التربية في القرآن الكريم
العدل
الدكتور عثمان قدري مكانسي
العدل
الدكتور عثمان قدري مكانسي
هو " أساس الملك " وميزان الحياة
الطيبة ، وبإقامته في مجالات الحياة يصل الناس إلى حقوقهم ، وينتفي الظلم ،
ويعرف كل إنسان حدوده ، وفيه المساواة بين الجميع ، والإصلاح بين الفرقاء.
ويتجلّى العدل في القول ، والعمل ، والحكم .
والله سبحانه وتعالى يعلمنا العدل ، ويأمرنا به ، لأن فعله سبحانه العدل بعينه : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } (من الآية 115الأنعام) .
قال سبحانه آمراً وناهياً بما يقيم العدل : { إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} (النحل) .
ويقول سبحانه آمراً بالعدل ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، دون نقص ولا طغيان ، وإنصاف الناس في أوزانهم دون تطفيف ، { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} (الرحمن) .
وهدّد من يطفف الميزان بالويل والثبور ، وعظائم الأمور يوم القيامة ، فقال سبحانه : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) }(المطففين).
والعاقل من يفهم ويعي ، ويجنب نفسه الخسارة الرهيبة التي لا تعوض في يوم
كان مقداره خمسين ألف سنة ، ويؤكد ذلك في ضرورة الإيفاء في الكيل ، والوزن
الصحيح بالعدل والسوية دون خداع ولا احتيال ، فإن فعلوا ذلك وصدقوا نالوا
في الآخرة المنزلة العالية ، وفي الدنيا الذكر الحسن : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)} (الإسراء).
ـ كما أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل أنبياءه جميعاً لهداية البشرية ،
فأنزل معهم الكتب السماوية لهداية الناس ، والقانون الذي يحكم به بين
الناس ، وهو ميزان العدل الإلهي ، ليتعاملوا بالعدل والحق في معاملاتهم
فقال سبحانه : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }(من الآية 25 الحديد) .
وإقامةُ العدل والقسط كما ذكرنا يريح العباد ، ويشعرهم بالأمن والأمان .
وإمام الرسل محمد عليه الصلاة والسلام على رأس الانبياء الذين أمرهم الله بالعدل ، والحكم بالحق فقال : { آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ }(من الآية 15 الشورى) .
وتراه سبحانه يؤكد للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الدين الذي أنزله عليه كان لبيان الحق ونشر العدل ، وإحقاق الحق ، { الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ }(من الآية 17 الشورى) .
وعلى الرغم من أن اليهود يكرهون الإسلام
، ونبيّه ، وكتابه ، والمؤمنين فإن هذا كله لا يمنع أنهم إذا جاءوا
يحتكمون إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحكم بينهم ـ إذا رضي ذلك
ـ بالعدل { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ
شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }(من الآية 42 المائدة) .
ويأمر الله سبحانه وتعالى أن تكونوا ـ معشر المسلمين ـ . .
1ـ { قَوَّامِينَ لِلَّهِ
2ـ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
3ـ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا
4ـ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
5ـ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }(من الآية 8 المائدة) . .
ـ ويقارن الله سبحانه وتعالى بين رجلين ، يضرب بهما مثلاً :
أـ { أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ
ب ـ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم }(من الآية 76 النحل) .
إنّ مكانة من يحكم بالعدل ، ويأمر به ، ويتقي الله سبحانه ، مكانة عظيمة يندبنا الله تعالى إلى التسامي إليها ، والعمل لها .
ـ وتعال معي إلى ذلك الاهتمام الواضح بالمرأة ، والزواج بأكثر من واحدة ، وقضيّة الطلاق.
كان العرب يتزوجون ثم يطلقون دون التقيد بعدد الطلقات ، وهذا استعباد
للمرأة ، وقهر لها ، فحدد الله تعالى عددها ، ومنع أحداً أن يأكل مهرها
فقال :
{ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) }(النحل).
لكنْ إذا طلبت المرأة نفسها أن تفارق زوجها ، ولم تعد تطيق البقاء معه ، تخلّت عن مهرها ، وافتدت نفسها بذلك .
ـ وعلى الرغم من السماح بالتعدد ، فقد نبه القرآن أنه يسمح بالتعدد إذا عُدِل بين النساء ، وإلا فالواحدة أحسن { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً }(من الآية 3 النساء) .
فإن اضطر الإنسان إلى التعدد ـ وهو مباح ـ ولم يستطيع العدل بين نسائه
ولو حرص على ذلك ، فليتق الله سبحانه ، وليحاول جهده ألا يميل عن الحق
ويجور ، فيترك بعض نسائه وكأنهن مطلقات ، ويميل إلى إحداهن { وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ . . . }(من الآية 3 النساء) .
ـ وقد يحدث قتال بين المسلمين أنفسهم فتجور قبيلة على أختها ، فماذا
على الحاكم أن يفعل؟ اقرأ الآية الرائعة التالية تجد عدلاً وحزماً ثم رحمة
:
أ ـ { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
ب ـ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ
جـ ـ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) }( الحجرات).
وقد يحكم القاضي بين متخاصمَيْن ، أحدهما قريب له ، فهل يجوز أن يميل إليه في الحكم ، ويميت حقَّ صاحب الحقّ ؟ { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (من الآية 152 الأنعام) ، فالقاعدة التي ينبغي للحاكم أن يسير عليها قوله تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ }(من الآية 58 النساء) ، فبالعدل نرضي ربنا ، فهو الحكم العادل .
والأمثلة على توخّي العدل به وافرة في كتاب الله ، تحثنا على الحكم به ، والالتزام به ، لنكون خير أمة أخرجت للناس