أما الآن فأستفتح بالذي هو خير وأكتب:
من فضل الله على العباد أن يسر لهم فعل الخيرات، وكسب الحسنات، حتى بمجرد التفكير,فالنية في الإسلام لها أجرها العظيم وثوابها الجزيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة )متفق عليه،
والدعوة إلى الله من أعظم الأعمال الصالحة، ونفعها يتعدى إلى الغير، فأشرفُ قولةٍ ، وأحسنُ كلمةٍ كلمةٌ يقولها الداعي إلى الله يبتغي بها وجه الله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}فصلت: ٣٣
يدعوا إلى ما بلغه من دين الله ويسكتُ عما لا يعلمه { قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يوسف: ١٠٨
وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم , وقد أرشد القرآن إلى أساليب الدعوة بقوله:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125
وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل في بعض الحالات أسلوباً من الرفق لا يجارى، من ذلك حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فلما زجره بعض الصحابة بشدة قال صلى الله عليه وسلم "لا تزرموه"، أي لا تقطعوا عليه بوله وقال اتركوه حتى إذا انتهى من بوله دعاه فقال له: "إن هذه المساجد إنما بنيت للصلاة والذكر، ولا تصلح لشيء من القذر والبول". أخرجه البخاري.
ومن ذلك حديث الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يبيح له الزنا، فدعاه صلى الله عليه وسلم فجعل يسأله: أتحب الزنا لأمك؟ فيقول: لا والله. جعلني الله فداك فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟ فيقول لا والله جعلني الله فداك فيقول صلى الله عليه وسلم ولا الناس يحبونه لبناتهم " رواه أحمد .
فبهذا الأسلوب اللطيف اللين تخلص هذا الشاب من الفاحشة، وأصبح الزنا هو أبغض شيء عنده
فالداعي يجب أن يراعي في نصيحته الحالة النفسية للمدعووما تقتضيها فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته يراعي أحوال المدعوين، في منازلهم وطباعهم، وقربهم وبعدهم من الخير وأحوالهم ومعايشه واقعهم.
ولا يقل أهمية عن ذلك تحلي الداعية بتقوى الله امتثالاً واجتناباً فلا بد أن يطبق ما يدعو إليه في جميع حياته حتى لا يكون هناك تناقض بين ما يدعوا إليه وبين ما يطبقه هو في نفسه.
ولذلك قالوا: إذا حدث الرجل القوم فإن حديثه يقع في قلوبهم موقعه من قلبه. وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا.
وقال الشاعر الحكيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويقتدي بالقول منك وهو ما قد لا يحصل بحفظ المواعظ، وسرد الخطب إنما هو أمر يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده المتقين العاملين بعلمهم.
أحبتي في الله ، إن الدعوة إلى الله مهنةٌ شريفةٌ ، ليست عملاً للبطالين ، ولا هي بمجالٍ لاجتهادات الصبيان وجهالات الجاهلين ، وليست الدعوةُ إلى الله منافسةً وخصومةً وفُرقةً ونزاعاً بل إن ذلك كلَّه من عمل الشياطين ، لتضيع الأجور ، فتحل محلها الذنوب والأوزار , إن الدعوة مهمة كل من حمل كلمة التقوى فعليه أدائها بكل مجلسٍ أو محفَلٍ أو منتدى ولكن لا بد عند الدعوة من مراعاة شروطٍ وضوابط يحصُلُ بها المقصود ، ويُتجنب بها الخطأ ، ويحصل بسببها مقصود الشارع سبحانه من الدعوة إليه ، ومن ذلك :
أن يعلم الداعي إلى الله أن الله إنما أمر أن يُزال الشر بالخير بحسب الإمكان ، فيُزال الكُفرُ بالإيمان ، والبدعةُ بالسنةِ ، والمعصيةُ بالطاعة ، وأن يعلم الداعي إلى الله أن درأ المفاسد في هذه الشريعة مقدَّمٌ -على وجه العموم- على جلب المصالح , وعليه فليس من الدعوة إلى الله إزالة البدعة ببدعةٍ مثلِها ، وليس منها كذلك نقل الناس من نوعٍ من أنواع المنكرات إلى أنواعٍ أخرى كصرفهم عن سماع الموسيقى إلى الأغاني الدينية أو الأغاني التي تحض على الوطنية أو العمل الجاد ونحو ذلك , وكذلك ليس من الدعوة إلى الله استبدال العصبيات الجاهلية بالولاآت الحزبية . وليس من الدعوة إلى الله الكذب على الناس بشيء من القصص أو الاستدلال بالباطل لأجل تحبيبهم إلى الخير فكما قيل لا بد أن تُحرس السُّنة بالحق والصدق والعدل ، لا تُحرس بكذبٍ ولا ظُلم ، فإذا رد الإنسان باطلاً بباطل ، وقابل بدعةً ببدعةٍ كان فعله هذا مما يذمه السلف والأئمة. فينبغي على الداعية أن يغرس في نفوس مدعويه حب الحق وأهله ، وكراهية الباطل وأهله ، والشفقة على الخلق ، ومحبةَ العمل الصالح ، والأسفَ على ما سلف من ذنوبه ومعاصيه ، والحرصَ على ما بقي من العمر أن يُستغل بتعلم العلم ، وعبادة الرب سبحانه وتعالى .
كما يجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وبدرء المفاسد وتقليلها ، ولكنَّ هذا لا يسوِّغ الوقوع في محرَّم من أجل مصلحةٍ قد يراها الداعي إلى الله ، وذلك أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه) متفق عليه . وعليه فلا يجوز إقامة الاحتفالات البدعية ، واستخدام الوسائل المحرمة كالغناء والدفوف للرجال من أجل جمع العصاة أو أهل الكبائر وتبليغهم الدعوة إلى الله ، لأن الدعوة إلى الله طاعةٌ وقُربة ، ولا يُتقرَّبُ إلى الله بالمعاصي . وكذلك لا يجوز أن يُستعجل بالإنكار على مرتكب منكرٍ يشغله –منكره هذا- عن منكرٍ أعظم منه ، بحيث إنه عند الإنكار عليه وينتهي يذهب فيقوم بعمل منكر أعظم ، بل ندعه في هذا ، فهو خيرٌ له من ذاك ، والعياذ بالله من هذه المثابة .
كما وجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الله تعالى لا يكلِّف النفوس إلا بما تطيق ، ولا ينهاها عمَّا هي مضطرةٌ إليه . وهذا واقعٌ في الشريعة لا يحتاج إلى تحصيل ، ولكن بعض الحالات قد يعتريها ما يمنعها من القيام ببعض الأوامر الواجبة عليها ، أو يمنعها من ترك بعض المحرم ، فحينئذ يعلمُ الداعيةُ البصيرُ أن إحراج هذا الإنسان وإعناته ، وتكليفه ما لا يستطيع مما لا تأتي به الشريعة . فمن دخل في الإسلام في بلاد الكفار ، فإنه يُشرع في حقه الانتقال إلى بلاد المسلمين ليقوم بتطبيق دينه ، ويتعلَّمَ أحكامه ، فإن عجز عن ذلك ، ولم تستقبله شيء من دول المسلمين ؛ فلا حرج عليه من البقاء في داره التي هو فيها ، ويعمل من دين الله بما استطاع ، وبما بلغه من العلم . ومن هذا الباب كذلك أن بعض الناس قد يتوب من العمل في البنوك الربوية المحرمة ، ولا يجد له باباً من أبواب الدخل يُقيت به نفسه وولده ولو ببعض النقص عليه ، فلا حرج عليه –إن شاء الله تعالى- أن يبقى في عمله هذا إلى أن يُيَسِّر الله له عملاً آخر يقوم مقامه ، على أن يجتهد في البحث ، ويصدق مع الله ، فليس الله تعالى ممن يُخدع بالتعللات الكاذبة {فاتقوا الله ما استطعتم} ، ولا يجوز له البقاء في عمله هذا تكثُّراً ، أو تهاوناً . وعليه أن يجتنب التعامل المحرم ما استطاع ، فيعمل في أقسام لا علاقة لها بالحرام ، حتى يُيسِّر الله عليه أمره ، ويُطيِّبَ رزقه .
وعلى الداعي أن يعلم أن الله تعالى لا يُعبد إلا بما شرع ، ولا يُعبد بالمحدثات ولا البدع ، ولا باستحسان الأهواء والأذواق ، فما يفعله أصنافٌ من الناس من إحداث شعارات ، أو لبس ملابس بهيئاتٍ معيَّنة ، أو قص الشعر أو توفير الذقن بطريقة تخالف الهدي النبوي كل هذا لا يجوز فعله بنية التقرُّب إلى الله ، بل فعله بهذه النية يجعله من البدع التي جاءت الشريعة بالنهي عنها ، والتحذير منها . ومن ذلك أنه (ليس لأحدٍ من الناس أن يَسُنَّ للناس نوعاً من الأذكار والأدعية غير المسنون ، ويجعلها عبادةً راتبةً يواظبُ الناسُ عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس ، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به) الفتاوى: 22/ 511 ، فإذا كنا نقول هذا في الأوراد والأذكار ، فما بالكم بالبيانات ، وإحداث الهيئات الجديدة التي لم ترد في الشريعة للاجتماع كل خميس أو كل جمعة من ترتيبات لم يُنزل الله بها من سلطان . وكذلك (ليس لأحد أن ينصبَ للأمةِ شخصاً يدعو إلى طريقته ، ويوالي ويُعادي عليها غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولا أن ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويُعادي غيرَ كلام اللهِ ورسولِه وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا من فعل أهل البدع) فتاوى: 20/ 164
ومما يحتاجه الدعاةُ إلى الله الاجتماع والائتلاف بحبل الله ، كما قال تعالى: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}آل عمران: ١٠٣ وميزان الحُب والبُغض في الإسلام موكولٌ على فعل الطاعات وفعل المعاصي ، فمن كثُرت حسناته يجب أن يُحب حُبا يليق بإيمانه ودينه ولو كان من المخالفين لك في بعض الاجتهادات ، أو المنافسين لك في بعض الأعمال ، ومن نقص إيمانه أو ازداد عصيانه فإنه ينبغي أن يُنقص من ولايته بقدر ما نقص من دينه ، وإن كان من جماعتي أو من الموافقين لي ، وأيُّ انتسابٍ أو تجمُّع يُبنى عليه الولاءُ والبراءُ ، والحبُّ والبُغض فإنه لا يكون طاعة ، بل قد يكون معصيةً وتحزُّباً ، وتفريقاً بين المؤمنين . ولا يجوز أن يؤدي التنازع في المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف إلى الحكم بتفسيق المخالف أو تبديعه أو هجره . ولا إثم على من اجتهد –إن كان من أهل الاجتهاد- ولو أخطأ ، فإن الله رتَّب الأجر على الاجتهاد ، كما رتَّبه على إصابة الحق . قال صلى الله عليه وسلم : (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) متفق عليه
من فضل الله على العباد أن يسر لهم فعل الخيرات، وكسب الحسنات، حتى بمجرد التفكير,فالنية في الإسلام لها أجرها العظيم وثوابها الجزيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: ( فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة )متفق عليه،
والدعوة إلى الله من أعظم الأعمال الصالحة، ونفعها يتعدى إلى الغير، فأشرفُ قولةٍ ، وأحسنُ كلمةٍ كلمةٌ يقولها الداعي إلى الله يبتغي بها وجه الله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}فصلت: ٣٣
يدعوا إلى ما بلغه من دين الله ويسكتُ عما لا يعلمه { قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يوسف: ١٠٨
وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم , وقد أرشد القرآن إلى أساليب الدعوة بقوله:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125
وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل في بعض الحالات أسلوباً من الرفق لا يجارى، من ذلك حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فلما زجره بعض الصحابة بشدة قال صلى الله عليه وسلم "لا تزرموه"، أي لا تقطعوا عليه بوله وقال اتركوه حتى إذا انتهى من بوله دعاه فقال له: "إن هذه المساجد إنما بنيت للصلاة والذكر، ولا تصلح لشيء من القذر والبول". أخرجه البخاري.
ومن ذلك حديث الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يبيح له الزنا، فدعاه صلى الله عليه وسلم فجعل يسأله: أتحب الزنا لأمك؟ فيقول: لا والله. جعلني الله فداك فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟ فيقول لا والله جعلني الله فداك فيقول صلى الله عليه وسلم ولا الناس يحبونه لبناتهم " رواه أحمد .
فبهذا الأسلوب اللطيف اللين تخلص هذا الشاب من الفاحشة، وأصبح الزنا هو أبغض شيء عنده
فالداعي يجب أن يراعي في نصيحته الحالة النفسية للمدعووما تقتضيها فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته يراعي أحوال المدعوين، في منازلهم وطباعهم، وقربهم وبعدهم من الخير وأحوالهم ومعايشه واقعهم.
ولا يقل أهمية عن ذلك تحلي الداعية بتقوى الله امتثالاً واجتناباً فلا بد أن يطبق ما يدعو إليه في جميع حياته حتى لا يكون هناك تناقض بين ما يدعوا إليه وبين ما يطبقه هو في نفسه.
ولذلك قالوا: إذا حدث الرجل القوم فإن حديثه يقع في قلوبهم موقعه من قلبه. وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا.
وقال الشاعر الحكيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول ويقتدي بالقول منك وهو ما قد لا يحصل بحفظ المواعظ، وسرد الخطب إنما هو أمر يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده المتقين العاملين بعلمهم.
أحبتي في الله ، إن الدعوة إلى الله مهنةٌ شريفةٌ ، ليست عملاً للبطالين ، ولا هي بمجالٍ لاجتهادات الصبيان وجهالات الجاهلين ، وليست الدعوةُ إلى الله منافسةً وخصومةً وفُرقةً ونزاعاً بل إن ذلك كلَّه من عمل الشياطين ، لتضيع الأجور ، فتحل محلها الذنوب والأوزار , إن الدعوة مهمة كل من حمل كلمة التقوى فعليه أدائها بكل مجلسٍ أو محفَلٍ أو منتدى ولكن لا بد عند الدعوة من مراعاة شروطٍ وضوابط يحصُلُ بها المقصود ، ويُتجنب بها الخطأ ، ويحصل بسببها مقصود الشارع سبحانه من الدعوة إليه ، ومن ذلك :
أن يعلم الداعي إلى الله أن الله إنما أمر أن يُزال الشر بالخير بحسب الإمكان ، فيُزال الكُفرُ بالإيمان ، والبدعةُ بالسنةِ ، والمعصيةُ بالطاعة ، وأن يعلم الداعي إلى الله أن درأ المفاسد في هذه الشريعة مقدَّمٌ -على وجه العموم- على جلب المصالح , وعليه فليس من الدعوة إلى الله إزالة البدعة ببدعةٍ مثلِها ، وليس منها كذلك نقل الناس من نوعٍ من أنواع المنكرات إلى أنواعٍ أخرى كصرفهم عن سماع الموسيقى إلى الأغاني الدينية أو الأغاني التي تحض على الوطنية أو العمل الجاد ونحو ذلك , وكذلك ليس من الدعوة إلى الله استبدال العصبيات الجاهلية بالولاآت الحزبية . وليس من الدعوة إلى الله الكذب على الناس بشيء من القصص أو الاستدلال بالباطل لأجل تحبيبهم إلى الخير فكما قيل لا بد أن تُحرس السُّنة بالحق والصدق والعدل ، لا تُحرس بكذبٍ ولا ظُلم ، فإذا رد الإنسان باطلاً بباطل ، وقابل بدعةً ببدعةٍ كان فعله هذا مما يذمه السلف والأئمة. فينبغي على الداعية أن يغرس في نفوس مدعويه حب الحق وأهله ، وكراهية الباطل وأهله ، والشفقة على الخلق ، ومحبةَ العمل الصالح ، والأسفَ على ما سلف من ذنوبه ومعاصيه ، والحرصَ على ما بقي من العمر أن يُستغل بتعلم العلم ، وعبادة الرب سبحانه وتعالى .
كما يجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وبدرء المفاسد وتقليلها ، ولكنَّ هذا لا يسوِّغ الوقوع في محرَّم من أجل مصلحةٍ قد يراها الداعي إلى الله ، وذلك أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه) متفق عليه . وعليه فلا يجوز إقامة الاحتفالات البدعية ، واستخدام الوسائل المحرمة كالغناء والدفوف للرجال من أجل جمع العصاة أو أهل الكبائر وتبليغهم الدعوة إلى الله ، لأن الدعوة إلى الله طاعةٌ وقُربة ، ولا يُتقرَّبُ إلى الله بالمعاصي . وكذلك لا يجوز أن يُستعجل بالإنكار على مرتكب منكرٍ يشغله –منكره هذا- عن منكرٍ أعظم منه ، بحيث إنه عند الإنكار عليه وينتهي يذهب فيقوم بعمل منكر أعظم ، بل ندعه في هذا ، فهو خيرٌ له من ذاك ، والعياذ بالله من هذه المثابة .
كما وجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الله تعالى لا يكلِّف النفوس إلا بما تطيق ، ولا ينهاها عمَّا هي مضطرةٌ إليه . وهذا واقعٌ في الشريعة لا يحتاج إلى تحصيل ، ولكن بعض الحالات قد يعتريها ما يمنعها من القيام ببعض الأوامر الواجبة عليها ، أو يمنعها من ترك بعض المحرم ، فحينئذ يعلمُ الداعيةُ البصيرُ أن إحراج هذا الإنسان وإعناته ، وتكليفه ما لا يستطيع مما لا تأتي به الشريعة . فمن دخل في الإسلام في بلاد الكفار ، فإنه يُشرع في حقه الانتقال إلى بلاد المسلمين ليقوم بتطبيق دينه ، ويتعلَّمَ أحكامه ، فإن عجز عن ذلك ، ولم تستقبله شيء من دول المسلمين ؛ فلا حرج عليه من البقاء في داره التي هو فيها ، ويعمل من دين الله بما استطاع ، وبما بلغه من العلم . ومن هذا الباب كذلك أن بعض الناس قد يتوب من العمل في البنوك الربوية المحرمة ، ولا يجد له باباً من أبواب الدخل يُقيت به نفسه وولده ولو ببعض النقص عليه ، فلا حرج عليه –إن شاء الله تعالى- أن يبقى في عمله هذا إلى أن يُيَسِّر الله له عملاً آخر يقوم مقامه ، على أن يجتهد في البحث ، ويصدق مع الله ، فليس الله تعالى ممن يُخدع بالتعللات الكاذبة {فاتقوا الله ما استطعتم} ، ولا يجوز له البقاء في عمله هذا تكثُّراً ، أو تهاوناً . وعليه أن يجتنب التعامل المحرم ما استطاع ، فيعمل في أقسام لا علاقة لها بالحرام ، حتى يُيسِّر الله عليه أمره ، ويُطيِّبَ رزقه .
وعلى الداعي أن يعلم أن الله تعالى لا يُعبد إلا بما شرع ، ولا يُعبد بالمحدثات ولا البدع ، ولا باستحسان الأهواء والأذواق ، فما يفعله أصنافٌ من الناس من إحداث شعارات ، أو لبس ملابس بهيئاتٍ معيَّنة ، أو قص الشعر أو توفير الذقن بطريقة تخالف الهدي النبوي كل هذا لا يجوز فعله بنية التقرُّب إلى الله ، بل فعله بهذه النية يجعله من البدع التي جاءت الشريعة بالنهي عنها ، والتحذير منها . ومن ذلك أنه (ليس لأحدٍ من الناس أن يَسُنَّ للناس نوعاً من الأذكار والأدعية غير المسنون ، ويجعلها عبادةً راتبةً يواظبُ الناسُ عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس ، بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به) الفتاوى: 22/ 511 ، فإذا كنا نقول هذا في الأوراد والأذكار ، فما بالكم بالبيانات ، وإحداث الهيئات الجديدة التي لم ترد في الشريعة للاجتماع كل خميس أو كل جمعة من ترتيبات لم يُنزل الله بها من سلطان . وكذلك (ليس لأحد أن ينصبَ للأمةِ شخصاً يدعو إلى طريقته ، ويوالي ويُعادي عليها غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولا أن ينصب لهم كلاماً يوالي عليه ويُعادي غيرَ كلام اللهِ ورسولِه وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا من فعل أهل البدع) فتاوى: 20/ 164
ومما يحتاجه الدعاةُ إلى الله الاجتماع والائتلاف بحبل الله ، كما قال تعالى: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}آل عمران: ١٠٣ وميزان الحُب والبُغض في الإسلام موكولٌ على فعل الطاعات وفعل المعاصي ، فمن كثُرت حسناته يجب أن يُحب حُبا يليق بإيمانه ودينه ولو كان من المخالفين لك في بعض الاجتهادات ، أو المنافسين لك في بعض الأعمال ، ومن نقص إيمانه أو ازداد عصيانه فإنه ينبغي أن يُنقص من ولايته بقدر ما نقص من دينه ، وإن كان من جماعتي أو من الموافقين لي ، وأيُّ انتسابٍ أو تجمُّع يُبنى عليه الولاءُ والبراءُ ، والحبُّ والبُغض فإنه لا يكون طاعة ، بل قد يكون معصيةً وتحزُّباً ، وتفريقاً بين المؤمنين . ولا يجوز أن يؤدي التنازع في المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف إلى الحكم بتفسيق المخالف أو تبديعه أو هجره . ولا إثم على من اجتهد –إن كان من أهل الاجتهاد- ولو أخطأ ، فإن الله رتَّب الأجر على الاجتهاد ، كما رتَّبه على إصابة الحق . قال صلى الله عليه وسلم : (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) متفق عليه