أيها الإخوة الأكارم... موضوعٌ دقيقٌ جداً ألا وهو التواضع، لكن التواضع إما أنه سلوكٌ ذكي، وإما أنه سلوكٌ عَفْويّ، الذي يعرف الله عزَّ وجل يعرف عظمته، ويعرف ضعفه، إن عرفت عظمة الله وعرفت ضعفك، إن عرفت قوته، إن عرفت غناه وعرفت فقرك، إن عرفت علمه وعرفت جهلك، دائماً في معرفتين أن تعرف َمن أنت وأن تعرف من ربك.. ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ غافر 64. الشعور الناتج من تحققك لضعفك، وافتقارك، وجهلك، والشعور الناتج عن تحققك بغنى الله عزَّ وجل وعلمه وقدرته، من خلال هذين التحقيقين ينشأ سلوكٌ عفوي هو التواضع. لكن هناك أناسٌ كثيرون بحكم ذكائهم، واتقاد ذهنهم، ورغبتهم في أن ينتزعوا إعجاب الناس، وأن ينتزعوا حبَّهم، يسلكون سلوكاً متواضعاً، هذا السلوك ليس عبادةً، وليس مؤشراً على معرفة الله عزَّ وجل، ولا على عبودية الإنسان، الذي أتمناه على الله أن يتضح أمامكم الفرق الدقيق بين السلوك المَدَني، السلوك الذكي، وبين العبودية لله عزَّ وجل. الإنسان لو أدى ما عليه من حقوق للناس هل يسمى أميناً؟ الجواب لا، الإنسان الذكي يوازن بين اسمه، واسم شركته، واسم تجارته فإن لم يدفع، نهش الناس عرضه، وذمّوه، وتحدّثوا عليه، واغتابوه، فحينما يخاف الإنسان على سمعته، أو على مركزه التجاري، أو على مكانته الاجتماعية، ويبادر إلى دفع ما عليه هذا ليس عند الله أمانةً، هذا سلوك مدني مبني على الترجيح، أنت وازنت بين عدم الدفع، وأن تفتضح بين الناس، وبين أن تدفع وأن تنجو بسمعتك، فآثرت الدفع، سلوك مدني. مَن هو الأمين؟ الأمين إنسان أودع عندك مبلغا ماليا، ولم يأخذ منك إيصالاً ـ فرضاً ـ ولم يُعْلِم أحداً، ومات فجأة، وليس في الأرض كلها جهةً تقاضيك، أو تطالبك، أو تدينك، وذهبت طواعيةً إلى ورثة هذا الميت، وأعطيتهم هذا المبلغ، هذا هو السلوك العبادي، هذه هي العبادة، هذه هي الأمانة، إن لم تكن مُداناً من الخَلق لكن الحق يعرف ذلك. لذلك، يجب أن ننحي من درسنا هذا كل أنواع التواضع الناتجة عن الذكاء، أريد التواضع الحقيقي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أريد التواضع الذي يرقى بك إلى الله، أريد التواضع الذي هو انعكاسٌ لإيمانك، انعكاسٌ لمعرفتك بحقيقة ذاتك، انعكاسٌ لمعرفتك بالله عزَّ وجل. النقطة الدقيقة قبل أن نخوض في ثنيات الدرس هي: أنه على عكس ما يبدو لك، كلما تواضعت لله رفعك الله، وعلى عكس ما يبدو لعامة الناس كلما رفعت نفسك خفضك الله عزَّ وجل، وضعك الله، إن رفعت نفسك وضعها الله، وإن تواضعت لله عزَّ وجل رفعك الله، هذه واحدة. الشيء الأخطر قد يقول قائل: ولو تكبَّر. المشكلة أن الإنسان بين حالتين؛ إما التأييد، أو التخلي، الله عزَّ وجل يؤيدك، ينصرك، يوفقك، يسدد لك خطاك، يعطيك رؤية صحيحة، يرشدك، ينبهك، يحفظك، يوفقك، أو يتخلى عنك، إذا تخلى الله عنك وقعت في مطباتٍ كثيرة، ظهرت منك حماقاتٌ كثيرة، وقعت في سلوكٍ مضطرب. قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد)). تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد " لا فخر، ولا بغي، ويجب أن تعرف ما من إنسان على وجه الأرض كان أشد تواضعاً من رسول الله، بالمقابل ما من إنسان على وجه الأرض رفع الله شأنه، وأعلا مقامه، ورفع ذكره كرسول الله. يُذكر النبي كلما ذكر الله عزَّ وجل. قال صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)). ما فعل عبدٌ كذا إلا صار معه كذا وكذا، هذه الصيغة ماذا تفيد؟ القانون، تفيد أن هذه قاعدة لا تتخلف أبداً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن تواضع في غير منقصةٍ)). يعني إذا جلس واحد جاهل بين العلماء، طبعاً سيتواضع، ولكن هذا التواضع سببه المَنْقَصَة، هو لا يقرأ ولا يكتب وجالس بين دكاترة مثلاً، الممرض بين الدكاترة يتواضع إجباري، الحاجب باجتماع رؤساء الأركان سيتواضع إجباري، بائع متجول أمام أعضاء غرفة التجارة، كلهم من كبار أغنياء البلد، طبعاً سيتواضع، لكن نحن نريد واحدا يتواضع من غير منقصة، يكون قوي، معه شهادة عُليا، غني، جميل الشكل، وسيم المنظر، من أسرة كريمة ومع هذا متواضع. حينما قدِم هارون الرشيد إلى الديار المقدَّسة ليحجَّ بيت الله الحرام قال: ائتوني بأحد العلماء الكبار كي أستفيد منه فذهبوا إلى الإمام مالك، قالوا له: إنّ الخليفة يرجو أن يلتقي بك كي يسألك بعض الأسئلة، فقال: قولوا له: يا هارون، إن العلم يؤتى، ولا يأتي، قال لهم: صدق، ثم قال لهم: واللهِ إن جاء لن أسمح له بتخطَّي رقاب الناس، فبلَّغوه ذلك وقال لهم: معه الحق وهكذا السُّنة فلما جلس قال: من تواضع لله رفعه ومن تكبَّر وضعه. إن الأصل في العلاقات الإنسانية الإحسان ،،، مصداقاً لقوله تعالى : ﴿وقولوا للناس حسناً﴾ البقرة 83،،، وأن يكون المرء متواضعاً لين الجانب ، كما قال ربنا عز وجل ﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ الحجر 88،،، فقد كان صلى الله عليه وسلم يُنزِل الناس منازلهم ، فكان يوقر الكبير ويعطف على الصغير ((أنزلوا الناس منازلهم)) رواه مسلم ،،، وأشار ربنا عز وجل إلى نمط فريد ومتميز في العلاقة والاحترام والتوقير للوالدين عندما قال ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾ الإسراء 23-25. فالتواضع هو السلام الداخلي للإنسان، يدخل السعادة والطمأنينة والراحة ،، تواضع في النظر للناس باحترام وتكلم معهم ببساطة دون تنطع أو تطاول وتصرف باللين والرحمة والحسنى ،،، أما الغطرسة والتكبر وإثبات الذات بطريقة سلبية فهذا عيب خطير ،،، ينبغي أن نتواضع للناس وأن نقدر حسناتهم ومواقفهم ،،، وكما قيل أن لا تنسى الخير إذا هاج في نفسك الشر ، وأن ننظر لأنفسنا بأنها الأقل ،،، لا أقول أن نشعر بالدونية والنقص ، إنما في احترام الذات تجنب تضخيمها وإعطائها أكبر من حجمها ،، وقدر طاقات الناس وقدراتهم وأعمالهم ومكانتهم .وفي الختام: ((طوبى لمن تواضع في غير منقصةٍ، وذل في نفسه من غير مسألةٍ، وأنفق مالاً جمعه في غير معصيةٍ، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شرَّه، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله)).
والحمد لله رب العالمين
اللغة الإيطالية على الرابط التالي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]