حاجة العالم إلى الله
قد يشرف المهندسون والبناؤون على تشييد عمارة ضخمة، ثم ينفضون أيديهم منها، أو يموتون عنها. وتبقى العمارة بعدهم أمدا بعيدا، قائمة الجدران، مستوية الأركان. إن هذه العمارة لم تخلق من عدم، والفَعَلَة فيها لم يزيدوا أن ضموا حجرا حجرا، ثم انتهى عملهم إلى هذا الحد. أما بناء هذا الكون الفسيح، وتشييد سقفه المحفوظ، وتمهيد أرضه وتهيئتها للعمران، فهو عمل آخر أساسه الإبداع من العمل المطلق. وكما أن العالم في وجوده احتاج إلى ربه، فهو في بقائه يحتاج إليه لحظة بعد لحظة. ولا توجد ذرة في الأرض ولا في السماء تستمد وجودها من ذاتها، حتى يتصور استغناؤها بنفسها، بل على العكس، هذا الوجود المُفَاض عليها يتلاشى ويضمحل إذا شاء مُفيضه أن يحرمها منه، مثلما يتقلص الظل إذا ذهب ما يلقيه. لن يكون نهار إلا مع وجود الشمس!٬ ولن يكون عالم إلا مع وجود الله. "ولله المثل الأعلى".. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ فاطر 15 – 16. فالعقول وما يتردد فيها من أفكار، والقلوب وما يتجدد فيها من مشاعر، والأجسام وما يتدفق فيها من دماء، وما يتحرك فيها من أجهزة وعضلات، في كل بلد، بل في كل قارة، منذ بدء الخلق وإلى قيام الساعة، ما نعرف وما لا نعرف، إنما يقوم بقيام الله عليه، ولو شاء تركه لأصبحنا ولما وجدنا وقتا نفكر فيه بأننا فنينا، لأننا سنكون فنينا فعلا. الفارق بين وجودنا ووجود الله، أن الله - تبارك وتعالى - وجوده واجب له من ذاته. أما نحن فليس لنا من ذواتنا شيء قط، إن مُنِحْنا نعمة الوجود بقينا ما بقيت مُعارة لنا، وإلا اختفينا فلم يمسكنا شيء. ومن هنا نعرف أن لله صفات كثيرة، توضح معالم كماله، نذكر منها ما يلي: ليس كمثله شيء. فمخالفة الذات الإلهية لغيرها من المحدثات ظاهرة، والبداهة تقضي بأن بين الخلق والخالق أمدا بعيدا، وأن الخالق لا يشبه شيئا من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته. وقد وصف الله - عز وجل - نفسه بصفات كثيرة، من الصعب إدراك حقيقتها على النحو الذي ندرك به أمورنا المعتادة، بل هذا مستحيل!. من أين للتافه أن يعرف كنه العظيم؟ إذا قيل: إن الله يسمع، فليس ذاك بأذن كآذاننا. أو يرى، فليس ذلك بعين كأعيننا. وإذا قيل: إنه بنى السماء، فليس على النحو المألوف من تكليف فَعَلة واستحضار أدوات. وإذا قيل: يده فوق أيدينا، فليس الوصف لجارحة كأعضائنا. والذي نوقن به ابتداء، أن صفات المُحْدثين وأحوالهم لا يجوز أن تنسب إلى الله؛ فهو- سبحانه وتعالى- غير مخلوقاته. وشأن الألوهية أسمى مما تتصور الأذهان الكليلة والعقول القاصرة. والحق يقول ـ في كلامه عن ذاته وصفاته: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ آل عمران 7. وعلى ذلك فكل ما قطعنا بثبوته في كتاب الله وسنة رسوله مما وصف الله به نفسه وأسنده إلى ذاته؛ قبلناه على العين والرأس، لا نتعسف له ولا تأويلا ولا نقصد به تجسيما ولا تشبيها. إن مفهوم الألوهية حين يعرف الإنسان الطريق إليه، وحين يتلقاه بقلبه ويستقبله بفطرته - لواضح أشد الوضوح- إذ هو الكمال المطلق الذي يسمح للإنسان أن ينطلق إلى ما لا نهاية في السمو والارتفاع بمقام الذات ... وكلما انتهى إلى غاية مد بصره إلى غيرها وهكذا أبدا. ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الشورى 11. وفي هذا المفهوم عاش الصحابة والتابعون - رضوان الله عليهم- . والله الذي جاء القرآن ليدل الناس عليه، ويعرفهم به ويدعوهم إلى إفراده بالوحدانية واختصاصه بالعبادة - هذا الإله - لابد أن يكون له مفهوم في عقول الناس حتى يعرفوه، وحتى يأنسوا به، وينظروا إليه فيما يأخذون أو يَدَعُون من أمره ونهيه. فما المفهوم الذي جاء به القرآن لذات الإله؟ أهو مادي؟ أو معنوي؟. وهل هو محدود أو مطلق؟ لقد كان صنيع الإسلام في هذا الأمر الخطر آية الآيات ومعجزة المعجزات الدالة على صدق الرسالة المحمدية، وعلى أنها متلقاة من أحكم الحاكمين رب العالمين! أولا: لم يكن مفهوم الألوهية - في شريعة الإسلام - مفهوما ماديا. لأنه لو كان كذلك لتجسد الإله. ولو تجسد لتحدد. ولو تحدد لوقع في دائرة الحس، وفي محيط النظر. ولأصبح شيئا من الأشياء. يحويه مكان وتفرغ منه أمكنة، ويراه خلق ويغيب عن خلق. وذلك مما يذهب بجلال الذات، وينزل من قدرها، ويسقط من هيبتها. ثانيا: لم يرتض الإسلام أن يكون مفهوم الإله أمرا معنويا، وفكرة مجردة مطلقة لا يدل عليها وصف، ولا يدرك لها واقع تتجلى فيه. فإنها لو كانت كذلك لما أمسك بها عقل، ولا اطمأن إليها قلب، ولما وجد الإنسان لمثل هذه الفكرة المجردة أثرا يعمل في كيانه، ويؤثر في سلوكه. ومن أجل هذا لم يكن مفهوم الإله - في شريعة الإسلام - هذا أو ذاك، لم يكن شيئا ماديا ولم يكن فكرة مجردة. وإنما اختار الإسلام لمفهوم الإله - في أذهان البشر - مقاما وسطا بين هذين، بين التجسيد والتجريد. فحيث ينظر الإنسان إلى الله في القرآن الكريم يجد الله، سميعا، بصيرا، عالما، قادرا، حكيما، مريدا، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، قائم على الملك. مستو على عرشه، والملائكة حافون من حول العرش، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وهذا من شأنه أن يخيل للإنسان صورا ما للذات. ثم ينظر المسلم في كتاب الله فيرى الله ليس كمثله شيء... ويعمل هذا المفهوم عمله في تفكير الإنسان، لتأخذ تلك المفاهيم التي كانت قد بدأت تتشكل وتتجسدـ تأخذ في "الذوبان". تذوب كصخور الثلج في عباب المحيط. ذلك - في إيجاز - هو الذي يقع في إدراكي للمفهوم الذي أراد القرآن أن يقيمه في عقول الناس وقلوبهم ... وذلك المفهوم ضروري- كما قلنا- لكي نستشعر "الذات" ونتجه إليها ونرفع لها صلواتنا ودعواتنا. أما حقيقة هذه الذات العظمى فأمر وراء كل ما نتصور... ولكن لما لم يكن بد من أن نتصور؛ فقد أسعفنا القرآن الكريم بالقدر الضروري الذي يسد حاجتنا في هذا المقام، فجعل للإله مفهوما غير مجسد " ذاتا " لها العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الكمال التي تليق برب العالمين ... الله ذات ... ولكن ليس كمثله شيء!
والحمد لله رب العالمين