إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد
ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى
الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليما .
أما
بعد : فإن خير الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة
.
فقطرة صغيرة من ماء –مثل
رأس الذباب- يمكن أن تكون سبب سعادة ونُجح لك في دينك ودنياك ، يُكرم الله
بها وأمثالها السُّعداءَ من عباده ، ويصطفيهم للمراتب العالية ، ويُسكن
قلوبهم من حبه ، والخوف منه ، وحسن الإنابة إليه ، مع التعظيم والإجلال
والمهابة ما تغلي منه قلوبهم ، وتخشعُ جوارحُهُم ، وتتفجَّرُ ينابيع
عيونهم أنهاراً .
إنها
عبادةٌ جليلة هجرها وفرَّط فيها كثيرٌ من الناس {كلا بل ران على قلوبهم ما
كانوا يكسبون} ، وتقاصر آخرون أنفسَهم أن يكونوا من أهلها ، وحاولها آخرون
فلم يجدوا إليها سبيلاً .
إن
البكاء من خشية الله عبادةٌ من عبادات النبيين ، ومقامٌ من مقامات عباد
الله المُخلَصين ، وطريق لاحبٌ إلى رضا رب العالمين والفوز بجنات النعيم .
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ
مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً{58}
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً{59} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً} مريم: ٥٨ – ٦٠
كان
نبيكم أيها المسلمون أعظمَ الناس خشيةً لربه فهو كما قال عن نفسه صلى الله
عليه وسلم : أما إني أعلمكم بالله ، وأشدُّكم له خشية . وكان مع أن ربه
غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر كان يبكي صلى الله عليه وسلم إعظاماً
لله وإجلالاً ، وكان يبكي صلى الله عليه وسلم خوفاً من الله ووجلاً ، فعن
عبد الله بن الشخير قال : رأيتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرَّحى من البكاء . رواه أبوداود . وفي
رواية للحديث عند النسائي والترمذي في الشمائل قال: ولجوفه أزيز كأزيز
المرجل من البكاء .
وعن
عبد الله بن مسعود قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على
المنبر: اقرأ علي . قلت: أقرا عليك وعليك أنزل ؟ قال: إني أحب أن أسمعه من
غيري . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية ( فكيف إذا جئنا من كل
أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال: حسبك الآن . فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان . متفق عليه .
بل
إنه صلى الله عليه وسلم قد بلغت به بعض آيات القرآن وسوره المشيب قبل
أوانه فعن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبتَ . قال صلى
الله عليه وسلم : ( شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا
الشمس كورت ) ، وفي لفظٍ قال : (شيبتني هودٌ وأخواتها قبل المشيب) .
فأين
نحن يا عبد الله من خشية الله ، إن كان خير خلق الله يخشى ربَّه خشية بلغت
به المشيب ، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم . أتُرانا قد أحسنا فيما فرط
منا من الدهر ، أم تُراه صلى الله عليه وسلم –وحاشاه- قد أساء . فيالسعادة من جمع خوفاً وعملاً حسَناً ، ويالشقاوة من جمع قُبح العمل مع الأمن من مكر الله .
أيها
المسلم ، تذكَّر متى كانت آخرَ مرةٍ جرت فيها دموعك على خدودك ، أكان ذلك
منذ شهر أم شهرين ، أم سنةٍ أم سنتين . أم من آخر دعاء في تراويح رمضان ؟؟
يا هذا إنا لم نُخلق والله لعمارة الدُّور ، ولا لتشييد القصور ، ولكنَّا
خوِّفنا من يوم النشور ، وأُنذرنا يوم الحسرة إذ القلوب لدى الحناجر
كاظمين ، ما للظالمين من حميم ولا شفيعٍ يطاع .
أحبتي
في الله ، إن البكاء من خشية الله إنما هو أثر الطاعة ؛ إذ إنه اعتمال
الخوف والوجل في القلب حتى يغلي ، ويتململ ، فإذا بلغ به الأمر ذاك ، فإن
الجوارح تطيعُه ؛ فتَفيضُ العيون ، وتسكُنُ الجوارح ، وتزداد دواعي الخير
، وتُقصَر دواعي الشر .
ولذا
فإن الناس مع دمع العين على مراتب ، فمنهم من تدمع عينُهُ ويخشعُ قلبُه ،
وهذا بأشرف المنازل . ومنهم من يخشع قلبهُ ولا تدمعُ عينه ، وهذا على خير
كثير ، وحسبه أن الله جعله أهلا لخشيته ، وصنفٌ ثالثٌ تدمع أعينُهُم ،
وترتفعُ أصواتهم ، وقلوبهم خاوية كأن الواحد منهم يقول : انظروني ،
انظروني ؛ فهذا بأخبث المنازل ؛ إذ عَمَدَ إلى شريف من أجلِّ ما يُتقرَّب
به إلى الله ، ويزدلف به إليه ، فجعله سُلَّماً لخسيسٍ من ثناء الناس ،
ومدحهم ، وكثيراً ما رجع هؤلاء ببغضةٍ في قلوب الخلق ، ونفور من صنائعهم .
قال بعض السلف : من استطاع أن يكظم بكاءه فلم يكظمه فذاك مرائي .
أيها المسلمون: {أَلَمْ
يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{16} اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} الحديد: ١٦ – ١٧
عن
ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل
الله) رواه الترمذي
وعن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يلج النار من بكى
من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل
الله ودخان جهنم) . رواه الترمذي ، والنسائي .
وعن
أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليس شيء أحب
إلى الله من قطرتين وأثرين ؛ قطرةِ دموع من خشية الله ، وقطرةِ دم تهراق
في سبيل الله . وأما الأثران : فأثرٌ في سبيل الله ، وأثرٌ في فريضةٍ من
فرائض الله) رواه الترمذي.
وقال تعالى عن بعض أهل الجنة {إن المتقين في جنات ونعيم} ، وذكر تعالى من شأنهم أنهم وهم في الجنة منعمون: {وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ{25} قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ
فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ{26} فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا
عَذَابَ السَّمُومِ{27} إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ
الْبَرُّ الرَّحِيمُ} الطور: ٢٥ – ٢٨
بل إن الله قد امتدح في كتابه من أهل الكتاب مَن هو من أهل الخشية والخشوع فقال تعالى: {وَقُرْآناً
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ
تَنزِيلاً{106} قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلأَذْقَانِ سُجَّداً{107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ
وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً{108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} الإسراء: ١٠٦ – ١٠٩ وقال سبحانه وبحمده: {لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ
الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ{82} وَإِذَا سَمِعُواْ مَا
أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا
مَعَ الشَّاهِدِينَ{83} وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا
مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ} المائدة: ٨٢ – ٨٤
وإذا
كان هذا هو حال بعض أهل الكتاب فإن خير أصحاب نبي هم أصحاب نبيِّنا صلى
الله عليه وسلم و ، وقد كان من هذه الأمة خاشعين ، وباكين من
خشية اله مشفقين قدماء ومعاصرين :
فأبو بكر كان رجلا رقيقاً إذا صلى غلبه البكاء ، فلم يدر الناس ما يقول .
وكان
عمر مع قوته في الحق ، رقيقاً عند قراءة القرآن ، فعن عبيد بن عمير قال :
صلى بنا عمر صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأها ، حتى إذا بل {وَتَوَلَّى
عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ
الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } بكى حتى انقطع ؛ فركع . وعنه
كذلك أن عمر لما انتهى إلى قوله: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } بكى
حتى سُمع نشيجه من وراء الصفوف .
وعن أبي الضحى قال : حدثني من سمع عائشة تقرأ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} فتبكي حتى تبل خمارها . يعني ندماً على مسيرها إلى البصرة ، وخروجها يوم الجمل .
وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر –ابن
أخي عائشة- قال : كنتُ إذا غدوتُ أبدأ ببيت عائشة أُسلِّمُ عليها ؛ فغدوتُ
يوماً فإذا هي قائمة تسبِّحُ وتقرأ : {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } وتدعو وتبكي وترددها ، فقمتُ حتى مللتُ من القيام ، فذهبتُ إلى السوق لحاجتي ، ثم رجعتُ فإذا هي قائمةٌ كما هي تصلي وتبكي .
وعن
مسروق قال : قال لي رجل من أهل مكة : هذا مقام أخيك تميم الداري ، لقد
رأيتُه ذات ليلة حتى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ، يركع
ويسجد ويبكي : {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن
نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء
مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }
وعن
البراء بن سليم قال : سمعتُ نافعاً مولى ابنِ عمر يقول : ما قرأ ابنُ عمر
هاتين الآيتين قط من سورة البقرة إلا بكى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي
أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} ، ثم يقول : إن هذا
لإحصاءٌ شديد .
وعن نافع قال : كان ابنُ عمر إذا قرأ : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} بكى حتى يغلبه البكاء .
وعن
عبد الله بن عقيل بن شُمير الرياحي عن أبيه قال : شرب عبد الله بن عمر
ماءً بارداً فبكى ، فاشتدَّ بكاؤه ، وقيل له : ما يُبكيك ؟ . قال : ذكرتُ
آيةً في كتاب الله عز وجل : {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} سبأ: ٥٤ قال : فعرفتُ أن أهل النار لا يشتهون شيئاً إلا الماء البارد ، وقد قال الله عز وجل : {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ} الأعراف: ٥٠ .
وعن
عبد الرحمن بن عجلان قال : بتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة ؛ فقام يصلي
فمرَّ بهذه الآية : {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن
نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء
مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }الجاثية: ٢١
فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد . وعن هشام
الدستوائي قال : لما توفي عمرو بن عتبة بن فرقد دخل بعضُ أصحابه على أخته
فقال : أخبرينا عنه . فقالت : قام ذات ليلة فاستفتح سورة حم ؛ فلما أتى
على هذه الآية : {وَأَنذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ }غافر: ١٨ فما جاوزها حتى أصبح .
وغير
ذلك كثير في علماء الأمة وصلحائها حتى في زمان الناس هذا ، فاللهم ألحقنا
بهذا السلف الكريم ، واجعل لنا فيهم معتبراً ، وأصلح فساد قلوبنا ،
واشرحها لمعرفتك ، وتوحيدك ، وتعظيمك ، يا قدوس يا سلام .
الحمد
لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالكِ الملك ، ومدبرِ الأمر ، الخالقِ
الرازق ، محي الأرض بعد موتها ، أشهد ألا إله إلا هو من إلهٍ كبيرٍ متعال
. وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله وخيرُ خلقه في زمانه وفي المآل ، صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً .
إن
خشية الله أيها المسلم تمنع من الفرح بالدنيا ، والركض وراءها ركضاً يُنسي
الآخرة ، ويُضيع حقوق الله ، حتى يكون اللهُ آخر فقرةٍ في الحسابات ، وآخر
ما يُنظر إلى حُكمه بعد مراجعة كشوفات الاكتتابات .
وخشيةُ
الله تمنع من الفرح والخيلاء ، والكبر على الناس ، والضحك ملء الفم ، فما
كان ضحكه صلى الله عليه وسلم إلا تبسُّماً ، وما كانت ترى لهواته .
وخشية
الله تمنع من أكل حقوق العمال والخدم ، وتكليفهم من العمل ما لا يطيقون
لأن صاحبها يعلم أنه إن كان قادراً على هؤلاء ؛ فإن ربَّه أقدرُ عليه من
قدرته عليهم .
وخشية الله تمنع من مشاهدة أفلام وكليبات المجون والعُهر ، فما الذين يشاهدونها بأهل خشية الله ، والله .
وخشية الله تمنع من الفجور في الخصومة ، ومن البغي والطغيان ، واتهام الناس في نياتهم .
ثم إن خشية الله لا تمنع من القيام على نفسك وأهلك بما يصلحهم ، في طلب المعاش ، وفي نزول الأسواق ، وفي الممازحة ، وحسن المعاشرة .
كما أن خشية الله لا تمنع استيفاء الحقوق ورد المظالم ، والانتصار ممن ظلم .
وهي كذلك لا تمنع من معرفة الباطل ، ومعرفة أهله ، والتحذير منهم ليحذرهم الناس
فيا أيها المسرف على نفسك في ذنوبك ابكِ على ذنبك ، واخش يوماً تُعرض فيه على ربك فينبِّئَك فيه بما قدَّمتَ وما أخَّرت .
ويا
أيها المُخلِّط فأنت مع الحق والهدى تارة ، وتغلبك نفسُك الأمارةُ بالسوء
تارة ابكِ ذنبك ، واخشَ ربَّك ، واعلم أنك تجد بكاءك شافعاً لك ، مثقِّلاً
لميزانك يوم القيامة .
ويا
أيها العابد الصالح ، المجتهد في طاعةِ ربِّك = مَن أولى منك بالبكاء؟ قل
لي بربك من ينفعك إذا لقيت ربَّك فلم ينفعك عملُك ؟ أو كُنتَ فيه مرائياً
؟ فإن سلمتَ من ذلك فهل تسلم من عُجب يُحبطُ العمل ، فإن وقاك الله شر
العُجب فأين حق الله من عملك ، وأين يقوم عملك بجانب ما يجب عليك ، واتق
يوماً ترجع فيه إلى الله . وإنما يخشى اللهَ من عباده العلماء إن الله
عزيز غفور .
يا أيها الذين آمنوا، يا عباد الله:
{وَأَنِيبُوا
إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ{54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ
بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ{55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى
علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ{56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ{57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}