وجود الله
قلنا في ختام خطبة الجمعة الماضية: إن مشكلتنا ليست في أن " نبرهن" للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه باعتباره مصدرا للطاقة. ذلك أن الإسلام في تكوينه للعقيدة يخاطب القلب والعقل، ويستثير العاطفة والفكر، ويوقظ الانفعالات النفسية مع إيقاظه للقوى الذهنية. ومن المؤسف أن نقول إن الحضارة المعاصرة -التي تسود العالم اليوم - قد اقترنت بنزوع حاد إلى المماراة في وجود الله ، والنظر إلى الأديان - جملة - نظرة تَنَقُّص، أو قبولها كمسكنات اجتماعية لأنصارها والعاطفين عليها. ولا شك أن المحنة التي يعانيها العالم الآن أزمة روحية، منشؤها كفره بالمثل العليا التي جاء بها الدين - من الحق – والإنصاف، والتسامح والإخاء. فلا نجاة له مما يرتكس فيه إلا بالعودة إلى هذه المثل. ولئن كنا في عصر عكف فيه الناس على هواهم، وذهلوا عن أخراهم، وتنكروا لربهم، فإن ضير ذلك يقع على أم رؤوسهم، ولن يضر الله شيئا . ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ الحج 3 – 4. فاللـه هذا الاسم الكريم عَلَمٌ على الذات المقدسة التي نؤمن بها ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا وإليها مصيرنا. والله - تبارك وتعالى - أهل الحمد والمجد ـ وأهل التقوى والمغفرة، لا نحصي عليه ثناء، ولا نبلغ حقه توقيرا وإجلالا . لو أن البشر- منذ كتب لهم تاريخ، وإلى أن تهمد لهم على ظهر الأرض حركة- نسوا الله وكفروا به، ما خدش ذلك شيئا من جلاله، ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كف شعاعا من ضيائه، ولا غض بريقا من كبريائه، فهو - سبحانه - أغنى بحوله، وأعظم بذاته وصفاته، وأوسع في ملكوته وجبروته من أن ينال منه وَهْمُ واهم، أو جهل جاهل. ولهذا فإن وجود الله تعالى من البداهات التي يدركها الإنسان بفطرته، ويهتدي إليها بطبيعته. وليس من مسائل العلوم المعقدة، ولا من حقائق التفكير العويصة. ولولا أن شدة الظهور قد تلد الخفاء، واقتراب المسافة جدا قد يعطل الرؤية، ما اختلف على ذلك مؤمن ولا ملحد ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ إبراهيم 10. ولمزيد من التوضيح نقول أن الإسلام دين الفطرة، والفطرة تقول بأن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يخلق أولاده، ولم يخلق الأرض التي -يدرج فوقها، ولا السماء التي يعيش تحتها- فمن المقطوع به أن وظيفة الخلق والإبراز من العدم، لم ينتحلها لنفسه إنسان ولا حيوان ولا جماد. وقد قرر القرآن الكريم هذا الدليل: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ ﴾ الطور 35 – 36. ويلفت أنظار العرب إلى مظاهر الإبداع في المجتمع الساذج الذي يحيون فيه ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ الغاشية 17 – 20. ويسمى هذا الدليل: دليل الإبداع. كذلك لو دخل المرء دارا، فوجد بها غرفة مهيأة للطعام، وأخرى للمنام، وأخرى للنظافة، وأخرى للضيافة... إلخ، لجزم بأن هذا الترتيب لم يتم وحده، وأن هذا الإعداد النافع لابد قد نشأ عن تقدير وحكمة، وأشرف عليه فاعل يعرف ما يفعل. والناظر في الكون وآفاقه، والمادة وخصائصها، يعرف أنها محكومة بقوانين مضبوطة، شرحت الكثير منها علوم الطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان والطب، وأفاد منها الناس أجل الفوائد. وما وصل إليه علم الإنسان من أسرار العالم، حاسم في إبعاد كل شبهة توهم أنه وجد كيفما اتفق. ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ الفرقان 61 – 62. ﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الجاثية 12 – 13. وفي القرآن الكريم آيات شتى، تقرر هذا الدليل، ويسمى: دليل العناية. كما أن الكواكب التي تخترق أعماق الجو، والتي تلتزم مدارا واحدا لا تنحرف عنه يمينا ولا يسارا، وتلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل، ثم نرتقبها في موعدها المحسوب فلا تخالف عنه أبدا، وهي معلقة لا تسقط، سائرة لا تقف. كل في دائرته لا يعدوها. وقد يصطدم المشاة والشبان على أرضنا وهم أصحاب بصر وعقل. أما هذه الكواكب التي تزحم الفضاء فإنها لا تزيغ ولا تصطدم: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يس 38 – 40. من الذي هيمن على نظامها وأشرف على مدارها؟ بل من الذي أمسك بأجرامها الهائلة، ودفعها تجري بهذه القوة الفائقة؟ إنها لا ترتكز في علوها إلا على دعائم القدرة، ولا تطير إلا بأجنحة أعارها لها القدر الأعلى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ فاطر 41. إنها رمز لقوانين تصرخ باسم الله ، ولكن الصم لا يسمعون! ويسمى هذا الدليل: دليل الحركة. وأخيرا لا شك أن لوجود كل واحد منا بداية معروفة. فنحن قبل ميلادنا لم نكن شيئا نذكر: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾ وعناصر الكون الذي نعيش فيه كذلك، لها بداية معروفة. وعلماء الجيولوجيا يقدرون لها أعمارا محدودة، مهما طالت، فقد كانت قبلها صفرا. إننا جازمون بأن وجودنا محدث، لأن تفكيرنا وإحساسنا يهدينا لذلك. وغير معقول أن يتطور العدم إلى وجود تطورا ذاتيا. إنه إذا وقعت حادثة لم يظهر فاعلها قيل: إن الفاعل مجهول. ولم يقل أحد قط: أن ليس لها فاعل. فكيف يراد من العقلاء أن يقطعوا الصلة بين العالم وربه؟ إننا لم نكن شيئا -فكنا- فمن كَوَّنَنا؟؟ ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ الأنعام 91. ويسمى هذا: دليل الحدوث. كتب "كميل فلامريون" في كتاب "الله في الطبيعة": "إذا انتقلنا من ساحة المحسوسات إلى الروحيات فإن الله يتجلى لنا كروح دائم موجود في حقيقة كل شيء. ليس هو سلطانا يحكم من فوق السموات، بل نظام مستتر مهيمن على كافة الموجودات!. ليس مقيما في جنة مكتظة بالصلحاء والملائكة!! بل إن الفضاء اللانهائي مملوء به فهو موجود مستقر في كل نقطة من الفضاء، وفي كل لحظة من الزمان، أو بتعبير أصح: هو قيوم لا نهائي، منزه عن الزمان والمكان والتسلسل والتعاقب. ليس كلامي هذا من جملة عقائد ما وراء الطبيعة المشكوك في صحتها، بل من النتائج القاطعة التي استنبطت من القواعد الثابتة للعلم؟ كنسبية الحركة وقدم القوانين. إن النظام العام الحاكم في الطبيعة، وآثار الحكمة المشهودة في كل شيء، المنتشرة كنور الفجر وضياء الشفق في الهيئة العامة، لاسيما الوحدة التي تتجلى في قانون التطور الدائم، تدل على أن القدرة الإلهية المطلقة هي الحوافظ المستترة للكون، هي النظام الحقيقي، هي المصدر الأصلي لكافة القوانين الطبيعية وأشكالها ومظاهرها ".
والحمد لله رب العالمين