خطبه وموعظه مؤثره جدا في النفوس
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاْزَ وَمَاْ الحَيَاْةُ الدُّنْيَاْ إِلاَّ مَتَاْعُ
الغُرُورِ }
الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ }
{ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً }
{ يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً
سَدِيداً ، يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيِمَاً }
أما بعد :
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ،
وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار .
عباد الله :
لم أكن سأتحدث في هذا الموضوع الذي سأحدثكم فيه ، ولكن رسالة جوال وصلتني
هي التي جعلتني أنتبه وأنبّهكم إلى الأمر الذي غفلنا عنه ، وكان صلى الله
عليه وسلم يكثر الحديث فيه وعنه ...
كانت قلوبهم حية ، ومع هذا كانوا يكثرون الحديث في هذا الأمر العظيم..
وقلوبنا لاهية
ساهية غافلة فهي والله أحوج لتكرار الحديث عن هذا الأمر مرات ومرات ..
تقول الرسالة من أحد الثقات : لقد تمَّ تغسيل وتكفين ( 737 ) جنازة في
أربع مغاسل للموتى في الرياض خلال الشهر الذي مضى فقط .. لقد تمَّ تغسيل
وتكفين ( 737 ) جنازة في أربع مغاسل للموتى في الرياض خلال الشهر الذي
مضى فقط ..
فكم هو العدد في مغاسل البلاد في مشرقها ومغربها ؟! بل كم هو العدد الذي
يموت في كل يوم هنا وهناك ؟!..
السُنَّةُ ماضية .. السُنَّةُ ماضية .. أناس تحيا وأناس تموت ، وأكثر
الناس عن الموت غافلون ..
من أجل هذا جعلت الحديث عن الموت وعظاته ، جعلت الحديث عن الخَطب الأفظع
والأمر الأشنع .. إنه هادم اللذات ، وقاطع الراحات ، وجالب الكريهات ..
إنه فراق الأحباب ، وانقطاع الأسباب ، ومواجهة الحساب ..
نصحنا نبينا ووعظنا وأبلغ فقال : نصحنا نبينا ووعظنا وأبلغ فقال : (
أكثروا من ذكر هادم اللذات )
ذكر الموت حياة ونسيانه غفلة ..ومن استحيا من الله حقَّ الحياء لم يغفل
عن الموت ولا عن الاستعداد للموت..
قال صلى الله عليه وسلم : ( من استحيا من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرأس
وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة
ترك زينة الحياة الدنيا ) .
وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فرصة إلا ذكَّر أصحابه بالموت وما بعده ..
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه : بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أبصر جماعة ، فقال : ( علامَ اجتمع هؤلاء ؟ ) ، قيل : على قبر يحفرونه ، قال : ففزع النبي صلى الله عليه وسلم وقام من بين يدي أصحابه
مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه .. قال البراء : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، قال فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه ثم أقبل علينا فقال : ( أي أخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا )..( لمثل هذا اليوم فأعدوا).
وهكذا سار السلف من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يذكرون الموت ويُذكّرون
الناس به.. فهذا أويس القرني رحمه الله يخاطب أهل الكوفة قائلاً : يا أهل الكوفة توسدوا الموت إذا نمتم ، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم .
عباد الله .. إنَّ في ذكر الموت أعظم الأثر في إيقاظ النفوس وانتشالها من غفلتها ، فكان الموت أعظم المواعظ ..
قيل لبعض الزهَّاد : ما أبلغ العظات ؟ ، قال : النظر إلى محلة الأموات .
وقال آخر : من لم يردعه القرآن والموت .. من لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع .
إنَّ زيارة القبور ، وشهودالجنائز ، ورؤية المحتضرين ، وتأمل سكرات الموت
، وصورة الميت بعد مماته يقطع على النفوس لذاتها ، ويطرد عن القلوب مسراتها ..
من استعدَّ للموت جدَّ َفي العمل ، وقصَّر الأمل ..
يقول اللبيدي : رأيت أبا اسحاق في حياته يُخرج ورقة يقرؤها دائماً ، فلما
مات نظرت في الورقة فإذا مكتوب فيها : أحسن عملك فقد دنا أجلك .. أحسن عملك فقد دنا أجلك ..
أحبتي ..إنَّ الذي يعيش مترقباً للنهاية يعيش مستعداً لها ، فيقلُّ عند
الموت ندمه وحسراته.
لذا قال شقيق البلخي رحمه الله : استعد إذا جاءك الموت أن لا تصيح بأعلى
الصوت تطلب الرجعة فلا يستجاب لك .
أردت من هذه الموعظة إيقاذ القلوب .. إيقاذ القلوب من سباتها ، وزجر
النفوس عن التمادي في غيها وشهواتها .
أردت من هذه الموعظة أن يزيد الصالح في صلاحه ، وأن يستيقظ الغافل قبل حسرته وقبل مماته .
لقد رأيت الحياة تمضي مسرعة ومعظم أهلها في غفلة .. ناس يأتون وآخرون
يرحلون .. أرحام تدفع ، وأرض تبلع .. والناس غافلون ولا يستيقظون إلا عند
معاينة الموت وسكراته.
أحبتي .. إنَّ الحياة على ظهر هذه الحياة موقوتة .. إنَّ الحياة على ظهر
هذه الحياة موقوتة محدودة ، وستأتي النهاية حتماً ..
سيموت الصالحون ، والطالحون..
ويموت المتقون ، والمذنبون..
ويموت الأبطال المجاهدون ، والجبناء القاعدون..
ويموت الشرفاء الذين يعيشون للآخرة ، ويموت الحريصون الذين يعيشون لحطام ومتاع الحياة..
يموت أصحاب الهمم العالية ، ويموت التافهون الذين لا يعيشون إلا من أجل شهوات الفروج والبطون .
قال الله جل في علاه : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، وقال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }
ستموت .. نعم ستموت ..
إنها الحقيقة التي نهرب منها دائماً ..
إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين ، وعناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين ..
إنها الحقيقة التي شرب من كأسها العصاة والطائعون ، وشرب من كأسها
الأنبياء والمرسلون .. قال الله :{ وَ مَاْ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخَاْلِدُونَ }
إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع ، وفي عقل
كل عاقل ، وفي قلب كل حيّ أنَّ الكل سيموت .. أنَّ الكل سيموت إلا ذو
العزة والجبروت .
قال الله جلَّ َفي شأنه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } .
إنها الحقيقة التي لا مفرَّ منها ولا مهرب طال الزمان أو قصر { قُلْ
إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلِى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
نعم ..إنه ملاقيكم ..في أي مكان تكونون ستموتون
أيها القوي .. أيها القوي الفتيّ..
أيها الذكي العبقري ..
أيها الأمير والكبير..
أيها الفقير والصغير ..
كل باكٍ سيُبكى ، وكل ناعٍ سيُنعى ، وكل مذخور سيفنى ، وكل مذكور سيُنسى
، ليس غير الله يبقى ، من علا فالله أعلى ..
اعلم رعاك الله ..أنه من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آتٍ آت {
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ } .
إنَّ حياتك إنما تبدأ بعد مماتك ..
يا ابن آدم أنت الذي ولدتك أمك باكياً *** والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
اعلم بارك الله فيك .. أن لا سبيل للخلود في هذه الحياة ..
اعلم بارك الله فيك .. أن لا سبيل للخلود في هذه الحياة .. فالكل سيموت .
قال علي رضي الله عنه وأرضاه : فلو أنَّ أحداً يجد إلى البقاء سلَّماً أو
لدفع الموت سبيلاً لكان ذلك سليمان ابن دواد عليه السلام الذي سُخرَّ له
مُلك الجنّ والإنس مع النبوة وعظم الزلفى ، فلما استكمل أجله ومدته جاءته
نبال الموت، فأخذته فأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطلة .قال الله :
{ وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ وَ
أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ
يَدِيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا
نُذَقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ
اعْمَلُوا آلَ دَاوُوادَ شُكْرَاً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيِهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ
إلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأكُلُ مِنسَأتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ
الجِنُّ أن لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ
المُهِينِ }
عباد الله.. إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
أعظكم بالموت وسكراته ..
أعظكم بالقبر وظلماته ..
أعظكم بالموت وكفى بالموت واعظاً ..
إنه أعظم المصائب ، وأشدُّ النوائب .. سمَّاه الله لعظيم أمره مصيبة ،
فقال سبحانه : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتُْكُم
مُّصِيبَةُ المَوْتِ }
إنه المصيبة العظمى ، والرزية الكبرى، ولا نجاة منه .. ولا نجاة منه إلا
أن يكون العبد في دنياه .. إلا أن يكون العبد في دنياه لله طائعاً ،
وبشرعه عاملاً ..
إنها الساعة التي تنكشف فيها الحقائق ، وتتقطع فيها العلائق ، ويتمنى
الإنسان وليس له ما تمنى ، حينها { يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ
الذِّكْرَى ، يَقُولُ يَا لَيْتََني قَدَّمتُ لِحَيَاتِي }
إنها الساعة التي يُعرف فيها المصير إما إلى نعيم دائم أو إلى عذاب مقيم.
يقول أحدهم : شهدت ساعة احتضار أحد رفقائي العصاة .. شهدت ساعة احتضار
واحداً من رفقائي العصاة المدبرين عن الدين ، المضيعين لأوامر ربِّ
العالمين ، فسألته في ساعة احتضاره : كيف أنت ؟!، سألته: كيف أنت ؟! ،قال
: سأدخل النار .. قال : سأدخل النار أنا وفلان وفلان ، وأنت إن لم ترجع
إلى الله ، وأنت أيضاً ستدخل النار إن لم ترجع إلى الله ..
إنه الموت ..أعظم المواعظ وأبلغها ، وهو أول خطوة إلى الآخرة ، فمن مات
قامت قيامته .
قال صلى الله عليه وسلم : ( القبر أول منازل الآخرة ) .
فدارنا أمامنا ، وحياتنا الحقيقية هي بعد موتنا .
أين الأكاسرة ؟! ، أين الجباربرة والعتاة الأُول ؟! أخذ أموالهم سواهم ..
أخذ أموالهم سواهم والدنيا دول..ركنوا إلى الدنيا الدنية ، وتبوؤا الرتب
السنية حتى إذا فرحوا بها صرعتهم أيدي المنية ..
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
كم ظالم تعدى وجار وما راعى الأهل ولا الجار!!.
أين من عقد عقد الإصرار ! حلَّ به الموت ، فحلَّ من حلية الإزرار{
فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي الأَبْصَارِ } .
خرج المغرور من الدنيا ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البلى والعفن ..آه لو
رأيته قد حلَّت به المحن ، وتغيَّر ذلك الوجه الحسن ..
أفق من سكرتك أيها الغافل ، وتحقق أنك عن قريب راحل ..
يا سالكاً طريق الغافلين *** ويا راضياً بطريق الجاهلين
متى تُرى هذا القلب القاسي يلين *** متى تبيع الدنيا وتشتري الدين
ليت شعري بعد الموت أين تذهب *** رحم الله من اعتبر وتأهب
ليت شعري بعد الموت أين تذهب *** رحم الله من اعتبر وتأهب
إني سألت الترب ما فعلت *** بعدي وجوه فيك متعفرة
فأجابني صيَّرت ريحهم *** تؤذيك بعد روايح عطرة
وأكلت أجساداً منعمة *** كان النعيم يهزها نضرة
لم يبقَ غيرُ جماجم تعرَّت *** بيض تلوح وأعظم نخرة
أين الحبيب الذي كان وانتقل ؟!.
أين كثير المال وطويل الأمل ؟!.أما خلا كلٌّ في لحده مع العمل !!.
أين من تنعَّم في قصره ؟!. أليس في قبره نزل!!.
آه لو تعلم كيف غدا وصار .. لقد سال في اللحد صديده ، وبلى في القبر
جديده ، وهجره حبيبه ووديده ، وتفرَّق عنه حشمه وعبيده ..
أين تلك المجالس العالية ؟! ، وأين تلك العيشة الصافية الراضية ؟! خلا
والله بما صنع ، وما أنقذه الندم وما نفع ..
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
انتبهوا من رقادكم قبل الردى{ أَيَحْسَبُ الإنسَانُ }{ أَيَحْسَبُ
الإنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدَىً }..
إنما هي جنة أو نار .. إنما هي جنة أو نار{ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي
الأَبْصَارِ } .
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ، ولم ترَ في الباقين ما يصنع الدهر ، فإن
كنت لا تدري فتلك ديارهم.. فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح
بعدك والقبر.
أين الهمم المُجدَّة ؟! .
أين النفوس المستعدَّة ؟! .
أين المتأهبين قبل الشدة ؟! .
أين المتيقظ قبل انقضاء المدة ؟! .
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
إنَّ العاقل من راقب العواقب ، والجاهل من مضى قُدُماً ولم يراقب..
كم يوم غابت شمسه وقلبك غائب ! .
وكم ظلام أُسبل ستره وأنت في معاصي وعجائب ! .
وكم أسبغ الله عليك وأنت على معاصيه تواظب ! .
وكم صحيفة قد ملأتها بالذنوب والمَلَكُ كاتب !.
وكم أنذرك الموت يأخذ أقرانك من حولك وأنت ساه ولاعب !. وكم أنذرك الموت
يأخذ أقرانك وأنت ساه ولاعب !.
أفق من سكرتك ..وتذكر نزول حفرتك ، تذكرهجران الأقارب ، وتذكر إِنَّمَا
أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
آه ..لألسنٍ نطقت بالآثام .. كيف غفلت عن قول ربَِّ الأنام { اليَوْمَ
نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ }
آه ..لأيدٍ امتدت إلى الحرام .. كيف نسيت قول الملك العلام {
وتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ }
آه ..لأقدامٍ سعت في الإجرام .. كيف لم تتدبر{ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ }
آه.. لأجساد تربَّت على الربا .. كيف لم تفهم ( ما نبتَ على السُحت
فالنار أولى به ).
رأى أحدهم قريباً له ميتاً في المنام ، فقال له : كيف أنت ، قال : ندمنا
على أمر عظيم .. ندمنا على أمر عظيم .. نعلم ولا نعمل ، وأنتم تعلمون ولا
تعملون.. وأنتم تعلمون ولا تعملون..والله لتسبيحة أوتسبيحتان ، أو ركعة
أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحبّ إلينا من الدنيا وما فيها ..
أين أثر المواعظ .. أين أثر المواعظ والآيات في قلوبنا ؟!!!
أين أثر كلام الرحمن في حياتنا ؟!!!
اسمع رعاك الله وتدَّبر الكلام . قال الله : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُواْ يُوعَدُونَ ،
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يُمَتَعُونَ } .
تلا بعض السلف هذه الآيات وبكى وقال : إذا جاء الموت لم يُغني عن المرء
ما كان فيه من اللذة والنعيم ..
يا ابن العشرين : كم مات من أقرانك وتخلَّفت ؟!. يا ابن العشرين كم مات
من أقرانك وتخلَّفت ؟!.
يا ابن الثلاثين : أدركت الشباب فما تأسفت ؟!.
يا ابن الأربعين : ذهب الصبا وأنت على اللهو قد عكفت ؟!.
يا ابن الخمسين : أنت زرع قد دنا حصاده .. أنت زرع قد دنا حصاده .. لقد
تنصّفت المئة وما أنصفت ؟!.
يا ابن الستين : هيا إلى الحساب فأنت على معترك المنايا قد أشرفت ؟!.
يا ابن السبعين : ماذا قدمَّت وماذا أخرت ؟! .
يا ابن الثمانين : لا عذر لك فقد أُعذرت ؟!.
والله وأقسم بالله ..
من حمل نعشاً اليوم ، سيأتي يوم ويُحمل هو على الأكتاف ..
ومن دخل المقبرة اليوم زائراً ، سيدخل يوماً ولن يخرج منها ..
ومن عاد إلى بيته اليوم ، سيأتي يوم ولن يعود .. ومن عاد إلى بيته اليوم
، سيأتي يوم ولن يعود ..
كان عمر رضي الله عنه يردد دائماً ويقول.كان عمر رضي الله عنه يردد
دائماً ويقول : كل يوم يقولون مات فلان ، ومات فلان ، وسيأتي يوم
وسيقولون مات عمر ..
ومات عمرولكن كيف مات !!.. ومات عمرولكن كيف مات !!..
تفكّروا أحبتي وتيقنوا.. تفكّروا أحبتي وتيقنوا أنَّ الموت حقّ لا بدَّ منه..
قال عمر بن عبد العزيز لبعض العلماء : عظني ، فقال : لست أول خليفة تموت
، قال : زدني ، قال : ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت ، وسيأتي
دورك يا عمر .. وسيأتي دورك يا عمر .. فبكى عمر وخرَّ مغشياً عليه .
كان أبو الدرداء يقول : إذا ذُكر الموتى فعُدَّ نفسك منهم ..
بنى ابن المطيع داراً ، فلما سكنها بكى ثم قال : والله لولا الموت..
والله لولا الموت لكنت بكِ مسروراً ، ولولا ما تصير إليه من ضيق القبور
لقرَّت أعيننا بالدنيا، ثم بكى بكاءً شديداً حتى ارتفع صوته .
في الصحيح : ( ما منكم من أحد إلا ويُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ) (
ما منكم من أحد إلا ويُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي إما مقعده في الجنة
أو مقعده في النار ، فيُقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله )
وصدق من قال : لا تبت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور ..
تفكّروا وتيقنوا أنَّ الأعمال بالخواتيم ، فالخوف من سوء الخاتمة هو الذي
طيَّش قلوب الصديقين ، وحيَّر أفئدتهم في كل حين ..
أسألك بالله أما أقضَّ مضجعك هذا الخبر من سيد المرسلين والذي يقول فيه :
( والذي نفسي بيده إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه
وبينها إلاَّ ذراع فيسبق الكتاب فيعمل بعمل أهل النار (فيعمل بعمل أهل
النار) فيدخلها ، و إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه
وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ، وإنما الأعمال
وبالخواتيم ) ..
نعم صدق الذي قال : لا تبت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور ..
نعود بالله من الحور بعد الكور ، ومن الضلالة بعد الهدى ، ومن المعصية بعد التقى ..
يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك
يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك..
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم ..
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم[/size]
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاْزَ وَمَاْ الحَيَاْةُ الدُّنْيَاْ إِلاَّ مَتَاْعُ
الغُرُورِ }
الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ }
{ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً }
{ يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً
سَدِيداً ، يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيِمَاً }
أما بعد :
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ،
وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار .
عباد الله :
لم أكن سأتحدث في هذا الموضوع الذي سأحدثكم فيه ، ولكن رسالة جوال وصلتني
هي التي جعلتني أنتبه وأنبّهكم إلى الأمر الذي غفلنا عنه ، وكان صلى الله
عليه وسلم يكثر الحديث فيه وعنه ...
كانت قلوبهم حية ، ومع هذا كانوا يكثرون الحديث في هذا الأمر العظيم..
وقلوبنا لاهية
ساهية غافلة فهي والله أحوج لتكرار الحديث عن هذا الأمر مرات ومرات ..
تقول الرسالة من أحد الثقات : لقد تمَّ تغسيل وتكفين ( 737 ) جنازة في
أربع مغاسل للموتى في الرياض خلال الشهر الذي مضى فقط .. لقد تمَّ تغسيل
وتكفين ( 737 ) جنازة في أربع مغاسل للموتى في الرياض خلال الشهر الذي
مضى فقط ..
فكم هو العدد في مغاسل البلاد في مشرقها ومغربها ؟! بل كم هو العدد الذي
يموت في كل يوم هنا وهناك ؟!..
السُنَّةُ ماضية .. السُنَّةُ ماضية .. أناس تحيا وأناس تموت ، وأكثر
الناس عن الموت غافلون ..
من أجل هذا جعلت الحديث عن الموت وعظاته ، جعلت الحديث عن الخَطب الأفظع
والأمر الأشنع .. إنه هادم اللذات ، وقاطع الراحات ، وجالب الكريهات ..
إنه فراق الأحباب ، وانقطاع الأسباب ، ومواجهة الحساب ..
نصحنا نبينا ووعظنا وأبلغ فقال : نصحنا نبينا ووعظنا وأبلغ فقال : (
أكثروا من ذكر هادم اللذات )
ذكر الموت حياة ونسيانه غفلة ..ومن استحيا من الله حقَّ الحياء لم يغفل
عن الموت ولا عن الاستعداد للموت..
قال صلى الله عليه وسلم : ( من استحيا من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرأس
وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة
ترك زينة الحياة الدنيا ) .
وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فرصة إلا ذكَّر أصحابه بالموت وما بعده ..
يقول البراء بن عازب رضي الله عنه : بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أبصر جماعة ، فقال : ( علامَ اجتمع هؤلاء ؟ ) ، قيل : على قبر يحفرونه ، قال : ففزع النبي صلى الله عليه وسلم وقام من بين يدي أصحابه
مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه .. قال البراء : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، قال فبكى حتى بلَّ الثرى من دموعه ثم أقبل علينا فقال : ( أي أخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا )..( لمثل هذا اليوم فأعدوا).
وهكذا سار السلف من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يذكرون الموت ويُذكّرون
الناس به.. فهذا أويس القرني رحمه الله يخاطب أهل الكوفة قائلاً : يا أهل الكوفة توسدوا الموت إذا نمتم ، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم .
عباد الله .. إنَّ في ذكر الموت أعظم الأثر في إيقاظ النفوس وانتشالها من غفلتها ، فكان الموت أعظم المواعظ ..
قيل لبعض الزهَّاد : ما أبلغ العظات ؟ ، قال : النظر إلى محلة الأموات .
وقال آخر : من لم يردعه القرآن والموت .. من لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع .
إنَّ زيارة القبور ، وشهودالجنائز ، ورؤية المحتضرين ، وتأمل سكرات الموت
، وصورة الميت بعد مماته يقطع على النفوس لذاتها ، ويطرد عن القلوب مسراتها ..
من استعدَّ للموت جدَّ َفي العمل ، وقصَّر الأمل ..
يقول اللبيدي : رأيت أبا اسحاق في حياته يُخرج ورقة يقرؤها دائماً ، فلما
مات نظرت في الورقة فإذا مكتوب فيها : أحسن عملك فقد دنا أجلك .. أحسن عملك فقد دنا أجلك ..
أحبتي ..إنَّ الذي يعيش مترقباً للنهاية يعيش مستعداً لها ، فيقلُّ عند
الموت ندمه وحسراته.
لذا قال شقيق البلخي رحمه الله : استعد إذا جاءك الموت أن لا تصيح بأعلى
الصوت تطلب الرجعة فلا يستجاب لك .
أردت من هذه الموعظة إيقاذ القلوب .. إيقاذ القلوب من سباتها ، وزجر
النفوس عن التمادي في غيها وشهواتها .
أردت من هذه الموعظة أن يزيد الصالح في صلاحه ، وأن يستيقظ الغافل قبل حسرته وقبل مماته .
لقد رأيت الحياة تمضي مسرعة ومعظم أهلها في غفلة .. ناس يأتون وآخرون
يرحلون .. أرحام تدفع ، وأرض تبلع .. والناس غافلون ولا يستيقظون إلا عند
معاينة الموت وسكراته.
أحبتي .. إنَّ الحياة على ظهر هذه الحياة موقوتة .. إنَّ الحياة على ظهر
هذه الحياة موقوتة محدودة ، وستأتي النهاية حتماً ..
سيموت الصالحون ، والطالحون..
ويموت المتقون ، والمذنبون..
ويموت الأبطال المجاهدون ، والجبناء القاعدون..
ويموت الشرفاء الذين يعيشون للآخرة ، ويموت الحريصون الذين يعيشون لحطام ومتاع الحياة..
يموت أصحاب الهمم العالية ، ويموت التافهون الذين لا يعيشون إلا من أجل شهوات الفروج والبطون .
قال الله جل في علاه : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ، وقال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }
ستموت .. نعم ستموت ..
إنها الحقيقة التي نهرب منها دائماً ..
إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين ، وعناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين ..
إنها الحقيقة التي شرب من كأسها العصاة والطائعون ، وشرب من كأسها
الأنبياء والمرسلون .. قال الله :{ وَ مَاْ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخَاْلِدُونَ }
إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع ، وفي عقل
كل عاقل ، وفي قلب كل حيّ أنَّ الكل سيموت .. أنَّ الكل سيموت إلا ذو
العزة والجبروت .
قال الله جلَّ َفي شأنه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } .
إنها الحقيقة التي لا مفرَّ منها ولا مهرب طال الزمان أو قصر { قُلْ
إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلِى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
نعم ..إنه ملاقيكم ..في أي مكان تكونون ستموتون
أيها القوي .. أيها القوي الفتيّ..
أيها الذكي العبقري ..
أيها الأمير والكبير..
أيها الفقير والصغير ..
كل باكٍ سيُبكى ، وكل ناعٍ سيُنعى ، وكل مذخور سيفنى ، وكل مذكور سيُنسى
، ليس غير الله يبقى ، من علا فالله أعلى ..
اعلم رعاك الله ..أنه من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آتٍ آت {
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ } .
إنَّ حياتك إنما تبدأ بعد مماتك ..
يا ابن آدم أنت الذي ولدتك أمك باكياً *** والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
اعلم بارك الله فيك .. أن لا سبيل للخلود في هذه الحياة ..
اعلم بارك الله فيك .. أن لا سبيل للخلود في هذه الحياة .. فالكل سيموت .
قال علي رضي الله عنه وأرضاه : فلو أنَّ أحداً يجد إلى البقاء سلَّماً أو
لدفع الموت سبيلاً لكان ذلك سليمان ابن دواد عليه السلام الذي سُخرَّ له
مُلك الجنّ والإنس مع النبوة وعظم الزلفى ، فلما استكمل أجله ومدته جاءته
نبال الموت، فأخذته فأصبحت الديار منه خالية والمساكن معطلة .قال الله :
{ وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ وَ
أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ
يَدِيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا
نُذَقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ
مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ
اعْمَلُوا آلَ دَاوُوادَ شُكْرَاً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيِهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ
إلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأكُلُ مِنسَأتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ
الجِنُّ أن لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ
المُهِينِ }
عباد الله.. إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
أعظكم بالموت وسكراته ..
أعظكم بالقبر وظلماته ..
أعظكم بالموت وكفى بالموت واعظاً ..
إنه أعظم المصائب ، وأشدُّ النوائب .. سمَّاه الله لعظيم أمره مصيبة ،
فقال سبحانه : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتُْكُم
مُّصِيبَةُ المَوْتِ }
إنه المصيبة العظمى ، والرزية الكبرى، ولا نجاة منه .. ولا نجاة منه إلا
أن يكون العبد في دنياه .. إلا أن يكون العبد في دنياه لله طائعاً ،
وبشرعه عاملاً ..
إنها الساعة التي تنكشف فيها الحقائق ، وتتقطع فيها العلائق ، ويتمنى
الإنسان وليس له ما تمنى ، حينها { يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ
الذِّكْرَى ، يَقُولُ يَا لَيْتََني قَدَّمتُ لِحَيَاتِي }
إنها الساعة التي يُعرف فيها المصير إما إلى نعيم دائم أو إلى عذاب مقيم.
يقول أحدهم : شهدت ساعة احتضار أحد رفقائي العصاة .. شهدت ساعة احتضار
واحداً من رفقائي العصاة المدبرين عن الدين ، المضيعين لأوامر ربِّ
العالمين ، فسألته في ساعة احتضاره : كيف أنت ؟!، سألته: كيف أنت ؟! ،قال
: سأدخل النار .. قال : سأدخل النار أنا وفلان وفلان ، وأنت إن لم ترجع
إلى الله ، وأنت أيضاً ستدخل النار إن لم ترجع إلى الله ..
إنه الموت ..أعظم المواعظ وأبلغها ، وهو أول خطوة إلى الآخرة ، فمن مات
قامت قيامته .
قال صلى الله عليه وسلم : ( القبر أول منازل الآخرة ) .
فدارنا أمامنا ، وحياتنا الحقيقية هي بعد موتنا .
أين الأكاسرة ؟! ، أين الجباربرة والعتاة الأُول ؟! أخذ أموالهم سواهم ..
أخذ أموالهم سواهم والدنيا دول..ركنوا إلى الدنيا الدنية ، وتبوؤا الرتب
السنية حتى إذا فرحوا بها صرعتهم أيدي المنية ..
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
كم ظالم تعدى وجار وما راعى الأهل ولا الجار!!.
أين من عقد عقد الإصرار ! حلَّ به الموت ، فحلَّ من حلية الإزرار{
فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي الأَبْصَارِ } .
خرج المغرور من الدنيا ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البلى والعفن ..آه لو
رأيته قد حلَّت به المحن ، وتغيَّر ذلك الوجه الحسن ..
أفق من سكرتك أيها الغافل ، وتحقق أنك عن قريب راحل ..
يا سالكاً طريق الغافلين *** ويا راضياً بطريق الجاهلين
متى تُرى هذا القلب القاسي يلين *** متى تبيع الدنيا وتشتري الدين
ليت شعري بعد الموت أين تذهب *** رحم الله من اعتبر وتأهب
ليت شعري بعد الموت أين تذهب *** رحم الله من اعتبر وتأهب
إني سألت الترب ما فعلت *** بعدي وجوه فيك متعفرة
فأجابني صيَّرت ريحهم *** تؤذيك بعد روايح عطرة
وأكلت أجساداً منعمة *** كان النعيم يهزها نضرة
لم يبقَ غيرُ جماجم تعرَّت *** بيض تلوح وأعظم نخرة
أين الحبيب الذي كان وانتقل ؟!.
أين كثير المال وطويل الأمل ؟!.أما خلا كلٌّ في لحده مع العمل !!.
أين من تنعَّم في قصره ؟!. أليس في قبره نزل!!.
آه لو تعلم كيف غدا وصار .. لقد سال في اللحد صديده ، وبلى في القبر
جديده ، وهجره حبيبه ووديده ، وتفرَّق عنه حشمه وعبيده ..
أين تلك المجالس العالية ؟! ، وأين تلك العيشة الصافية الراضية ؟! خلا
والله بما صنع ، وما أنقذه الندم وما نفع ..
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
انتبهوا من رقادكم قبل الردى{ أَيَحْسَبُ الإنسَانُ }{ أَيَحْسَبُ
الإنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدَىً }..
إنما هي جنة أو نار .. إنما هي جنة أو نار{ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي
الأَبْصَارِ } .
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ، ولم ترَ في الباقين ما يصنع الدهر ، فإن
كنت لا تدري فتلك ديارهم.. فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح
بعدك والقبر.
أين الهمم المُجدَّة ؟! .
أين النفوس المستعدَّة ؟! .
أين المتأهبين قبل الشدة ؟! .
أين المتيقظ قبل انقضاء المدة ؟! .
إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
إنَّ العاقل من راقب العواقب ، والجاهل من مضى قُدُماً ولم يراقب..
كم يوم غابت شمسه وقلبك غائب ! .
وكم ظلام أُسبل ستره وأنت في معاصي وعجائب ! .
وكم أسبغ الله عليك وأنت على معاصيه تواظب ! .
وكم صحيفة قد ملأتها بالذنوب والمَلَكُ كاتب !.
وكم أنذرك الموت يأخذ أقرانك من حولك وأنت ساه ولاعب !. وكم أنذرك الموت
يأخذ أقرانك وأنت ساه ولاعب !.
أفق من سكرتك ..وتذكر نزول حفرتك ، تذكرهجران الأقارب ، وتذكر إِنَّمَا
أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة ..
آه ..لألسنٍ نطقت بالآثام .. كيف غفلت عن قول ربَِّ الأنام { اليَوْمَ
نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ }
آه ..لأيدٍ امتدت إلى الحرام .. كيف نسيت قول الملك العلام {
وتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ }
آه ..لأقدامٍ سعت في الإجرام .. كيف لم تتدبر{ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ }
آه.. لأجساد تربَّت على الربا .. كيف لم تفهم ( ما نبتَ على السُحت
فالنار أولى به ).
رأى أحدهم قريباً له ميتاً في المنام ، فقال له : كيف أنت ، قال : ندمنا
على أمر عظيم .. ندمنا على أمر عظيم .. نعلم ولا نعمل ، وأنتم تعلمون ولا
تعملون.. وأنتم تعلمون ولا تعملون..والله لتسبيحة أوتسبيحتان ، أو ركعة
أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحبّ إلينا من الدنيا وما فيها ..
أين أثر المواعظ .. أين أثر المواعظ والآيات في قلوبنا ؟!!!
أين أثر كلام الرحمن في حياتنا ؟!!!
اسمع رعاك الله وتدَّبر الكلام . قال الله : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ
مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُواْ يُوعَدُونَ ،
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يُمَتَعُونَ } .
تلا بعض السلف هذه الآيات وبكى وقال : إذا جاء الموت لم يُغني عن المرء
ما كان فيه من اللذة والنعيم ..
يا ابن العشرين : كم مات من أقرانك وتخلَّفت ؟!. يا ابن العشرين كم مات
من أقرانك وتخلَّفت ؟!.
يا ابن الثلاثين : أدركت الشباب فما تأسفت ؟!.
يا ابن الأربعين : ذهب الصبا وأنت على اللهو قد عكفت ؟!.
يا ابن الخمسين : أنت زرع قد دنا حصاده .. أنت زرع قد دنا حصاده .. لقد
تنصّفت المئة وما أنصفت ؟!.
يا ابن الستين : هيا إلى الحساب فأنت على معترك المنايا قد أشرفت ؟!.
يا ابن السبعين : ماذا قدمَّت وماذا أخرت ؟! .
يا ابن الثمانين : لا عذر لك فقد أُعذرت ؟!.
والله وأقسم بالله ..
من حمل نعشاً اليوم ، سيأتي يوم ويُحمل هو على الأكتاف ..
ومن دخل المقبرة اليوم زائراً ، سيدخل يوماً ولن يخرج منها ..
ومن عاد إلى بيته اليوم ، سيأتي يوم ولن يعود .. ومن عاد إلى بيته اليوم
، سيأتي يوم ولن يعود ..
كان عمر رضي الله عنه يردد دائماً ويقول.كان عمر رضي الله عنه يردد
دائماً ويقول : كل يوم يقولون مات فلان ، ومات فلان ، وسيأتي يوم
وسيقولون مات عمر ..
ومات عمرولكن كيف مات !!.. ومات عمرولكن كيف مات !!..
تفكّروا أحبتي وتيقنوا.. تفكّروا أحبتي وتيقنوا أنَّ الموت حقّ لا بدَّ منه..
قال عمر بن عبد العزيز لبعض العلماء : عظني ، فقال : لست أول خليفة تموت
، قال : زدني ، قال : ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت ، وسيأتي
دورك يا عمر .. وسيأتي دورك يا عمر .. فبكى عمر وخرَّ مغشياً عليه .
كان أبو الدرداء يقول : إذا ذُكر الموتى فعُدَّ نفسك منهم ..
بنى ابن المطيع داراً ، فلما سكنها بكى ثم قال : والله لولا الموت..
والله لولا الموت لكنت بكِ مسروراً ، ولولا ما تصير إليه من ضيق القبور
لقرَّت أعيننا بالدنيا، ثم بكى بكاءً شديداً حتى ارتفع صوته .
في الصحيح : ( ما منكم من أحد إلا ويُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ) (
ما منكم من أحد إلا ويُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي إما مقعده في الجنة
أو مقعده في النار ، فيُقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله )
وصدق من قال : لا تبت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور ..
تفكّروا وتيقنوا أنَّ الأعمال بالخواتيم ، فالخوف من سوء الخاتمة هو الذي
طيَّش قلوب الصديقين ، وحيَّر أفئدتهم في كل حين ..
أسألك بالله أما أقضَّ مضجعك هذا الخبر من سيد المرسلين والذي يقول فيه :
( والذي نفسي بيده إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه
وبينها إلاَّ ذراع فيسبق الكتاب فيعمل بعمل أهل النار (فيعمل بعمل أهل
النار) فيدخلها ، و إنَّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه
وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ، وإنما الأعمال
وبالخواتيم ) ..
نعم صدق الذي قال : لا تبت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور ..
نعود بالله من الحور بعد الكور ، ومن الضلالة بعد الهدى ، ومن المعصية بعد التقى ..
يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك
يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك..
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم ..
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم[/size]