منزلة الحج في الإسلام
الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام، وفرض على المستطيع منهم حج بيته
الحرام، ورتب عليه جزيل الفضل والإنعام، فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج كيوم
ولدته أمه نقياً من الذنوب والآثام، وذلك هو الحج المبرور ليس جزاء إلا الفوز
بالجنة دار السلام, أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام, وزكى وحج بيت الله الحرام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام..
عباد الله:
الحج تلبية لنداء الله -جل وعلا- إذ يقول:
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27) سورة الحـج.
قال ابن كثير --: "أي: نادِ في الناس داعياً لهم إلى الحجّ إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه, فذُكِر أنّه قال: يا ربّ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصلهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ, فقام على مقامه، وقيل: على الحجر, وقيل: على الصفا, وقيل:
على أبي قبيس, وقال: "أيّها النّاس، إنّ ربّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إنّ
الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه
كلُّ شيءٍ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنّه يحجّ إلى يوم القيامة".
ومما يدل على أن شعائر الحجّ من إرث إبراهيم –سلام- ما ثبت عن ابن
مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيِّ –- قَالَ: "أَمَا إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْكُمْ يَقُولُ لَكُمْ: (قِفُوا
عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ).
فالحج استجابة لدعاء نبي الله الخليل:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ} (37) سورة إبراهيم.
ألا ترون الناس ترُفُّ أعينهم لرؤية ذلك البيت وتَحِنُّ قلوبهم للطواف به, واستلام
ركنه وتقبيل الحجر الأسود؟ حتى في صلاتهم يتوجهون إليه؛ لأن صلتهم بربهم موصولة به,
وكأنهم يسعون لإطفاء حر الشوق بتوجههم إليه ولو من بعيد, إنهم يحاولون تخفيف
أشواقهم وإطفاء لهب نفوسهم فتتجمع القطرات في أعينهم خضوعاً... ثم ما تلبث أن تسيل
منها دموعاً, وهم يدركون أن الحج ومناسكه في الأصل مشاعر ومواقف عاشها إبراهيم
الخليل نفسه -- أو زوجه أو ولده أو هم جميعاً، فيعيشون بأحاسيسهم
ذكرياته, وامتحان الخليلِ لخليلِه, فيكاد اليأس يغمر قلوبهم كيف يُبتَلى الخليلُ
وهو الخليل بهذا البلاء المبين!! ثم تمتلئ أساريرهم بعقبى ذلك الابتلاء,
{وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}
(125) سورة النساء.
يراه حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج في السماء السابعة مسنداً
ظهره إلى البيت المعمور جزاءً وفاقاً, وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
أيها المسلمون:
وتبدأ قصة الذكريات بقوله:
{رَّبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ} (37) سورة إبراهيم.
إنك تعجب من هذا الرجل... راسخ الإيمان؛ يترك ابنه الذي رُزِقَه على كبرٍ, وأمَّه
بين تلك الجبال المظلمة وفي ذلك الوادي الموحش! فلا ترى إلا قوة تعجز عن حملها جبال
ذلك الوادي استسلاماً وتسليماً, وربما اعتذر بأنه الخليل فما ظنكم بالمرأة, تلك
المخلوق الضعيف تسير خلف زوجها بعد أن تركها وولى, وهي لا تدري ما هذا المكان, ولا
ترى أحداً في هذا المكان, تسأله ولا يجيب, تلحق به ولا يلتفت, فتقول بقوة الإيمان
وعظمة التسليم: (آلله أمرك بهذا؟ آلله أمرك بهذا؟) فيشير إليها أن نعم, فبماذا
تجيب؟ إنها تقول: إذن لا يضيعنا. لا اله إلا الله... لا اله إلا الله كم في هذه
المشاعر من مثير للمشاعر! تالله إنها بيوت الإيمان: زوج وزوجة وابن كلهم مستسلمون,
لا اعتراض ولا تردد ولا ضعف, ولكن تنفيذ لكل أمر يأمر به المولى, واستسلام له
وانقياد:
{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
(103-105) سورة الصافات.
أيها المسلمون:
وتمر بنا الذكريات, بهاجر وابنها ولهف الأُم وسعيها بين الصفا والمروة، هدَّها
الجَهد, وأضناها الخوفُ على نفسها وعلى فلذة كبدها, فهي تبحث عن الغوث في مكان لا
أثر للغوث فيه, بل حرَّاً ملتهباً, ووادٍ أجرد, لكن يأتيها الغوث من حيث لا تحتسب
وتتفجر زمزم ماء مباركاً منذ ذلك الحين طعام طعم وشفاء سقم, دليلاً على أن رحمة
الله تنزل ولو في الصحراء القاحلة, والأرض المجدبة بل هي في تلك الظروف أقرب وأكثر
تنزلاً
{إِنَّ
رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (56) سورة الأعراف.
قال ابن عبّاس –