اختلاف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لم
يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف
بالمعنى الذي ذكرناه، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع الجميع
باتفاق، و مردهم في كل أمر يحزبهم، ومفزعهم في كل شأن، وهاديهم من كل حيرة؛
فإذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في شيء ردوه إليه عليه الصلاة
والسلام فبين لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية، وأما الذين ينزل
بهم من الأمور ما لا يستطيعون رده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعدهم
عن المدينة المنورة، فكان يقع بينهم الاختلاف كاختلافهم في تفسير ما
يعرفونه من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه على ما
نابهم من أحداث، وقد لا يجدون في ذلك نصاً فتختلف اجتهاداتهم... هؤلاء ذا
عادوا إلى المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه ما
فهموه من النصوص التي بين أيديهم أو ما اجتهدوا فيه من القضايا، فإما أن
يقرهم على ذلك فيصبح جزءاً من سنته صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يبين لهم
وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون به، ويرتفع
الخلاف، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
(أ ) ما أخرجه البخاري ومسلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلاّ في
بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها،
أي: ديار بني قريظة.
وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر
للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعنف واحداً منهم (9). وظاهر من هذا
الحديث الشريف أن الصحابة رضوان الله عليهم انقسموا إلى فريقين في موقفهم
من أداء صلاة العصر: فريق أخذ بظاهر اللفظ (كما يقول المناطقة ) أو بما
يسميه أصوليو الحنفية بـ "عبارة النص ". وفريق استنبط من النص معنى خصَّصه
به.
وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للفريقين دليل على مشروعية كل من المذهبين.
فالمسلم
إذن: له أن يأخذ بظاهر النص، وله أن يستنبط من المعاني ما يحتمله النص،
ويمكن التدليل عليه، ولا لوم على من بذل جهده، وكان مؤهلاً لهذا النوع من
الجهد. فالفريق الثاني من الصحابة، رضوان الله عليهم، فهموا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يأمرهم بالمبالغة في الإسراع، ولذلك
اعتبروا أن أداءهم الصلاة قبل الوصول إلى بني قريظة لا ينافي أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالصلاة في بني قريظة، ما دامت الصلاة لن تؤخرهم عن
الوصول. ومن الطريف أن ابن القيم رحمه الله أورد اختلاف الفقهاء في تصويب
أن من الفريقين، وبيان الأفضل من فعل كل منهما، فمن قائل: إن الأفضل فعل من
صلى في الطريق فحاز قصب السبق في أداء الصلاة في وقتها وتلبية أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ومن قائل: إن الأفضل فعل من أخرها ليصليها في
بني قريظة. . . (10).
قلت: وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يعنف واحداً منهما، فكان على الفقهاء رحمهم الله أن يسعهم ذلك من سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وألا يخوضوا في أمر قد تولى، عليه الصلاة
والسلام، حسمه والانتهاء منه.
(ب ) ومن أمثلته كذلك ما أخرجه أبو
داود والحاكم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: (احتلمت في ليلة
باردة في غزوة ذات السلاسل (11) فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت
بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو صليت
بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي ((وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) [النساء:29]. فضحك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يقل شيئاً ) (12).
التــــأويل وأنواعـــه:
لسنا
بصدد ذكر كل ما اختلف فيه الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعده، بين آخذ بظاهر النص، وبين متدبر ومقلب له على مختلف وجوهه، ومستنبط
لشتى المعاني منه، فذلك أمر يطول، وتقصر دونه المجلدات فضلاً عن هذا البحث،
ذلك لأنهم رضوان الله عليهم قد فهموا من تلك الوقائع أن هذا الدين يسر،
وأن الشرع متَّسع للطريقتين ومقرُّ للمنهجين. . .
والمجتهدون
الحذقة، والفقهاء المهرة هم الذين يجتهدون في بيان ما يحقِّق كليّات
الشريعة، ويوصِّل إلى مقاصدها، فأحياناً يكون ذلك بالأخذ بظاهر اللفظ،
وأحياناً يكون بالأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، وهو ما يعرف بالتأويل، ولعل من
المفيد أن نلقي الضوء على هذا الموضوع، مستعرضين بإيجاز أنواع التأويل
وضوابطه. . .
يأتي التأويل من الأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، ويكون عبارة عن:
1- تـــأويـــل قـــريب:
وهو
ما يمكن معرفته بأدنى تأمل مع احتمال اللفظ له، مثل: اعتبار التصدق بمال
اليتيم، أو التبرع به لغيره، أو إتلافه مساوياً لأكله، أو أولى بالتحريم
الذي دل عليه قوله تعالى:
((إنَّ الذين يأْكُلون أمْوال اليتامى ظُلماً إنَّما يأكُلون في بُطونِهِمْ ناراً… )) [النساء:10].
ومنه:
اعتبار التبول في إناء ثم صب البول في الماء الراكد مساوياً للتبول
المباشر فيه، الذي ورد النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يبولن
أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه "(13). باعتبار أن كلا المعملين مؤد
لتلوث الماء، وإثارة الوسوسة.
2- تأويــل بعيـــد:
وهو ما
يحتاج لمعرفته والوصول إليه مزيد من التأمل مع كون اللفظ يحتمله، وذلك
كاستنباط ابن عباس رضي الله عنهما، أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى:
((وَحَمْلُهُ
وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )) [الأحقاف:15] مع قوله تعالى:
((والوالِداتُ يُرْضِعْن أولادهُنَّ حَوْلينِ كامِلينِ لِمَنْ أراد أن
يُتمّ الرّضاعة )) [البقرة:233].
وكاستدلال الإمام الشافعي على كون
الإجماع حجة بقوله تعالى: ((وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُولِّهِ
مَا تَولّى ونُصْلِهِ جهنَّم وَسَاءَتْ مَصِيرا ً)) [النساء:115].
وكذلك
استدلال الأصوليين بقوله تعالى: ((فَاعْتِبِرُوا يَا أولِي الأبْصَار ِ))
[الحشر:2]. . على حجية القياس، وكونه دليلاً شرعياً. فهذه استنتاجات وإن
بدت يسيرة، يتعذر الوصول إليها ما لم يكن الإنسان جوال الفكر، ثاقب النظر،
كما تحتاج إلى تأمل وتدبر لا يتيسران لعامة الناس.
3- تأويل مستبعد:
وهو
ما لا يحتمله اللفظ، وليس لدى المُؤَوِّل على تأويله أي نوع من أنواع
الدلالة، وذلك نحو تفسير بعضهم قول الله تعالى: ((وَعَلاَماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدون )) [النحل:16] بأن النجم هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، والعلامات هم الأئمة. وكتفسير بعضهم قوله تعالى:
((وَمَا تُغْنِي الآياتُ والنُّذُر عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُون ))
[يونس:101 بأن الآيات هم الأئمة، والنذر هم الأنبياء.
وكتفسير آخرين
قوله تعالى: ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيم ))
[النبأ:1-2] بالإمام علي رضي الله عنه ، وأنه هو النبأ العظيم(14).
ضــــوابط التــأويل:
ويتبين
مما ذكرنا أن التأويل يحتاج بالإضافة إلى القدرة على التدبر والتأمل إلى
ما يدل عليه ويلجئ إليه، وإلاّ فإن الأخذ بالظواهر أسلم، ولا يطرق باب
التأويل إلاّ في الأمور الاجتهادية، وأما في المسائل الاعتقادية فلا مجال
للاجتهاد فيها، فإن الأخذ بظواهر النصوص مع تفويض المعاني المرادة منها،
وما قد تدل عليه من كيفيات هو الأسلم دائماً، وهو موقف السلف رضوان الله
عليهم.
وعند الاضطرار إلى التأويل لا بد من فهم النص وتحليله،
ومعرفة سائر أوجه دلالته التي تشهد لها اللغة، وتدعمها مقاصد الشريعة،
وتساعد عليها كليَّاتها وقواعدها العامة، ولذلك كان الحكم باعتبار النص على
ظاهره أو تحليله لمعرفة ما يستلزمه من وجوه الدلالات من أهم ضروب الاجتهاد
الفقهي والاعتبار الشرعي المأمور به في قوله تعالى: ((فَاعْتَبِرُوا يا
أولي الأَبْصَارِ )) [الحشر:2 ].
إن ابن عباس رضي الله عنهما عند بيانه ضوابط التفسير قد ذكر أنه على أربعة أوجه:
· فوجه تعرفه العرب بكلامها.
· ووجه لا يعذر أحد بجهالته.
· ووجه يعلمه العلماء.
· ووجه لا يعلمه إلا الله.
وعلى
ذلك، فإن التأويل، وقد اتضح فيما تقدم معناه وأنواعه، قد ظهرت الصلة
الوثقى بينه وبين التفسير؛ فقد جاء كل منهما في موضع الآخر في كثير من
استعمالات الشارع الحكيم، وذلك في نحو قوله تعالى: ((وَما يعْلمُ
تأوِيلَهُ إلاّ اللهُ، والرَّاسِخُون في العِلْمِ يقولون آمَنَّا به )) [آل
عمران:7].
فقد ذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بالتأويل هنا
التفسير والبيان ومنهم: الطبري الذي نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما
وغيره من السلف.
كذلك ورد في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقِّهه في الدين، وعلمه التأويل" استعمل
التأويل بمعنى التفسير والبيان، وإن كان بعض العلماء، كالراغب الأصفهاني في
مفرداته، قد اعتبر التفسير أعم من التأويل، كما أنه نبه إلى أن التفسير
أكثر ما يستعمل في بيان الألفاظ وشرحها، وأن التأويل يكثر استعماله في بيان
المعاني والجُمل.
كما أشار كذلك إلى أن التأويل يغلب إطلاقه على
استنباط المعاني من نصوص الكتاب والسنة، أما التفسير فيتناول استنباط
المعاني منها ومن غيرها.
ولعل هذه الصلة الوثقى بين الاصطلاحين في
استعمال الكتاب والسنة لهما خاصة، تبيح لنا استعارة الضوابط التي وضعها أهل
الاختصاص للتفسير كضوابط للتأويل كذلك.
إن مما لا شك فيه أنه قد
وردت في كتاب الله أمور قد استأثر الله تعالى بعلمها، كمعرفة حقائق الأسماء
والصفات، وتفاصيل الغيب ونحو ذلك. . . كما أن هناك أموراً أخرى أطلع عليها
نبيه صلى الله عليه وسلم واختصه بمعرفتها. . . ولا شك أن مثل هذه الأمور،
ليس لأحد أن يخوض فيها بتفسير أو تأويل. . بل عليه أن يلزم حدود ما ورد
فيها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك قسم ثالث:
وهو عبارة عن العلوم التي علمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أودع في
كتابه،وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتعليمها وبيانها. وهذا القسم يشتمل
على نوعين:
الأول:
وهو ما لا يجوز الخوض فيه إلاّ بطريق السمع، كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيره.
الثاني:
ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال، وهذا أيضاً لأهل الاختصاص فيه موقفان:
(أ) فقسم منه اختلفوا في جواز تأويله، كآيات الأسماء والصفات. ومذهب السلف: منع التأويل، وهو الصحيح.
(ب) وقسم اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهو المسمى بـ "الفقه ".
هذا وقد وضع العلماء للتأويل والتفسير شروطاً منها:
أولاً: ألاَّ يرفع التأويل ظاهر المعنى المفهوم من اللفظ حسب القواعد اللغوية، وأعراف العرب في التخاطب بهذه الألفاظ.
ثانياً : ألاَّ يناقض نصاً قرآنياً.
ثالثاً: ألاَّ يخالف قاعدة شرعية مجمعاً عليها بين العلماء والأئمة.
رابعاً : وجوب مراعاة الغرض الذي سيق النص له من خلال سبب النزول أو الورود.
أما أنواع التأويل الباطلة والمردودة، فيمكن إدراجها ضمن الأقسام التالية:
الأول : التأويل والتفسير الصادران عن غير المؤهل لذلك ممن ليس لديه تحصيل علمي كاف في اللغة والنحو، وبقية لوازم التأويل.
الثاني : تأويل المتشابهات بدون سند صحيح.
الثالث : التأويلات التي من شأنه أن تقرر مذاهب فاسدة مخالفة لظواهر الكتاب والسنة، أو لما أجمع عليه المسلمون.
الرابع : التأويل مع القطع بأن مراد الشارع ذلك، دون دليل.
الخامس : التأويل القائم على الهوى، كتأويلات الباطنية وأمثالهم.
وهذه التأويلات المردودة كلها تندرج تحت ما سبق أن ذكرناه من التأويل المستبعد.
أهل الاجتهاد من الصحابـــــة:
ونظراً
لأهمية الاجتهاد وخطورته، وما يترتب عليه من آثار، لم يكن يمارسه من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ الأكفاء القادرون.
وحين يمارسه غيرهم فيخطئ، كان عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك ولا يقر أحداً عليه.
* وأخرج أبو داود والدارقطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً
منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه : هل تجدون رخصة لي في التيمم؟
فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام:
"قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما
كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب - شك من راوي الحديث - على جرحه خرقة،
ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده... " (15) فالرسول عليه الصلاة والسلام - لم
يعذر المفتين هنا - من أصحابه، بل عنَّفهم وعاب عليهم أنهم أفتوا بغير
علم، واعتبرهم بمثابة القتلة لأخيهم، وأوضح أن الواجب على من كان مثلهم في
"العيِّ" - أي الجهل والتحيُّر - السؤال لا المسارعة إلى الفتوى ولو بغير
علم، والذي نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ضرورة السؤال هو ما
ورد في القرآن العظيم نفسه في قوله تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون )) [النحل:43].
* وأخرج
الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي والطبراني عن أسامة بن زيد قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة
فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله؛ فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته
للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا
إله إلاّ اله وقتلته؟! " قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح.
قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله
إلاّ الله يوم القيامة؟ " فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل
ذلك اليوم (16).
ففي الحديث الأول أنكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الصحابة أخذهم بعموم الأدلة الدالة على وجوب استعمال الماء لواجده
بغض النظر عن حالته، فهم لم ينتبهوا إلى قوله تعالى: ((وإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائطِ أوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلمْ تجِدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّبا ً))
[المائدة:6] ولم يسألوا وهم ليسوا من أهل النظر.
وأما حديث أسامة
فيفهم منه كأنه رضي الله عنه تأول قول الله تعالى: ((. . .فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لمَّا رأَوْا بَأْسَناَ. . . )) [غافر:85]، واعتبر
الآية نافية للنفع في الدنيا والآخرة وأنها عامة في الحالين وليست خاصة
بالآخرة، كما هو ظاهر من الآية الكريمة، ولعل ذلك ما جعل النبي صلى الله
عليه وسلم يعنفه.
تلك بعض فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم التي لم يقرهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم (17).
لقد
كان الناس يستفتونه، عليه الصلاة والسلام، في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه
القضايا فيقضي فيها(18)، ويرى الفعل الحسن فيستحسنه ويثني على فاعله، ويرى
الفعل المغاير فينكره، ويستعلم منه أصحابه رضوان الله عليهم ذلك، ويرويه
بعضهم لبعضهم الآخر فيشيع بين الآخرين، وقد يختلفون فيتحاورون فيما
اختلفوا فيه بدافع الحرص، دون أن يجاوزوا ذلك إلى التنازع والشقاق،وتراشق
الاتهامات وتبادل الطعون لأنهم بالرجوع إلى كتاب الله تعالى، والى رسوله
صلى الله عليه وسلم يحسمون أي خلاف دون أن تبقى أية رواسب يمكن أن تلقي
ظلالاً على أخوَّتهم.
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الاختلاف:
كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أن بقاء هذه الأمة رهين بتآلف القلوب
التي التقت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها، لذلك كان عليه
الصلاة والسلام يحذر من أن يذر الخلاف قرنه فيقول: "لا تختلفوا فتختلف
قلوبكم " (19). وكان كرام الصحابة رضوان الله عليهم يرون أن الخلاف لا
يأتي بخير كما في قول ابن مسعود رضي الله عنه: "الخلاف شر ".
لذلك
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتث بذرة الخلاف قبل ن تتنامى. . . عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: هَجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله يعرف في وجهه
الغضب فقال: "إنما هلك من كان قببكم باختلافه في الكتاب "(20).
وعن
النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال؛ سمعت رجلاً قرأ آية
سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : "كلاكما محسن " قال شعبة: أظنه قال: "لا
تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا " (21).
فهنا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة ومن يأتي بعدهم عواقب الاختلاف ويحذرهم منه.
وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلم الصحابة رضوان الله عليهم أدباً هاماً
من آداب الاختلاف في قراءة القرآن خاصة، فيقول في الحديث الصحيح: "اقرؤوا
القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا " (22) فيندبهم
عليه الصلاة والسلام للقيام عن القرآن العظيم إذا اختلفوا في بعض أحرف
القراءة، أو في المعاني المرادة من الآيات الكريمة حتى تهدأ النفوس والقلوب
والخواطر، وتنتفي دواعي الحدة في الجدال المؤدية إلى المنازعة والشقاق،
أما إذا ائتلفت القلوب، وسيطرت الرغبة المخلصة في الفهم، فعليهم أن يواصلوا
القراءة والتدبر والتفكير في آيات لكتاب. ونرى كذلك أن القرآن الكريم كان -
أحياناً - يتولى التنبيه على "أدب الاختلاف " حين يقع بين الصحابة رضوان
الله عليهم، فعن عبد الله بن الزبير قال: "كاد الخيِّرانِ أن يهلكا - أبو
بكر وعمر رضي الله عنهما.. رفعا أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم حين
قدم ليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر بالقعقاع
بن معبد بن زرارة، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي، قال عمر: ما
أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى: ((يا أيُّها الذين
آمنوا لا تَرْفعُوا أصواتكم فوقَ صوتِ النّبي . . .الآية )) قال ابن
الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى
يستفهمه (23).
معالم أدب الاختلاف في عصر النبوة:
نستطيع على ضوء ما سبق أن نلخص معالم "أدب الاختلاف " في هذا العصر بما يلي:
(1)
كان الصحابة رضوان الله عليه يحاولون ألا يختلفوا ما أمكن، فلم يكونوا
يكثرون من المسائل والتفريعات (24)، بل يعالجون ما يقع من النوازل في ظلال
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومعالجة الأمر الواقع - عادة - لا تتيح
فرصة كبيرة للجدل فضلاً عن التنازع والشقاق.
(2) إذا وقع الاختلاف
رغم محاولات تحاشية سارعوا في ردّ الأمر المختلف فيه إلى كتاب الله وإلى
رسوله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما يرتفع الخلاف.
(3) سرعة خضوعهم والتزامهم بحكم الله ورسوله وتسليمهم التام الكامل به.
(4)
تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمختلفين في كثير من الأمور التي
تحتمل التأويل، ولدى كل منهم شعور بأن ما هب إليه أخوه يحتمل الصواب كالذي
يراه لنفسه، وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه،
والبعد عن التعصب للرأي.
(5) الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من
شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين، حيث لا يهم أيُّ منهما أن
تظهر الحقيقة على لسانه، أو على لسان أخيه.
(6) التزامهم بآداب الإسلام من انتقاء أطايب الكلم، وتجنّب الألفاظ الجارحة بين المختلفين، مع حسن استماع كل منهما للآخر.
(7)
تنزههم عن المماراة ما أمكن، وبذلهم أقصى أنواع الجهد في موضوع البحث، مما
يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر، ويدفع
المخالف لقبوله، أو محاولة تقديم الرأي الأفضل منه.
تلك هي أبرز معالم "أدب الاختلاف " التي يمكن إيرادها.. استخلصناها من وقائع الاختلاف التي ظهرت في عصر الرسالة.
الاختلاف في عصر الصحابة وآدابه:
حاول
بعض الكتاب على الساحة الإسلامية، أن يصوروا جيل الصحابة رضوان الله عليهم
بصورة جعلت العامة ترى أن ذلك الجيل ليس متميزاً فحسب، بل هو جيل يستحيل
تكراره، وفي هذا من الإساءة للإسلام ما لا يقل عن إساءة أولئك الضالين
الذين يزعمون أن استئناف الحياة الإسلامية في ظل كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم بعد عصر الصحابة ضرب من المستحيل، يجب ألاّ تتسامى نحوه
الأعناق، وبذلك يطفئون جذوة الأمل في نفوس لا تزال تتطلع إلى الحياة في ظل
الشريعة السمحاء.
إن الصحابة رضوان الله عليهم أمة صنعها كتاب الله
وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ، وكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه
وسلم بين ظهرانينا ولا يزالان قادرين على صنع أمة ربانية في أي زمان وفي
أي مكان إذا اتخذا منهجاً وسبيلاً، وتعامل الناس معهما كما كان الصحابة
يتعاملون، سيظلان كذلك إلى يوم القيامة، وادعاء استحالة تكرار الرعيل الأول
إنما هو بمثابة نسبة العجز إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ،
وفي ذلك محاولة لإثبات أن أثرهما الفعال في حياة الناس كان تبعاً لظروف
معينة، وأن زماننا هذا قد تجاوزهما بما ابتدع لنفسه من أنظمة حياة، وتلك
مقولة تنتهي بصاحبها إلى الكفر الصراح.
إن أصحاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في
حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من
لقائه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً،
ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور
الخطيرة:
إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اختلفوا في
أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله صلّى الله عليه
وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه عليه الصلاة والسلام، فكيف
لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت
له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:
1- اختلافهم في وفاته عليه الصلاة والسلام:
فقد
كان أول اختلاف بينهم، بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، حول حقيقة وفاته
صلّى الله عليه وسلم ، فإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصر على أن
رسول الله لم يمت، واعتبر القول بوفاته إرجافاً من المنافقين توعدهم عليهم،
حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه وقرأ على الناس قوله تعالى: ((وَمَا
مُحمَّدٌ إلاّ رسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفإِنْ مَاتَ أوْ
قُتِلَ انْقَلبْتُمْ على أعْقَابِكُم، وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبيهِ
فَلَنْ يضُرَّ الله شيئاً، وسيجْزي الله الشاكرين )) [آل عمران:144]، وقوله
تعالى: ((إنَّكَ مَيِّتُ وإنَّهُم ميِّتُون )) [الزمر:30]. فسقط السيف من
يد عمر، وخر إلى الأرض، واستيقن فراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ،
وانقطاع الوحي، وقال عن الآيات التي تلاها أبو بكر "كأني، والله، لم أكن
قرأتها قط "(25).
ويروي ابن عباس رضي الله عنهما عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال له في خلافته:
"يا
ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلّى
الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم.
قال:
فإنه - والله - إن كان الذي حملني على ذلك إلاّ أني كنتُ أقرأ هذه الآية:
((وكذلك جعلناكُم أمَّةً وسطاً لِتَكُونوا شُهداء على الناسِ ويَكُون
الرَّسولُ عليكمُ شهيداً )) [البقرة:143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه
الذي حملني على أن قلت ما قلت (26). فكأنه رضي الله عنه قد اجتهد في معنى
الآيات الكريمة، وفهم أن المراد منها: الشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي بقاء
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، إلى آخر أيامها. "
2- اختلافهم في دفنه عليه الصلاة والسلام:
ثم
اختلفوا في المكان الذي ينبغي أن يدفن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ،
فقال قائل: "ندفنه في مسجده. وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه. فقال أبو بكر
رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "ما قبض نبي
إلاّ دفن حيث يقبض " فرفع فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي توفي
عليه، فحفر له تحته "(27).
فهذان أمران خطيران زال الخلاف فيهما بمجرد الرجوع إلى الكتاب والسنة.
3- اختلافهم في خلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلم :
فقد
اختلفوا فيمن تكون الخلافة فيهم، أفي المهاجرين أم في الأنصار؟ أتكون
لواحد أم لأكثر؟ كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي ستكون للخليفة، أهي
الصلاحيات نفسها التي كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بصفته حاكماً
وإماماً للمسلمين أن تنقص عنها وتختلف؟!
يقول ابن إسحاق: "ولما قبض
رسول الله صلّى الله عليه وسلم انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة
في سقيفة بني ساعدة واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن
عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر، وانحاز معهم
أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل "(28) وأوشكت فتنة كبرى أن تقع، ولو وقعت
لما كان ذلك بالأمر المستغرب كثيراً، فالفراغ الذي تتركه شخصية عظمى مثل
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمة كان لها النبي والقائد لا يمكن أن
يملأ بسهولة، ولا سيما أن فيهم رجالاً، مثل: عمر، كان قد وقر في أذهانهم
استحالة موته صلّى الله عليه وسلم في تلك الظروف، فكل فرد في الأمة كان
يحبه عليه الصلاة والسلام أكثر مما يحب نفسه التي بين جنبيه، وهم الذين
كانوا يبتدرون قطرات وضوئه عليه الصلاة والسلام قبل أن تسقط على الأرض، فلا
تكاد تسقط إلاّ في يد أحدهم، وما من أمة على الأرض أحبت نبيها وقائدها
محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقد كان
أحدهم لا يستطيع أن يملأ عينيه من النظر إليه، من حبهم له وهيبته التي ملأت
قلوبهم وجوانحهم -رغم تواضعه الشديد- وإن وقع الصدمة بوفاته عليه الصلاة
والسلام كان حريًّا بأن يفقد الكثيرين منهم صوابهم، بل وقد فعل ولا غرو في
ذلك، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلم اليد الحانية التي حملت إليهم عز
الدنيا وسعادة الآخرة، ومع ذلك فقد تعالوا على مض الحزن وألم الفراق،
وتلوا قول الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رسُولُ قدْ خَلتْ مِنْ
قبْلِه الرُّسُل أفإنْ مَات أوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم، ومَنْ ينقلِبْ
على عقبيه فلن يضُرّ الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين )) [آل عمران:144]
ثم توجهوا لاحتواء الأمر، وحفظ الرسالة الخالدة، والحيلولة دون أسباب
الفتنة.
صحيح أنّ هناك زعامة واقعية كانت لأبي بكر ثم لعمر رضي
الله عنهما، ولم يكن من المسلمين من تنقطع الأعناق إليه، مثل: أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما، فأبو بكر كان وزير الرسول صلّى الله عليه وسلم وصاحبه
ورفيق هجرته ووالد زوجته الأثيرة لديه، وهو الذي لم يكن يفارقه في أي أمر
مهم. وعمر رضي الله عنه هو من هو؟ فقد كان في إسلامه عزة للمسلمين، وفي
هجرته إرغام لأنوف المشركين، وفي رأيه تأييد من رب العالمين... وكثيراً ما
ورد "…جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر " و "ذهب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر " و "غزا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر "... وهذا كله قد يخفف من الكارثة التي
زلزلت الأقدام والقلوب، بيد أن الإحساس بالفارغ في مثل هذه المواقف قد
يتجاوز الفضائل والمناقب، ويؤدي إلى ارتباك ليس من السهل احتواؤه والسيطرة
عليه، وهنا فإن الرجال الذين تربوا في ظلال النبوة قد كمتهم آدابها في سائر
الأحوال... حال الاتفاق وحال الاختلاف.. وفي كل شأن من شؤون الحياة، هذه
الآداب كانت كفيلة بدرء سائر الأخطار المحتملة، والحفاظ على الرسالة،
وحماية وحدة الأمة وتسيير الأمور بشكل مماثل لما كانت تسير عليه في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الرواة: "أتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر
فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد
انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ".
جاء هذا الخبر إلى الشيخين و رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهز ولم
يدفن بعد، قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار
حتى تنظر ما هم عليه. وليدع سيدنا عمر يروي بقية ما حدث، حيث قال: … إن
الأنصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة فانطلقنا نؤمهم، حتى
لقينا - منهم - رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، وقالا: أين
تريدون يا معشر المهاجرين. قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فلا
عليكم ألاّ تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال : قلت : والله
لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانينا رجل
مزمل، فقلت: من هذا الرجل ؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت ماله؟ فقالوا:
وجع فلما جلسنا نشهد خطيبهم… ثم ذكر مآثر الأنصار وفضائلهم، وما يدل على
أنهم أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم.
وهنا لا
بد من وقفة، فالأنصار أهل البلد، وهم فيها الغالبية المطلقة - كما يقال
اليوم - وهم الذين آووا ونصروا، وتبوّؤوا الدار والإيمان وفتحوا للإسلام
قلوبهم قبل بيوتهم، وليس هناك مهاجري واحد إلاّ ولأخ له من الأنصار عليه
فضل كبير، ولو كان في أمر الخلافة نص قاطع من كتاب الله أو سنة رسوله عليه
الصلاة والسلام لانتهى الأمر بذكره والاحتكام إليه، وارتفع الخلاف، ولكن
ليس هناك شيء من ذلك، فلم يبق إلاّ التحلي بكل خصال الحكمة والحنكة، وأدب
الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ القائم على إثارة أنبل المشاعر وأفضلها
لدى كل من الطرفين، لتجاوز العقبة، واحتواء الأزمة، والخروج منها، وذلك ما
كان يقول سيدنا عمر.
ولما سكت -أي خطيب الأنصار - أردت أن أتكلم وقد
زوّرت (هيأت وحسنت ) في نفسي مقالة أعجبتني. فقال أبو بكر: على رسلك يا
عمر؛ فكرهت أن أغضبه، فتكلم، وهو كان أعلم مني وأوقر - فوالله ما ترك كلمة
أعجبتني من تزويري إلاّ قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل حتى سكت، ومما
قال رضي الله عنه: "أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم به أهل" وأشاد بهم وبما
قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره
خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج المدينة - وحدها - فالجزيرة العربية اليوم - كلها
- تستظل بظل الإسلام ، وإذا كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن
يسلموا لإخوانهم قريش، وما لم تتوحد الكلمة فلن يكتب لرسالة الإسلام تجاوز
الحدود والانتشار خارج الجزيرة، إذن فمصلحة الدعوة تقتضي أن يكون الخليفة
من قريش لتستمر الرسالة، وتتحد الكلمة، وتجتمع القلوب، ويستمر المد
الإسلامي، ثم خيَّرهم بين أحد قرشيين لا يماري أحد في فضل أي منهما: عمر
وأبي عبيدة، ونزع نفسه من الأمر ".
يقول سيدنا عمر: "ولم أكره شيئاً
مما قاله غيرها - أي: غير ترشيحه لعمر وأبي عبيدة - وكان- والله أن أقدم
فتضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم
أبو بكر… ".
ثم قام من الأنصار خطيب آخر يريد أن يرجع الأمر إلى
الإطار الأول الذي وضعه خطيبهم الأول فيه .. فقال: "…منا أمير ومنكم أمير
يا معشر قريش " قال عمر: "فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى تخوّفت الاختلاف
" (29) فقلت: "ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه
المهاجرون،ثم بايعه الأنصار "(30). وقد كاد سعد بن عبادة مرشح الأنصار رضي
الله عنه أن يقتل في الزحام "فقد تدافع الناس لمبايعة أبي بكر حتى كادوا
يقتلون سعداً دون أن ينتبهوا له "(31).
وهكذا استطاع الصحابة رضوان
الله عليهم حشم هذا الخلاف دون أن تبقى في النفوس رواسب الإحن، وتوحدت كلمة
المسلمين للمضي برسالة الحق إلى حيث شاء الله لها أن تنتشر.
4- اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة:
كان
هذا الأمر رابع الأمور الخطيرة التي اختلف فيها الصحابة، واستطاعوا التغلب
عليها بما تحلّوا به من صدق النية إلى جانب أدب الاختلاف؛ فبعد أن بويع
أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض
القبائل حديثة العهد بالإسلام عنه، وتابع بعض من كان ادّعى النبوة، مثل:
مسيلمة الكذاب وغيره، كما امتنعت بعض القبائل عن أداء الصلاة والزكاة،
وامتنعت بعض القبائل عن أداء الزكاة فقط، وكان سبب امتناع بعضهم عن أداء
الزكاة أنفة واستكباراً أن يدفعوا لأبي بكر رضي الله عنه ، وسوّل الشيطان
لبعضهم بتأويل فاسد، حيث زعموا أنها، في أصل الشريعة، لا تدفع لغير رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المخاطب بأخذها، ومجازاتهم عليها
بالتطهير والتزكية، والدعاء لهم في قول الله تعالى: ((خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزّكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إنْ صَلاَتَكَ سَكَنَّ لَهُمْ واللهُ سمِيعُ عَلِيمٌ ))
(التوبة: 103) ونسي المانعون للزكاة أو تناسوا أن هذا الخطاب لم يكن
مقصوراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يتناول من يلي الأمر بعده -
عليه الصلاة والسلام - لأنه خطاب له صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً
وإماماً للمسلمين؛ فإن أخذ الزكاة من أهلها وتسليمها لمستحقيها من الأمور
الداخلة ضمن تنظيم المجتمع وإدارته كإقامة الحدود ونحوها، تنتقل مسؤوليتها
إلى القائمين بأمر المسلين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نيابة عن
الأمة.
كما أن كل مسلم كان يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
يبايعه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مما لا يترك مسوّغاً للتفريق
بينهما، وحرصاً من الخليفة الأول على استمرار مسيرة الإسلام يقرر أبو بكر
الصديق رضي الله عنه قتالهم لحملهم على التوبة وأداء الزكاة، والعودة إلى
حظيرة الإسلام ، والالتزام بكل ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم (32)، وإزاء الموقف الذي اتخذه الخليفة الأول يقع الخلاف بينه وبين
عمر رضي الله عنهما الذي تراءى له للوهلة الأولى عدم جواز مقاتلة مانعي
الزكاة. يقول أبو هريرة رضي الله عنه : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: فكيف
تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ
بحقها وحسابه على الله تعالى"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين
الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا
يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر:
فوالله ما هو إلاّ أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال فعرفت
أنه الحق " (33).
وقال ابن زيد: "افترضت الصلاة والزكاة ـ جميعاً ـ
لم يفرق بينهما وقرأ: ((فإنْ تابوا وَأَقامُوا الصلاة وآتَوُا الزكاة
فإِخْوانُكم في الدّين )) [التوبة:11]. وأبى أن يقبل الصلاة إلاّ بالزكاة،
وقال : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه ـ يريد بذلك إصراره على مقاتلة من
فرق بين الصلاة والزكاة ـ " (34). وكان سبب الخلاف بين أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما أن سيدنا عمر ومن معه تمسكوا بظاهر لفظ الحديث، واعتبروا مجرد
دخول الإنسان الإسلام ـ بإعلان الشهادتين ـ عاصماً لدمه وماله ومحرّماً
لقتاله. أما الصديق رضي الله عنه فقد تمسك بقوله صلى الله عليه وسلم "إلاّ
بحقها " واعتبر الزكاة حق المال الذي تفقد بالامتناع عن أدائه عصمة النفس
والمال، كما فهم من اقتران الصلاة والزكاة في معظم آي الكتاب، وأحاديث
الرسول صلى الله عليه وسلم أنهما مثلان لا فرق بينهما.
وما داموا
متفقين على أن الامتناع عن الصلاة دليل ارتداد واتباع لمدعي النبوة، فإن
الامتناع عن الزكاة ينبغي أن يعتبر كدليل ارتداد يقاتل مرتكبه، وبذلك
استطاع الصدّيق رضي الله عنه أن يقنع بقية الصحابة بصواب اجتهاده في وجوب
قتال مانعي الزكاة (35). واعتبارهم مرتدين ما لم يتوبوا، ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة... وبذلك ارتفع الخلاف في هذه المسألة الشائكة، واتفقت
الكلمة على قتال مانعي الزكاة، كما اتفقت على قتال المرتدين ردة كاملة،
وحفظ الإسلام من محاولات العبث والاتيان عليه ركناً بعد أن أخفقوا في
الإتيان عليه كاملاً، ولو لا هذا الموقف من الصديق ثم من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما قامت للإسلام قائمة ولا نحصر في المدينة ومكة
وأرز إليهما، وسادة الرّدة والفتنة سائر أرجاء الجزيرة(36).
5- اختلافهم في بعض المسائل الفقهية:
إذا
تركنا الأمور الخطيرة التي احتويت، وبحثنا في غيرها نجد ما لا ينقضي منه
العجب في أدب الاختلاف وتوقير العلماء بعضهم بعضاً، فمما اختلف فيه الشيخان
ـ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ـ غير ما ذكرنا.. سبي أهل الرِّدة، فقد كان
أبو بكر يرى سبي نساء المرتدين على عكس ما يراه عمر الذي نقض ـ في خلافته
ـ حكم أبي بكر في هذه المسألة، وردهن إلى أهليهن حرائر إلاّ من ولدت
لسيدها منهن، ومن جملتهن كانت خولة بنت جعفر الحنفية أم محمد بن علي رضي
الله عنهما.
كما اختلفا في قسمة الأراضي المفتوحة: فكان أبو بكر يرى قسمتها وكان عمر يرى وقفها ولم يقسمها.
وكذلك
اختلفا في المفاضلة في العطاء، فكان أبو بكر يرى التسوية في الأعطيات حين
كان يرى عمر المفاضلة وقد فاضل بين المسلمين في أعطياتهم.
وعمر لم
يستخلف على حين استخلفه أبو بكر، كما كان بينهما اختلاف في كثير من مسائل
الفقه(37)، ولكن الخلاف ما زاد كلاً منهما في أخيه إلاّحباً، فأبو بكر حين
استخلف عمر قال له بعض المسلمين: "ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك
عمر علينا وقد ترى من غلظته؟ قال: أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك
" (38).
وحين قال أحدهم لعمر رضي الله عنه: "أنت خير من أبي بكر. أجهش بالبكاء وقال: والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر "(39).
تلك
نماذج من الاختلافات بين الشيخين، اختلفت الآراء وما اختلفت القلوب، لأن
نياطها شدَّت بأسباب السماء فما عاد لتراب الأرض عليها من سلطان.
بين عمــر وعـلــي:
وقد
كان بين عمر وعلي رضي الله عنهما بعض الاختلافات، ولكن في نطاق أدب رفيع.
فقد أرسل عمر رضي الله عنه مرة إلى امرأة مغيبة (زوجها غائب ) كان يُدخلَ
عليها فأنكر ذلك، فأرسل إليها، فقيل لها أجيبي عمر. فقالت: يا ويلاه ما لها
ولعمر؟ فبينما هي في الطريق (إليه ) فزعت فضربها الطلق، فدخلت داراً فألقت
ولدها، فصاح الصبي صيحتين ثم مات. فاستشار عمر صحب النبي صلى الله عليه
وسلم فأشار عليه بعضهم: أنه ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ مؤدب، وصمت علي
رضي الله عنه ، فأقبل عليه عمر وقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم
فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك،
فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها بسببك؛ فأمر عمر أن يقسم عقله (دية الصبي
) على قومه(40). وهكذا نزل عمر على رأي علي رضي الله عنهما ولم يجد غضاضة
في العمل باجتهاده وهو أمير المؤمنين، وقد كان في رأي غيره له منجاة.
بين عمر وعبد الله بن مسعود:
عبد
الله بن مسعود من أقرأ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتاب الله،
ومن أعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من الصحابة
يعدونه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة ملازمته له، قال
أبو موسى الأشعري: "كنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمّه إلاّ من أهل بيت
النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له "(41). وقال أبو مسعود
البدري مشيراً إلى عبد الله بن مسعود، وقد رآه مقبلاً: "ما أعلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أحداً أعلم بما أنزل الله تعالى من هذا
القادم. فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حجبنا "(42).
وعمر رضي الله عنه معروف من هو في فقهه وجلالة قدره، وقد كان
ابن مسعود أحد رجال عمر رضي الله عنهما في بعض الأعمال، وقد وافق عبد الله،
عمر رضي الله عنهما في كثير من اجتهاداته، حتى اعتبره المؤرخون للتشريع
الإسلامي أكثر الصحابة تأثراً بعمر، وكثيراً ما كانا يتوافقان في
اجتهاداتهما، وطرائقهما في الاستدلال، وربما رجع عبد الله إلى مذهب عمر في
بعض المسائل الفقهية كما في مسألة مقاسمة الجد الإخوة مرة إلى الثلث، ومرة
إلى السدس (43).
ولكنهما اختلفا في مسائل كثيرة أيضاً، ومن مسائل
الخلاف بينهما: أن ابن مسعود كان يطبق يديه في للصلاة، وينهى عن وضعهما على
الركب، وعمر كان يفعل ذلك وينهى عن التطبيق.
وكان ابن مسعود يرى في قول الرجل لامرأته: "أنت عَلَيَّ حرام " أنه يمين، وعمر يقول: هي طلقة واحدة.
وكان
ابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها: لا يزالان زانيين ما اجتمعا،
وعمر لا يرى ذلك، ويعتبر أوله سفاحاً وآخره نكاحاً (44).
ولقد ذكر
ابن القيم في "إعلام الموقعين " أن المسائل الفقهية التي خالف فيها ابن
مسعود عمر رضي الله عنهما بلغت مائة مسألة وذكر أربعاً منها(45). ومع ذلك
فإن اختلافهما هذا ما نقص من حب أحدهما لصاحبه، وما أضعف من تقدير ومودة أي
منهما للآخر، فهذا ابن مسعود يأتيه اثنان: أحدهما قرأ على عمر وآخر قرأ
على صحابي آخر، فيقول الذي قرأ على عمر: اقرأنيها عمر بن الخطاب، فيجهش ابن
مسعود بالبكاء حتى يبل الحصى بدموعه، ويقول: اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان
للإسلام حصناً حصيناً، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر
انثلم الحصن (46).
ويقبل ابن مسعود يوماً وعمر جالس فلما رآه مقبلاً
قال: "كنيّف مُلئ فقهاً أوعلما ً" وفي رواية: "كنيّف ملئ علماً آثرت به
أهل القادسية "(47). هكذا كانت نظرة عمر لابن مسعود رضي الله عنهما، لم
يزده الاختلاف بينهما في تلكم المسائل إلاّ محبة وتقديراً له، ولنا أن
نستنبط من تلك الأحداث آداباً تكون نبراساً في معالجة القضايا الخلافية.
بين ابن عبَّاس وزيد بن ثابت:
وحتى
نتلمس المزيد من أدب الاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم نعرض القضايا
الخلافية، فنقول: كان ابن عباس رضي الله عنهما يذهب كالصدِّيق وكثير من
الصحابة إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في المواريث كالأب، وكان
زيد بن ثابت كعلي وابن مسعود وفريق آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
يذهب إلى توريث الإخوة مع الجد ولا يحجبهم به، فقال ابن عباس يوماً: ألا
يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً!: وقال:
لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع، فنضع أيدينا على
الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. . . (48).
تلك أمثلة
من اختلافات الصحابة الفقهية، نوردها لا لنعمق الهوة ونؤصل الاختلاف بل
لتنحصر ضالتنا في استقراء آداب نلتقي عليها في حل خلافاتنا الفقهية حتى
يغدو أسلوب حياة لنا في تعاملنا مع الناس.
إن ابن عباس رضي الله
عنهما الذي بلغت ثقته بصحة اجتهاده وخطأ اجتهاد زيد هذا الحد الذي رأيناه،
رأى زيد بن ثابت يوماً يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال زيد: تَنَحَّ
يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن
نفعل بعلمائنا وكبرائنا. فقال زيد: أرني يدك. فأخرج ابن عباس يده،
فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا(49). وحين توفي زيد
قال ابن عباس: "هكذا يذهب العلم "(50) وفي رواية البيهقي في سننه الكبرى
"هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليوم علم كثير "(51). وكان عمر رضي الله عنه
يدعو ابن عباس للمعضلات من المسائل مع شيوخ المهاجرين والأنصار من البدريين
وغيرهم (52).
والحق لو أننا حاولنا تتبع القضايا الخلافية بين
الصحابة في مسائل الفقه، وسلوكهم في عرض مذاهبهم لسودنا في ذلك كتباً،
وهذا ليس مبتغانا هنا إنما نورد نماذج - فقط - نستشف منها الآداب التي
تربى عليها جيل الصحابة رضوان الله عليهم، لتدل على مدى التزامهم بأدب
الاختلاف في الظروف كلها.
وحين جرى الكتاب بما سبق في علم الله،
ووقعت الفتن الكبرى، وحدث ما حدث بين الصحابة ـ لأمور الله وحده العالم
بكل أسبابها، والمحيط بسائر عواملها ـ حين حدث ذلك ووقع السيف بينهم ما
نسي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضائل أهل الفضل منهم، ولا أنستهم
الأحداث الجسام والفتن العظام مناقب أهل المناقب منهم، فهذا أمير
المؤمنين علي رضي الله عنه يقول عنه مروان بن الحكم: "ما رأيت أحداً أكرم
غلبة من علي ما هو إلاّ ولينا يوم الجمل فنادى مناديه. . . ولا يذفف ـ أي
يجهز ـ على جريح " (53).
ويدخل عمران بن طلحة على عليّ رضي الله
عنه، بعدما فرغ من معركة الجمل، فيرحب به ويدنيه ويقول: "إني لأرجو أن
لم
يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف
بالمعنى الذي ذكرناه، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع الجميع
باتفاق، و مردهم في كل أمر يحزبهم، ومفزعهم في كل شأن، وهاديهم من كل حيرة؛
فإذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في شيء ردوه إليه عليه الصلاة
والسلام فبين لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية، وأما الذين ينزل
بهم من الأمور ما لا يستطيعون رده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعدهم
عن المدينة المنورة، فكان يقع بينهم الاختلاف كاختلافهم في تفسير ما
يعرفونه من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه على ما
نابهم من أحداث، وقد لا يجدون في ذلك نصاً فتختلف اجتهاداتهم... هؤلاء ذا
عادوا إلى المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه ما
فهموه من النصوص التي بين أيديهم أو ما اجتهدوا فيه من القضايا، فإما أن
يقرهم على ذلك فيصبح جزءاً من سنته صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يبين لهم
وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون به، ويرتفع
الخلاف، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
(أ ) ما أخرجه البخاري ومسلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلاّ في
بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها،
أي: ديار بني قريظة.
وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر
للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعنف واحداً منهم (9). وظاهر من هذا
الحديث الشريف أن الصحابة رضوان الله عليهم انقسموا إلى فريقين في موقفهم
من أداء صلاة العصر: فريق أخذ بظاهر اللفظ (كما يقول المناطقة ) أو بما
يسميه أصوليو الحنفية بـ "عبارة النص ". وفريق استنبط من النص معنى خصَّصه
به.
وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للفريقين دليل على مشروعية كل من المذهبين.
فالمسلم
إذن: له أن يأخذ بظاهر النص، وله أن يستنبط من المعاني ما يحتمله النص،
ويمكن التدليل عليه، ولا لوم على من بذل جهده، وكان مؤهلاً لهذا النوع من
الجهد. فالفريق الثاني من الصحابة، رضوان الله عليهم، فهموا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يأمرهم بالمبالغة في الإسراع، ولذلك
اعتبروا أن أداءهم الصلاة قبل الوصول إلى بني قريظة لا ينافي أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالصلاة في بني قريظة، ما دامت الصلاة لن تؤخرهم عن
الوصول. ومن الطريف أن ابن القيم رحمه الله أورد اختلاف الفقهاء في تصويب
أن من الفريقين، وبيان الأفضل من فعل كل منهما، فمن قائل: إن الأفضل فعل من
صلى في الطريق فحاز قصب السبق في أداء الصلاة في وقتها وتلبية أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ومن قائل: إن الأفضل فعل من أخرها ليصليها في
بني قريظة. . . (10).
قلت: وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يعنف واحداً منهما، فكان على الفقهاء رحمهم الله أن يسعهم ذلك من سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وألا يخوضوا في أمر قد تولى، عليه الصلاة
والسلام، حسمه والانتهاء منه.
(ب ) ومن أمثلته كذلك ما أخرجه أبو
داود والحاكم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: (احتلمت في ليلة
باردة في غزوة ذات السلاسل (11) فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت
بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو صليت
بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي ((وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) [النساء:29]. فضحك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يقل شيئاً ) (12).
التــــأويل وأنواعـــه:
لسنا
بصدد ذكر كل ما اختلف فيه الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعده، بين آخذ بظاهر النص، وبين متدبر ومقلب له على مختلف وجوهه، ومستنبط
لشتى المعاني منه، فذلك أمر يطول، وتقصر دونه المجلدات فضلاً عن هذا البحث،
ذلك لأنهم رضوان الله عليهم قد فهموا من تلك الوقائع أن هذا الدين يسر،
وأن الشرع متَّسع للطريقتين ومقرُّ للمنهجين. . .
والمجتهدون
الحذقة، والفقهاء المهرة هم الذين يجتهدون في بيان ما يحقِّق كليّات
الشريعة، ويوصِّل إلى مقاصدها، فأحياناً يكون ذلك بالأخذ بظاهر اللفظ،
وأحياناً يكون بالأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، وهو ما يعرف بالتأويل، ولعل من
المفيد أن نلقي الضوء على هذا الموضوع، مستعرضين بإيجاز أنواع التأويل
وضوابطه. . .
يأتي التأويل من الأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، ويكون عبارة عن:
1- تـــأويـــل قـــريب:
وهو
ما يمكن معرفته بأدنى تأمل مع احتمال اللفظ له، مثل: اعتبار التصدق بمال
اليتيم، أو التبرع به لغيره، أو إتلافه مساوياً لأكله، أو أولى بالتحريم
الذي دل عليه قوله تعالى:
((إنَّ الذين يأْكُلون أمْوال اليتامى ظُلماً إنَّما يأكُلون في بُطونِهِمْ ناراً… )) [النساء:10].
ومنه:
اعتبار التبول في إناء ثم صب البول في الماء الراكد مساوياً للتبول
المباشر فيه، الذي ورد النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يبولن
أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه "(13). باعتبار أن كلا المعملين مؤد
لتلوث الماء، وإثارة الوسوسة.
2- تأويــل بعيـــد:
وهو ما
يحتاج لمعرفته والوصول إليه مزيد من التأمل مع كون اللفظ يحتمله، وذلك
كاستنباط ابن عباس رضي الله عنهما، أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى:
((وَحَمْلُهُ
وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )) [الأحقاف:15] مع قوله تعالى:
((والوالِداتُ يُرْضِعْن أولادهُنَّ حَوْلينِ كامِلينِ لِمَنْ أراد أن
يُتمّ الرّضاعة )) [البقرة:233].
وكاستدلال الإمام الشافعي على كون
الإجماع حجة بقوله تعالى: ((وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُولِّهِ
مَا تَولّى ونُصْلِهِ جهنَّم وَسَاءَتْ مَصِيرا ً)) [النساء:115].
وكذلك
استدلال الأصوليين بقوله تعالى: ((فَاعْتِبِرُوا يَا أولِي الأبْصَار ِ))
[الحشر:2]. . على حجية القياس، وكونه دليلاً شرعياً. فهذه استنتاجات وإن
بدت يسيرة، يتعذر الوصول إليها ما لم يكن الإنسان جوال الفكر، ثاقب النظر،
كما تحتاج إلى تأمل وتدبر لا يتيسران لعامة الناس.
3- تأويل مستبعد:
وهو
ما لا يحتمله اللفظ، وليس لدى المُؤَوِّل على تأويله أي نوع من أنواع
الدلالة، وذلك نحو تفسير بعضهم قول الله تعالى: ((وَعَلاَماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدون )) [النحل:16] بأن النجم هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، والعلامات هم الأئمة. وكتفسير بعضهم قوله تعالى:
((وَمَا تُغْنِي الآياتُ والنُّذُر عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُون ))
[يونس:101 بأن الآيات هم الأئمة، والنذر هم الأنبياء.
وكتفسير آخرين
قوله تعالى: ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيم ))
[النبأ:1-2] بالإمام علي رضي الله عنه ، وأنه هو النبأ العظيم(14).
ضــــوابط التــأويل:
ويتبين
مما ذكرنا أن التأويل يحتاج بالإضافة إلى القدرة على التدبر والتأمل إلى
ما يدل عليه ويلجئ إليه، وإلاّ فإن الأخذ بالظواهر أسلم، ولا يطرق باب
التأويل إلاّ في الأمور الاجتهادية، وأما في المسائل الاعتقادية فلا مجال
للاجتهاد فيها، فإن الأخذ بظواهر النصوص مع تفويض المعاني المرادة منها،
وما قد تدل عليه من كيفيات هو الأسلم دائماً، وهو موقف السلف رضوان الله
عليهم.
وعند الاضطرار إلى التأويل لا بد من فهم النص وتحليله،
ومعرفة سائر أوجه دلالته التي تشهد لها اللغة، وتدعمها مقاصد الشريعة،
وتساعد عليها كليَّاتها وقواعدها العامة، ولذلك كان الحكم باعتبار النص على
ظاهره أو تحليله لمعرفة ما يستلزمه من وجوه الدلالات من أهم ضروب الاجتهاد
الفقهي والاعتبار الشرعي المأمور به في قوله تعالى: ((فَاعْتَبِرُوا يا
أولي الأَبْصَارِ )) [الحشر:2 ].
إن ابن عباس رضي الله عنهما عند بيانه ضوابط التفسير قد ذكر أنه على أربعة أوجه:
· فوجه تعرفه العرب بكلامها.
· ووجه لا يعذر أحد بجهالته.
· ووجه يعلمه العلماء.
· ووجه لا يعلمه إلا الله.
وعلى
ذلك، فإن التأويل، وقد اتضح فيما تقدم معناه وأنواعه، قد ظهرت الصلة
الوثقى بينه وبين التفسير؛ فقد جاء كل منهما في موضع الآخر في كثير من
استعمالات الشارع الحكيم، وذلك في نحو قوله تعالى: ((وَما يعْلمُ
تأوِيلَهُ إلاّ اللهُ، والرَّاسِخُون في العِلْمِ يقولون آمَنَّا به )) [آل
عمران:7].
فقد ذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بالتأويل هنا
التفسير والبيان ومنهم: الطبري الذي نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما
وغيره من السلف.
كذلك ورد في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقِّهه في الدين، وعلمه التأويل" استعمل
التأويل بمعنى التفسير والبيان، وإن كان بعض العلماء، كالراغب الأصفهاني في
مفرداته، قد اعتبر التفسير أعم من التأويل، كما أنه نبه إلى أن التفسير
أكثر ما يستعمل في بيان الألفاظ وشرحها، وأن التأويل يكثر استعماله في بيان
المعاني والجُمل.
كما أشار كذلك إلى أن التأويل يغلب إطلاقه على
استنباط المعاني من نصوص الكتاب والسنة، أما التفسير فيتناول استنباط
المعاني منها ومن غيرها.
ولعل هذه الصلة الوثقى بين الاصطلاحين في
استعمال الكتاب والسنة لهما خاصة، تبيح لنا استعارة الضوابط التي وضعها أهل
الاختصاص للتفسير كضوابط للتأويل كذلك.
إن مما لا شك فيه أنه قد
وردت في كتاب الله أمور قد استأثر الله تعالى بعلمها، كمعرفة حقائق الأسماء
والصفات، وتفاصيل الغيب ونحو ذلك. . . كما أن هناك أموراً أخرى أطلع عليها
نبيه صلى الله عليه وسلم واختصه بمعرفتها. . . ولا شك أن مثل هذه الأمور،
ليس لأحد أن يخوض فيها بتفسير أو تأويل. . بل عليه أن يلزم حدود ما ورد
فيها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك قسم ثالث:
وهو عبارة عن العلوم التي علمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أودع في
كتابه،وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتعليمها وبيانها. وهذا القسم يشتمل
على نوعين:
الأول:
وهو ما لا يجوز الخوض فيه إلاّ بطريق السمع، كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيره.
الثاني:
ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال، وهذا أيضاً لأهل الاختصاص فيه موقفان:
(أ) فقسم منه اختلفوا في جواز تأويله، كآيات الأسماء والصفات. ومذهب السلف: منع التأويل، وهو الصحيح.
(ب) وقسم اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهو المسمى بـ "الفقه ".
هذا وقد وضع العلماء للتأويل والتفسير شروطاً منها:
أولاً: ألاَّ يرفع التأويل ظاهر المعنى المفهوم من اللفظ حسب القواعد اللغوية، وأعراف العرب في التخاطب بهذه الألفاظ.
ثانياً : ألاَّ يناقض نصاً قرآنياً.
ثالثاً: ألاَّ يخالف قاعدة شرعية مجمعاً عليها بين العلماء والأئمة.
رابعاً : وجوب مراعاة الغرض الذي سيق النص له من خلال سبب النزول أو الورود.
أما أنواع التأويل الباطلة والمردودة، فيمكن إدراجها ضمن الأقسام التالية:
الأول : التأويل والتفسير الصادران عن غير المؤهل لذلك ممن ليس لديه تحصيل علمي كاف في اللغة والنحو، وبقية لوازم التأويل.
الثاني : تأويل المتشابهات بدون سند صحيح.
الثالث : التأويلات التي من شأنه أن تقرر مذاهب فاسدة مخالفة لظواهر الكتاب والسنة، أو لما أجمع عليه المسلمون.
الرابع : التأويل مع القطع بأن مراد الشارع ذلك، دون دليل.
الخامس : التأويل القائم على الهوى، كتأويلات الباطنية وأمثالهم.
وهذه التأويلات المردودة كلها تندرج تحت ما سبق أن ذكرناه من التأويل المستبعد.
أهل الاجتهاد من الصحابـــــة:
ونظراً
لأهمية الاجتهاد وخطورته، وما يترتب عليه من آثار، لم يكن يمارسه من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ الأكفاء القادرون.
وحين يمارسه غيرهم فيخطئ، كان عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك ولا يقر أحداً عليه.
* وأخرج أبو داود والدارقطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً
منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه : هل تجدون رخصة لي في التيمم؟
فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام:
"قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما
كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب - شك من راوي الحديث - على جرحه خرقة،
ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده... " (15) فالرسول عليه الصلاة والسلام - لم
يعذر المفتين هنا - من أصحابه، بل عنَّفهم وعاب عليهم أنهم أفتوا بغير
علم، واعتبرهم بمثابة القتلة لأخيهم، وأوضح أن الواجب على من كان مثلهم في
"العيِّ" - أي الجهل والتحيُّر - السؤال لا المسارعة إلى الفتوى ولو بغير
علم، والذي نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ضرورة السؤال هو ما
ورد في القرآن العظيم نفسه في قوله تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون )) [النحل:43].
* وأخرج
الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي والطبراني عن أسامة بن زيد قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة
فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله؛ فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته
للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا
إله إلاّ اله وقتلته؟! " قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح.
قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله
إلاّ الله يوم القيامة؟ " فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل
ذلك اليوم (16).
ففي الحديث الأول أنكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الصحابة أخذهم بعموم الأدلة الدالة على وجوب استعمال الماء لواجده
بغض النظر عن حالته، فهم لم ينتبهوا إلى قوله تعالى: ((وإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائطِ أوْ
لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلمْ تجِدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّبا ً))
[المائدة:6] ولم يسألوا وهم ليسوا من أهل النظر.
وأما حديث أسامة
فيفهم منه كأنه رضي الله عنه تأول قول الله تعالى: ((. . .فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لمَّا رأَوْا بَأْسَناَ. . . )) [غافر:85]، واعتبر
الآية نافية للنفع في الدنيا والآخرة وأنها عامة في الحالين وليست خاصة
بالآخرة، كما هو ظاهر من الآية الكريمة، ولعل ذلك ما جعل النبي صلى الله
عليه وسلم يعنفه.
تلك بعض فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم التي لم يقرهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم (17).
لقد
كان الناس يستفتونه، عليه الصلاة والسلام، في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه
القضايا فيقضي فيها(18)، ويرى الفعل الحسن فيستحسنه ويثني على فاعله، ويرى
الفعل المغاير فينكره، ويستعلم منه أصحابه رضوان الله عليهم ذلك، ويرويه
بعضهم لبعضهم الآخر فيشيع بين الآخرين، وقد يختلفون فيتحاورون فيما
اختلفوا فيه بدافع الحرص، دون أن يجاوزوا ذلك إلى التنازع والشقاق،وتراشق
الاتهامات وتبادل الطعون لأنهم بالرجوع إلى كتاب الله تعالى، والى رسوله
صلى الله عليه وسلم يحسمون أي خلاف دون أن تبقى أية رواسب يمكن أن تلقي
ظلالاً على أخوَّتهم.
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الاختلاف:
كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أن بقاء هذه الأمة رهين بتآلف القلوب
التي التقت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها، لذلك كان عليه
الصلاة والسلام يحذر من أن يذر الخلاف قرنه فيقول: "لا تختلفوا فتختلف
قلوبكم " (19). وكان كرام الصحابة رضوان الله عليهم يرون أن الخلاف لا
يأتي بخير كما في قول ابن مسعود رضي الله عنه: "الخلاف شر ".
لذلك
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتث بذرة الخلاف قبل ن تتنامى. . . عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: هَجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله يعرف في وجهه
الغضب فقال: "إنما هلك من كان قببكم باختلافه في الكتاب "(20).
وعن
النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال؛ سمعت رجلاً قرأ آية
سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : "كلاكما محسن " قال شعبة: أظنه قال: "لا
تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا " (21).
فهنا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة ومن يأتي بعدهم عواقب الاختلاف ويحذرهم منه.
وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلم الصحابة رضوان الله عليهم أدباً هاماً
من آداب الاختلاف في قراءة القرآن خاصة، فيقول في الحديث الصحيح: "اقرؤوا
القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا " (22) فيندبهم
عليه الصلاة والسلام للقيام عن القرآن العظيم إذا اختلفوا في بعض أحرف
القراءة، أو في المعاني المرادة من الآيات الكريمة حتى تهدأ النفوس والقلوب
والخواطر، وتنتفي دواعي الحدة في الجدال المؤدية إلى المنازعة والشقاق،
أما إذا ائتلفت القلوب، وسيطرت الرغبة المخلصة في الفهم، فعليهم أن يواصلوا
القراءة والتدبر والتفكير في آيات لكتاب. ونرى كذلك أن القرآن الكريم كان -
أحياناً - يتولى التنبيه على "أدب الاختلاف " حين يقع بين الصحابة رضوان
الله عليهم، فعن عبد الله بن الزبير قال: "كاد الخيِّرانِ أن يهلكا - أبو
بكر وعمر رضي الله عنهما.. رفعا أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم حين
قدم ليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر بالقعقاع
بن معبد بن زرارة، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي، قال عمر: ما
أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى: ((يا أيُّها الذين
آمنوا لا تَرْفعُوا أصواتكم فوقَ صوتِ النّبي . . .الآية )) قال ابن
الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى
يستفهمه (23).
معالم أدب الاختلاف في عصر النبوة:
نستطيع على ضوء ما سبق أن نلخص معالم "أدب الاختلاف " في هذا العصر بما يلي:
(1)
كان الصحابة رضوان الله عليه يحاولون ألا يختلفوا ما أمكن، فلم يكونوا
يكثرون من المسائل والتفريعات (24)، بل يعالجون ما يقع من النوازل في ظلال
هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومعالجة الأمر الواقع - عادة - لا تتيح
فرصة كبيرة للجدل فضلاً عن التنازع والشقاق.
(2) إذا وقع الاختلاف
رغم محاولات تحاشية سارعوا في ردّ الأمر المختلف فيه إلى كتاب الله وإلى
رسوله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما يرتفع الخلاف.
(3) سرعة خضوعهم والتزامهم بحكم الله ورسوله وتسليمهم التام الكامل به.
(4)
تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمختلفين في كثير من الأمور التي
تحتمل التأويل، ولدى كل منهم شعور بأن ما هب إليه أخوه يحتمل الصواب كالذي
يراه لنفسه، وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه،
والبعد عن التعصب للرأي.
(5) الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من
شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين، حيث لا يهم أيُّ منهما أن
تظهر الحقيقة على لسانه، أو على لسان أخيه.
(6) التزامهم بآداب الإسلام من انتقاء أطايب الكلم، وتجنّب الألفاظ الجارحة بين المختلفين، مع حسن استماع كل منهما للآخر.
(7)
تنزههم عن المماراة ما أمكن، وبذلهم أقصى أنواع الجهد في موضوع البحث، مما
يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر، ويدفع
المخالف لقبوله، أو محاولة تقديم الرأي الأفضل منه.
تلك هي أبرز معالم "أدب الاختلاف " التي يمكن إيرادها.. استخلصناها من وقائع الاختلاف التي ظهرت في عصر الرسالة.
الاختلاف في عصر الصحابة وآدابه:
حاول
بعض الكتاب على الساحة الإسلامية، أن يصوروا جيل الصحابة رضوان الله عليهم
بصورة جعلت العامة ترى أن ذلك الجيل ليس متميزاً فحسب، بل هو جيل يستحيل
تكراره، وفي هذا من الإساءة للإسلام ما لا يقل عن إساءة أولئك الضالين
الذين يزعمون أن استئناف الحياة الإسلامية في ظل كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم بعد عصر الصحابة ضرب من المستحيل، يجب ألاّ تتسامى نحوه
الأعناق، وبذلك يطفئون جذوة الأمل في نفوس لا تزال تتطلع إلى الحياة في ظل
الشريعة السمحاء.
إن الصحابة رضوان الله عليهم أمة صنعها كتاب الله
وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ، وكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه
وسلم بين ظهرانينا ولا يزالان قادرين على صنع أمة ربانية في أي زمان وفي
أي مكان إذا اتخذا منهجاً وسبيلاً، وتعامل الناس معهما كما كان الصحابة
يتعاملون، سيظلان كذلك إلى يوم القيامة، وادعاء استحالة تكرار الرعيل الأول
إنما هو بمثابة نسبة العجز إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ،
وفي ذلك محاولة لإثبات أن أثرهما الفعال في حياة الناس كان تبعاً لظروف
معينة، وأن زماننا هذا قد تجاوزهما بما ابتدع لنفسه من أنظمة حياة، وتلك
مقولة تنتهي بصاحبها إلى الكفر الصراح.
إن أصحاب رسول الله صلّى
الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في
حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من
لقائه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً،
ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور
الخطيرة:
إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اختلفوا في
أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله صلّى الله عليه
وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه عليه الصلاة والسلام، فكيف
لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت
له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:
1- اختلافهم في وفاته عليه الصلاة والسلام:
فقد
كان أول اختلاف بينهم، بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، حول حقيقة وفاته
صلّى الله عليه وسلم ، فإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصر على أن
رسول الله لم يمت، واعتبر القول بوفاته إرجافاً من المنافقين توعدهم عليهم،
حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه وقرأ على الناس قوله تعالى: ((وَمَا
مُحمَّدٌ إلاّ رسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفإِنْ مَاتَ أوْ
قُتِلَ انْقَلبْتُمْ على أعْقَابِكُم، وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبيهِ
فَلَنْ يضُرَّ الله شيئاً، وسيجْزي الله الشاكرين )) [آل عمران:144]، وقوله
تعالى: ((إنَّكَ مَيِّتُ وإنَّهُم ميِّتُون )) [الزمر:30]. فسقط السيف من
يد عمر، وخر إلى الأرض، واستيقن فراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ،
وانقطاع الوحي، وقال عن الآيات التي تلاها أبو بكر "كأني، والله، لم أكن
قرأتها قط "(25).
ويروي ابن عباس رضي الله عنهما عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال له في خلافته:
"يا
ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلّى
الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم.
قال:
فإنه - والله - إن كان الذي حملني على ذلك إلاّ أني كنتُ أقرأ هذه الآية:
((وكذلك جعلناكُم أمَّةً وسطاً لِتَكُونوا شُهداء على الناسِ ويَكُون
الرَّسولُ عليكمُ شهيداً )) [البقرة:143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله
صلّى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه
الذي حملني على أن قلت ما قلت (26). فكأنه رضي الله عنه قد اجتهد في معنى
الآيات الكريمة، وفهم أن المراد منها: الشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي بقاء
رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، إلى آخر أيامها. "
2- اختلافهم في دفنه عليه الصلاة والسلام:
ثم
اختلفوا في المكان الذي ينبغي أن يدفن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ،
فقال قائل: "ندفنه في مسجده. وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه. فقال أبو بكر
رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "ما قبض نبي
إلاّ دفن حيث يقبض " فرفع فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي توفي
عليه، فحفر له تحته "(27).
فهذان أمران خطيران زال الخلاف فيهما بمجرد الرجوع إلى الكتاب والسنة.
3- اختلافهم في خلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلم :
فقد
اختلفوا فيمن تكون الخلافة فيهم، أفي المهاجرين أم في الأنصار؟ أتكون
لواحد أم لأكثر؟ كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي ستكون للخليفة، أهي
الصلاحيات نفسها التي كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بصفته حاكماً
وإماماً للمسلمين أن تنقص عنها وتختلف؟!
يقول ابن إسحاق: "ولما قبض
رسول الله صلّى الله عليه وسلم انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة
في سقيفة بني ساعدة واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن
عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر، وانحاز معهم
أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل "(28) وأوشكت فتنة كبرى أن تقع، ولو وقعت
لما كان ذلك بالأمر المستغرب كثيراً، فالفراغ الذي تتركه شخصية عظمى مثل
رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمة كان لها النبي والقائد لا يمكن أن
يملأ بسهولة، ولا سيما أن فيهم رجالاً، مثل: عمر، كان قد وقر في أذهانهم
استحالة موته صلّى الله عليه وسلم في تلك الظروف، فكل فرد في الأمة كان
يحبه عليه الصلاة والسلام أكثر مما يحب نفسه التي بين جنبيه، وهم الذين
كانوا يبتدرون قطرات وضوئه عليه الصلاة والسلام قبل أن تسقط على الأرض، فلا
تكاد تسقط إلاّ في يد أحدهم، وما من أمة على الأرض أحبت نبيها وقائدها
محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقد كان
أحدهم لا يستطيع أن يملأ عينيه من النظر إليه، من حبهم له وهيبته التي ملأت
قلوبهم وجوانحهم -رغم تواضعه الشديد- وإن وقع الصدمة بوفاته عليه الصلاة
والسلام كان حريًّا بأن يفقد الكثيرين منهم صوابهم، بل وقد فعل ولا غرو في
ذلك، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلم اليد الحانية التي حملت إليهم عز
الدنيا وسعادة الآخرة، ومع ذلك فقد تعالوا على مض الحزن وألم الفراق،
وتلوا قول الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رسُولُ قدْ خَلتْ مِنْ
قبْلِه الرُّسُل أفإنْ مَات أوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم، ومَنْ ينقلِبْ
على عقبيه فلن يضُرّ الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين )) [آل عمران:144]
ثم توجهوا لاحتواء الأمر، وحفظ الرسالة الخالدة، والحيلولة دون أسباب
الفتنة.
صحيح أنّ هناك زعامة واقعية كانت لأبي بكر ثم لعمر رضي
الله عنهما، ولم يكن من المسلمين من تنقطع الأعناق إليه، مثل: أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما، فأبو بكر كان وزير الرسول صلّى الله عليه وسلم وصاحبه
ورفيق هجرته ووالد زوجته الأثيرة لديه، وهو الذي لم يكن يفارقه في أي أمر
مهم. وعمر رضي الله عنه هو من هو؟ فقد كان في إسلامه عزة للمسلمين، وفي
هجرته إرغام لأنوف المشركين، وفي رأيه تأييد من رب العالمين... وكثيراً ما
ورد "…جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر " و "ذهب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر " و "غزا رسول الله صلّى
الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر "... وهذا كله قد يخفف من الكارثة التي
زلزلت الأقدام والقلوب، بيد أن الإحساس بالفارغ في مثل هذه المواقف قد
يتجاوز الفضائل والمناقب، ويؤدي إلى ارتباك ليس من السهل احتواؤه والسيطرة
عليه، وهنا فإن الرجال الذين تربوا في ظلال النبوة قد كمتهم آدابها في سائر
الأحوال... حال الاتفاق وحال الاختلاف.. وفي كل شأن من شؤون الحياة، هذه
الآداب كانت كفيلة بدرء سائر الأخطار المحتملة، والحفاظ على الرسالة،
وحماية وحدة الأمة وتسيير الأمور بشكل مماثل لما كانت تسير عليه في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الرواة: "أتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر
فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد
انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ".
جاء هذا الخبر إلى الشيخين و رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهز ولم
يدفن بعد، قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار
حتى تنظر ما هم عليه. وليدع سيدنا عمر يروي بقية ما حدث، حيث قال: … إن
الأنصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة فانطلقنا نؤمهم، حتى
لقينا - منهم - رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، وقالا: أين
تريدون يا معشر المهاجرين. قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فلا
عليكم ألاّ تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال : قلت : والله
لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانينا رجل
مزمل، فقلت: من هذا الرجل ؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت ماله؟ فقالوا:
وجع فلما جلسنا نشهد خطيبهم… ثم ذكر مآثر الأنصار وفضائلهم، وما يدل على
أنهم أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم.
وهنا لا
بد من وقفة، فالأنصار أهل البلد، وهم فيها الغالبية المطلقة - كما يقال
اليوم - وهم الذين آووا ونصروا، وتبوّؤوا الدار والإيمان وفتحوا للإسلام
قلوبهم قبل بيوتهم، وليس هناك مهاجري واحد إلاّ ولأخ له من الأنصار عليه
فضل كبير، ولو كان في أمر الخلافة نص قاطع من كتاب الله أو سنة رسوله عليه
الصلاة والسلام لانتهى الأمر بذكره والاحتكام إليه، وارتفع الخلاف، ولكن
ليس هناك شيء من ذلك، فلم يبق إلاّ التحلي بكل خصال الحكمة والحنكة، وأدب
الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ القائم على إثارة أنبل المشاعر وأفضلها
لدى كل من الطرفين، لتجاوز العقبة، واحتواء الأزمة، والخروج منها، وذلك ما
كان يقول سيدنا عمر.
ولما سكت -أي خطيب الأنصار - أردت أن أتكلم وقد
زوّرت (هيأت وحسنت ) في نفسي مقالة أعجبتني. فقال أبو بكر: على رسلك يا
عمر؛ فكرهت أن أغضبه، فتكلم، وهو كان أعلم مني وأوقر - فوالله ما ترك كلمة
أعجبتني من تزويري إلاّ قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل حتى سكت، ومما
قال رضي الله عنه: "أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم به أهل" وأشاد بهم وبما
قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره
خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج المدينة - وحدها - فالجزيرة العربية اليوم - كلها
- تستظل بظل الإسلام ، وإذا كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن
يسلموا لإخوانهم قريش، وما لم تتوحد الكلمة فلن يكتب لرسالة الإسلام تجاوز
الحدود والانتشار خارج الجزيرة، إذن فمصلحة الدعوة تقتضي أن يكون الخليفة
من قريش لتستمر الرسالة، وتتحد الكلمة، وتجتمع القلوب، ويستمر المد
الإسلامي، ثم خيَّرهم بين أحد قرشيين لا يماري أحد في فضل أي منهما: عمر
وأبي عبيدة، ونزع نفسه من الأمر ".
يقول سيدنا عمر: "ولم أكره شيئاً
مما قاله غيرها - أي: غير ترشيحه لعمر وأبي عبيدة - وكان- والله أن أقدم
فتضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم
أبو بكر… ".
ثم قام من الأنصار خطيب آخر يريد أن يرجع الأمر إلى
الإطار الأول الذي وضعه خطيبهم الأول فيه .. فقال: "…منا أمير ومنكم أمير
يا معشر قريش " قال عمر: "فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى تخوّفت الاختلاف
" (29) فقلت: "ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه
المهاجرون،ثم بايعه الأنصار "(30). وقد كاد سعد بن عبادة مرشح الأنصار رضي
الله عنه أن يقتل في الزحام "فقد تدافع الناس لمبايعة أبي بكر حتى كادوا
يقتلون سعداً دون أن ينتبهوا له "(31).
وهكذا استطاع الصحابة رضوان
الله عليهم حشم هذا الخلاف دون أن تبقى في النفوس رواسب الإحن، وتوحدت كلمة
المسلمين للمضي برسالة الحق إلى حيث شاء الله لها أن تنتشر.
4- اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة:
كان
هذا الأمر رابع الأمور الخطيرة التي اختلف فيها الصحابة، واستطاعوا التغلب
عليها بما تحلّوا به من صدق النية إلى جانب أدب الاختلاف؛ فبعد أن بويع
أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض
القبائل حديثة العهد بالإسلام عنه، وتابع بعض من كان ادّعى النبوة، مثل:
مسيلمة الكذاب وغيره، كما امتنعت بعض القبائل عن أداء الصلاة والزكاة،
وامتنعت بعض القبائل عن أداء الزكاة فقط، وكان سبب امتناع بعضهم عن أداء
الزكاة أنفة واستكباراً أن يدفعوا لأبي بكر رضي الله عنه ، وسوّل الشيطان
لبعضهم بتأويل فاسد، حيث زعموا أنها، في أصل الشريعة، لا تدفع لغير رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المخاطب بأخذها، ومجازاتهم عليها
بالتطهير والتزكية، والدعاء لهم في قول الله تعالى: ((خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزّكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إنْ صَلاَتَكَ سَكَنَّ لَهُمْ واللهُ سمِيعُ عَلِيمٌ ))
(التوبة: 103) ونسي المانعون للزكاة أو تناسوا أن هذا الخطاب لم يكن
مقصوراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يتناول من يلي الأمر بعده -
عليه الصلاة والسلام - لأنه خطاب له صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً
وإماماً للمسلمين؛ فإن أخذ الزكاة من أهلها وتسليمها لمستحقيها من الأمور
الداخلة ضمن تنظيم المجتمع وإدارته كإقامة الحدود ونحوها، تنتقل مسؤوليتها
إلى القائمين بأمر المسلين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نيابة عن
الأمة.
كما أن كل مسلم كان يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
يبايعه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مما لا يترك مسوّغاً للتفريق
بينهما، وحرصاً من الخليفة الأول على استمرار مسيرة الإسلام يقرر أبو بكر
الصديق رضي الله عنه قتالهم لحملهم على التوبة وأداء الزكاة، والعودة إلى
حظيرة الإسلام ، والالتزام بكل ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم (32)، وإزاء الموقف الذي اتخذه الخليفة الأول يقع الخلاف بينه وبين
عمر رضي الله عنهما الذي تراءى له للوهلة الأولى عدم جواز مقاتلة مانعي
الزكاة. يقول أبو هريرة رضي الله عنه : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: فكيف
تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ
بحقها وحسابه على الله تعالى"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين
الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا
يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر:
فوالله ما هو إلاّ أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال فعرفت
أنه الحق " (33).
وقال ابن زيد: "افترضت الصلاة والزكاة ـ جميعاً ـ
لم يفرق بينهما وقرأ: ((فإنْ تابوا وَأَقامُوا الصلاة وآتَوُا الزكاة
فإِخْوانُكم في الدّين )) [التوبة:11]. وأبى أن يقبل الصلاة إلاّ بالزكاة،
وقال : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه ـ يريد بذلك إصراره على مقاتلة من
فرق بين الصلاة والزكاة ـ " (34). وكان سبب الخلاف بين أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما أن سيدنا عمر ومن معه تمسكوا بظاهر لفظ الحديث، واعتبروا مجرد
دخول الإنسان الإسلام ـ بإعلان الشهادتين ـ عاصماً لدمه وماله ومحرّماً
لقتاله. أما الصديق رضي الله عنه فقد تمسك بقوله صلى الله عليه وسلم "إلاّ
بحقها " واعتبر الزكاة حق المال الذي تفقد بالامتناع عن أدائه عصمة النفس
والمال، كما فهم من اقتران الصلاة والزكاة في معظم آي الكتاب، وأحاديث
الرسول صلى الله عليه وسلم أنهما مثلان لا فرق بينهما.
وما داموا
متفقين على أن الامتناع عن الصلاة دليل ارتداد واتباع لمدعي النبوة، فإن
الامتناع عن الزكاة ينبغي أن يعتبر كدليل ارتداد يقاتل مرتكبه، وبذلك
استطاع الصدّيق رضي الله عنه أن يقنع بقية الصحابة بصواب اجتهاده في وجوب
قتال مانعي الزكاة (35). واعتبارهم مرتدين ما لم يتوبوا، ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة... وبذلك ارتفع الخلاف في هذه المسألة الشائكة، واتفقت
الكلمة على قتال مانعي الزكاة، كما اتفقت على قتال المرتدين ردة كاملة،
وحفظ الإسلام من محاولات العبث والاتيان عليه ركناً بعد أن أخفقوا في
الإتيان عليه كاملاً، ولو لا هذا الموقف من الصديق ثم من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما قامت للإسلام قائمة ولا نحصر في المدينة ومكة
وأرز إليهما، وسادة الرّدة والفتنة سائر أرجاء الجزيرة(36).
5- اختلافهم في بعض المسائل الفقهية:
إذا
تركنا الأمور الخطيرة التي احتويت، وبحثنا في غيرها نجد ما لا ينقضي منه
العجب في أدب الاختلاف وتوقير العلماء بعضهم بعضاً، فمما اختلف فيه الشيخان
ـ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ـ غير ما ذكرنا.. سبي أهل الرِّدة، فقد كان
أبو بكر يرى سبي نساء المرتدين على عكس ما يراه عمر الذي نقض ـ في خلافته
ـ حكم أبي بكر في هذه المسألة، وردهن إلى أهليهن حرائر إلاّ من ولدت
لسيدها منهن، ومن جملتهن كانت خولة بنت جعفر الحنفية أم محمد بن علي رضي
الله عنهما.
كما اختلفا في قسمة الأراضي المفتوحة: فكان أبو بكر يرى قسمتها وكان عمر يرى وقفها ولم يقسمها.
وكذلك
اختلفا في المفاضلة في العطاء، فكان أبو بكر يرى التسوية في الأعطيات حين
كان يرى عمر المفاضلة وقد فاضل بين المسلمين في أعطياتهم.
وعمر لم
يستخلف على حين استخلفه أبو بكر، كما كان بينهما اختلاف في كثير من مسائل
الفقه(37)، ولكن الخلاف ما زاد كلاً منهما في أخيه إلاّحباً، فأبو بكر حين
استخلف عمر قال له بعض المسلمين: "ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك
عمر علينا وقد ترى من غلظته؟ قال: أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك
" (38).
وحين قال أحدهم لعمر رضي الله عنه: "أنت خير من أبي بكر. أجهش بالبكاء وقال: والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر "(39).
تلك
نماذج من الاختلافات بين الشيخين، اختلفت الآراء وما اختلفت القلوب، لأن
نياطها شدَّت بأسباب السماء فما عاد لتراب الأرض عليها من سلطان.
بين عمــر وعـلــي:
وقد
كان بين عمر وعلي رضي الله عنهما بعض الاختلافات، ولكن في نطاق أدب رفيع.
فقد أرسل عمر رضي الله عنه مرة إلى امرأة مغيبة (زوجها غائب ) كان يُدخلَ
عليها فأنكر ذلك، فأرسل إليها، فقيل لها أجيبي عمر. فقالت: يا ويلاه ما لها
ولعمر؟ فبينما هي في الطريق (إليه ) فزعت فضربها الطلق، فدخلت داراً فألقت
ولدها، فصاح الصبي صيحتين ثم مات. فاستشار عمر صحب النبي صلى الله عليه
وسلم فأشار عليه بعضهم: أنه ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ مؤدب، وصمت علي
رضي الله عنه ، فأقبل عليه عمر وقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم
فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك،
فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها بسببك؛ فأمر عمر أن يقسم عقله (دية الصبي
) على قومه(40). وهكذا نزل عمر على رأي علي رضي الله عنهما ولم يجد غضاضة
في العمل باجتهاده وهو أمير المؤمنين، وقد كان في رأي غيره له منجاة.
بين عمر وعبد الله بن مسعود:
عبد
الله بن مسعود من أقرأ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتاب الله،
ومن أعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من الصحابة
يعدونه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة ملازمته له، قال
أبو موسى الأشعري: "كنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمّه إلاّ من أهل بيت
النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له "(41). وقال أبو مسعود
البدري مشيراً إلى عبد الله بن مسعود، وقد رآه مقبلاً: "ما أعلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أحداً أعلم بما أنزل الله تعالى من هذا
القادم. فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حجبنا "(42).
وعمر رضي الله عنه معروف من هو في فقهه وجلالة قدره، وقد كان
ابن مسعود أحد رجال عمر رضي الله عنهما في بعض الأعمال، وقد وافق عبد الله،
عمر رضي الله عنهما في كثير من اجتهاداته، حتى اعتبره المؤرخون للتشريع
الإسلامي أكثر الصحابة تأثراً بعمر، وكثيراً ما كانا يتوافقان في
اجتهاداتهما، وطرائقهما في الاستدلال، وربما رجع عبد الله إلى مذهب عمر في
بعض المسائل الفقهية كما في مسألة مقاسمة الجد الإخوة مرة إلى الثلث، ومرة
إلى السدس (43).
ولكنهما اختلفا في مسائل كثيرة أيضاً، ومن مسائل
الخلاف بينهما: أن ابن مسعود كان يطبق يديه في للصلاة، وينهى عن وضعهما على
الركب، وعمر كان يفعل ذلك وينهى عن التطبيق.
وكان ابن مسعود يرى في قول الرجل لامرأته: "أنت عَلَيَّ حرام " أنه يمين، وعمر يقول: هي طلقة واحدة.
وكان
ابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها: لا يزالان زانيين ما اجتمعا،
وعمر لا يرى ذلك، ويعتبر أوله سفاحاً وآخره نكاحاً (44).
ولقد ذكر
ابن القيم في "إعلام الموقعين " أن المسائل الفقهية التي خالف فيها ابن
مسعود عمر رضي الله عنهما بلغت مائة مسألة وذكر أربعاً منها(45). ومع ذلك
فإن اختلافهما هذا ما نقص من حب أحدهما لصاحبه، وما أضعف من تقدير ومودة أي
منهما للآخر، فهذا ابن مسعود يأتيه اثنان: أحدهما قرأ على عمر وآخر قرأ
على صحابي آخر، فيقول الذي قرأ على عمر: اقرأنيها عمر بن الخطاب، فيجهش ابن
مسعود بالبكاء حتى يبل الحصى بدموعه، ويقول: اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان
للإسلام حصناً حصيناً، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر
انثلم الحصن (46).
ويقبل ابن مسعود يوماً وعمر جالس فلما رآه مقبلاً
قال: "كنيّف مُلئ فقهاً أوعلما ً" وفي رواية: "كنيّف ملئ علماً آثرت به
أهل القادسية "(47). هكذا كانت نظرة عمر لابن مسعود رضي الله عنهما، لم
يزده الاختلاف بينهما في تلكم المسائل إلاّ محبة وتقديراً له، ولنا أن
نستنبط من تلك الأحداث آداباً تكون نبراساً في معالجة القضايا الخلافية.
بين ابن عبَّاس وزيد بن ثابت:
وحتى
نتلمس المزيد من أدب الاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم نعرض القضايا
الخلافية، فنقول: كان ابن عباس رضي الله عنهما يذهب كالصدِّيق وكثير من
الصحابة إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في المواريث كالأب، وكان
زيد بن ثابت كعلي وابن مسعود وفريق آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
يذهب إلى توريث الإخوة مع الجد ولا يحجبهم به، فقال ابن عباس يوماً: ألا
يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً!: وقال:
لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع، فنضع أيدينا على
الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. . . (48).
تلك أمثلة
من اختلافات الصحابة الفقهية، نوردها لا لنعمق الهوة ونؤصل الاختلاف بل
لتنحصر ضالتنا في استقراء آداب نلتقي عليها في حل خلافاتنا الفقهية حتى
يغدو أسلوب حياة لنا في تعاملنا مع الناس.
إن ابن عباس رضي الله
عنهما الذي بلغت ثقته بصحة اجتهاده وخطأ اجتهاد زيد هذا الحد الذي رأيناه،
رأى زيد بن ثابت يوماً يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال زيد: تَنَحَّ
يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن
نفعل بعلمائنا وكبرائنا. فقال زيد: أرني يدك. فأخرج ابن عباس يده،
فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا(49). وحين توفي زيد
قال ابن عباس: "هكذا يذهب العلم "(50) وفي رواية البيهقي في سننه الكبرى
"هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليوم علم كثير "(51). وكان عمر رضي الله عنه
يدعو ابن عباس للمعضلات من المسائل مع شيوخ المهاجرين والأنصار من البدريين
وغيرهم (52).
والحق لو أننا حاولنا تتبع القضايا الخلافية بين
الصحابة في مسائل الفقه، وسلوكهم في عرض مذاهبهم لسودنا في ذلك كتباً،
وهذا ليس مبتغانا هنا إنما نورد نماذج - فقط - نستشف منها الآداب التي
تربى عليها جيل الصحابة رضوان الله عليهم، لتدل على مدى التزامهم بأدب
الاختلاف في الظروف كلها.
وحين جرى الكتاب بما سبق في علم الله،
ووقعت الفتن الكبرى، وحدث ما حدث بين الصحابة ـ لأمور الله وحده العالم
بكل أسبابها، والمحيط بسائر عواملها ـ حين حدث ذلك ووقع السيف بينهم ما
نسي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضائل أهل الفضل منهم، ولا أنستهم
الأحداث الجسام والفتن العظام مناقب أهل المناقب منهم، فهذا أمير
المؤمنين علي رضي الله عنه يقول عنه مروان بن الحكم: "ما رأيت أحداً أكرم
غلبة من علي ما هو إلاّ ولينا يوم الجمل فنادى مناديه. . . ولا يذفف ـ أي
يجهز ـ على جريح " (53).
ويدخل عمران بن طلحة على عليّ رضي الله
عنه، بعدما فرغ من معركة الجمل، فيرحب به ويدنيه ويقول: "إني لأرجو أن