الأول الدين بقضه وقضيضه المستمرة في الثبات عليه غير خائفة لومة لائم ولا شماتة شامت حتى يأتي أمر الله بالنصر والتأييد
قال الشيخ رحمه الله :[ وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل ] ـ
الشرح : أي أن القرآن كله نزل لبيان التوحيد والإخلاص فهو لا يخلو
- إما أن يكون إخباراً عن أهل التوحيد وصفاتهم وما أعد الله لهم في الجنة ، أو عن أهل الشرك وصفاتهم وما أعد الله لهم في النار
- أو أن يكون أحكاماً في بيان الحلال والحرام وهذا من تمام التوحيد وكماله ألا يعبد الله إلا بما شرع،- أو بيناً للتوحيد نفسه بشتى أنواع الأدلة كإلزامهم بتوحيد الألوهية بع أن أقروا بتوحيد الربوبية
قوله : [ من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة ] ـ
الشرح : أي من كثرة تكراره وعظيم وضوحه في القرآن صار كل إنسان يفهمه حتى الغبي من الناس
قوله : [ ثم صار على أكثر الأمة ما صار ] ـ
الشرح : أي أنهم انحرفوا عن التوحيد ومالوا إلى الشرك ولا يعرفون أنهم كفروا بذلك
قوله :[ أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم ]ـ
الشرح : أي بزعمهم لأنهم يقولون من أنكر علينا دعاءنا لزيد بن الخطاب مثلاً أو للسيد البدوي أو غيرهما من الأضرحة فإن هذا قد تنقص أولياء الله وقصر في حقوقهم
قال الشيخ رحمه الله : [ وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم ] ـ
الشرح :لأن الشيطان حسَّن لهم عبادة غيرا لله عز وجل وجعل مدار التوحيد عندهم هو الغلو في المخلوقين . والحق أنه هو الشرك بالله عز وجل فهؤلاء لا بد أن نجادلهم بالحسنى لقوله تعالى : ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125) . فنسألهم ونقول ما مفهوم التوحيد عندكم ؟ فإن قالوا : مفهومنا أنه لا رازق ولا خالق ولا نافع ولا ضار إلا الله . قلنا: أنتم وكفار قريش بمنزلة واحدة . كما قال تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(84) (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُون(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون:89) ـ
فإن قالوا : الشرك متمثل في عبادة الأصنام وأما الأولياء فلسنا نعبدهم بل هم وسائط بيننا وبين الله لقربهم من الله . فجيبهم ونقول : هذا الذي قاله كفار قريش . قال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر:3) ـ
فإن قالوا : هذه الآية في الأصنام وأما نحن فنتبرأ من جعل الأصنام وسائط بيننا وبين الله . فنقول لهم : قد كفر الله عز وجل في القرآن الكريم من تعلق بالملائكة أو الأنبياء أو الصالحين وهم ليسوا أصناماً ولا أحجاراً . قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) (سـبأ:40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (سـبأ:41)، وقال تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116) ، وقال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الاسراء:57)ـ
ومشركو زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا شركهم في الرخاء والشدة قال تعالى : (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) . وكذلك مشركو زماننا أشركوا حتى في الربوبية . فالصوفية مثلا يعتقدون أن للكون مدبرا سوى الله ويسمونهم الأقطاب . فإذا كان هذا القطب مزاجه حار وعصبي صارت البلاد التي يدبرها حارة . وإذا كان حليما هادئا صار المناخ معتدلا . ومنهم من يرى أن الله حال في كل شيء كما قال قائلهم
الرب عبد والعبد رب فيا ليت شعري من المكلف
فـائـدة : أكثر أنواع الشرك شيوعا هو شرك الدعاء وقد تقرر بالقرآن الكريم والسنة المطهرة أن الدعاء هو العبادة . فمن صرفه لغير بالله فهو مشرك بالله . قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) (الجـن:20). فالآية صريحة في أن من دعاء غير الله فقد أشرك . وقال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60) ، فجعل الدعاء هو العبادة . وثبت عند الترمذي بسند صحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء هو العبادة "ـ
الأصل الثاني
قال الشيخ رحمه الله : [ أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق . فبين الله هذا بينا شافيا تفهمه العوام . ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا . وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه ]ـ
الشرح : من أعظم أصول الدين الإسلامي التي دل عليها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام الاجتماع على حبل الله المتين وصراطه المستقيم في آيات كثيرة منها ما يأمر بالاجتماع وما ينهى عن التفرق وهي كالتالي : قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران: من الآية103) ، وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)ـ
وقال تعالى : وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (الشورى:14) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ )النساء: الآية150) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء)(الأنعام: من الآية159) وقال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم:32) وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13) ـ
ويدخل في معنى التفرق الاختلاف فإنه مذموم شرعا ، وإن كان التفرق والاختلاف مرا قدريا لابد منه . قال تعالى : ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك)(هود: من الآية119) ، وقال عليه الصلاة والسلام : " لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث . ومن أعظم سنن مكن كان قبلنا الافتراق والاختلاف , وتقدمت الإشارة إلى حديث سعيد في مسلم . إلا أن المسلمين مطالبون شرعا بتسويته وإزالته . والآيات في ذم الاختلاف كالتالي : قال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)ـ
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
بشرح الشيخ: عبد الله بن صالح العبيلان حفظه الله
قال الشيخ رحمه الله : [ ستة أصول عظيمة مفيدة جليلة ] ـ
الشرح : الأصول جمع أصل وهو أساس الشيء أو ما يبنى عليه غيره ويطلق ويراد به الدليل كقولهم : الأصل في اشتراط الطهارة للصلاة قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6)ـ وقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) متفق عليه .والمراد بمعناها هنا أنها من مهمات الدين التي لا بد للمسلم من معرفتها ولزوم وحصر المؤلف لها بهذا العدد وهو ستة هذا من أساليب التعليم ليتمكن طالب العلم من حفظها وضبطها . وهو من طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كقوله عليه الصلاة والسلام : ( ثلاث لا يغل عليهن قلب العبد المسلم …) الحديث ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : ( أوصيكم بثلاث ….) الحديث .كل هذا لا يقصد منه الحصر وإنما يراد منه ضبط العلم . فإذا علم الطالب أنها ستة مثلاً فعد خمسة ونسي واحداً علم بأنه نسيه بخلاف ما لو ذكرت من غير تعداد فربما عد خمسة ولم يعلم بأنه أسقط واحداً
وقوله : [ عظيمة مفيدة جليلة ] ـ
الشرح : يدل على اهتمام الشيخ رحمه الله بهذه الأصول حيث وصفها بهذه الأوصاف الثلاثة التي تدل على عظم قدرها
قال الشيخ رحمه الله: [ ومن أعجب العجاب وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ستة أصول بينها الله تعالى بيناً واضحاً للعوام فوق ما يظن الظانون ] ـ
الشرح : الشيء العجيب : هو المستغرب الذي يكون على خلاف العادة كقول كفار قريش : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)فهذا العجب ها هنا ليس على سبيل الاستحسان وإنما هو على سبيل الإنكار ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(الرعد: من الآية5)
وقد يكون التعجب لأمر مستحسن كقوله عليه الصلاة والسلام : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ….) الحديث وقول المؤلف : ومن أعجب العجاب … الخ ، من هذا الباب
قال الشيخ رحمه الله: [ وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ] : الشرح : الآيات : جمع آية وهي إما أن تكون مقروءة كما في القرآن الكريم وإما أن تكون مخلوقة كقوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَار)(فصلت: من الآية37) . وهي دليل على وحدانية الله عز وجل والمراد بها هاهنا الأصول الستة فهي من العلم المأخوذ من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام
قوله : [ على قدرة الملك الغلاب ] ـ
الشرح : الملك : اسم من أسماء الله عز وجل ، ومن صفاته أنه غلاب : أي قاهر لغيره
قوله : [ ستة أصول بينها ] ـ
الشرح : فيه دليل على أن الشيخ لم يأت بهذه الأصول من قبل نفسه وإنما أخذها من القرآن والسنة
قوله : [ بيناً واضحاً للعوام ] ـ
الشرح : فيه دليل على أن هذه الأصول لا تحتاج إلى رسوخ في العلم لمعرفتها لأن الله عز وجل بينها بياناً تاماً
قوله : [ ثم بعد ذلك غلط فيها أذكياء العالم وعقلاء بني آدم إلا أقل القليل ] ـ
الشرح : فيه دليل على أن ذكاء الإنسان لا علاقة له بهدايته كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في علماء الكلام : ( أوتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء ) ـ
وفيه دليل على سنة الله عز وجل في خلقه وهي أن أكثر الناس في ضلال . قال تعالى : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103) ، وقال تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه)(الأنعام: من الآية116)ـ
قوله : [ وعقلاء بني آدم ]ـ
الشرح : فيه دليل على أنه يستحيل أن يستقل عقل الإنسان بمعرفة المصالح والمفاسد من غير نقلٍ من الشريعة
قوله : [ إلا أقل القليل ] ـ
الشرح : يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) . رواه مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر
ويدل عليه قوله تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سـبأ: من الآية13) ـ
الأصل الأول
قال الشيخ رحمه الله : [ إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له وبيان ضده وهو الشرك بالله ] ـ
الشرح : هذا الأصل هو أعظم أصول الدين على الإطلاق وهو الذي من أجله خلق الله العباد وهو الذي دعا إلي الأنبياء كلهم مع اختلاف شرائعهم قال تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(البينة: من الآية5) ـ
ويطلق الإخلاص : ويراد به تصفية الشيء وتجريده من غيره كقولهم : أخلصت الذهب من النحاس أو الفضة ويراد بالإخلاص هاهنا أنواع التوحيد الثلاثة
الأول : توحيد الإلهية أو الألوهية
وهو : إفراد الله عز وجل بالعبادة وهذا النوع من أنواع التوحيد هو الذي خالف فيه أكثر الناس . قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )(النحل: من الآية36)
الثاني : توحيد الربوبية
وهو : توحيد اله عز وجل بأفعاله . بأن يعتقد المرء أنه لا ينفع ولا يضر ولا يرزق ولا يخلق ولا يحيي ولا يميت إلا الله
وهذا النوع أقر به أكثر الناس ومن خالف منهم فيه فقد خالف مكابرة وتعنتاً . فعلى هذا يكون كل واحد من الخلق أقر به . قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14)ـ
، ولذلك يُلزم الله عز وجل من أقر بهذا النوع بتوحيد الإلهية ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )(لقمان: من الآية25) ـ
الثالث : توحيد الأسماء والصفات
وهو : أن يعتقد المسلم أن لله أسماء سمى بها نفسه ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )(لأعراف: من الآية180) ، وأن له صفات اتصف بها . والدليل قوله تعالى : ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)(المؤمنون: من الآية91)ـ
فإنه نزه نفسه عن وصف المشركين له بأن له بنات أو أن الملائكة بناته . ثم أكثر في القرآن من وصف نفسه بأوصاف كثيرة فدل على أنه أرادها وأحبها . كوصف الله عز وجل نفسه بالمحبة والرضى والسمع والبصر واليدين والعينين وغير ذلك من الصفات وطريقة أهل السنة والجماعة في صفات الله عز وجل : أن يثبتوها على وجه يليق بجلال الله وعظمته أي أنهم يعتقدون معناها ولكنهم لا يتكلفون في معرفة كيفيتها .ولما سُئل الإمام مالك عن الاستواء ؟ قال : الاستواء معلوم والكيف مجهول أو قال : غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وجماع الأمر في ذلك أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام
- قسم يقولون : تجري على ظاهرها وهم السلف الصالح الذين يقولون : إنها تثبت على وجه يليق بعظمة الله وكبريائه .- والقسم الآخر المشبهة : الذين يشبهون صفاته بصفات المخلوقين .- وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرهما فهم الجهمية ومن تفرع عنهم ، فقسم منهم يؤلها بمعان أخر وقسم منهم يقولون : الله أعلم بما أراد منها .- وأما القسمان الواقفان . فقسم : يقولون : يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله ويجوز ألا يكون المراد صفة لله . وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم .- وقسم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات .فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عنها . والصواب في آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة السلفية ) . أ. هـ من الرسالة الحموية
قال الشيخ رحمه الله: [ وبيان ضده الذي هو الشرك بالله ]ـ
الشرح : لا يتم بيان الشيء بياناً تاماً إلا بذكر ضده كما قال عمر رضي الله عنه : ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا ظهر في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ) .فلا يستطيع أحد أن يجتنب الشرك بأنواعه ويعتقد العقيدة السليمة وينهج النهج السليم إلا إذا بُين له ما يضاد كل ذلك كما قيل :والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء، وهاهنا قواعد لا بد لطالب العلم من معرفتها فإن كثيراً من المسلمين لا يحبذون تبيين واقع الأمة الإسلامية الديني بحجة أن هذا يمكن للأعداء: الأولى : لا يجوز إخفاء الخلاف أو كتمانه أو التستر عليه وتجاهله لأن الحقيقة لا بد أن تظهر مهما عمل على تأجيلها ولأن معرفة مواطن الزلل من حق جميع المسلمين ليكونوا على بينة من أمرهم فلا يكررون المشكلة نفسها ، ولأن إخفاء الخلاف والظهور بمظهر الوحدة والائتلاف من سنن المغضوب عليهم والضالين حيث وصفهم خالقهم فقال : ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(الحشر: من الآية14) ، فلو كانوا يعقلون عملوا على اجتثاث الخلاف من جذوره فتوحدوا ولم يقروا الخلاف ويظهروا أمام أعدائهم وخصومهم بمظهر الوحدة والائتلاف فإذا مادت الأرض من تحتهم أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم .ولذلك فإن إخفاء الخلاف والتستر عليه دعوة للسير على طريق المغضوب عليهم الذين أمر ربنا في كتابه بمخالفتهم وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة من التشبه بهم واتباع آثارهم . وإخفاء الخلاف أمر نهلك للأفراد والجماعات وسبب انقراض المجتمعات وسقوط الحضارات ومورث للعن الذي لحق ببني إسرائيل بسبب عدم تناهيهم عن المنكر . قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) ـ إن معرفة مواطن الخلل وتصحيحها هي سلامة في البناء وصلابة في القاعدة ، وإقامة للمجتمع على تقوى الله ورضوانه ، والتستر عليها والسكوت عنها بحجة عدم التشويش في الوسط الإسلامي وعدم خلخلة الصف المؤمن من أوهام الإنسان وتلبيس الشيطان ،فالعاملون للإسلام ليسوا بمنأى عن العلل التي أصابت الأمم الماضية والمجتمعات الخالية . قال صلى الله عليه وسلم : " سيصيب أمتي داء الأمم ". فقالوا : يا رسول الله وما داء الأمم؟ قال: " الأشر والبطر والتكاثر والتنافس والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي "ـ رواه الحاكم بإسناد حسن . ومصداقه في قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14) ـ
الثانية : إذا كانت الفرقة والاختلاف أمراً لا مفر منه كما ثبت في الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا فقال : " سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة . سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم شديداً فمنعنيها " . فذلك لا يعني ترك التناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن المسلمين مكلفون شرعاً بالأخذ بأسباب القضاء عليها . قال تعالى : (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52) ، وقال تعالى : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:92) ، فقد بين سبحانه في هاتين الآيتين طريقة الوصول إلى كلمة سواء وذلك بفعل ما أمر الله واجتناب ما نهى عنه الله على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّن الغاية وحدد الوسيلة وهي العبادة الصحيحة التي تثمر التقوى التي تحجز العبد فلا يتعدى حدود الله ، قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: من الآية103) الآية . إلى قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(آل عمران: من الآية110) ـ وهذه الآيات تضع دستوراً للأمة الإسلامية في القضاء على الخلاف من جذوره وذلك بالاعتصام حول حبل الله المتين وهو كتابه المبين وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ولا بد من وجود طائفة تقوم بعملية الحسبة داخل الصف الإسلامي لتقوم الاعوجاج وتصحح الانحراف منذ البداية
إذاً لا بد من فتح باب الحوار والنقد على مصراعيه لتصب كل الخيرات في مجرى الحياة الإسلامية وتسد كل الثغرات ويشعر جميع العاملين بالرقابة التي تحققها ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . إن عملية المناصحة والتقويم والمراجعة ليست بدعاً حديثاً في المجتمع الإسلامي بل إن المنهج القرآني والتدريب النبوي اللذين صاغا الجيل الرباني بلغ الذروة في ذك المدى الذي لم يدع مجالاً للشك والالتباس والتحريف . لقد تناولت عملية التصحيح الرسول القدوة في بعض ما رآه قبل أن ينزل عليه الوحي ومع ذلك لم يكتم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك . وكذلك عرض القرآن جوانب الخطأ والتقصير على المستوى الفردي والجماعي عندما كان يربي الجيل الفريد ليكون الجيل القدوة . فالنصح شرعة تعبدنا الله بها لمن خلصت نيته وصفت سريرته . قال عليه الصلاة والسلام : " الدين النصيحة ( ثلاثاً ) . قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ـ ولكن بعض الذين تحفزهم الغيرة على المصلحة الإسلامية والإخلاص للعمل الإسلامي لا يريدون أن يتم النصح بشكل جلي بحجة أن ذلك يمكِّن للأعداء من معرفة أسرار المسلمين ومن ثم الانقضاض عليهم . إن هؤلاء تختلف في تصورهم طرائق النصح للفرد لتصحيح بعض قصوره أو خطئه والتي تتم في إطاره وإلا خرجت لتصير تشهيراً وتعييراً . وطرائق النصح للفرق والطوائف والجماعات والأحزاب والمذاهب ذات التوجه العام حيث يتم النصح لها بصورة جلية لأن المصلحة الإسلامية تهم جميع المسلمين . وليعلم أن الأعداء الذين نالوا منا ما نالوا أعرف منا بأخطائنا لأنهم لا يزالون يتسللون من خلالها لواذاً فيأتون الإسلام وأهله من قبلها ويعملون على تثبيتها وتربيتها واستمرارها وعدم قدرتنا على إبصارها وتخويفنا من معالجتها . والمتأمل في الواقع يدرك صحة ذلك، إن كثيراً من الذين يحذرون من عملية النقد والنصح ويحذرون منها لا نشك في إخلاصهم ولكننا نشك في إدراكهم للحق والصواب . ولذلك فإن الإخلاص وحده لا يكفي لبلوغ الغاية فكم من مريد للخير لم يبلغه . ولكن من يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه . لقد كان منهج المحدثين الذين أخذوا على عاتقهم بتوفيق الله لهم القيام بالدفاع عن السنن فوضعوا علم الجرح والتعديل ، هذا العلم الذي لو التزمه المسلمون العاملون المعاصرون في حياتهم لكانوا اقرب إلى الصواب . فبعض الرواة الذين كانوا أصحاب عبادة آناء الليل وأطراف النهار حيث لا يتطرق الشك إلى إخلاصهم ومع ذلك ردت روايتهم لعدم قدرتهم على الضبط ولسيطرة الغفلة عليهم . ولقد بلغ الإخلاص ببعضهم أن يضع أحاديث لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندما سئلوا عن قوله عليه الصلاة والسلام : " من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " ، قالوا : نحن ما كذبنا عليه وإنما كذبنا له، قال ابن كثير رحمه الله في ( اختصار علوم الحديث ) : وهذا من كمال جهلهم وقلة عقلهم وكثرة فجورهم وافترائهم فإنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج في كمال شريعته وفضلها إلى غيره . أ . هـ وليعلم هؤلاء الإخوة أنهم كالابن الرؤوم التي بلغت بها غيرتها ومحبتها لوليدها الوحيد إلى عدم تقويم سلوكه وتربيته حفاظاً على شعوره فلما بلغ السعي ألفته عاجزاً عن حل مشكلاته . هذه المحبة الناقصة قد تؤدي إلى هلاكه لأن هذه الأم حالت بينه وبين من يتعاهده ويرعاه خشية أن يخاف من مقابلته أو يتألم من علاجه
الثالثة : ولكن هناك أموراً بالغة الأهمية في عملية النصح والنقد والتقويم منها
ـ لا بد أن تكون عملية النصح والنقد والتقويم مشفوعة بالإشفاق ، قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ـ من كان آمراً بالمعروف فليكن أمره بالمعروف ، ومن كان ناهياً عن المنكر فلا يكونن نهيه منكر ـ لا بد من التزام آداب الإسلام في الحوار والنصح من الجدال بالتي هي أحسن والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ومخاطبة الناس على قدر عقولهم حتى لا يكذب الحق وإعطاء الآخرين الحق في إبداء رأيهم ومن ثم معالجته من جانب الصواب ـ لا بد أن ينصرف النقد والنصح والتوجيه إلى الآراء والأفكار دون الأشخاص بأعيانهم ما لم يكن هناك مصلحة من التعيين ـ اعلم أخي في الله أيدك الله بروح منه أن الخطأ في المعالجة وغياب الموعظة الحسنة عند بعض القائمين بهذا الأمر لا يسوغ للآخرين المطالبة بإلغاء النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم بحجة فقدان السلوك القويم والأسلوب الرشيد وفظاظة الذين يمارسونها وإنما ينبغي إلغاء الفظاظة والغلظة وتهذيبها بمكارم الأخلاق التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ليتمها . ولذلك لا بد من وجود الطائفة المنصورة القائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوارثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيل القدوة الأول الدين بقضه وقضيضه المستمرة في الثبات عليه غير خائفة لومة لائم ولا شماتة شامت حتى يأتي أمر الله بالنصر والتأييد
قال الشيخ رحمه الله :[ وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل ] ـ
الشرح : أي أن القرآن كله نزل لبيان التوحيد والإخلاص فهو لا يخلو
- إما أن يكون إخباراً عن أهل التوحيد وصفاتهم وما أعد الله لهم في الجنة ، أو عن أهل الشرك وصفاتهم وما أعد الله لهم في النار
- أو أن يكون أحكاماً في بيان الحلال والحرام وهذا من تمام التوحيد وكماله ألا يعبد الله إلا بما شرع،- أو بيناً للتوحيد نفسه بشتى أنواع الأدلة كإلزامهم بتوحيد الألوهية بع أن أقروا بتوحيد الربوبية
قوله : [ من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة ] ـ
الشرح : أي من كثرة تكراره وعظيم وضوحه في القرآن صار كل إنسان يفهمه حتى الغبي من الناس
قوله : [ ثم صار على أكثر الأمة ما صار ] ـ
الشرح : أي أنهم انحرفوا عن التوحيد ومالوا إلى الشرك ولا يعرفون أنهم كفروا بذلك
قوله :[ أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم ]ـ
الشرح : أي بزعمهم لأنهم يقولون من أنكر علينا دعاءنا لزيد بن الخطاب مثلاً أو للسيد البدوي أو غيرهما من الأضرحة فإن هذا قد تنقص أولياء الله وقصر في حقوقهم
قال الشيخ رحمه الله : [ وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم ] ـ
الشرح :لأن الشيطان حسَّن لهم عبادة غيرا لله عز وجل وجعل مدار التوحيد عندهم هو الغلو في المخلوقين . والحق أنه هو الشرك بالله عز وجل فهؤلاء لا بد أن نجادلهم بالحسنى لقوله تعالى : ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125) . فنسألهم ونقول ما مفهوم التوحيد عندكم ؟ فإن قالوا : مفهومنا أنه لا رازق ولا خالق ولا نافع ولا ضار إلا الله . قلنا: أنتم وكفار قريش بمنزلة واحدة . كما قال تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(84) (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُون(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون:89) ـ
فإن قالوا : الشرك متمثل في عبادة الأصنام وأما الأولياء فلسنا نعبدهم بل هم وسائط بيننا وبين الله لقربهم من الله . فجيبهم ونقول : هذا الذي قاله كفار قريش . قال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر:3) ـ
فإن قالوا : هذه الآية في الأصنام وأما نحن فنتبرأ من جعل الأصنام وسائط بيننا وبين الله . فنقول لهم : قد كفر الله عز وجل في القرآن الكريم من تعلق بالملائكة أو الأنبياء أو الصالحين وهم ليسوا أصناماً ولا أحجاراً . قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) (سـبأ:40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (سـبأ:41)، وقال تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116) ، وقال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الاسراء:57)ـ
ومشركو زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا شركهم في الرخاء والشدة قال تعالى : (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) . وكذلك مشركو زماننا أشركوا حتى في الربوبية . فالصوفية مثلا يعتقدون أن للكون مدبرا سوى الله ويسمونهم الأقطاب . فإذا كان هذا القطب مزاجه حار وعصبي صارت البلاد التي يدبرها حارة . وإذا كان حليما هادئا صار المناخ معتدلا . ومنهم من يرى أن الله حال في كل شيء كما قال قائلهم
الرب عبد والعبد رب فيا ليت شعري من المكلف
فـائـدة : أكثر أنواع الشرك شيوعا هو شرك الدعاء وقد تقرر بالقرآن الكريم والسنة المطهرة أن الدعاء هو العبادة . فمن صرفه لغير بالله فهو مشرك بالله . قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) (الجـن:20). فالآية صريحة في أن من دعاء غير الله فقد أشرك . وقال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60) ، فجعل الدعاء هو العبادة . وثبت عند الترمذي بسند صحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء هو العبادة "ـ
الأصل الثاني
قال الشيخ رحمه الله : [ أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق . فبين الله هذا بينا شافيا تفهمه العوام . ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا . وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه ]ـ
الشرح : من أعظم أصول الدين الإسلامي التي دل عليها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام الاجتماع على حبل الله المتين وصراطه المستقيم في آيات كثيرة منها ما يأمر بالاجتماع وما ينهى عن التفرق وهي كالتالي : قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران: من الآية103) ، وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)ـ
وقال تعالى : وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (الشورى:14) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ )النساء: الآية150) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء)(الأنعام: من الآية159) وقال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم:32) وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13) ـ
ويدخل في معنى التفرق الاختلاف فإنه مذموم شرعا ، وإن كان التفرق والاختلاف مرا قدريا لابد منه . قال تعالى : ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك)(هود: من الآية119) ، وقال عليه الصلاة والسلام : " لتتبعن سنن من كان قبلكم " الحديث . ومن أعظم سنن مكن كان قبلنا الافتراق والاختلاف , وتقدمت الإشارة إلى حديث سعيد في مسلم . إلا أن المسلمين مطالبون شرعا بتسويته وإزالته . والآيات في ذم الاختلاف كالتالي : قال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)ـ
وقال تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213) ، وقال تعالى : (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل:64) ، وقال تعالى : (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيه)(النحل: من الآية124) ، وقال تعالى : (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُم)(الجاثـية: من الآية17) ، وقال تعالى : (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
إذا يتبين من الآيات السابقة أ، الافتراق والاختلاف في الدين أمران مذمومان في شرعا مطلقا لا على الإطلاق . ويحسن بنا أن نقسمها إلى قسمين
القسم الأول : الافتراق في أصول الدين التي لا مجال للاجتهاد فيها ، كافتراق الشيعة عن أهل السنة .وافتراق الجهمية والمعتزلة والأشاعرة واختلافهم مع أهل السنة .ومن أنواعه : اختلاف بعض الفقهاء في فروع جاء الشرع بها كلها ، واختلافها لا يضر بل هو من الدين . كالاختلاف في صفات الأذان ، والاختلاف في أنواع التشهد وأنواع الاستفتاح . لأنها كلها جاء الشرع بها فلا يحسن اختلافها حينئذٍ بل يكون من نزغات الشيطان . وقد يكون الاختلاف في مسألة يتجاذبها دليلان كمسألة نقض الوضوء من لحوم الإبل فإن لزوم كل أحد منهما برأيه المبني على الدليل الشرعي من السنة الصحيحة لا يذم عليه وإنما يذم إذا وصل الخلاف إلى القلوب . فقد كان بعض السلف يصلي خلف رجل يعتقد أن لحوم الجزور لا ينقض مع اعتقاده هو أنه ينقض لأن الإمام مجتهد وله دليله . وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون ولكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى نفرة في القلوب وتقاطع وتدابر
القسم الثاني : الافتراق والاختلاف المحمود : فإن إصرار أهل السنة على مخالفة أهل البدع والضلالة محمود في حقهم بل هو واجب عليهم ، وأنه من الظلم العظيم والجناية على الدين أن يقال للمسلمين توحدوا على اختلاف مناهجكم بل عقائدكم . وهذا أعظم ما يزيل الدين ويمحو أثره ويصادم الأدلة الشرعية . فإن موسى عليه السلام لم يعذر هارون عليه السلام في عدم اتباعه لما رأى أن بني إسرائيل ضلوا . وقد قال هارون : ( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(طـه: من الآية94)، فالفرقة المحمودة إذا كان القصد منها الدفاع عن الكتاب والسنة على بصيرة ومنهج السلف الصالح .فالواجب على علماء الإسلام أن يتناصحوا ويبين بعضهم لبعض الحق الدليل الشرعي قال تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول)(النساء: من الآية59)، وقال تعالى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه)(الشورى:10)ـ
ومن رفض الحق بعد بيانه اتباعا لهواه فإن الله عز وجل يعاقبه بتقليب قلبه فلا يعلم الحق وإن أراده وطلبه . وإن من أعظم أسباب رد الحق هو تعظيم الرجال ، بل هو من أعظم أسباب الوقوع في الشرك كما في البخاري عن ابن عباس في قصة قوم نوح مع الرجال الصالحين . فتجد بعض الناس يعتقد أن الحق في كل ما قاله فلان ، فإذا جاء الدليل من الكتاب والسنة بخلافه رفضه وتمحل في رده وتأويله . ومن تأمل أحوال الفرق الضالة وجدهم أشد الناس تعلقاً بالأشخاص كما يفعل الشيعة ، وكما هو موجود في كثير من الجماعات الإسلامية ، فتجدهم يعظمون الشخص لأنه عذب مثلا ، أو جاهد . وعقيدة أهل السنة والجماعة أن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وأما من سواه فيؤخذ من قوله ما وافق الكتاب والسنة ويرد ما خالفهم . ولذلك فإن الواجب هو ربط المسلمين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن ربطهم بغيره من أعظم أسباب اختلافهم كما حصل في المذاهب الأربعة . تجد هذا يعظم الشافعي ويرفض قول أبي حنيفة ، وهذا يعظم قول أحمد ويرفض قول مالك حتى وصل بهم التعصب للرجال أن أفتى بعضهم بتحريم زواج الحنفية من الشافعي بل وضعوا أحاديث في مدح أئمتهم وذم أئمة آخرين ، وللإمام أحمد أبيات جميلة
دين النبي محـمد أخبـار نعـم المطيـة للفتى آثار
لا تغفلن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما غلط الفتى أثر الهدى والشمس بازغـة لها أنوار
قال الشيخ رحمه الله: [ فبين اله هذا بيانا شافيا تفهمه العوام . ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه ]ـ
الشرح : أي أن الله عز وجل لم يأمر المسلمين أمرا مطلقا بالاجتماع في الدين . فليس المقصود من الاجتماع تكثير سواد المسلمين وإنما المقصود بالاجتماع الاعتصام بحبل الله المتين . قال تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه)(الأنعام: من الآية116) ، وقال تعالى : (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف:103). فالكثرة لا تنفع إذا لم تكن معتصمة بحبل الله المتين . فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيكثرون في آخر الزمان ولكنه قال عنهم : ( غثاء كغثاء السيل ) ، وأخبر أن القليل منهم الذي يلتزم بهذا الدين التزاما كاملا فقال : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة " ـ
الأصل الثالث
قال الشيخ رحمه الله: [ إن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدا حبشيا ] ـ
الشرح : هذا الأصل من أعظم الأصول التي قلما يلتزم بها لب ناس مع أن أمر المسلمين لن يلتئم وتقوى شوكته إلا باجتماعهم على إمام . قال ابن عباس : ليلة من إمام خير من أن تمطر أربعين صباحا ) . ولا يشترط أهل السنة والجماعة في الإمام أن يكون معصوما فهذا من عقيدة الخوارج والشيعة . بل يكون مسلما يقود الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وقد وردت آيات في القرآن كقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: من الآية59) ، وأحاديث في السنة تأمر بطاعة الإمام وتحذر من الخروج عليه .ولا يخرج على الإمام إلا أحد أصناف ثلاثة
الصنف الأول : طلاب الدنيا كالأموال والولايات . وهؤلاء يجب على المسلمين قتالهم . قال عليه الصلاة والسلام : " من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاضربوا عنقه " الحديث في الصحيح
الصنف الثاني : من أراد أن تكون كلمة الله هي العليا وهم الخوارج فيجب على المسلمين قتالهم ، وقد تواترت الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بقتالهم
الصنف الثالث : البغاة وهم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ مع عدم اعتقادهم عقيدة الخوارج فهؤلاء أيضاً يقاتلون . وترك القتال في مثل هذه الحال خير لدين الرجل وبعد له عن الفتنة، وغالب الحكام في عصرنا لا يحكمون الناس بكتاب الله عز وجل ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلك الأحاديث لا تنطبق عليهم . إلا أن الخروج عليهم وقتالهم فيه مفاسد عظيمة على الإسلام والمسلمين خصوصا في حال ضعف المسلمين . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولا يكاد يعرف لطائفة من طوائف المسلمين خرجت على الحكام إلا وكان في خروجها من الفساد أعظم من الفساد الذي أزالته . أ.هـ . ولذلك فإن أسلوب الخروج أو الانقلابات أو الاغتيالات مع وضع المسلمين المزري ليعتبر أسلوبا فاشلا ، قاضٍ على جهود الدعاة إلى الله عز وجل .فلما خرج بعض من خرج في عهد يزيد بن معاوية ونصحهم الصحابة بعدم الخروج كابن عمر والنعمان بن بشير ومحمد بن علي (بن الحنفية) لم يستجيبوا لهم فقدم جيش يزيد واستباح المدينة ثلاثة أيام يقتلون رجالها وينتهكون أعراض نسائها . وهكذا في تاريخنا المعاصر جرى على بعض الجماعات الإسلامية في غير ما مصر الشيء الكثير من الفساد في الدين والدنيا – فقتل في حماة في سوريا أكثر من خمسين ألف نفس في يومين أو ثلاثة وانتهكت الأعراض وتقطعت السبل . إذاً فالأسلوب الصحيح في معالجة واقع المسلمين ليس هو مطارحة الحكام إنما هو بإصلاح المحكومين . قال تعالى : (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129)
ولذلك عاد كثير من منظري ومفكري بعض الجماعات الإسلامية كسيد قطب ووحيد خان ومحمد قطب وعبد القادر عودة إلى أن الأسلوب الصحيح يتمثل في أمرين هما : تصفية عقائد الناس وتربيتهم على النهج الصحيح والدين القويم . قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )(الرعد: من الآية11)، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ