الوفاء بالعهد
الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والجور، وذلك أنَّ الوفاء صدق اللسان والفعل معًا، والغدر كذب بهما؛ لأنَّ فيه مع الكذب نقض العهد
والوفاء يختصُّ بالإنسان، فمن فُقِد فيه فقد انسلخ من الإنسانية كالصدق، وقد جعل الله تعالى العهد من الإيمان، وصيره قوامًا لأمور الناس، فالناس مضطرون إلى التعاون ولا يتمُّ تعاونهم إلا بمراعاة العهد والوفاء، ولولا ذلك لتنافرت القلوب، وارتفع التعايش، ولذلك عظَّم الله تعالى أمره فقال تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾. إذا أبرم المسلم عقدا فيجب أن يحترمه، وإذا أعطى عهدا فيجب أن يلتزمه، ومن الإيمان أن يكون المرء عند كلمته التي قالها، ينتهي إليها كما ينتهي الماء عند شطآنه؛ فيعرف بين الناس بأن كلمته موثق غليظ، لا خوف من نقضها ولا مطمع في اصطيادها. العهد لابد من الوفاء به، كما أن اليمين لابد من البِرّ بها، ومناط الوفاء والبر أن يتعلق الأمر بالحق والخير وإلا فلا عهد في عصيان ولا يمين في مأثم. والوفاء بالعهد يحتاج إلى عنصرين، إذا اكتملا في النفس سهل عليها أن تنجز ما التزمت به، فإن الله أخذ على آدم أبي البشر، عهداً مؤكداً ألّا يقرب الشجرة المحرَّمة، لكن آدم ما لبث أن نسي وضعف، ثم نكث في عهده: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ . فضعف الذاكرة، وضعف العزيمة، عائقان كثيفان عن الوفاء الواجب. والذكر المطرد اليقظ، ضرورة لازمة للوفاء. فمن أين لناسي العهد أن يفي به؟ لذلك ختمت أية العهد بعنصر التذكير: ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ . فإذا ذكر المرء الموثق المأخوذ عليه؛ يجب أن ينضم إلى هذا الذكر عزم مشدد على إنفاذه، عزم يذلل الأهواء الجامحة، ويهون الصعاب العارضة، عزم يمضي في سبيل الوفاء مهما تجشم من مشاق، وغرم من تضحيات. وعندما يستجمع الانسان الذهن الواعي، والقلب الكبير، فهو أهل الوفاء. والعهود التي يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة، وأقدسها ذماماً، العهد الأعظم، الذي بين العبد وربّ العالمين. فإن الله خلق الانسان بقدرته، ورباه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألَّا تَشرُد به المُغويات، فيجهلَها أو يجحدها. ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ . وإذا كان هناك من البشر من لم يستمع إلى المرسلين ويستهدِ بما جاءوا به، فإن له من فطرته سائقاً يحدوه إلى ربّه، ويبصره بخالقه، مهما حفلت البيئة بصنوف الفساد، وضروب التخريف .. وهذا معنى الميثاق الذي أخذه الله على الناس كافة. ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ . وقد كان رسول الله ﷺ -وهو يدعو الناس إلى الاسلام- يبايع الوفود المقبلة عليه بتعاليم -يتخيرها من بين التعاليم الكثيرة التي حفل بها الدين- على حسب ما يرى من طاقتهم النفسية والعقلية. فعن عوف بن مالك قال: كنا عند النبي -تسعة أو ثمانية أو سبعة- فقال: ((ألا تبايعون رسول الله؟"، فبسطنا أيدينا وقلنا: نبايعك يا رسول الله! قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا، وأسرَّ كلمة خفية قال: ولا تسألوا الناس شيئاً)). قال عوف بن مالك: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا أن يناوله إياه. فانظر إلى الوفاء بالبيعة ودقة تنفيذها، وليس هذا إلا نصحاً لكل طائفة بما تعتبر أحوج إليه، فالحاكم يُنصَح ألّا يظلم، والتاجر ألّا يغش، والموظف ألّا يرتشي.... إلخ، وإلّا فكل مسلم مكلف بالدين كله .. عن أنس قال: "ما خطبنا رسول الله إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له"(رواه الإمام أحمد). في هذا الحديث يبين الرسول الكريم أن الخائن للأمانة خائن لإيمانه، وأن الذي ينقض العهد فإنما ينقض الدين كله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو من كملت مروءته وظهرت عدالته، ووجبت اخوته وحرمت غيبته)). وذكر عبد الله بن عمرو، عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) . وفي الختام ليس الدين أحكاما جافة وأوامر ميتة، إنه قلب يتحرك بالشوق والرغبة، يحمل صاحبه على المسارعة إلى طاعة الله وهو يقول: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ . فكيف تتحول التكاليف الصعبة إلى شيء سائغ حلو…؟ ليس الدين ابتعادا عن المحذورات ابتعاد خائف من مجهول، أو ابتعاد مكره مضطرب، إنه الوجل من عصيان مليك مقتدر، سبقت نعماؤه ووجب الاستحياء منه. قيل ذلك لبنى إسرائيل قديما: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ وقيل للمسلمين من بعدهم: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ . لا إيمان إلا لضمير يرفض الدنايا ويرقب الرحمن، ويحرس الحدود والحقوق ويتمخض لله وحده وابتغاء ما عنده