الحمد لله ذي المن والعطاء، يوالي على عباده النعماء، ويرادف عليهم الآلاء، نحمده تعالى حث على الأخوة وحذر من الجفاء، ونشكره على حال السراء والضراء، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزه عن الأنداد والشركاء، وتعالى عن الأمثال والنظراء، هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، وأشهد أنّ نبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، صلى الله عليه وعلى آله الأوفياء، وصحابته الأتقياء, والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء، وسلّم تسليماً كثيرًا.. أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإن تقواه سبحانه عروةٌ ليس لها انفصام وجذوة تنير القلوب والأفهام، وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ. أيها الأخوة المؤمنون؛ النظافة من الإيمان. هذه الجملة -وإن لم تكن حديثا نبويا لكن معناها صحيح- مرت علينا وعلى أطفالنا وكبارنا مئات بل ملايين المرات، ويبدو للوهلة الأولى أن معناها سطحي وبسيط وممكن لأي مسلم أن يعرفه، ولكن لو تمعنا قليلا في هذا الحديث النبوي الشريف لعلمنا ما هو المطلب الملقى على عاتقنا من أجل التمسك به والذي منه تشرع أحكام بين الواجب والمستحب والحلال والمكروه والحرام. لنستشهد في رواية قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث من جملة ما قال، دخل أعرابي الى المسجد النبوي وتبول في ركن المسجد فنهض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرومون النيل منه بالضرب أو القتل أو التوبيخ بالكلام الجارح، فنهاهم الرسول ونادى على الأعرابي وقال له ما مجيئك الى المسجد، قال طالبا رجلا اسمه محمد يدعي النبوة. وبدأ يتحدث معه رسول الله عن النظافة وليس عن الإيمان بالله عز وجل، وبعد ما اقتنع بهذه القيمة الأخلاقية شوهد الرجل أنظف من كثير من الصحابة بملابسه وعطره وصلاته وإيمانه. هنالك بحث آخر يمكن لنا أن نقرأه من خلال هذه الرواية، وهي إلى أي درجة جهالة مجتمع الحجاز حتى يتبول الأعرابي في الجامع من غير اعتبارات معينة تكون أمامه، أي أن الامر طبيعي، وهذه أحد الأسباب التي جعلت النبوة في الحجاز حيث كانت أجهل بقعة في العالم، فاذا تغيرت أمكن القضاء على الجهل. ففي وقتها كانت هنالك حضارات الرومان والفرس والرافدين إلا الحجاز كانت قابعة بالجهل. فأي جهد قدمه رسول الله وأهل بيته الأطهار في سبيل إصلاح هذا المجتمع. النظافة من الإيمان: حقيقة النظافة قصد منها النظافة الروحية والمادية ولكن المادية هي التي تكون الصورة الحقيقية والدافع القوي للنظافة المعنوية. فكلمة النظافة معلومة المعنى نظف نظيف نظافة أي إزالة الاوساخ وعند إزالتها يقال عن المرء نظيف، فنظافتنا في بيتنا ومجتمعنا وملبسنا تعد جزء من الايمان بالله عز وجل، فاذا أريد للإيمان أن يترجم الى الواقع فإحدى صوره هي النظافة، والذي يقود الى التطور في كل مجالات الحياة. مع الأسف نحن لم نلتفت إلى هذه المعاني العميقة لهذا الحديث الذي التزم غيرنا به ماديا وحقق أعلى مراتب الرقي والتي هي من ضروريات المجتمعات الاسلامية حتى تستطيع أن تقارع به الأمم لا الاكتفاء بالتغني بديننا وقرآننا وأخذ قشوره وترك لبه، بل استصغار بعض العبارات والأحكام البسيطة حسب اعتقادنا لها أثر على مستقبلنا.
أيها الأخوة الكرام: أن يحبك الله أثمن شيء في وجود الإنسان، أن يحبك الله فهذا مكسب لا يرقى إليه مكسب، والله عز وجل في قرآنه الكريم بيّن الأسباب التي إن أخذت بها أحبك الله، أحد هذه الأسباب أن تكون نظيفاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، أن تكون نظيفاً في بدنك، وفي ثوبك، وفي بيتك، وأن تحافظ على نظافة الطريق، وأن تكون نظيفاً في أخلاقك، وأن تكون نظيفاً في ذمتك وأمانتك. النظافة بمفهومها الواسع، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ البقرة 222. وقد ورد ذكر الطهارة في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثين موضعاً: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ المدثر 1 – 5. لا شك أن النظافة من أمور الفطرة التي جبلت عليها الطباع السليمة، وسمة من سمات الأمم والمجتمعات المتحضرة، ودليل النبل والمروءة الآدمية؛ كيف لا؟ والدين والحضارة والرقي والإنسانية كلها تدعو إلى نظافة الجسد والمكان والثوب والمنتديات العامة، لانعكاس ذلك على الصحة العامة من جهة وعلى سعادة الإنسانية وبث روح الجمال والبهاء من جهة أخرى، ولا خلاف أن البيئة النظيفة دليل على رقي من يعيش بها. وقد اهتم الإسلام بأمر النظافة اهتماما بالغا فأمر أتباعه بها، وحثهم عليها ورغبهم فيها وجعلها سبيلا وطريقا موصلا إلى محبة الله عز وجل، وامتدح الحق سبحانه وتعالى أهل مسجد قباء لحرصهم على الطهارة والنظافة فقال جل شأنه: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ التوبة 108. وبين النبي صلى الله عليه وسلم: (الطهور نصف الإيمان) وقال: "لولا أن أشق على أمتي، أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء"، وذلك حرصا منه على طيب رائحة الفم وعدم إيذاء الإنسان بأي رائحة كريهة من شأنها أن تنفر الناس منه. ولا أدل على حرص الإسلام على الطهارة من دخولها في صلب الأحكام الشرعية وجعلها مفتاحا، بل وشرطا، لركن من أركان الإسلام، إذ يقول المولى جل وعلا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ المائدة 6. ولأن النظافة عنوان للمسلم في ثوبه وبدنه فقد حث الإسلام على تنظيف مكان النوم، والتأكد من خلوه مما يمكن أن يسبب الأذى للإنسان حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذا أَوَى أَحَدُكُم إِلى فِراشِهِ، فَلْيَنْفُض فِراشَهُ بداخِلَةِ إِزَارِهِ فإِنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْها، وإِنْ أَرْسَلْتَهَا، فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِه عِبادَكَ الصَّالحِينَ"، وكما عني الإسلام بالنظافة الخاصة اهتم كذلك بالنظافة العامة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((طهروا أفنيتكم)). والأفنية تشمل فناء البيت والمدرسة والمصنع والمتنزهات والطرق والميادين. وعَنْ عَائِشَةَ ا، قَالَتْ "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ (أي في الإحياء) وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ" رواه أبو داود. وهذا ما كان منه صلى الله عليه وسلم، تجاه من كانت تقم المسجد إذ افتقدها النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، فقالوا له ماتت، فقال صلى الله عليه وسلم ((أفلا كنتم آذنتموني، فدلوه على قبرها فصلى عليها)) .وإن مفهوم النظافة والطهارة في الإسلام ليس قاصرا فقط على نظافة أو طهارة الظاهر بل يتعداها إلى معنى آخر وهو طهارة الباطن، فكما كان الإسلام حريصا على الطهارة الحسية بكل صورها، كان حريصا على الطهارة المعنوية بكل معانيها، كطهارة العقيدة من كل الخرافات التي تلصق بها وطهارة الأخلاق من الرذائل والمنكرات وطهارة اللسان من كل القبائح والآثام وطهارة الفكر من التطرف والانحراف وطهارة القلوب من الغل والحقد والحسد والكراهية، لأن كل هذه الصفات لا تليق بالمسلم الذي يريد النجاة في دنياه وآخرته.
والحمد لله رب العالمين