Islam for all-الإسلام للجميع

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
Islam for all-الإسلام للجميع

بادر قبل أن تُبادَر Aya10
Questo sito e' protetto con
Norton Safe Web


    بادر قبل أن تُبادَر

    الحلاجي محمد
    الحلاجي محمد
    Servo di Allah


    Sesso : ذكر

    Numero di messaggi : 6998

    درس بادر قبل أن تُبادَر

    مُساهمة من طرف الحلاجي محمد السبت 22 نوفمبر - 9:57:58

    بادر قبل أن تُبادَر (1)





    العناصر:

    (1) قصة الحياة
    (2) رحلة كد وتعب
    (3) غرباء
    (4) بادرْ قبل أن تُبادر


    إنَّ الحمد لله نَحْمَده، ونستعينُ به ونستغفره، ونسترضيه، ونعوذ بالله مِن شرورِ أنفسِنا، سبحانه له الدوامُ ولخَلْقه الزوال، والصلاة والسلام على نبيِّه العدنان، محمد بن عبدِالله، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على سيِّدنا محمَّد عبدك ونبيِّك ورسولك، النبيِّ الأُمِّي وعلى آله وصحْبه وسلِّمْ تسليمًا عددَ ما أحاط به عِلمُك، وخطَّ به قلمُك، وأحصاه كتابُك، وارضَ اللهمَّ عن سادتِنا أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وعن الصحابةِ أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، وارضَ اللهمَّ عنَّا معهم أجمعين.

    وبعد:
    فيا أيُّها الأحباب، نودِّع العام تلوَ العام، فما أسرع ما تَمضي وتنقضي، وما أعظمَ ما تحوي هذه الأيام والأعوام! فكَمْ من اختبارٍ وبلاء يمرُّ بنا! وكم مِن السيِّئات اجترَحْنا! وكم مِن عزيز بات ذليلاً! وكم من ذليل أصبح عزيزًا! وكم مِن فقيرٍ أضْحَى غنيًّا! وكم من غنيٍّ أمْسَى فقيرًا! وكم فارَقْنا من الأحباب! وكم شيَّعْنا مِن أبٍ وأمٍّ! وكم نَعَيْنا من ولدٍ وبِنت! وكم دفَنَّا مِن أخ وأخت! وكم! ... وكم!

    هي طبيعةُ الأيام، يوم يُسلِّم ليومٍ، وأسبوعٌ يعقُبه أسبوع، وشهر يأتي تِلوَ شهر.

    قصة الحياة:
    قِصَّة تتكرَّر في كلِّ يوم مرَّات ومرات، قصة طِفل يُولد فيَفْرَح به أبواه، ويسعد به أهلُه، ثم يَحْبُو ويخطو بقدميه، ثم يُصبح صبيًّا يلعب ويَمْرَح، ثم يُضحي شابًّا قويًّا فتيًّا، له أحلامُه وطموحاتُه وأمانيه، وتمرُّ الأيام حتى يُمسي رجلاً كبيرًا، له بيته وزوجته وأولاده، ثم تتعاقَب عليه الأيامُ فيَبيت شيخًا هرمًا، أو عجوزًا كبيرًا، ضعُف السمع وقلَّ البصر، وفُقِدت الأسنان وثَقُل اللسان، وانحنى الظهر، وامتلأَ الرأسُ شيبًا... ثم ماذا؟ ثم المصير المحتوم المكتوب على كلِّ صغير وكبير، ذكر وأنثى، رجل وامرأة، ثم موت، ثم قَبْر، ثم حَشْر، ثم حِساب، ثم جَنَّة أبدًا، أو - والعياذ بالله - نار أبدًا.

    هذه قِصَّة مَكْرورة، فكم مِن مولود يُولد في كلِّ يوم، مئات يُولدون في كلِّ يوم في العالَم، وكم مِن ميِّت يُقْبَر، في كلِّ يوم مئات!

    هذه هي قِصَّة الحياة، قِصَّتك وقِصَّتي بكلِّ سهولة، وبكلِّ وضوح، نبَّهَنا القرآنُ الكريم إلى هذه القِصَّة، فذَكَرها في تمثيل وتشبيه رائِع، نراه أيضًا أمام أعيننا؛ ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور ﴾ [الحديد: 20].

    هذه هي حقيقةُ الدنيا، مَثَلها مَثَلُ الزَّرْع الذي تَزْرعه يَنبُت ضعيفًا نبتًا صغيرًا بورقة أو ورقتين، مثل الطفل تمامًا، ثم يَكْبَر ويَكْبَر، ويشتدُّ ساقُه، حتى يأتي يومُ الحَصاد، وقد ذبُل واصفرَّ وذهبتْ منه الحياة، هذه هي الحياة تَفاخُرٌ بما نَملِك وبما نجمع، ثم في الآخِرة عذابٌ للمغرورين بهذه الزِّينة، ومغفرةٌ مِن الله ورضوان لِمَن عرَف أنَّ الدنيا مُزَيَّنة، فلم يغترَّ بها ولم يرْكَنْ إليها؛ ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ [الكهف: 45 - 46].

    الدنيا زينةٌ نتزيَّن بها وقتًا، ثم يزول أو نزول عنها، والباقِي هو ما نَعْمَله مِن الصالحات، عندَ ربِّك هو الذي يُحصيه لنا ويَرْعاه لنا، حتى يوم نَلْقاه يُنجِّينا به وبِرَحمته ربُّنا، حتى الأولاد لن يَنفعوك في الآخِرة إلا ما زرعتَ فيهم مِن الصالحات؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التغابن: 14 - 15].

    رحلة كد وتعب:
    ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6].

    أي: ساعٍ إلى ربِّك سعيًا، وإذا مضَى عامٌ فقدْ قرُبْتَ مِن قَبْرك عامًا، وعام وراء عام حتَّى لا يَبقى لنا إلا دقائق وثوانٍ، فالأيَّام التي نعدُّها هي تعدُّنا وتُحصي علينا الأنفاس.

    يقول سيِّد قطب:
    هذا النِّداءُ العُلوي للإنسان، وأمامه الكون بسمائِه وأرْضه مستسلمًا لربِّه هذا الاستسلام: يا أيُّها الإنسان، إنَّك تقْطَع رحلةَ حياتك على الأرض كادحًا، تحمل عِبئك، وتَجْهَد جهدَك، وتشقُّ طريقَك لتصلَ في النهاية إلى ربِّك، فإليه المرجِعُ وإليه المآب، أيُّها الإنسانُ، إنَّك كادحٌ حتى في متاعِك، فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجَهْد وكَدٍّ، إنْ لم يكن جَهْدَ بدنٍ وكَدَّ عمل، فهو جَهْدُ تفكير وكَدُّ مشاعر، الواجد والمحروم سواء، إنَّما يختلف نوعُ الكدح ولونُ العناء، وحقيقة الكدح هي المستقرَّة في حياةِ الإنسان، ثم النهاية في آخِر المطاف إلى الله سواء"؛ في ظلال القرآن.[/justify]
    جُبِلَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَكْدَارِ [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    وَمَكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]


    غرباء:
    نعَمْ نحن في سَفَر، سفر إلى الدار الآخِرة، ونحن في هذه الدُّنيا غرباء ليستْ أرْضَنا، وليستْ مسكنَنا، وليستْ بلدَنا، إنَّما بلدنا الحقيقي هو الجَنَّة، التي سَكَنها من قبلُ أبونا آدَم، وأخْرَجه الشيطان منها، وإنا إليها راجعون - إنْ شاء الله.

    فنحن في غُربة، مسافرون، غُرباء، كما بيَّن ذلك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَن عبدِالله بن عمر - بادر قبل أن تُبادَر 3910327396 - قالَ: أخَذ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمَنْكِبي، فقال: ((كُن في الدُّنيا كأنَّك غريب، أو عابرُ سبيل))، وكان ابنُ عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساء، وخُذْ مِن صِحَّتك لمرضك، ومِن حياتك لموتك؛ البخاري، وزاد الترمذي: ((وعُدَّ نفسك في أهلِ القُبور)).

    فالدنيا مَحطَّة نتزوَّد فيها للسَّفَر، ثم ننطلق إلى غايتنا، إلى هدفنا، إلى الله، إلى الجنة.

    ولله دُرُّ القائل:
    فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]


    عن عبدِالله بن مسعود، قال: نام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على حَصِيرٍ، فقام وقدْ أثَّر في جنبِه فقلنا: يا رسولَ الله، لو اتَّخذَنا لك وطاءً، فقال: ((ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرة ثم راح وترَكها))، قال: وفي الباب عن عُمرَ وابن عبَّاس؛ رواه الترمذيُّ، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وأحمد وابن ماجه، وصحَّحه الألباني.

    ما هي إلا قَنْطرة ممرٍّ، لا يجب أن ننشغلَ بها عن الأصلِ، الدنيا قنطرة، فالقنطرة نَعْبُرُها لا نَعْمُرُها، فهل تتخيَّل مَن يستظل بظلِّ شجرة لساعة يَبني ويعمر ويشيد، وينسى أنَّه مسافر وكأنه مُخلد فيها؟!

    ولقدْ عاب القرآن على المنشغِلين بالقنطرةِ المتمسِّكين بالمحطَّة عن السَّفر الذي هو سبيلُ غايتهم يعيب على مَن يظنُّون أنهم مُخلَّدون، ويبدو ذلك مِن أفعالهم، فيقول ربُّنا - تبارك وتعالى -: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 1 - 8].

    يقول سيِّد قطب:
    أيُّها السادرون المخمورون، أيُّها اللاهون المتكاثِرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارِقون، أيُّها المخدوعون بما أنتم فيه عمَّا يَليه، أيُّها التارِكون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون، إلى حفرةٍ ضيِّقة لا تَكاثُرَ فيها ولا تفاخُر، استيقظوا وانظروا فقدْ ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾... ثم يُلقي بالإيقاع الأخير، الذي يَدَع المخمورَ يُفيق، والغافلَ يَتنبه، والسادرَ يتلفت، والناعِم يرتعش ويرتجِف ممَّا في يديه مِن نعيم؛ ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ لتسألنَّ عنه: مِن أين نِلْتُموه؟ وفيمَ أنفقتموه؟ أمِن طاعة وفي طاعة؟ أم مِن معصية وفي معصية؟ أمِن حلال وفي حلال؟ أم مِن حرام وفي حرام؟ هل شكرتُم؟ هل أدَّيتُم؟ هل شاركتُم؟ هل استأثرتُم؟ ﴿ لَتُسْأَلُنَّ ﴾ عمَّا تتكاثرون به وتتفاخرون، فهو عبءٌ تستخفُّونه في غمرتِكم ولهوكم، ولكن وراءَه ما وراءَه مِن همٍّ ثقيل!

    وما يقرأ الإنسانُ هذه السورةَ الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهِبة في الفضاء إلى بعيدٍ في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرارِ العميق في نهايتها، حتى يشعرَ بثِقَل ما على عاتقه مِن أعقاب هذه الحياةِ الوامِضة التي يحياها على الأرض، ثم يَحمِل ما يَحمِل منها ويَمضي به مُثقلاً في الطريق، ثم ينشئ يحاسِب نفسَه على الصغير والزهيد"؛ "في ظلال القرآن" بتصرُّف يسير.

    آه لنا عندَ المقابر مُشيَّعِين أو زائرين ننشغل بالتكاثُر والمال، والأطيان والمصانع، و... و...

    يقرأ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الآيات، فيقول: مُطَرف عنْ أبيه: أتيت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقرأ: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾، قال: ((يقول ابنُ آدم: مَالي مالي، قال : وهل لكَ يا ابنَ آدم مِن مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبِستَ فأبليت، أو تصدَّقْتَ فأمضيت))؛ رواه مسلم، وزاد في رواية: ((وما سِوَى ذلِك فهُو ذاهِبٌ وتارِكُهُ للنَّاس)).

    يُنادي ابنُ آدم فيقول: مَالي مالي، كنوزي وثرواتي، مصانعي شركاتي أطياني، ذَهبي فِضَّتي أسهمي، مسكين هو!

    أي مال وأي ثَرْوة التي هو تارِكُها لمَن بعْدَه، ولو دامتْ لغيرِه ما وصلَتْ إليه؛ أيُّ مال؟! الطعام الشراب والملبَس جميعًا إلى فناء، بعدَ دقائق تزول لَذَّة أيَّة شهوة، ويَبقى الحسابُ عليها، والعمل الصالِح هو الباقي.

    يُحكَى أنَّ رجلاً كان يَسكُن في بيت قديم متواضِع، وكانت أمنياته وحُلمه أن يبني بيتًا جديدًا، قصرًا كبيرًا، فظلَّ يجتهد ويكدح وسافَر هنا وهناك حتى استطاعَ أن يبني بناءً مًشيدًا على أحدث نِظام، وعلى أروعِ ما يكون، وكان يحلُم بيوم النُّقْلة إلى البيتِ الجديد حتى جاء هذا اليومُ، وانتقلت الأسرةُ إلى قصرِها الجديد، وأقاموا لذلك حفلاً، وسَهِروا وأكلوا، وشرِبوا وضحِكوا، وسعدوا سعادة بالِغة، ثم نام الجميعُ مبتهجين وفي الصباح إذا بهم يُوقِظون هذا الرجلَ مِن نومه فما قام مِن رقدته؛ جاءَه ملَكُ الموت وهو نائمٌ!

    بنى بيتًا جديدًا لتُقبض فيه رُوحُه في أوَّل ليلة، بنى قصرًا وسَكَن قبرًا، بنى قصرًا وأراد أن يَسكُنه وكتَب الله له قبرًا ليدخله، ثم تزوَّجَتِ امرأتُه برجل آخرَ هو الذي سَكَن هذا القصر، بنَى وسكَن غيرُه! وهو يُحاسَب على بيته الذي لم يسكُنْه، فكم مَن بنَى وسَكَن غيرُه! وكم مَن جمَع وأكَل وارثُه! وكم مَن كدح وتمتَّع غيرُه! وكم مَن تعِب ليستريحَ مَن بعدَه وهو في التراب يُحاسَب على مُتعةِ غيرِه!

    دَخَل أبو الدَّرْدَاء - رضي الله عنه - الشَّامَ فقال: يا أهلَ الشام، اسمعوا قولَ أخٍ ناصح، فاجْتَمعوا عليه، فقال: ما لي أراكم تبْنون ما لا تسكنون، وتَجْمعون ما لا تأكلون؟!

    إنَّ الذين كانوا قبلَكم بنوا مشيدًا، وأمَّلوا بعيدًا، وجمعوا كثيرًا؛ فأصبح أملُهم غرورًا، وجمْعُهم ثُبورًا، ومساكنهم قُبورًا؛ "أدب الدنيا والدين".

    أيُّها المعتبِرون اعتبروا بمَن سبقَكم، يا مَن تَبيعون الآخِرة بدُنيا غيرِكم، اعلموا أنَّ الدنيا تزول مع أوَّل قدمٍ في الآخرة؛ عن أنسِ بن مالك قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُؤتَى بأنعمِ أهل الدنيا مِن أهل النار يومَ القيامة فيُصبَغ في النار صَبْغةً، ثم يُقال: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ خيرًا قطُّ؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا ربِّ.

    ويُؤتَى بأشدِّ الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيُصبَغ صَبْغةً في الجنة، فيقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ بؤسًا قطُّ؟ هل مرَّ بك شِدَّةٌ قطُّ؟ فيقول: لا واللهِ يا ربِّ، ما مرَّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيتُ شدَّةً قطُّ))؛ رواه مسلم.

    هل أنتَ متخيِّل أنعمَ أهلِ الدنيا وهو مِن أهل النار؛ سيَّارات وقصور، ونساء وأموال، وصحة وعلم و..... و... و.... و...، يزول كلُّ هذا النعيمُ مع أوَّل صَبْغة في جهنم، صَبْغة واحدة في جهنم تمحو كلَّ هذا النعيم، فما حال مَن يَخلُد في نار جهنم والعياذ بالله؟!

    وتخيَّل حالَ أشدِّ الناس بؤسًا؛ مرض وفقر، وكدّ وتعَب، وشقاء وجوع وحرمان و... و... و...، ولكنَّه من أهلِ التقوى مِن أهل الجنة، يزول كلُّ هذا مع أول صَبْغة في الجنة، صَبْغة واحِدة تُزيل كلَّ هذا، وكأنَّه لم يكن ينسَى كلَّ بؤسه وشقائِه، فأنَّى بالخلود في الجَنَّة؟!

    إنَّ مَن نَظر إلى الدنيا بعينِ البصيرة أيقَن أنَّ نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، جديدها يَبْلى، ومالها يفْنَى، وعزيزها يذلُّ، وكثيرها يقلُّ، ودُّها يموت، وخيرها يفوت.

    نعَمْ، نعيمها ابتلاء؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]، الدنيا بحياتها وموتها، وبكلِّ ما فيها للاختبارِ والامتحان، وبعدَ الامتحان حسابٌ على الحلال والحرام.

    عنِ ابن عمرَ عن ابنِ مسعودٍ عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تَزول قدمَا ابنِ آدم يومَ القيامة مِن عند ربِّه حتى يُسألَ عن خمس: عن عُمره فيمَ أفْناه، وعن شبابِه فيمَ أبْلاه، وماله مِن أينَ اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمِل فيما عَلِم))؛ رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.

    يقولُ الحسنُ البصرِيُّ - رحِمَه اللهُ -: "أدركتُ أقوامًا لا يَفْرحونَ بشيءٍ مِنَ الدنيا أُوتُوه، ولا يأسفونَ علَى شيءٍ مِنْها فاتَهم، ولقَدْ كانَتِ الدنيا أهونَ عليهِم مِنَ الترابِ الذي يَمشُونَ عليهِ".

    وكانَ أحدُهم إذا بلغَ أربعينَ سنةً طوَى فِراشَه، لا ينامُ مِنَ اللَّيلِ إلا قليلاً، يُصَلِّي ويُسبِّحُ ويَستغفرُ؛ لِيستدرِكَ ما مضَى مِنَ العُمرِ، ولِيسَتعدَّ لِما أقبلَ مِنَ الأهوالِ والغِيَرِ، حتىَّ إنَّهم لَيَصْدُقُ فِيهم قولُ القائلِ:
    إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا فُطَنَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ سَكَنَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    صَالِحَ الْأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]


    وقال الحسنُ البصريُّ: أدركتُ أقوامًا، وصَحِبتُ طوائفَ منهم ما كانوا يفرحون بشيءٍ مِن الدنيا أقْبَل، ولا يتأسَّفون على شيءٍ منها أدْبَر، ولهي كانتْ أهونَ في أعينهم مِن هذا التراب الذي تطؤونه بأرجُلكم، إنْ كان أحدهم ليعيش عُمرَه كله ما طُوِي له ثوب، ولا أمَر أهلَه بصنعة طعام قطُّ، ولا جعَل بينه وبين الأرض شيئًا قط، وأدركتُهم عاملين بكتاب ربِّهم وسُنَّة نبيهم، إذا جنَّهُم الليل فقيامٌ على أطرافهم، يفترشون وجوهَهم تجري دموعهم على خدودهم يُناجون ربَّهم في فَكاكِ رِقابهم إذا عَمِلوا الحسَنَةَ فرِحوا بها، ودأبوا في شُكرها، وسألوا الله أن يَتقبَّلها، وإذا عملوا السيئةَ أحزنتْهم، وسألوا الله - تعالى - أن يغفرَها لهم، واللهِ ما زالوا كذلك وعلى ذلك، وواللهِ ما سَلِموا من الذنوب ولا نَجَوْا إلا بالمغفرةِ"؛ "إحياء علوم الدين".

    بادِرْ قبل أن تُبادَر:
    هذا ليس معناه أنْ نَترُك الدنيا ونُهمِلَها، ونعيش عالةً على غيرِنا، أو أنَّنا نُحرِّم الحياة الدنيا وزينتها، ليس هذا هو المقصود، ولكن عِشْ وتمتَّع، وكُلْ واشرب، وافعل ما بدَا لك ما دام حلالاً، ولكن اعمل حسابًا ليوم الحسابِ، تذكَّر الآخِرةَ، عِش في الدنيا عِيشةَ الغريب الذي يتمتَّع ويأكُل، ولكن يضع نصب عينيه هدفَه وهو الآخِرة، جنَّة عرْضُها السموات والأرض، وغايته وهو الله - عزَّ وجلَّ - وكما تعمل للدُّنيا بقَدْر بقائِك فيها فلا بدَّ أن تعملَ للآخِرة بقَدْر حياتك فيها.

    جاءَ جِبريلُ - عليه السلام - إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالَ: ((يا محمَّدُ، يا محمد، عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّت، وأحْبِبْ مَن أحببت فإنَّك مفارقُه، واعملْ ما شئتَ فإنَّك مجزيٌّ به، ثم قال: يا محمَّد، شَرفُ المؤمن قيامُ الليل، وعزُّه استغناؤُه عن الناس))؛ رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"، والخطيب، وابن عساكر، وأبو نعيم في "الحِلية"، وحسَّنه الألباني.

    عِشْ وتمتَّع، ولكن اعلمْ أنَّ هناك آخِرةً، فيها حساب وعرْض وصراط، وكتب تتطاير، وجنة ونار، واعلمْ قِيمةَ الدنيا التي هي فانية.

    عن سَهلِ بن سعد قال: كنَّا مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذِي الحُلَيفة، فإذا هو بشاةٍ ميِّتة شائِلة برِجلها، فقال: ((أترون هذه هَيِّنةً على صاحبِها، فوالذي نفْسِي بيده، لَلدُّنيا أهونُ على الله مِن هذه على صاحبِها، ولو كانتِ الدنيا تزِنُ عند الله جَناحَ بعوضة ما سقَى كافرًا منها قطرةً أبدًا))؛ رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح، وصحَّحه الترمذي.

    عن ابن عمرَ أنَّه قال: كنتُ مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجاءَه رَجلٌ مِن الأنصار فسلَّم على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: يا رسولَ الله، أيُّ المؤمنين أفضلُ؟ قال: ((أحسنُهم خُلُقًا))، قال: فأيُّ المؤمنين أكيسُ؟ قال: ((أكثرُهم للموتِ ذِكرًا، وأحسنهم لما بعدَه استعدادًا، أولئك الأكياس))؛ ابن ماجه، وفي رواية: ((ذَهبوا بشَرَف الدنيا وكرامةِ الآخِرة))، قال العراقي والمنذري: إسناده جيِّد، وقال الهيثمي: إسناده حسن، وحسَّنه الألباني.

    الكيِّس الذكي هو الذي يُديم ذِكرَ الموت؛ ليعملَ لهذا اليوم - يوم موته - فيُبادر بالصالحاتِ قبل أن يُبادِره أجَلُه، قبل أن يبادره الموت، فيُنهي عملَه، ويختم على كتابه، فلا يستطيع أن يَزيدَ فيه حَسَنة.
    وَلَدَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ آدَمَ بَاكِيًا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    وَالنَّاسُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرُورَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    فَاجْهَدْ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ إِذَا بَكَوْا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    فِي يَوْمِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورَا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    [justify]
    نسأل اللهَ - تبارك وتعالى - الإخلاصَ في القول والعمل، والسِّرِّ والعلَن.

    ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
    الحلاجي محمد
    الحلاجي محمد
    Servo di Allah


    Sesso : ذكر

    Numero di messaggi : 6998

    درس رد: بادر قبل أن تُبادَر

    مُساهمة من طرف الحلاجي محمد السبت 22 نوفمبر - 10:05:12

    بادر قبل أن تُبادَر (2)



    أبو أنس عبدالوهاب عمارة




    إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره ونسترضيه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا سبحانك ربي لك الدوام ولخلقك الزوال، والصلاة والسلام علي نبيه العدنان محمد بن عبد الله اللهم صل وسلم وبارك علي سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلي آله وصحبه وسلم تسليما عدد ما أحاط به علمك وخط به قلمك وأحصاه كتابك وارض اللهم عن سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلي يوم الدين وارض اللهم عنا معهم أجمعين وبعد:

    العبرة بمرور الأيام:
    يقول الله عز وجل:
    ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النــور: 44].
    ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].
    ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].
    ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 6].

    تبين كل هذه الآيات أنه ينبغي للمؤمن أن يستفيد من دستوره الذي أرسله الله له، لينفعه في دينه ودنياه، فالقرآن الكريم يلفت الأنظار لمن كان له نظر واعتبار أنه ينبغي للمتقين ولأولي الألباب أن يأخذوا العبرة من مرور الليالي والأيام، فإن الليل والنهار يبليان كل جديد، ويقرِّبان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيِّبان الصغار، ويفنيان الكبار،وكل يوم يمر بالإنسان فإنه يبعده من الدنيا ويقرِّبه من الآخرة.

    فالسعيد - والله - من حاسب نفسه، وتفكر في انقضاء عمره، واستفاد من وقته فيما ينفعه في دينه ودنياه، ومن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، وعَظُمَ فواته، واشتدت حسراته، نعوذ بالله من التفريط والتسويف. والله تعالى جعل الليل والنهار خزائن للأعمال، ومراحل للآجال، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات، وتنشيطهم على الطاعات، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل،والبوار البوار لمن انشغل عن العبر والعظات.

    فعن بْنِ عَبَّاسٍ - بادر قبل أن تُبادَر 3910327396 – قَالَ: قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)). رواه البخاري.

    إن كثيرا من الأصحاء لا تستفيدون من زمان صحتهم كما أن كثيرا من الفارغين لا يشغلون أنفسهم في وقت فراغهم بما يرضى الله سبحانه وتعالي وينفعهم في دنياهم وأخراهم، ولله در القائل:




    دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ
    إِنَّ الْحَيَاةِ دَقَائِقٌ وَثَوَانٍ
    فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا
    فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانٍ


    الوقت هو الحياة:
    وقتك أيها الإنسان هو رأس مالك، هو حياتك، فالوقت ليس من ذهب أو فضة، بل هو أغلي من كل هذا، فهو عمرك التي فيه تستطيع أن تجلب الذهب والفضة، وأن تحصل فيه ثمن الجنة ومهر الحور العين، فوقتك هو حياتك وهو ثمن سعادتك في آخرتك ودنياك.



    عن يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ زَاذَانَ أَبِى عُمَرَ عَنْ عُلَيْمٍ قَالَ كُنَّا جُلُوساً عَلَى سَطْحٍ مَعَنَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَزِيدُ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَبْساً الْغِفَارِىَّ وَالنَّاسُ يَخْرُجُونَ فِى الطَّاعُونِ. فَقَالَ عَبْسٌ يَا طَاعُونُ خُذْنِى. ثَلاَثاً يَقُولُهَا فَقَالَ لَهُ عُلَيْمٌ لِمَ تَقُولُ هَذَا أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ فَإِنَّهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ لاَ يُرَدُّ فَيُسْتَعْتَبَ)). فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ وَكَثْرَةَ الشَّرَطِ وَبَيْعَ الْحُكْمِ وَاسْتِخْفَافاً بِالدَّمِ وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ وَنَشْئاً يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُمْ فِقْهاً)). أحمد وقال ابن حجر للحديث شاهد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْراً مُنْسِياً أَوْ غِنًى مُطْغِياً أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً أَوِ الدَّجَّالَ فَشَّرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)). رواه الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين". ووافقه الذهبي وصححه السيوطي وقال ابن باز إسناده حسن وضعفه الألباني.



    والمعني صحيح؛ فمن لم يغتنم الوقت ويبادر فماذا ينتظر؟ أينتظر الفقر الذي يشغله ويشغل الكثير في يومنا هذا بلقمة العيش عيش الدنيا فيلهيه عن عيش الآخرة.


    وفي الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ))؛ البخاري ومسلم.

    أو المال الذي هو سبب طغيان كثير من أصحاب رؤوس الأموال فيفسدون بأموالهم أو المرض وما أكثره وما أكثر أنواعه إن سلم المرء من مرض أصابه آخر أو الكِبَر وضعف القوى وقلة الحيلة أو الموت الذي لا يفرق بين صغير وكبير أو الفتن الكبرى.


    عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ)). مسلم.


    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِى كَافِراً أَوْ يُمْسِى مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)). مسلم.

    فبادر قبل أن تبادر بارد، وأنت صحيح قبل أن تمرض، وبادر وأنت شاب قبل أن تكبر وتضعف قوتك فلا تستطيع أن تقوى علي كثير من الأعمال ،وإذا كنت ذا مال فبادر بمالك قبل أن ترحل عنه أو يرحل عنك، وأنت اليوم تجد وقتا فبادر بوقتك قبل الانشغال في الوظيفة والزوجة والحمل والأولاد ومطالب لا تنتهي، وأنت اليوم موجود وغدا قد لا تكون موجودا،فبادر....


    بهذه المعاني وعظنا رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ فعن ابن عباس بادر قبل أن تُبادَر 3910327396 َأنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ : ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ))؛ رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما وصححه الألباني.


    بادر.... قبل ساعات الندم:

    أيها الحبيب، لو أن هناك بنكا يضع في حسابك صباح كل يوم 86400 جنيها بدون شروط إلا شرطا واحدا، هو أن تنفق جميع المبلغ عن آخره قبل انتهاء اليوم، وما يتبقي لا يضاف إلي رصيد اليوم الذي يليه ويقوم بحرقه تماما، لو كان هذا موجودا ماذا كنت فاعلا؟! بالتأكيد ستحاول الاستفادة من كل ثانية وسوف تنفق كل قرش في منتصف النهار؛ أليس كذلك؟

    لعلك تتعجب أيوجد مثل هذا البنك في واقع حياتنا؟ نعم هذا البنك موجود فعلاً!!

    إنه بنك الوقت!! ففي صباح كل يوم يضع الله في يدك 86400 ثانية، والمطلوب منك أن تستغلها كلها!!




    أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْيَوْمَ أَسْرَعُ ذَاهِبٍ
    وَأَنَّ غَداً لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ؟


    فإن أردت أن تعرف قيمة العام؟ اسأل طالباً رسب عاماً.
    وإن أردت أن تعرف قيمة الشهر؟ اسأل أما وضعت أبنها في الشهر الثامن.
    وإن أردت أن تعرف قيمة الأسبوع؟ اسأل محرر الجريدة الأسبوعية.
    وإن أردت أن تعرف قيمة الدقيقة؟ اسأل شخصاً لم يلحق القطار.
    وإن أردت أن تعرف قيمة الثانية؟ اسأل من قد نجاه لتوه من حادث تصادم.
    وإن أردت أن تعرف قيمة العُشْر ثانية؟ اسأل عداء فقد الميدالية الذهبية.
    وإن أردت أن تعرف قيمة الفانتو ثانية؟ اسأل دكتور أحمد زويل.

    أيها المؤمن الكريم:

    اعلم أن من جهل قيمة وقته وأضاع عمره فقد أهدر ثروته الحقيقية، وسوف تأتيه ساعات يتمني فيها أن يُمنح جزءً منه ولكن هيهات هيهات. فإن أردت أن تعرف قيمة الحياة فاسأل القرآن الكريم إذ يخبرنا بساعات الندم يوم أن يعرف الإنسان قيمة الحياة علي حقيقتها.


    أولاً: عند الاحتضار

    يقول ربنا تبارك وتعالي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 9-11].


    الأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب، ويدرك غاية وجوده، ويشعر أن له هدفاً أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه، وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر الله والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان؛ في ظلال القرآن.

    والمنشغلون بالوسائل عن الغايات والأهداف هم الخاسرون، ولكن للأسف لا يستيقظون من نومهم ولا ينتبهون من غفلتهم ويعرفون أن لهم البوار إلا ساعة الاحتضار يوم أن يري المال والولد من حوله ويراه كأنه سراب خداع لهث وراءه من غير منفعة.

    ويبين ربنا عز وجل شدة الندم عند ما يأتي الموت فيقولالله تعالي: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون : 99-100].

    إنه يظن أن الاعتراف بالذنب قد يجدي في قبول الرجاء كلا فليرج وليتوسل فلقد ذهب وقت الرجاء ومضي زمن التوسل أين كنت أيام صحتك وقوتك وعنفوانك؟ أين شبابك؟ أين عمرك؟ علي طول سنواته ألم يكفك للعمل والتوسل والرجاء؟!

    أيها الحبيب بادر.... بادر قبل هذه اللحظة البغيضة، المقيتة، اللحظة الذي يكره الإنسان فيها نفسه وما اقترف في سني عمره من تقصير.

    حكي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله؟ قال: يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان.

    وقال عمر ابن عبد العزيز لأبي حازم عظني فقال اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ثم أنظر إلى ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن فلعل تلك الساعة قريبة؛ إحياء علوم الدين.

    ثانيا: عند الحساب والعذاب
    حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى حياة التكليف، ليبدؤوا من جديد عملا صالحا.

    قال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[السجدة: 12-14].

    إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى.. وهم ناكسو رؤوسهم خجلاً وخزياً، ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت.

    ذوقوا:
    ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾[فاطر: 36-37].
    إنه الاستجداء والتمني وقت لا ينفع، الآن تريدون عمل الصالحات ! ألم تكفكم أعماركم فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر وهي كافية للتذكير والعمل لمن أراد أن يتذكر.
    ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 27].
    أيها الحبيب الغالي:
    عض علي دينك بنواجذك الآن وشمر وبادر لعمل الصالحات قبل أن تعض علي يديك ندما ولا ينفع الندم..
    ﴿ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام:27-28].

    أرأيت كل هذه الآيات وغيرها كيف تحث علي اغتنام الوقت قبل الندم أيها الحبيب بادر.... قبل أن تبادر.



    حاسب نفسك أولا بأول:

    قال الله تعالي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [ الحشر: 18-20].


    يا أيها المؤمنون:
    بادروا بالعمل الصالح بادروا الموت قبل أن يبادركم واستعدوا له قبل أن يأتيكم واعلموا أنه لا يستوي من يحيى وهو فطن ويوقن أنه في دار عمل وغدا دار الجزاء وبين من يعيش وكأن الدنيا هي دار جزائه ومتعته وهي جل غايته.

    ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].

    إنها إذاً المحاسبة التي قال عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر"، فهل تزينا للعرض الأكبر بمحاسبة أنفسنا؟ ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18].

    هل قدمنا ما يهوِّن علينا سكرة الموت وشدته؟
    هل عملنا لما يخفِّفُ عنا فتنة القبر وضمته وما يُنِير لنا ظلمة القبر ويُؤْنِس وحشته وهل قدَّمنا ما ينجِّينا من عذاب الله وغضبته وما يثَقِّل الميزان وما يُخَفِّف الحساب وما يؤهلنا لأن نأخذ كتبنا باليمين وما يجعلنا نمر علي الصراط في آمنين؟
    وماذا عن صلاتنا ماذا عن صيامنا ماذا عن زكاتنا وماذا عن أهلنا وآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وزوجاتنا وجيراننا هل اتقينا الله فيهم ماذا عن جوارحنا سمعنا وأبصارنا وألسنتنا هل أطعنا الله بها؟

    هذه أسئلة لا بد أن نسأل أنفسنا بها ونُعِدُّ للسؤال جواباً غدا عند ربنا حين يسألنا:
    ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [ الإسراء: 34-36].

    ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الحجر: 92-93].

    فعلينا أن نحاسب أنفسنا، فمن كان مفرطاً في شيء من الواجبات فعليه أن يتوب ويتدارك ما فات، وإن كان ظالماً لنفسه بارتكاب ما نهى الله ورسوله عنه، فعليه أن يقلع قبل حلول الأجل، ومَنْ منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات إلى الممات.

    وليست هذه المحاسبة مقصورة على هذه أيام بعينها، بل هي مطلوبة كل وقت وأوان، فمن لازَمَ محاسبة النفس استقامت أحواله، وصلحت أعماله، ومن غفل عن ذلك ساءت أحواله، وفسدت أعماله كما قال ربنا تبارك وتعالي: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 34-41].


    والنَّفسُ كَالطّفلِ إِنْ تُهمِلْه ُشَبَّ عَلَى
    حُبِّ الرّضَاع وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِمِ
    فاصْرِف هواها وحاذِر أَن تُوَلِّيَهُ
    إنَّ الهوى ما تَوَلَّى يُصْمِ أويَصِمِ
    وراعِهَا وهيَ في الأعمال سائِمَةٌ
    واِنْ هِيَ استَحْلَتِ المَرعى فلا تُسِمِ
    كَم حسَّنَتْ لَذَّةً للمرءِ قاتِلَةً
    مِن حيثُ لم يَدْرِ أَنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ
    واخْشَ الدَّسَائِسَ مِن جوعٍ ومِنشِبَعٍ
    فَرُبَّ مخمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ
    واستَفرِغِ الدمعَ مِن عينٍ قَدِ امْتَلأتْ
    مِن المَحَارِمِ والْزَمْ حِميَةَ النَّدَمِ
    وخالِفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِمَا
    واِنْ هما مَحَّضَاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ
    ولا تُطِعْ منهما خصمَا ولاحكَمَا
    فأنت تعرفُ كيدَ الخَصمِ والحَكَمِ



    وقال الحسن: "لا يمضي المؤمِن إلا بحسابِ نفْسه: ماذا أردتِ تَعْملين؟ وماذا أردتِ تأكلين؟ وماذا أردتِ تشربين؟ والفاجِر يمضي قُدمًا لا يُحاسِب نفْسَه".

    وقال أيضًا: "إنَّ العبدَ لا يَزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ مِن نفْسه، وكانتِ المحاسبة هِمَّتَه".
    وقال أيضًا: "المؤمِن قوَّامٌ على نفْسه، يُحاسِب نفْسه لله، وإنما خفَّ الحسابُ يومَ القيامة على قومٍ حاسَبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقَّ الحسابُ يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمرَ مِن غير محاسبة.

    وقال ميمونُ بن مِهْران: "لا يكون العبدُ تقيًّا حتى يكونَ لنفسه أشدَّ محاسبةً مِن الشَّريك لشريكه، ولهذا قيل: النَّفْس كالشريكِ الخوَّان، إنْ لم تحاسبْه ذهَبَ بمالِك".

    وذَكَر الإمامُ أحمدُ عن وهب قال: "مكتوبٌ في حِكمة آل داود: حقٌّ على العاقِل ألاَّ يغفُلَ عن أربع ساعات: ساعة يُناجي فيها ربَّه، وساعة يُحاسِب فيها نفْسَه، وساعة يخلو فيها مع إخوانِه الذين يُخبرونه بعيوبه ويَصْدُقونه عن نفْسِه، وساعة يُخلِّي فيها بين نفْسِه وبين لذَّاتها فيما يحلُّ ويعجل، فإنَّ في هذه الساعةَ عونًا على تلك الساعات وإجمامًا للقُلوب".


    بادر أيها الحبيب، فإن الذنب يجر إلى الذنب فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يحال بين إيمانه وقلبه وقد يسلب إيمانه فبادر، أرأيت لو أن رجلاً أمر باقتلاع شجرة باسقة كبيرة غصونها وهو شاب فرآها كبيرة فهابها وقال: فلندعها إلى الغد، فلما جاء الغد، قال فلندعها للأسبوع القادم.. إلى الذي يليه... إلى الذي يليه.. فإنه مع مرور الوقت تضعف قوته... ويخور ثم بعد ذلك لا يستطيع قلعها، فما عجزت عنه قد تكون غداً أشد عجزاً فبادر.


    وعن الحسن بن علي العابد قال : قال فضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك قال ستون سنة قال فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ فقال الرجل : يا أبا علي إنا لله وإن إليه راجعون قال له الفضيل تعلم ما تقول قال الرجل : قلت إنا لله وإنا إليه راجعون قال الفضيل: تعلم ما تفسيره قال الرجل : فسره لنا يا أبا علي قال : قولك إنا لله تقول أنا لله عبد وأنا إلى الله راجع فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع فليعلم بأنه موقوف ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسئول ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا فقال الرجل : فما الحيلة قال : يسيره قال : ما هي قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.


    وقال المنذر : سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر حتى كرر ذلك ستين مرة أسمعه ولا يراني.


    وقال الحسن - رحمه الله -: "المبادرة.. المبادرة فإنما هي الأنفاس؛ لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله، رحم الله امرأً نظر إلى نفسه، وبكى على ذنوبه، ثم تلا: ﴿ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ﴾[مريم: 84] فالأنفاس تعد والثواني تعد حتى تدخل القبر.


    وقال حذيفة ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادى أيها الناس الرحيل الرحيل وتصديق ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [ المدثر: 35-37] في الموت. إحياء علوم الدين.


    جلسة محاسبة:

    اجلس مع نفسك جلسة مصالحة ومحاسبة تذكر مائة ذنب وعُدَّها ذنبا ذنبا واشكر الله علي أنه لم يأتك ملك الموت علي هذا الذنب وعلي هذا وهذا وهذا...واشكره علي أنه أمد في عمرك لتتوب وتذكر وقوفك بين يدي الله عريانا وردِّد قوله تعالي ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الجاثية: 29].

    وبهذا قد أعذرك الله كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ((أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً)) صحيح البخاري.


    تَزَوَّدْ لِلَّذِيْ لاَبُدَّ مِنْهُ
    فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيقَاتُ الْعِبَادِ
    وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَأَنْتَ حَيٌّ
    وَكُنْ مُنْتَبِهًا قَبْلَ الرُّقَادِ
    سَتَنْدَمُ إِنْ رَحَلْتَ بِغَيْرِ زَادٍ
    وَتَشْقَى إِذْ يُنَادِيكِ الْمُنَادِ
    أَتَرْضَى أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ
    لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ



    اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم أعزَّ المسلمين بطاعتك، ولا تذلهم بمعصيتك، اللهم اجعل عامنا هذا وما بعده عام أمن وعزٍّ ونصر للإسلام والمسلمين، وأسبغ علينا نعمك ظاهرة وباطنة، وارزقنا شكرها،والإخلاص في القول والعمل، والسرِّ والعلَن، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 180 - 182].



      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 15 نوفمبر - 5:43:27