أصحاب القلوب الواعية
هل جلست يوما تستمع إلى ”الراديو“ يذيع على الناس اللهو والشجو والحق والباطل؟ لقد ضبطت أزراره على المصدر الذي يرسل ذلك بحيث يخرج الصوت سليما واضحا، ثم تركت الآلة المضبوطة تستقبل ما يصل إليها، وتملأ به الآذان الواعية أو الغافلة... لو أنك أدرت بعض المفاتيح في هذه الآلة العجيبة وملت بها يمينا أو يسارا فإنك إما تسمع صوتا أجش منحرفا مزعجا، وإما أن يختفي الصوت وتنقطع أنفاسه فلا تسمع لا همسا ولا صياحا. وسيبقى الصوت أجش غليظا ما بقيت الأزرار مائلة عن وضعها الصحيح، وسيبقى خامدا صامتا ما ظلت مفاتيحه مؤصدة. ولن تعود إلى السماع الهادئ الرتيب حتى تعيد الجهاز إلى ما كان عليه من ضبط متقن دقيق... إن قلوب البشر في التقاط الحقائق كبراها وصغراها كهذه الأجهزة الحساسة وهى كذلك في أدائها وقرع الآذان بها. يوجد أقوام تنطبع في نفوسهم الحقيقة كاملة. فإذا تحدثوا كان كلامهم مصداقا لها، وإذا عُرِضت لهم قضية كان فصلهم فيها تجاوبا تاما مع الحقيقة السارية في الكون. وقد أنصف القرآن اليهود بأنفسهم إذ أبان أن منهم ذوي قلوب تنجذب إليها الحقيقة، فهم يتحدثون بها ويحكمون: قال عز وجل: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ الأعراف 159. وهناك أقوام تصل الحقيقة إلى أفئدتهم محرّفة منقوصة. فهم يتحدثون ويخبطون كهذا ”الراديو“ المعوج الأزرار، تسمع منه فرقعة وفرقعة، وقد تعي منه شيئا ولا تعي منه شيئا أبدا، ومهما أنصت إليه فلن تخرج إلا بصداع في رأسك. ذلك أن الآفة تجيء من داخله، ولن يصفو لك سماعه إلا إذا غمزت يدك أزراره المائلة، فأصلحتها أو أخمدتها.!! وهناك أقوام لا تصيب الحقيقة من قلوبهم هدفا، ولا تجد بها مقرا، فهم: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ النحل 21. وقيمة الإنسان في الدنيا وفى الآخرة ترتبط بمدى صلاحية قلبه للإدراك الناضج والحكم الصحيح، لا في قضية فرد بعينه، أو حالة بعينها، بل في شؤون الحياة كلها، ومع أهل الأرض أجمعين.... ولعل ذلك ما عناه النبي الكريم وهو يقول: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله٬ وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).. وما قرّرته الآية الكريمة: ﴿وَلَا تُخۡزِنِی یَوۡمَ یُبۡعَثُونَ یَوۡمَ لَا یَنفَعُ مَالࣱ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبࣲ سَلِیمࣲ﴾ الشعراء 87 – 89. وأستطيع أن أؤكد بقوة أن تقدم جماعة أو تأخرها منوط بمدى ما لديها من أصحاب هذه القلوب الواعية. القلوب التي تتصل بالعالم وأحداثه اتصالا فاقها نظيفا، فهي لا تنخدع في إدراك مسألة. لأنها تلتقط لها صورا صحيحة، ولا تزيغ في إصدار حكم لأن وسائلها في الأداء والبلاغ لم يدركها عوج، ولم يصبها عطل. إن الإسلام لن يفهمه ولن يخدمه امرؤ حُرم هذا القلب. ولو استجمع شارات التدين من قلبه إلى رأسه أو من رأسه إلى قدمه... وأن قضاياه لن تنجح إلا إذا حملها أصحاب القلوب الكبيرة وتوفروا على نصرتها بفهم حصيف، وبصر عفيف. ولن يعارض هذا الكلام ما جاء في الحديث عن رسول الله: ((لن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وقد ينصر الله هذا الدين بالرجل الفاجر)). فإن الرجل الفاجر قد تستغل قواه في سبيل الحق عندما يكون فردا خبيثا وسط جماعة طيبة، تضع هي نفسها الخطط، وتملك القياد، وتوجه الأمور!!. أجل، فإن الجندي المرائي قد يؤدي عملا ما وسط الجيش المخلص، فرياؤه على نفسه، وسلاحه لمن معه. لكن النصر يكون أبعد ما يكون عندما يستبد ذوو القلوب المدخولة برسم الخطة وإدارة المعركة.. عندئذ يرفع الله يده، ويدع الناس وشأنهم... والخسائر التي أصابت الإسلام في العصر الحديث، ومكنت لنزعات أخرى أن تسود وتبرز، سرها أن زمام الإسلام وقع في أيدي رجال لهم قلوب لا يفقهون بها. إن الإسلام جاء ليرد للإنسان اعتباره المفقود، وليحفظ عليه قدره المهدد؛ أي ليجعله إنسانا حقا، إنسانا مستقيم الفطرة كما خلقه الله، ذكي العقل، حديد النظر، واعي السمع، صائب القول، سديد الحكم. وهذه الخصال هي مقومات الإنسان، وهي بعينها مقومات الإيمان، فإذا تطرق الانحراف إلى شيء منها فانتظار الإيمان الحق جهد ضائع. ومن ثم يقول الله لنبيه: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ يونس 42 – 44. إن الإسلام عالج الإنسانية بأصح دواء يمكن أن يقدم لها، وذلك بالتعويل على المقاومة الذاتية للإنسان، أو المناعة الخاصة الكامنة فيه، وحشدها في صعيد واحد لتصد أيّ هجوم يغري بالكفر والفسوق والعصيان. وذلك سر الحديث الطويل في كتاب الله، والمناشدة المستمرة للإنسان، ألا يسفّ وألا يخون فكره، وألاّ يجحد سمعه وبصره، وألا يتدلى إلى درك لا يليق به. ذاك سرّ التساؤل المترادف: ﴿أفلا تذكرون﴾ ، ﴿أفلا تعقلون﴾ ، ﴿أفلا تتفكرون﴾. ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الحج 46. والواقع أن كل ضعف يتطرق إلى القوى العقلية، أو إلى مقدرة الحواس في الملاحظة والوعي، فهو هدم لجزء مساو من حقائق الإيمان وعاطفة التدين. إن الإسلام حاسم في أنه يريد إنسانا مفتوح البصر والبصيرة، لأنه يريد إيمانا عميق الجذور، وثيق الضمانات. أما حيث يغلب الجهل ويزين الهوى وتستحكم الغفلة، فإنا نكون بإزاء حيوان لا إنسان. ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ الفرقان 43 – 44.
والحمد لله رب العالمين