النية والعمل
الإيمان لابد أن يسبق أي عمل صالح أو خلق سوي، وأن الإيمان والأعمال الصالحة لا ينفك أحدهما عن الآخر... وأن الأخلاق هي فعل الخير: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ . والأخلاق هي العمل الصالح عموما: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ . واليوم نتحدث بإذن الله تعالى عن النية والعمل. وقد يتساءل البعض: هل هناك داعٍ للحديث في موضوع كهذا؟. أليس من المهم أن يعمل المسلمون لأجل دينهم، وقرآنهم، وقبلتهم.. وكفى؟. هل من اللازم أن نشق قلوب المسلمين؛ لنتأكد من نواياهم؟!. قد ترد أسئلة كثيرة كهذه على صفحة الذهن، لكن ما يحفزنا على طرق هذا الباب هو علمنا بأن القلب مبعث الخير والشر؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ ، حتى إن العمل الصالح الصادر من الإنسان بدون قصد نيّةٍ، لا يُعد حسناً فاعلياً، وإن كان حُسْناً بذاته، وكذلك العمل السيئ الصادر من الشخص بدون نيّة وعزم، لا يُعدّ قبيحاً فاعلياً، وإن كان في نفسه قبيح. من هنا تتضح لنا مسألة أولية، وهي ضرورة الاهتمام الكبير بأمر القلب، بما يمثله من مرجعية للخير أو للشر جميعاً، فالنيّة الصادقة أثناء ممارسة الإنسان - المسلم - للعمل الإسلامي، تبقى مطلباً مهماً؛ بل قد تكون الأهم، كما سيتضح لنا ذلك أثناء هذه الخطبة. فللناس في أي عملٍ يقومون به، مراتب ودرجات مختلفة ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ ، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ ، فنفس العمل الذي قد يثاب عليه زيدٌ، ويتحصل على أثره الدرجات العُلى، قد لا يثاب عليه عمرو، وذلك لاختلاف النيّة لدى كل منهما؛ ولتوضيح هذا المطلب لنقرأ معاً هذا الحديث النبوي، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكلّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)). ويضرب القرآن المجيد مثلا لصنفين من البشر فيقول في شأن الصنف الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ . ويقول في شأن الصنف الثاني: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ . فالذي نوى بإنفاقه الرياء أو المن والأذى كالحجر الصلب الذي لا يُنبِت زرعا فلا يصلح عمله وإن كان ظاهره الخير. إن هذا العمل يبطل ويحترق وإن كان في عظمته الظاهرية كجنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وفيها من كل الثمرات فلا هو ينتفع به ولا ذريته. ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ . ويضرب الله لنا مثلا على صلاح النية في سورة الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ . فهم يطعمون الطعام رغم جوعهم واحتياجهم إليه (على حبه) ابتغاء وجه الله ورجاء رحمته فيصرف عنهم سوء الحساب (يوما عبوسا قمطريرا). وهم لا يريدون جزاءً من أحد غير الله ولا شكورا. أو بكلمة: ينفقون ما عندهم رجاء ما عند الله. وعلى هذا يجب أن يؤسس أي عمل صالح وكل بنيان: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَممَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ . فالنية الفاسدة كجرف هار تنهار بصاحبها الظالم في نار جهنم. بل إن النية الفاسدة مرض عضال في قلوب المنافقين لا خلاص منه إلا بتقطيع هذه القلوب. وخلاصة القول: في عالم الطبيعة توجد الأشياء وجودًا موضوعيًا، فالأرض تدور حول الشمس سواء عرفنا ذلك أو لم نعرف، وسواء رغبنا في ذلك أو لم نرغب، قد نكره هذه الحقيقة ولكننا لا نستطيع تجاهلها أو تغييرها. أما في عالم الأخلاق، فإن هذه الحقائق لا معنى لها، فهي ليست خيرًا ولا شرًا، بل لا وجود لها، ففي عالمنا الجُوّاني ليس للأشياء وجود موضوعي، لأننا نحن الذين نساهم مباشرة في وجودها، نحن الذين نشكّل هذا العالم الدّاخلي، وهذا هو ميدان الحرية الإنسانية. تعبّر الحرية عن نفسها في النية والإرادة. فكل إنسان يتوق إلى أن يحيا في اتساق مع ضميره وفقًا لقوانين أخلاقية معينة. وقد لا يكون هذا سهلاً عند البعض، إلاّ أن كل إنسان يقدّر قيمة الاستقامة. كثير من الناس لا يعرفون سبيلاً لدفع الظلم، ولكن جميع الناس قادرون على كراهية الظلم واستهجانه في أفئدتهم، وفي هذا يكمن معنى الندم. ليست الإنسانية في الكمال أو العصمة من الخطأ. فأن تخطئ وتندم هو أن تكون إنسانًا. إذن، هناك عالمان: عالم القلب وعالم الطبيعة. فالرغبة قد لا تتحقق ولكنها حقيقة في عالم قلوبنا، حقيقة كاملة. ومن جهة أخرى، يقع الفعل بالصدفة المحضة، فعلٌ لم يكن مقصودًا ولكنه حدث كاملاً في العالم الطبيعي، ولم يحدث مطلقًا في العالم الآخر، عالم الحياة الدّاخلية. وهنا يثور سؤال: هل نحكم على الأعمال بالنوايا التي انطوت عليها، أم بالنتائج التي ترتّبت عليها؟ الموقف الأول هو رسالة كل دين، أما الموقف الثاني، فهو شعار كل أيديولوجية أو ثورة، والنية خطوة إلى أعماق الذات، وهنالك يتبنّى الإنسان الفعل أو يحققه ويؤكده تأكيدً داخليا. قد يقوم به في العالم الخارجي وقد لا يفعل، إنما في العالم الدّاخلي قد تحقّق الفعل وانتهى. بدون الرجوع إلى هذا العالم الدّاخلي يصبح عمل الإنسان عملاً آليًا، مجرد صدفة في العالم الخارجي الزائل. ليس الإنسان بما يفعل بل بما يريد، بما يرغب فيه بشغف. والإنسان خيّر ما أراد أن يكـون خيِّرًا، وفي حدود فهمه للخير، حتى ولو اعتُبر هذا الخير شرًا في نظر شخص آخر، والإنسان شرير ما أراد أن يفعل الشر، حتى ولو بدا فيه خير للآخرين أو من وجهة نظر الآخرين. فمدار القضية في عالم الإنسان الدّاخلي الخاص، في إطار هذه العلاقة ـ وهي علاقة داخلية روحية ـ يقف الإنسان وحده تمامًا، وهو حر شأنه كشأن الآخرين. وهذا هو معنى عبارة سارتر التي تقول بأن كل إنسان مسؤول مسئولية مطلقة، وأنه «ليس في الجحيم ضحايا أبرياء ولا مذنبون أبرياء
والحمد لله رب العالمين
الإيمان لابد أن يسبق أي عمل صالح أو خلق سوي، وأن الإيمان والأعمال الصالحة لا ينفك أحدهما عن الآخر... وأن الأخلاق هي فعل الخير: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ . والأخلاق هي العمل الصالح عموما: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ . واليوم نتحدث بإذن الله تعالى عن النية والعمل. وقد يتساءل البعض: هل هناك داعٍ للحديث في موضوع كهذا؟. أليس من المهم أن يعمل المسلمون لأجل دينهم، وقرآنهم، وقبلتهم.. وكفى؟. هل من اللازم أن نشق قلوب المسلمين؛ لنتأكد من نواياهم؟!. قد ترد أسئلة كثيرة كهذه على صفحة الذهن، لكن ما يحفزنا على طرق هذا الباب هو علمنا بأن القلب مبعث الخير والشر؛ ولذا قال سبحانه: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ ، حتى إن العمل الصالح الصادر من الإنسان بدون قصد نيّةٍ، لا يُعد حسناً فاعلياً، وإن كان حُسْناً بذاته، وكذلك العمل السيئ الصادر من الشخص بدون نيّة وعزم، لا يُعدّ قبيحاً فاعلياً، وإن كان في نفسه قبيح. من هنا تتضح لنا مسألة أولية، وهي ضرورة الاهتمام الكبير بأمر القلب، بما يمثله من مرجعية للخير أو للشر جميعاً، فالنيّة الصادقة أثناء ممارسة الإنسان - المسلم - للعمل الإسلامي، تبقى مطلباً مهماً؛ بل قد تكون الأهم، كما سيتضح لنا ذلك أثناء هذه الخطبة. فللناس في أي عملٍ يقومون به، مراتب ودرجات مختلفة ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ ، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ ، فنفس العمل الذي قد يثاب عليه زيدٌ، ويتحصل على أثره الدرجات العُلى، قد لا يثاب عليه عمرو، وذلك لاختلاف النيّة لدى كل منهما؛ ولتوضيح هذا المطلب لنقرأ معاً هذا الحديث النبوي، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكلّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)). ويضرب القرآن المجيد مثلا لصنفين من البشر فيقول في شأن الصنف الأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ . ويقول في شأن الصنف الثاني: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ . فالذي نوى بإنفاقه الرياء أو المن والأذى كالحجر الصلب الذي لا يُنبِت زرعا فلا يصلح عمله وإن كان ظاهره الخير. إن هذا العمل يبطل ويحترق وإن كان في عظمته الظاهرية كجنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وفيها من كل الثمرات فلا هو ينتفع به ولا ذريته. ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ . ويضرب الله لنا مثلا على صلاح النية في سورة الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ . فهم يطعمون الطعام رغم جوعهم واحتياجهم إليه (على حبه) ابتغاء وجه الله ورجاء رحمته فيصرف عنهم سوء الحساب (يوما عبوسا قمطريرا). وهم لا يريدون جزاءً من أحد غير الله ولا شكورا. أو بكلمة: ينفقون ما عندهم رجاء ما عند الله. وعلى هذا يجب أن يؤسس أي عمل صالح وكل بنيان: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَممَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ . فالنية الفاسدة كجرف هار تنهار بصاحبها الظالم في نار جهنم. بل إن النية الفاسدة مرض عضال في قلوب المنافقين لا خلاص منه إلا بتقطيع هذه القلوب. وخلاصة القول: في عالم الطبيعة توجد الأشياء وجودًا موضوعيًا، فالأرض تدور حول الشمس سواء عرفنا ذلك أو لم نعرف، وسواء رغبنا في ذلك أو لم نرغب، قد نكره هذه الحقيقة ولكننا لا نستطيع تجاهلها أو تغييرها. أما في عالم الأخلاق، فإن هذه الحقائق لا معنى لها، فهي ليست خيرًا ولا شرًا، بل لا وجود لها، ففي عالمنا الجُوّاني ليس للأشياء وجود موضوعي، لأننا نحن الذين نساهم مباشرة في وجودها، نحن الذين نشكّل هذا العالم الدّاخلي، وهذا هو ميدان الحرية الإنسانية. تعبّر الحرية عن نفسها في النية والإرادة. فكل إنسان يتوق إلى أن يحيا في اتساق مع ضميره وفقًا لقوانين أخلاقية معينة. وقد لا يكون هذا سهلاً عند البعض، إلاّ أن كل إنسان يقدّر قيمة الاستقامة. كثير من الناس لا يعرفون سبيلاً لدفع الظلم، ولكن جميع الناس قادرون على كراهية الظلم واستهجانه في أفئدتهم، وفي هذا يكمن معنى الندم. ليست الإنسانية في الكمال أو العصمة من الخطأ. فأن تخطئ وتندم هو أن تكون إنسانًا. إذن، هناك عالمان: عالم القلب وعالم الطبيعة. فالرغبة قد لا تتحقق ولكنها حقيقة في عالم قلوبنا، حقيقة كاملة. ومن جهة أخرى، يقع الفعل بالصدفة المحضة، فعلٌ لم يكن مقصودًا ولكنه حدث كاملاً في العالم الطبيعي، ولم يحدث مطلقًا في العالم الآخر، عالم الحياة الدّاخلية. وهنا يثور سؤال: هل نحكم على الأعمال بالنوايا التي انطوت عليها، أم بالنتائج التي ترتّبت عليها؟ الموقف الأول هو رسالة كل دين، أما الموقف الثاني، فهو شعار كل أيديولوجية أو ثورة، والنية خطوة إلى أعماق الذات، وهنالك يتبنّى الإنسان الفعل أو يحققه ويؤكده تأكيدً داخليا. قد يقوم به في العالم الخارجي وقد لا يفعل، إنما في العالم الدّاخلي قد تحقّق الفعل وانتهى. بدون الرجوع إلى هذا العالم الدّاخلي يصبح عمل الإنسان عملاً آليًا، مجرد صدفة في العالم الخارجي الزائل. ليس الإنسان بما يفعل بل بما يريد، بما يرغب فيه بشغف. والإنسان خيّر ما أراد أن يكـون خيِّرًا، وفي حدود فهمه للخير، حتى ولو اعتُبر هذا الخير شرًا في نظر شخص آخر، والإنسان شرير ما أراد أن يفعل الشر، حتى ولو بدا فيه خير للآخرين أو من وجهة نظر الآخرين. فمدار القضية في عالم الإنسان الدّاخلي الخاص، في إطار هذه العلاقة ـ وهي علاقة داخلية روحية ـ يقف الإنسان وحده تمامًا، وهو حر شأنه كشأن الآخرين. وهذا هو معنى عبارة سارتر التي تقول بأن كل إنسان مسؤول مسئولية مطلقة، وأنه «ليس في الجحيم ضحايا أبرياء ولا مذنبون أبرياء
والحمد لله رب العالمين
عدل سابقا من قبل الحلاجي محمد في الخميس 10 سبتمبر - 10:34:38 عدل 1 مرات