[rtl]الخطبة الأولى
يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
ولكن ما معنى الصلاة؟ وكيف نصلي عليه؟ قال البخاري: قال أبو العالية: "صلاة الله تعالى ثناؤه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء".
والمقصود في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم ليجمع الثناء عليه من أهل العالمين: العلوي والسفلي جميعًا.
فمن هذا المنطلق وما دام أن الله أمرنا أن نصلي عليه فكيف إذًا هي هذه الصلاة؟ جاء بيان ذلك في أحاديث كثيرة منها قوله: ((إذا صليتم علي فقولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد))، وكقوله: ((إذا صليتم عليّ فقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
ولما كانت للنبي مكانة عظيمة عند الله، فإن الله جعل لمن يصلي على النبي ورتّب وعلق له الأجر العظيم والفضل الكثير، فعن أبي طلحة قال: قال : ((أتاني آت من عند ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له بها عشر درجات، ورد عليه مثلها)). الله أكبر! بعمل بسيط سهل وقد نحتقر، لكن الله يجزي به الأجر العظيم.
وفي حديث آخر عنه قال: قال : ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك من أمتك أحد صلاة إلا صليت عليه بها عشرًا ولا يسلم عليك أحد من أمتك تسليمة إلا سلمت عليه عشرًا؟! فقال: بلى أي يا رب)). ففي هذه الأحاديث حث منه وترغيب على المبادرة والإكثار من الصلاة عليه .
واعلم ـ يا عبد الله ـ أن هذه الصلاة تبلغه، نعم، ما من مسلم يصلي عليه وما من مسلمة تصلي عليه في أي بقعة من الأرض إلا أبلِغ ذلك ، وطريق ذلك أن الله وكل ملكًا، جعل ملكًا عند قبره، وأعطى له القدرة على سمع العباد، فيسمع جميع من يصلي على النبي ، فيبلغه بمن صلى عليه وباسمه كاملاً، فعن أبي بكر الصديق قال: قال : ((أكثروا الصلاة علي؛ فإن الله وكل لي ملكًا عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد، إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة))، وقد ورد من حديث عمار بن ياسر قال: قال : ((إن لله تعالى ملكًا أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها)).
فيرد الله له روحه حتى يرد النبي ، فعن أبي هريرة قال: قال : ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد )). نعم، يرد الله له روحه فيرد ، وهذا في أي بقعة أو مكان من الأرض، فلا يلزم أن يكون أمام قبره أو في المدينة، بل الأمر كما قال الحسن بن علي قال : ((حيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني)).
إذًا من خلال هذه الأحاديث يفهم أن النبي في قبره لا يسمَع كلامنا ولا كلام أحد من الخلق إلا من صلى عليه، فإن الله وكل له ملكًا يسمَع العباد. وفي هذا رد على بعض الاعتقادات الباطلة والفاسدة، والتي تقول بأن النبي حي يسمع كلامنا ويسمع دعاءنا، فتجدهم يستغيثون ويتوسلون به: يا رسول الله فرج همي، يا رسول الله أعطني حاجتني، يا رسول الله زوجني.
ولعل الأحاديث السابقة الذكر وما جاء في القرآن الكريم من الآيات الدالة على أنه في قبره ميت لا يسمع دعاءنا ولا كلامنا كقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] وهذه الأدلة تقطع دابرهم وتبطل معتقدهم، بل هذا عرضة للوقوع في الشرك، وقد بينا مرارًا خطورة الشرك، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].
ولما كانت الصلاة على النبي من أفضل القربات عند الله فإن وقوعها في أفضل الأيام يزيد من فضلها، فعن أبي مسعود البدري قال: قال : ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه ليس يصلي علي أحد يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته)). فخص يوم الجمعة بالذكر؛ لأنه من أفضل الأيام عند الله، عن أوس بن أوس قال: قال : ((إن من أفضل أيامكم عند الله يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه الصعقة، وأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، إن الله حرم على الأرض أن تكل أجساد الأنبياء)).
-------------------------
الخطبة الثانية
اعلم ـ يا عبد الله ـ أن للصلاة على النبي آثارا عظيمة وفضائل جمة كثيرة، ترجع على العبد بالخير والبركات إن فعل ذلك، وقد ترجع عليه بالسوء والويلات إن تركها. فمن هذه الفضائل:
1- أن الصلاة على النبي سبب لشفاعته يوم القيامة، فعن أبي الدرداء قال: قال : ((من صلى علي حين يصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة)).
2- أن الصلاة على النبي سبب لمغفرة الذنوب وتكفير الخطايا، فعن أبي هريرة قال: قال : ((ما من رجل يصلي علي مائة مرة إلا غفر له))، وقد ثبت أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، إني أصلي من الليل أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ قال: ((ما شئت))، قال: شطر صلاتي؟ قال: ((ما شئت))، قال: أفأجعل صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا يغفر الله لك ذنبك كله)).
3- أن الصلاة على النبي سبب لتفريج الهموم والمصائب، ومن منا ـ عباد الله ـ لا يتمنى أن يفرج عن همه وكربه، ثبت أن الرجل الذي سأل النبي عن جعل الصلاة عليه في كل قيامه قال له ـ كما في الحديث السابق ـ: أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا يغفر الله لك ذنبك كله، ويكفيك همي الدنيا والآخرة)). قال القاري: "أي: من أمر دنياك وآخرتك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة على ذكر الله وتعظيم الرسول والاشتغال بأداء حقه عن أداء مقاصد نفسه وإيثاره بالدعاء على نفسه، ما أعظمه من خلال جليلة الأخطار وأعمال كريمة الآثار".
4- أن الصلاة على النبي سبب لاستجابة الدعاء وتركه قد يحجبه، فعن أنس قال: قال : ((كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي)). وهذا للاستحباب لا الوجوب، بدليل ورود أدعية عنه وعن الصحابة وليس فيها الصلاة عليه، ولكن في الصلاة عليه عند الدعاء الفضل الكبير.
5- أن الصلاة على النبي تسلّم صاحبها، جاء عن أبي هريرة قال: قال : ((أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله تعالى ويصلوا على النبي إلا كانت عليهم ترة من الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)). وهذا يدل على خطر ترك هذا العمل، حيث جعلهم تحت المشيئة بتركه.
فبادر ـ يا عبد الله ـ بالخير، وأكثر من الصلاة عليه، وصل عليه حيث سمعته يذكر، كي لا ينطبق عليك قوله: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي))، وقوله حين صعد المنبر فقال: ((آمين))، فقيل له: على ما أمنت يا رسول الله؟ فقال: ((أتاني جبريل فقال: رغم أنف رجل ذكِرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، فقلت: آمنين)).
وقد كان السلف قديمًا يعرفون قدر الأعمال فيعطونها حقها، فهذا إمام المدينة الإمام مالك صحّ أنه كان إذا أتاه أحد يريد أن يحدثه بحديث رسول الله قام فاغتسل أولاً، وتطيّب ولبس أحسن ثيابه، وكان يقول: "كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديث رسول الله بكى حتى نرحمه". أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].[/rtl]