عن أبي ذر
: أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له :
يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلي ، ويصومون كما
نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم . قال : ( أوليس قد
جعل الله لكم ما تصدّقون ؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ،
وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة .، ونهي عن منكر
صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة ) ، قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ ، قال : ( أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ) رواه مسلم .
الشرح
يوم
أن خلق الله تعالى هذه الدنيا ، بثّ فيها ما يكفل للإنسان عيشا رغيدا
وحياة هانئة سعيدة ، إلا أن هذه الحياة على اتساعها وجمال ما فيها مآلها
إلى الفناء ، كالزهرة اليانعة في البستان ، سرعان ما تذبل وتسقط أوراقها ،
وإنما هيأها الله لبني آدم كي تكون مزرعة للآخرة ، ومجالا واسعا للتنافس
على طاعة الله ، والتسابق في ميادين الخير .
ولقد
كان هذا هو همّ الصحابة الأول ، وتطلعهم الأسمى ، فشمّروا عن سواعد الجد ،
وانطلقوا مسارعين إلى ربهم ، بقلوب قد طال شوقها إلى الجنة ، ونفوس قد
تاقت إلى نعيمها الدائم ، فكان الواحد منهم إذا سمع عن عمل يقرّبه إلى
الله ويدنيه من رحمته كان أول الممتثلين له ، عملا بقوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } ( آل عمران : 133 ) .
ولئن
كانت ميادين الصلاة والصيام ونحوها مقدورة من أغلب الناس ، إلا أن الصدقة
بالمال مقصورة على أغنياء المسلمين القادرين على بذله والجود به ، ومن هنا
دخل الحزن قلوب فقراء الصحابة ، إذ فاتهم هذا المضمار من مضامير الخير ،
وكلما سمعوا آية أو حديثا يحث الناس على البذل والصدقة ، ويبيّن فضلها وما
أعد الله لأهلها ، حزّ ذلك في نفوسهم ، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم شاكين له ، ولنعش معا لحظات ماتعة مع هذا الموقف العظيم الذي
يرويه لنا أبو ذر .
لقد
قال الصحابه : " يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور " ، ولم يكن قولهم
هذا انطلاقا من الحسد لإخوانهم ، أو طمعا في الثراء ، ولكنه خرج مخرج
الغبطة وتمني حصول الخير ، ليحوزوا المرتبة التي امتاز بها الأغنياء ،
ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ) متفق عليه .
وهنا
أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ما يدور في نفوس أصحابه من اللهفة إلى
الخير ، فعالج ذلك الموقف بكل حكمة ، وبيّن لهم سعة مفهوم الصدقة ، فإنها
ليست مقصورة على المال فحسب ، بل تشمل كل أنواع الخير ، ولهذا قال صلى
الله عليه وسلم ( إن بكل تسبيحة صدقة ) .
إن ذكر الله تعالى من التكبير والتسبيح والتهليل والتحميد ، هو من الباقيات الصالحات التي ذكرها الله تعالى في قوله : { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } ( الكهف : 46 ) ، وقد وردت نصوص كثيرة تدل على فضل الذكر ، ففي مسند أحمد وعند الترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ؟ ،
وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا
أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا :بلى يا رسول الله . قال : ذكر الله عز
وجل ) وقال أبو الدرداء راوي
الحديث : " لأن أقول الله أكبر مائة مرة ، أحبّ إليّ من أن أتصدق بمائة
دينار " ، وفي حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبق المفردون . قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ) رواه مسلم . فذكر الله من أعظم صدقات العبد على نفسه .
وفي
الجانب الآخر : فإن دعوة الناس إلى التزام الأوامر وترك النواهي إنما هو
صدقة متعدية إلى أفراد المجتمع ، ودليل على خيرية هذه الأمة ، كما قال
الله عزوجل في كتابه : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ( آل عمران : 110 ) ، وهذا النوع من الصدقة واجب على كل أفراد الأمة كلٌّ بحسبه ، علاوة على أنه ضمان لسلامتها وتصحيح مسارها .
ويجدر
بنا أن نشير إلى أن أبواب الخير غير مقصورة على ما ورد في الحديث ، بل
وردت أعمال أخرى أخذت وصف الصدقة : منها التبسم في وجه الأخ ، وعزل الشوكة
أو الحجر عن طريق الناس ، وإسماع الأصم والأبكم حتى يفهم ، وإرشاد الأعمى
الطريق ، والسعي في حاجة الملهوف ، ونفقة الرجل على أهله ، بل كل ما هو
داخل في لفظة ( المعروف ) يعتبر صدقة من الصدقات إما على النفس أو على
المجتمع .
ثم
تتضح سعة فضل الله تعالى على عباده ، حينما رتّب الأجر والثواب على ما
يمارسه الإنسان في يومه وليلته مما هو مقتضى فطرته وطبيعته ، وذلك إذا
أخلص فيه النية لربه ، واحتسب الأجر والثواب ، فبيّن النبي صلى الله عليه
وسلم أن المرء إذا أتى أهله ، ونوى بذلك إعفاف نفسه وأهله عن الحرام ،
والوفاء بحق زوجته ، وطلب الذرية الصالحة التي تكون ذخرا له بعد موته ،
فإنه يؤجر على هذه النيّة .
وهكذا
يتسع مفهوم الصدقة ليشمل العادات التي يخلص أصحابها في نياتهم ، فهي دعوة
إلى احتساب الأجر عند كل عمل ، واستحضار النية الصالحة عند ممارسة الحياة
اليوميّة ، نسأل الله أن يعيننا على طاعته .