الصوفية وبدعة المولد
------------------------
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
------------------------
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1 - العزة في صدر الإسلام لله ولرسوله وللمؤمنين 2 - الأمر بالإعتصام بالكتاب والسنة 3 - الإفتراق حدث بعد عهد الخلفاء الراشدين 4 - ظهور التصوف 5 - بعض نماذج الغلو في المجتمع المسلم
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، واشكروه على أن أخرجكم من الظلمات إلى النور؛ فلقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وشرك، وظلم، وفساد أخلاق … وغير ذلك، وقد انتهت تلك الفترة ببزوغ فجر الإسلام وطلوع شمسه وانتشار نوره في العالم، حتى أنار الطريق لكل سالك، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فقامت للإسلام دولة قوية ذات منعة، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة لم يسبق لها مثيل ولم يوجد لها مثيل؛ توحيد خالص لله وحده، وعدل، وإنصاف وطاعة لله ولرسوله، وتحابب في الله، وتآخ، واعتزاز بالإسلام، وعزة، وكرامة، وهيبة في قلوب الأعداء، وقد سجل لهم القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون:8].
عباد الله!
وهكذا عاش المسلمون في ذلك العهد الفريد إلى أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى.
إلا أنه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى؛ إلا بعد أن أكمل الله الدين، والكامل لا يقبل الزيادة عادة، وإن نعمة الله على اتباع محمد بالإسلام قد تمت، ولذلك قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:8].
نزلت هذه الآية في حجة الوداع في يوم الجمعة بعرفة، وفي اليوم نفسه خطب النبي خطبة يوم عرفة المشهورة، جاء في آخرها قوله عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب أصحابه: ((أنتم مسؤولون عني؛ فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت. فجعل يقول عليه الصلاة والسلام: اللهم! اشهد، اللهم! اشهد، اللهم! اشهد))(1).
عباد الله!
ولم يعش النبي بعد حجة الوداع طويلاً، بل أخذ يحدث أصحابه وأتباعه أنه إن تركهم سوف لا يسلمهم للفوضى، بل يتركهم على منهج واضح ليس فيه أدنى غموض؛ إذ قال لهم: ((تركتكم على محجة بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك))، وقال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)).
فتركهم على هذا المنهج المصون، ونصحهم ليتمسكوا به ولا يحيدوا عنه ولا يزيدوا فيه، وحذرهم من الزيادة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد))(2)، وقال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))(3).
ثم إنه عليه الصلاة والسلام ترك هذا المنهج في أيد أمينة وقوية، فى أيدي جماعة كانت حريصة على الأمة حرصاً شديداً، وهم رجال رباهم على المنهج، وهم أصحابه الذين اختارهم الله لصحبته، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين المهديون؛ فحافظوا على المنهج وعلى وحدة الأمة، ووقفوا أمام أسباب الانقسام والتفرق؛ لئلا تعود الأمة إلى الجاهلية الأولى من جديد، أو إلى ما يشابه ذلك.
في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة علي خرجت الخوارج، وتشيعت، ثم ظهرت الفرق متتابعة من جبرية ومرجئة وجهمية ومعتزلة وأشعرية وما تريدية، فقسمت بين المسلمين ما تتوقعه من الانقسام والتفرق؛ تصديقاً لقوله : ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة، وهي الجماعة))(4).
وهكذا بدأت الجاهلية المعاصرة من جديد في صور شتى، وأخص من تلك الصور جاهلية التصوف؛ فقد ظهرت وانتشرت بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (إن الصوفية ظهرت أول ما ظهرت في البصرة بالعراق على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد والتقشف المبالغ فيه، بل لقد زين لهم الشيطان أن يتخذوا لباس الشهرة، فلبسوا الصوف، وقاطعوا القطن؛ بدعوى أنهم يريدون التشبه بالمسيح ، فنسبوا إلى الصوف، فقيل لهم: الصوفية، فدعوى أنهم منسوبون إلى أهل الصفة أو إلى الصف المتقدم دعوى باطلة يكذبها الواقع واللغة).
عباد الله:
هكذا ظهرت جاهلية التصوف، ومن تلك المدينة انتشرت، ولو رجعنا إلى الوراء في تاريخنا الطويل؛ لوجدنا أن هذه البدعة التي تسمى بالتصوف اليوم قد أطلت برأسها في عهد الرسول ؛ إلا أنها قمعت عند أول ظهورها أو التفكير فيها، ويدل على ذلك ما رواه أنس بن مالك ؛ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا؛ كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟فقال أحدهم: أما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبداً وقال آخر: وأنا أقوم الليل ولا أرقد، وقال آخر: وأنا أصوم ولا أفطر. فجاء رسول الله، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله؛ إنى لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)) (5)
فأشعرهم النبي أن الأساس في العبادة الاتباع لا الابتداع.
عباد الله!
ومما ينبغي أن يعلم أن حسن النية وسلامة القصد والرغبة في الإكثار من التعبد كل هذه المعاني لا تشفع لصاحب البدعة لتقبل بدعته أو لتصبح حسنة وعملاً صالحاً؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يحملهم على ما عزموا عليه إلا الرغبة في الخير بالإكثار من عبادة الله رغبة فيما عند الله؛ فنيتهم صالحة، وقصدهم حسن؛ إلا أن الذي فاتهم هو التقيد بالسنة التي موافقتها هي الأساس في قبول الأعمال مع الإخلاص لله تعالى وحده.
عباد الله!
ولعلنا عرفنا أن بدعة التصوف ظهرت أول ما ظهرت مغلفة بغلاف العبادة والزهد، وهما أمران مقبولان في الإسلام، بل مرغوب فيهما، ثم ظهرت على حقيقتها التي هي عليها الآن، وهذا شأن كل بدعة؛ إذ لا تكاد تظهر وتقبل إلا مغلفة بغلاف يحمل على الواجهة التي تقابل الناس معنى إسلامياً مقبولاً بل محبوباً.
عباد الله!
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في معرض حديثه عن الصوفية: ولم يطل الزمن حتى انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة والمرتزقة، وهذه المتصوفة المنتشرة فى العالم الإسلامي من أولئك المبتدعة والزنادقة؛ كالحلاج الذي قتل أخيراً بزندقته، وابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، وغيرهم من مشايخ الصوفية.
وقد شوهت هذه الطائفة - الصوفية - جمال الدين، وغيرت مفاهيم كثيرة من تعاليم الإسلام لدى كثير من المخدوعين، الذين يحسنون الظن بكل ذي عمامة مكورة وسجادة مزخرفة ومسبحة طويلة، ويستسمنون كل ذي ورم، فأخذوا يحاولون أن يفهموا الإسلام بمفهوم صوفي بعيد عن الإسلام الحق الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل بدعة التصوف التي دخلت على السذج، وحالت بينهم وبين المفهوم الصحيح للإسلام.
عباد الله!
لا شك أن من أحدث عبادة من عند نفسه لم يشرعها الله قد رغب عن سنة رسول الله واتبع غير سبيل المؤمنين، وقد ورد الوعيد في ذلك؛ فعن ابن مسعود؛ قال: قال رسول الله : ((أنا فرطكم على الحوض، وليختلجن رجال دوني، فأقول: يا رب! أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنهم غيروا وبدلوا. فيقول النبي : سحقاً سحقاً لمن غير وبدل))(6).
فهذه براءة من النبي لمن غير وبدل في دين الله ما لم يأذن به الله.
اللهم! اجعلنا متبعين لا مبتدعين، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، على سنة رسولك .
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
إن خير الهدي هدي محمد ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله!
لقد كثرت البدع في زماننا هذا وانتشرت، وعلى سبيل المثال لا الحصر منها التزام كيفيات وهيئات معينة؛ كالذكر على هيئة الاجتماع بصوت واحد، والتزام عبادات معينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته، والاحتفال بيوم الإسراء والمعراج، وتخصيصه بعبادة معينة؛ علماً بأن تاريخه قد اختلف في تحديده، وحتى لو عرف تاريخه؛ فإن الله لم يميزه بعبادة مخصوصة.
عباد الله!
وهناك بدعة خطيرة تفعل في هذا الشهر - ربيع الأول -، تمس شخصية الرسول ، وهي بدعة الاحتفال بعيد مولده ، والمتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين الأوائل، بل ولا في القرون المفضلة، حتى جاءت الدولة الفاطمية .والتي انتسبت إلى فاطمة ظلماً وعدواناً، بل إن المحققين من المؤرخين يرون أنهم ينحدرون من أصل يهودي - وقيل: مجوسي -، وقد احتفل الفاطميون بأربعة موالد: مولد النبى ، وعلي بن أبي طالب وولاية الحسن والحسين أجمعين.
عباد الله
قسم العلماء الاجتماع الذي يكون في ربيع الأول، ويسمى باسم المولد، إلى قسمين:
أحدهما: ما خلا من المحرمات؛ فهو بدعة لها حكم غيرها من البدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في (الفتاوى الكبرى) : أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية؛ كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار؛ فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.
وقال في (اقتضاء الصراط المستقيم) إن هذا (أي: اتخاذ المولد عيداً) لم يفعله السلف، (مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه).
قال: (ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً؛ لكان السلف أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص).
وقال الفاكهاني في رسالته في المولد المسماة بـ (المورد في الكلام على عمل المولد)؛ قال في النوع الخالي من المحرمات من المولد: (لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، والمتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة؛ قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً إليه، وحقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين؛ فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً).
وأما القسم الثانى من عمل المولد، وهو المحتوي على المحرمات؛ فهذا منعه العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في فتوى له: (فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة؛ فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).
وقال الفاكهاني في "رسالته": "الثاني (أي: من نوعي عمل المولد) : أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم المال ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يحدث من ألم الحيف وقد قال العلماء: أخذ المال بالباطل كأخذه بالسيف، لاسيما إن أدى ذلك إلى شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات: إما مختلطات بهم أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفراد، وهن رافعات أصواتهن بالتطريب، غافلات عن قوله: إن ربك لبالمرصاد [الفجر:14]. وهذا لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة من الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، ولاسيما أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ.
وقال الفاكهاني: (وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب. هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي - وهو ربيع الأول - هو بعينه الذي توفي فيه؛ فليس الفرح فيه بأولى من الحزن).
عباد الله!
لا شك أن العواطف الكاذبة ودعوى حب الرسول هي التي حدت بأولئك الجهلة أن يبتدعوا ولا يتبعوا، وكيف تجتمع دعوى حب الرسول مع مخالفة أمره في النهي عن الإحداث في الدين، والضدان لا يجتمعان، وقد جعل الله ميزان محبته ودليلها اتباع رسول الله ؛ قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل عمران:31].
__________
------------------------
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
------------------------
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1 - العزة في صدر الإسلام لله ولرسوله وللمؤمنين 2 - الأمر بالإعتصام بالكتاب والسنة 3 - الإفتراق حدث بعد عهد الخلفاء الراشدين 4 - ظهور التصوف 5 - بعض نماذج الغلو في المجتمع المسلم
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى، واشكروه على أن أخرجكم من الظلمات إلى النور؛ فلقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وشرك، وظلم، وفساد أخلاق … وغير ذلك، وقد انتهت تلك الفترة ببزوغ فجر الإسلام وطلوع شمسه وانتشار نوره في العالم، حتى أنار الطريق لكل سالك، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فقامت للإسلام دولة قوية ذات منعة، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة لم يسبق لها مثيل ولم يوجد لها مثيل؛ توحيد خالص لله وحده، وعدل، وإنصاف وطاعة لله ولرسوله، وتحابب في الله، وتآخ، واعتزاز بالإسلام، وعزة، وكرامة، وهيبة في قلوب الأعداء، وقد سجل لهم القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون:8].
عباد الله!
وهكذا عاش المسلمون في ذلك العهد الفريد إلى أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى.
إلا أنه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى؛ إلا بعد أن أكمل الله الدين، والكامل لا يقبل الزيادة عادة، وإن نعمة الله على اتباع محمد بالإسلام قد تمت، ولذلك قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:8].
نزلت هذه الآية في حجة الوداع في يوم الجمعة بعرفة، وفي اليوم نفسه خطب النبي خطبة يوم عرفة المشهورة، جاء في آخرها قوله عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب أصحابه: ((أنتم مسؤولون عني؛ فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت. فجعل يقول عليه الصلاة والسلام: اللهم! اشهد، اللهم! اشهد، اللهم! اشهد))(1).
عباد الله!
ولم يعش النبي بعد حجة الوداع طويلاً، بل أخذ يحدث أصحابه وأتباعه أنه إن تركهم سوف لا يسلمهم للفوضى، بل يتركهم على منهج واضح ليس فيه أدنى غموض؛ إذ قال لهم: ((تركتكم على محجة بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك))، وقال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)).
فتركهم على هذا المنهج المصون، ونصحهم ليتمسكوا به ولا يحيدوا عنه ولا يزيدوا فيه، وحذرهم من الزيادة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد))(2)، وقال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))(3).
ثم إنه عليه الصلاة والسلام ترك هذا المنهج في أيد أمينة وقوية، فى أيدي جماعة كانت حريصة على الأمة حرصاً شديداً، وهم رجال رباهم على المنهج، وهم أصحابه الذين اختارهم الله لصحبته، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين المهديون؛ فحافظوا على المنهج وعلى وحدة الأمة، ووقفوا أمام أسباب الانقسام والتفرق؛ لئلا تعود الأمة إلى الجاهلية الأولى من جديد، أو إلى ما يشابه ذلك.
في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة علي خرجت الخوارج، وتشيعت، ثم ظهرت الفرق متتابعة من جبرية ومرجئة وجهمية ومعتزلة وأشعرية وما تريدية، فقسمت بين المسلمين ما تتوقعه من الانقسام والتفرق؛ تصديقاً لقوله : ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة، وهي الجماعة))(4).
وهكذا بدأت الجاهلية المعاصرة من جديد في صور شتى، وأخص من تلك الصور جاهلية التصوف؛ فقد ظهرت وانتشرت بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (إن الصوفية ظهرت أول ما ظهرت في البصرة بالعراق على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد والتقشف المبالغ فيه، بل لقد زين لهم الشيطان أن يتخذوا لباس الشهرة، فلبسوا الصوف، وقاطعوا القطن؛ بدعوى أنهم يريدون التشبه بالمسيح ، فنسبوا إلى الصوف، فقيل لهم: الصوفية، فدعوى أنهم منسوبون إلى أهل الصفة أو إلى الصف المتقدم دعوى باطلة يكذبها الواقع واللغة).
عباد الله:
هكذا ظهرت جاهلية التصوف، ومن تلك المدينة انتشرت، ولو رجعنا إلى الوراء في تاريخنا الطويل؛ لوجدنا أن هذه البدعة التي تسمى بالتصوف اليوم قد أطلت برأسها في عهد الرسول ؛ إلا أنها قمعت عند أول ظهورها أو التفكير فيها، ويدل على ذلك ما رواه أنس بن مالك ؛ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا؛ كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟فقال أحدهم: أما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبداً وقال آخر: وأنا أقوم الليل ولا أرقد، وقال آخر: وأنا أصوم ولا أفطر. فجاء رسول الله، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله؛ إنى لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)) (5)
فأشعرهم النبي أن الأساس في العبادة الاتباع لا الابتداع.
عباد الله!
ومما ينبغي أن يعلم أن حسن النية وسلامة القصد والرغبة في الإكثار من التعبد كل هذه المعاني لا تشفع لصاحب البدعة لتقبل بدعته أو لتصبح حسنة وعملاً صالحاً؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يحملهم على ما عزموا عليه إلا الرغبة في الخير بالإكثار من عبادة الله رغبة فيما عند الله؛ فنيتهم صالحة، وقصدهم حسن؛ إلا أن الذي فاتهم هو التقيد بالسنة التي موافقتها هي الأساس في قبول الأعمال مع الإخلاص لله تعالى وحده.
عباد الله!
ولعلنا عرفنا أن بدعة التصوف ظهرت أول ما ظهرت مغلفة بغلاف العبادة والزهد، وهما أمران مقبولان في الإسلام، بل مرغوب فيهما، ثم ظهرت على حقيقتها التي هي عليها الآن، وهذا شأن كل بدعة؛ إذ لا تكاد تظهر وتقبل إلا مغلفة بغلاف يحمل على الواجهة التي تقابل الناس معنى إسلامياً مقبولاً بل محبوباً.
عباد الله!
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في معرض حديثه عن الصوفية: ولم يطل الزمن حتى انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة والمرتزقة، وهذه المتصوفة المنتشرة فى العالم الإسلامي من أولئك المبتدعة والزنادقة؛ كالحلاج الذي قتل أخيراً بزندقته، وابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، وغيرهم من مشايخ الصوفية.
وقد شوهت هذه الطائفة - الصوفية - جمال الدين، وغيرت مفاهيم كثيرة من تعاليم الإسلام لدى كثير من المخدوعين، الذين يحسنون الظن بكل ذي عمامة مكورة وسجادة مزخرفة ومسبحة طويلة، ويستسمنون كل ذي ورم، فأخذوا يحاولون أن يفهموا الإسلام بمفهوم صوفي بعيد عن الإسلام الحق الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل بدعة التصوف التي دخلت على السذج، وحالت بينهم وبين المفهوم الصحيح للإسلام.
عباد الله!
لا شك أن من أحدث عبادة من عند نفسه لم يشرعها الله قد رغب عن سنة رسول الله واتبع غير سبيل المؤمنين، وقد ورد الوعيد في ذلك؛ فعن ابن مسعود؛ قال: قال رسول الله : ((أنا فرطكم على الحوض، وليختلجن رجال دوني، فأقول: يا رب! أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنهم غيروا وبدلوا. فيقول النبي : سحقاً سحقاً لمن غير وبدل))(6).
فهذه براءة من النبي لمن غير وبدل في دين الله ما لم يأذن به الله.
اللهم! اجعلنا متبعين لا مبتدعين، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، على سنة رسولك .
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
إن خير الهدي هدي محمد ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله!
لقد كثرت البدع في زماننا هذا وانتشرت، وعلى سبيل المثال لا الحصر منها التزام كيفيات وهيئات معينة؛ كالذكر على هيئة الاجتماع بصوت واحد، والتزام عبادات معينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته، والاحتفال بيوم الإسراء والمعراج، وتخصيصه بعبادة معينة؛ علماً بأن تاريخه قد اختلف في تحديده، وحتى لو عرف تاريخه؛ فإن الله لم يميزه بعبادة مخصوصة.
عباد الله!
وهناك بدعة خطيرة تفعل في هذا الشهر - ربيع الأول -، تمس شخصية الرسول ، وهي بدعة الاحتفال بعيد مولده ، والمتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين الأوائل، بل ولا في القرون المفضلة، حتى جاءت الدولة الفاطمية .والتي انتسبت إلى فاطمة ظلماً وعدواناً، بل إن المحققين من المؤرخين يرون أنهم ينحدرون من أصل يهودي - وقيل: مجوسي -، وقد احتفل الفاطميون بأربعة موالد: مولد النبى ، وعلي بن أبي طالب وولاية الحسن والحسين أجمعين.
عباد الله
قسم العلماء الاجتماع الذي يكون في ربيع الأول، ويسمى باسم المولد، إلى قسمين:
أحدهما: ما خلا من المحرمات؛ فهو بدعة لها حكم غيرها من البدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في (الفتاوى الكبرى) : أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية؛ كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار؛ فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.
وقال في (اقتضاء الصراط المستقيم) إن هذا (أي: اتخاذ المولد عيداً) لم يفعله السلف، (مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه).
قال: (ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً؛ لكان السلف أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص).
وقال الفاكهاني في رسالته في المولد المسماة بـ (المورد في الكلام على عمل المولد)؛ قال في النوع الخالي من المحرمات من المولد: (لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، والمتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة؛ قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً إليه، وحقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين؛ فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً).
وأما القسم الثانى من عمل المولد، وهو المحتوي على المحرمات؛ فهذا منعه العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في فتوى له: (فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة؛ فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).
وقال الفاكهاني في "رسالته": "الثاني (أي: من نوعي عمل المولد) : أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم المال ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يحدث من ألم الحيف وقد قال العلماء: أخذ المال بالباطل كأخذه بالسيف، لاسيما إن أدى ذلك إلى شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات: إما مختلطات بهم أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفراد، وهن رافعات أصواتهن بالتطريب، غافلات عن قوله: إن ربك لبالمرصاد [الفجر:14]. وهذا لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة من الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، ولاسيما أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ.
وقال الفاكهاني: (وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب. هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي - وهو ربيع الأول - هو بعينه الذي توفي فيه؛ فليس الفرح فيه بأولى من الحزن).
عباد الله!
لا شك أن العواطف الكاذبة ودعوى حب الرسول هي التي حدت بأولئك الجهلة أن يبتدعوا ولا يتبعوا، وكيف تجتمع دعوى حب الرسول مع مخالفة أمره في النهي عن الإحداث في الدين، والضدان لا يجتمعان، وقد جعل الله ميزان محبته ودليلها اتباع رسول الله ؛ قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل عمران:31].
__________