خُطبة
الأمة في مواجهة الاستعمار الجديد
يلقيها عليكم: السيد الشامي** - 02/03/2003
أفكار الخطبة:
- رسالة المسلم في الحياة الإعمار والتنمية وليس الإفساد وسفك الدماء.
- طغيان اليوم وفساده مقدمة لطغيان أكبر وفساد أعمق.
- نصرة المستضعفين واجب إسلامي وضرورة إنسانية.
- كما أهلك الله الأوَّلين من الفراعنة والطغاة سيُتبعهم الآخِرين.
- العداء والحرب على الأمة قديمًا وحديثًا لم ولن يوقف مسيرة الدعوة.
- اليقين في نصر الله، والوعي، والدعاء، وعمل الممكن، أسلحتنا في مواجهة التحديات.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد..
يقول الله عز وجل: "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وهُدًى ومَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ" [آل عمران: 137-141].
إن الله سبحانه وتعالى خلق عباده في هذا الكون من أجل مقاصد سامية، وغايات نبيلة، ويبين سبحانه وتعالى في حواره مع الملائكة: "وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة" [البقرة: 30]، فنحن بموجب هذا التقرير الإلهي مُستخلَفين، والمُستخلَف مطلوب منه أن يقوم بمقتضيات وواجبات هذه الخلافة من إعمار هذا الكون، "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" [هود: 61]. الأمر الذي يعني أن رسالة الإنسان في الحياة هي رسالة عمران وتنمية، وقبل ذلك ومعه تسبيح لله، وتقديس له، ولعلّ في قول الله على لسان الملائكة: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك" [البقرة: 30]، ما يشير إلى أن خلافة المسلم في هذه الأرض، وفي هذا الكون، تقتضي عدم الإفساد في الأرض، وعدم سفك الدماء؛ لأن من مقتضيات التعمير عدم التخريب، والبعد عن الفساد والإفساد، وسفك الدماء.
ومن الفساد الذي جاء في القرآن: الطغيان، والتألُّه، والاستبداد، واستعباد الناس، "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد" [الفجر: 6-14].
فالطغيان الذي نراه اليوم من دعوات وتَنادٍ بإعلان الحرب على العراق، وممارستها كل يوم في فلسطين هو مقدمة لفساد كبير، ولعلَّ القرآن الكريم أشار إلى ذلك عندما بيَّن أن إيقاد الحروب وإشعالها هو ديدن أعداء الله، حيث قال عز وجل: "كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا" [المائدة: 64]، فالحرب فساد وإفساد، والمفسد غير جدير بأن يكون مُستخلَفًا عن الله في هذا الكون.
أيها المسلمون..
إذا كان المسلمون اليوم وغيرهم من الشعوب والأمم المستضعفة يتعرضون لمحاولات الهيمنة من جانب الولايات المتحدة، وبعض حلفائها في الغرب، فإن على المسلمين أن يقاوموا هذه المحاولات، ودفع هذا الفساد والإفساد الذي لا ينصب على المسلمين وحدهم، بل على كل المستضعفين في الأرض؛ ليحافظوا على صلاح الكون واستقامته، "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" [الحج: 40].
ولعلّ ما حدث في فلسطين من تخريب وهدم لم تسلم منه المساجد والكنائس، ما يجعلنا نزداد إيمانًا بضرورة الدفاع والمدافعة عن حوزة المسلمين وأراضيهم، وعن كل المضطهدين والمُعَذَّبين في الأرض، وعار على المسلمين أن ينهض غيرهم للدفاع عن قضاياهم وبلادهم، فها هم الملايين في أوروبا وفي أمريكا يتظاهرون رافضين الحرب على العراق، وها هي الدروع البشرية تأتي من كل بلاد الغرب لتدفع عن بلادنا وشعوبنا شبح الحرب وويلاتها.
أيها المسلمون..
إننا عندما نتحدث عن قضية من القضايا، أو همّ من الهموم الإسلامية التي تتعرض لها الشعوب المسلمة، وعلى رأسها فلسطين والعراق، فإننا لا نتحدث بمنطق الساسة والسياسيين، بمعنى أن البعض قد يقول: ما لي ولفلسطين، وما لي وللعراق، وهذا خطأ في الفهم والتصور.
أما أنه خطأ في الفهم، فلأن من مقتضيات الإيمان والولاء النصرة للمسلمين: "وإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ" [الأنفال: 72]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَىَ مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَىَ لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسّهَرِ وَالْحُمّى" [رواه مسلم]، ويقول أيضًا: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ" [رواه أبو داود بسند حسن]، ويقول الله سبحانه وتعالى: "والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ" [الأنفال: 73].
وما ضاع المسلمون إلا يوم أن شاع بينهم هذا التفكير الذي يُعلِي من المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة، فنفرٌ غير قليل يعيش بمنطق: (أنا ومن بعدي الطوفان)، وبمنطق: (انجُ سعد فقد هلك سعيد)!!
وكلا المنطقين متهافت، فمتى جاء الطوفان هلك سعد، ومعه سعيد، ولعلّ ما يحكيه لنا ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة على لسان الثور عندما قال: (لقد أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض)، يبين لنا خطأ تصورنا أن ما يحدث في فلسطين أو العراق أو غيرهما لن يحدث لنا.
نحن أمة واحدة، وجسد واحد، وكأني بالمسلم عندما يسأل عن عنوانه يردد مع الشاعر:
أنا الحجاز أنا نجــد أنا يمـــن
أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
وفي ربا مكة تاريخ وملحمـــة
على ثراها بنينا العالم الثاني
في طيبة المصطفى عهدي وموعظتي
هناك يُنسَج تاريخي وعرفاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنــا
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
النيــل مائي ومن عمـَّان تذكرتي
وفي الجزائر إخواني وتطواني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا
بدايتي وبه قد شعَّ قرآنــي
وثيقتي كُتبَت في اللـوح وانهمـرت
آياتها فاقرءوا يا قوم عنواني
فأينما ذُكِر اسم الله في بلـــد
عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
إن ما يحدث اليوم في فلسطين والعراق ما هو إلا مقدمة أو تطبيق عملي على ساحتين من ساحات الصراع في العالم بين الولايات المتحدة، وبين كل من يحاول أن يقف في طريق هيمنتها، وتألهها في هذا الكون وسيادتها، وها هي الدول الأوروبية والصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية تحاول التحرر والإفلات من هذه الهيمنة.
أيها المسلمون..
إن هذا التأله الأمريكي، وغطرسة القوة، ومحاولات فرض النموذج الأمريكي على شعوب الأرض -وبالأخص المسلمين- بقوة بالسلاح، والقاذفات، ما هو إلا تكرار للفرعونية المستبدة حينما استضعفَت الناس، واستبدَّت بهم وجعلتهم طوائف وشيعًا، ماذا كان منطق الفراعنة في القديم؟ كان: (أنا ربكم الأعلى)، وكان: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وما أشبه فراعنة اليوم بفراعنة الأمس، وما أشبه أبرهة الأشرم بأبرهة الأمريكي، الذي يحاول فرض نموذجه في التعليم، وفي نظام الحكم، وفي طريقة الحياة ونمطها، حتى المناهج الإسلامية لم تَسلَمْ من محاولات تطويعها وأمركتها، وصبغها بالصبغة الأمريكية.
وما كان الله ليذر الفراعنة قديمًا وحديثًا ليقودوا المجتمعات إلى الهاوية، فأين فرعون موسى؟ وأين أبرهة الأشرم؟ وأين الفيلة؟ التي تشبه تلك البوارج وحاملات الطائرات، والقواذف والصواريخ "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول) [سورة الفيل].
وإذا كان هذا حدث في الماضي البعيد الذي لم نشاهده، فإن حاضرنا يشهد ويؤكد أن الأمل لم يضِع، وأن النصر قادم بمشيئة الله وعونه، ثم بضربات المؤمنين المجاهدين لمعاقل الظالمين:
ماذا صنع طفل الحجارة بترسانة الصهاينة العسكرية؟
وماذا صنعت وفاء إدريس، ودارين أبو عيشة، وقوافل الاستشهاديين من الشباب، والأطفال، والفتيات؟
وماذا صنع حزب الله في الجنوب اللبناني؟
ألم يصنعوا مثل ما صنع الله مع بني النضير: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار) [الحشر: 2].
ماذا صنع ذلك الصومالي بالجنود الأمريكان حتى جروا أذيال الخزي، وخرجوا من الصومال؟
وماذا صنعت تلك الشعوب الإفريقية وغيرها لتتحرر من مستعمرها؟.
أيها المسلمون..
إن الأمل لم يضِع، وما يتعرض له المسلمون اليوم من جراحات، وانكسارات، وتحديات، ليس هو نهاية المطاف، فالعاقبة للمتقين: "كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [المجادلة: 21]، "ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُون * وإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُون" [الصافات: 171-173]، "ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ونُرِيَ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ" [القصص: 5، 6]، "ويَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا" [الإسراء: 51]، "ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" [ص: 88].
إن التاريخ ليشهد أن المكر الكُبَّار بمكة لم يُعِق حركة الإسلام، والقرارات في دار الندوة لم تقف في طريق الهجرة، والجراح الدامية بأُحد لم توقف مد الدعوة، وأن اليهود المتآمرين أخذوا جزاءهم في بني قريظة، وبني النضير، وخيبر، والكيد الفارسي ردته القادسية، والجمع الرومي أهلكته اليرموك، والتتار ردتهم صرخة (وا إسلاماه)، والفرنجة وحملاتهم ردها صلاح الدين.
وحديثًا ماذا فعلت حملات التغريب، واستلاب الهوية في الجزائر؟ ألم يردها ابن باديس ورفاقه المجاهدون، ومَن قاوم الاستعمار في كل البلاد العربية والإسلامية.
واسألوا التاريخ عن دور العمائم، ماذا فعلت في مصر والشام، من رد كيد نابليون عندما دخلت خيوله الأزهر، إن هذه النماذج التاريخية قديمًا وحديثًا تشهد أننا أمة قادرة على البقاء رغم كيد الأعداء.
لأننا بالإسلام نملك رصيدًا ضخمًا لا تملكه أمة أخرى، وأن وراء الإسلام قوة الجماهير الغفيرة المؤمنة بربها وقرآنها ومحمدها، المتطلعة إلى من يقودها باسم الله، ويضع يدها في يد رسول الله، وعندئذ تبذل المال عن رضا واغتباط، والروح عن طواعية، إن هذه الأمة متدينة بفطرتها وبتاريخها، والدين هو مفتاح شخصيتها، وصانع بطولاتها، كما أن قوة المنهج الإسلامي عندما تفجرت طاقاتها هزمت الصليبية في حطين، والتتار في عين جالوت، ومحمد الدرة في فلسطين، وهي مؤهلة اليوم والغد لتصنع ما صنعته بالأمس.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أيها المسلمون..
رغم الجراحات، إلا أن هناك إرهاصات ببزوغ فجر النصر، والتمكين لهذه الأمة، يكفي أن نسوق إليكم سقوط الاتحاد السوفيتي، وهزيمة فكره الإلحادي، وعودة الناس إلى الدين، بعدما تعددت أزمات العالم الروحية، والأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، فالبشرية تبحث عن المنقذ، وبينما هي تبحث عن المنقذ ترتكب في حق البشرية جريمة في غاية الشناعة تهدد عملية الإنقاذ، ومن مظاهرها: محاولات إبادة المسلمين، وتوجيه الضربات الوحشية إليهم، ومحاربة أية تجربة إسلامية ومحاصرتها، ومحاولة وأدها، والسعي الخبيث لاستلاب الهوية، وهدم الثوابت، والأولويات في الفكر والممارسة.
ويبقى أن نسأل أنفسنا: ما هو واجبنا تجاه هذه التحديات؟
إن علينا واجبات كثيرة، وقبل معرفة هذه الواجبات، فإنه من المهم أن نستشعر مسئوليتنا الفردية تجاه ما يحدث، ولا ينبغي أن نقلل من أدوارنا الفردية، فما الجهود الجماعية إلا مجموعًا لتلك الجهود الفردية، فلا تشعر بالانهزام أمام نفسك.
ومن واجباتنا:
اليقين العميق بالحق الذي معنا، خذ مثلاً قصة سراقة بن مالك عندما لحق بالنبي يوم الهجرة، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم واثقًا من أن الحق لا بد أن يهزم الباطل، وفي قصة أبي سفيان مع هرقل، ألم يقل هرقل لأبي سفيان: (إن النبي سيملك موضع قدمه)؟! وهو في الشام، الأمر الذي جعل أبا سفيان يتعجب من خوف ملك بني الأصفر من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي الذي كان عنده يقين مطلق بنصر الله، فيقول لأعدائه: (نحن قدر الله عليكم، فإن كنتم في الحساب، فلا بد أن يذلكم الله إلينا أو يرفعنا عليكم).
كما أن علينا أن نكثر من الدعاء لنصرة إخواننا المستضعفين، وندعمهم بكل ما نستطيع، ونواليهم، ونقاطع أعداء أمتنا، وعلينا أن نعمق من إيماننا بالله، ونُكثِر من العمل الصالح، لأنفسنا ولمجتمعاتنا وأوطاننا، فهو السبيل لرد كيد الأعداء، وعلى كل منا -حسب موقعه واستطاعته- أن يجاهد بيده ولسانه وقلبه وقلمه، أسلحة كثيرة نستطيع أن ندفع وندافع بها عن أمتنا وأنفسنا، ولنحذر من ترك هذه الأسلحة، "ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً واحِدَةً" [النساء: 102].
تلك واجبات على الأسرة جميعها: الرجل والمرأة والشاب والفتاة والطفل.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربنا، إلى من تَكِلُنا، إلى قريب يتجهمنا أم إلى عدو ملَّكتَه أمرنا؟ إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بنا غضبك، أو ينزل علينا سخطك، لك العُتبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم إليك نشكو إليك دماء للمسلمين سُفكَتْ، وأعراضًا هُتكت، وحُرمات انتُهكت، ومساجد دُمِّرت، ومنازل خُرِّبت، ومدارس عُطِّلت، ومزارع أُحرقَت، وأطفالاً يُتِّمَت، ونساءً تأيَّمت، وأمهات ثكلت، ليس لنا رب غيرك، ولا ملاذ سواك، اللهم فاغضب لعبادك المؤمنين، واثأر لجنودك الموحدين، وأنزل على أعدائك غضبك ونقمتك، واسلبهم حلمك وإمهالك، وأرنا فيهم بطشك وقوتك.
اللهم يا من أهلكت ثمود بالطاغية، وأهلكت عادًا بريح صرصر عاتية، وأخذت فرعون وجنده أخذة رابية، أهلك الطغمة الباغية، ولا تبقي لهم في أرضنا باقية، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصُب عليهم سوط عذاب، وكُن لهم بالمرصاد، ودمِّرهم كما دمرتَ إرَم ذات العماد.
اللهم من اعتز بك فلن يذل، ومن اهتدى بك فلن يضل، ومن استكثر بك فلن يقل، ومن استقوى بك فلن يضعف، ومن استغنى بك فلن يفتقر، ومن استنصر بك فلن يُخذَل، ومن استعان بك فلن يُغلَب، ومن توكل عليك فلن يخيب، ومن جعلك ملاذه فلن يضيع، ومن اعتصم بك فقد هُدي إلى صراط مستقيم، اللهم كن لنا وليًّا ونصيرًا، وكن لنا مُعينًا ومجيرًا، إنك كنت بنا بصيرًا.
اللهم آمين.
الأمة في مواجهة الاستعمار الجديد
يلقيها عليكم: السيد الشامي** - 02/03/2003
أفكار الخطبة:
- رسالة المسلم في الحياة الإعمار والتنمية وليس الإفساد وسفك الدماء.
- طغيان اليوم وفساده مقدمة لطغيان أكبر وفساد أعمق.
- نصرة المستضعفين واجب إسلامي وضرورة إنسانية.
- كما أهلك الله الأوَّلين من الفراعنة والطغاة سيُتبعهم الآخِرين.
- العداء والحرب على الأمة قديمًا وحديثًا لم ولن يوقف مسيرة الدعوة.
- اليقين في نصر الله، والوعي، والدعاء، وعمل الممكن، أسلحتنا في مواجهة التحديات.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد..
يقول الله عز وجل: "قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وهُدًى ومَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ" [آل عمران: 137-141].
إن الله سبحانه وتعالى خلق عباده في هذا الكون من أجل مقاصد سامية، وغايات نبيلة، ويبين سبحانه وتعالى في حواره مع الملائكة: "وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة" [البقرة: 30]، فنحن بموجب هذا التقرير الإلهي مُستخلَفين، والمُستخلَف مطلوب منه أن يقوم بمقتضيات وواجبات هذه الخلافة من إعمار هذا الكون، "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" [هود: 61]. الأمر الذي يعني أن رسالة الإنسان في الحياة هي رسالة عمران وتنمية، وقبل ذلك ومعه تسبيح لله، وتقديس له، ولعلّ في قول الله على لسان الملائكة: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك" [البقرة: 30]، ما يشير إلى أن خلافة المسلم في هذه الأرض، وفي هذا الكون، تقتضي عدم الإفساد في الأرض، وعدم سفك الدماء؛ لأن من مقتضيات التعمير عدم التخريب، والبعد عن الفساد والإفساد، وسفك الدماء.
ومن الفساد الذي جاء في القرآن: الطغيان، والتألُّه، والاستبداد، واستعباد الناس، "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ * وثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد" [الفجر: 6-14].
فالطغيان الذي نراه اليوم من دعوات وتَنادٍ بإعلان الحرب على العراق، وممارستها كل يوم في فلسطين هو مقدمة لفساد كبير، ولعلَّ القرآن الكريم أشار إلى ذلك عندما بيَّن أن إيقاد الحروب وإشعالها هو ديدن أعداء الله، حيث قال عز وجل: "كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا" [المائدة: 64]، فالحرب فساد وإفساد، والمفسد غير جدير بأن يكون مُستخلَفًا عن الله في هذا الكون.
أيها المسلمون..
إذا كان المسلمون اليوم وغيرهم من الشعوب والأمم المستضعفة يتعرضون لمحاولات الهيمنة من جانب الولايات المتحدة، وبعض حلفائها في الغرب، فإن على المسلمين أن يقاوموا هذه المحاولات، ودفع هذا الفساد والإفساد الذي لا ينصب على المسلمين وحدهم، بل على كل المستضعفين في الأرض؛ ليحافظوا على صلاح الكون واستقامته، "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" [الحج: 40].
ولعلّ ما حدث في فلسطين من تخريب وهدم لم تسلم منه المساجد والكنائس، ما يجعلنا نزداد إيمانًا بضرورة الدفاع والمدافعة عن حوزة المسلمين وأراضيهم، وعن كل المضطهدين والمُعَذَّبين في الأرض، وعار على المسلمين أن ينهض غيرهم للدفاع عن قضاياهم وبلادهم، فها هم الملايين في أوروبا وفي أمريكا يتظاهرون رافضين الحرب على العراق، وها هي الدروع البشرية تأتي من كل بلاد الغرب لتدفع عن بلادنا وشعوبنا شبح الحرب وويلاتها.
أيها المسلمون..
إننا عندما نتحدث عن قضية من القضايا، أو همّ من الهموم الإسلامية التي تتعرض لها الشعوب المسلمة، وعلى رأسها فلسطين والعراق، فإننا لا نتحدث بمنطق الساسة والسياسيين، بمعنى أن البعض قد يقول: ما لي ولفلسطين، وما لي وللعراق، وهذا خطأ في الفهم والتصور.
أما أنه خطأ في الفهم، فلأن من مقتضيات الإيمان والولاء النصرة للمسلمين: "وإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ" [الأنفال: 72]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَىَ مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَىَ لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسّهَرِ وَالْحُمّى" [رواه مسلم]، ويقول أيضًا: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ" [رواه أبو داود بسند حسن]، ويقول الله سبحانه وتعالى: "والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ" [الأنفال: 73].
وما ضاع المسلمون إلا يوم أن شاع بينهم هذا التفكير الذي يُعلِي من المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة، فنفرٌ غير قليل يعيش بمنطق: (أنا ومن بعدي الطوفان)، وبمنطق: (انجُ سعد فقد هلك سعيد)!!
وكلا المنطقين متهافت، فمتى جاء الطوفان هلك سعد، ومعه سعيد، ولعلّ ما يحكيه لنا ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة على لسان الثور عندما قال: (لقد أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض)، يبين لنا خطأ تصورنا أن ما يحدث في فلسطين أو العراق أو غيرهما لن يحدث لنا.
نحن أمة واحدة، وجسد واحد، وكأني بالمسلم عندما يسأل عن عنوانه يردد مع الشاعر:
أنا الحجاز أنا نجــد أنا يمـــن
أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
وفي ربا مكة تاريخ وملحمـــة
على ثراها بنينا العالم الثاني
في طيبة المصطفى عهدي وموعظتي
هناك يُنسَج تاريخي وعرفاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنــا
بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
النيــل مائي ومن عمـَّان تذكرتي
وفي الجزائر إخواني وتطواني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا
بدايتي وبه قد شعَّ قرآنــي
وثيقتي كُتبَت في اللـوح وانهمـرت
آياتها فاقرءوا يا قوم عنواني
فأينما ذُكِر اسم الله في بلـــد
عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
إن ما يحدث اليوم في فلسطين والعراق ما هو إلا مقدمة أو تطبيق عملي على ساحتين من ساحات الصراع في العالم بين الولايات المتحدة، وبين كل من يحاول أن يقف في طريق هيمنتها، وتألهها في هذا الكون وسيادتها، وها هي الدول الأوروبية والصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية تحاول التحرر والإفلات من هذه الهيمنة.
أيها المسلمون..
إن هذا التأله الأمريكي، وغطرسة القوة، ومحاولات فرض النموذج الأمريكي على شعوب الأرض -وبالأخص المسلمين- بقوة بالسلاح، والقاذفات، ما هو إلا تكرار للفرعونية المستبدة حينما استضعفَت الناس، واستبدَّت بهم وجعلتهم طوائف وشيعًا، ماذا كان منطق الفراعنة في القديم؟ كان: (أنا ربكم الأعلى)، وكان: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وما أشبه فراعنة اليوم بفراعنة الأمس، وما أشبه أبرهة الأشرم بأبرهة الأمريكي، الذي يحاول فرض نموذجه في التعليم، وفي نظام الحكم، وفي طريقة الحياة ونمطها، حتى المناهج الإسلامية لم تَسلَمْ من محاولات تطويعها وأمركتها، وصبغها بالصبغة الأمريكية.
وما كان الله ليذر الفراعنة قديمًا وحديثًا ليقودوا المجتمعات إلى الهاوية، فأين فرعون موسى؟ وأين أبرهة الأشرم؟ وأين الفيلة؟ التي تشبه تلك البوارج وحاملات الطائرات، والقواذف والصواريخ "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول) [سورة الفيل].
وإذا كان هذا حدث في الماضي البعيد الذي لم نشاهده، فإن حاضرنا يشهد ويؤكد أن الأمل لم يضِع، وأن النصر قادم بمشيئة الله وعونه، ثم بضربات المؤمنين المجاهدين لمعاقل الظالمين:
ماذا صنع طفل الحجارة بترسانة الصهاينة العسكرية؟
وماذا صنعت وفاء إدريس، ودارين أبو عيشة، وقوافل الاستشهاديين من الشباب، والأطفال، والفتيات؟
وماذا صنع حزب الله في الجنوب اللبناني؟
ألم يصنعوا مثل ما صنع الله مع بني النضير: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار) [الحشر: 2].
ماذا صنع ذلك الصومالي بالجنود الأمريكان حتى جروا أذيال الخزي، وخرجوا من الصومال؟
وماذا صنعت تلك الشعوب الإفريقية وغيرها لتتحرر من مستعمرها؟.
أيها المسلمون..
إن الأمل لم يضِع، وما يتعرض له المسلمون اليوم من جراحات، وانكسارات، وتحديات، ليس هو نهاية المطاف، فالعاقبة للمتقين: "كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [المجادلة: 21]، "ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُون * وإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُون" [الصافات: 171-173]، "ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ ونَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ونَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * ونُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ ونُرِيَ فِرْعَوْنَ وهَامَانَ وجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ" [القصص: 5، 6]، "ويَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا" [الإسراء: 51]، "ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" [ص: 88].
إن التاريخ ليشهد أن المكر الكُبَّار بمكة لم يُعِق حركة الإسلام، والقرارات في دار الندوة لم تقف في طريق الهجرة، والجراح الدامية بأُحد لم توقف مد الدعوة، وأن اليهود المتآمرين أخذوا جزاءهم في بني قريظة، وبني النضير، وخيبر، والكيد الفارسي ردته القادسية، والجمع الرومي أهلكته اليرموك، والتتار ردتهم صرخة (وا إسلاماه)، والفرنجة وحملاتهم ردها صلاح الدين.
وحديثًا ماذا فعلت حملات التغريب، واستلاب الهوية في الجزائر؟ ألم يردها ابن باديس ورفاقه المجاهدون، ومَن قاوم الاستعمار في كل البلاد العربية والإسلامية.
واسألوا التاريخ عن دور العمائم، ماذا فعلت في مصر والشام، من رد كيد نابليون عندما دخلت خيوله الأزهر، إن هذه النماذج التاريخية قديمًا وحديثًا تشهد أننا أمة قادرة على البقاء رغم كيد الأعداء.
لأننا بالإسلام نملك رصيدًا ضخمًا لا تملكه أمة أخرى، وأن وراء الإسلام قوة الجماهير الغفيرة المؤمنة بربها وقرآنها ومحمدها، المتطلعة إلى من يقودها باسم الله، ويضع يدها في يد رسول الله، وعندئذ تبذل المال عن رضا واغتباط، والروح عن طواعية، إن هذه الأمة متدينة بفطرتها وبتاريخها، والدين هو مفتاح شخصيتها، وصانع بطولاتها، كما أن قوة المنهج الإسلامي عندما تفجرت طاقاتها هزمت الصليبية في حطين، والتتار في عين جالوت، ومحمد الدرة في فلسطين، وهي مؤهلة اليوم والغد لتصنع ما صنعته بالأمس.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أيها المسلمون..
رغم الجراحات، إلا أن هناك إرهاصات ببزوغ فجر النصر، والتمكين لهذه الأمة، يكفي أن نسوق إليكم سقوط الاتحاد السوفيتي، وهزيمة فكره الإلحادي، وعودة الناس إلى الدين، بعدما تعددت أزمات العالم الروحية، والأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، فالبشرية تبحث عن المنقذ، وبينما هي تبحث عن المنقذ ترتكب في حق البشرية جريمة في غاية الشناعة تهدد عملية الإنقاذ، ومن مظاهرها: محاولات إبادة المسلمين، وتوجيه الضربات الوحشية إليهم، ومحاربة أية تجربة إسلامية ومحاصرتها، ومحاولة وأدها، والسعي الخبيث لاستلاب الهوية، وهدم الثوابت، والأولويات في الفكر والممارسة.
ويبقى أن نسأل أنفسنا: ما هو واجبنا تجاه هذه التحديات؟
إن علينا واجبات كثيرة، وقبل معرفة هذه الواجبات، فإنه من المهم أن نستشعر مسئوليتنا الفردية تجاه ما يحدث، ولا ينبغي أن نقلل من أدوارنا الفردية، فما الجهود الجماعية إلا مجموعًا لتلك الجهود الفردية، فلا تشعر بالانهزام أمام نفسك.
ومن واجباتنا:
اليقين العميق بالحق الذي معنا، خذ مثلاً قصة سراقة بن مالك عندما لحق بالنبي يوم الهجرة، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم واثقًا من أن الحق لا بد أن يهزم الباطل، وفي قصة أبي سفيان مع هرقل، ألم يقل هرقل لأبي سفيان: (إن النبي سيملك موضع قدمه)؟! وهو في الشام، الأمر الذي جعل أبا سفيان يتعجب من خوف ملك بني الأصفر من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي الذي كان عنده يقين مطلق بنصر الله، فيقول لأعدائه: (نحن قدر الله عليكم، فإن كنتم في الحساب، فلا بد أن يذلكم الله إلينا أو يرفعنا عليكم).
كما أن علينا أن نكثر من الدعاء لنصرة إخواننا المستضعفين، وندعمهم بكل ما نستطيع، ونواليهم، ونقاطع أعداء أمتنا، وعلينا أن نعمق من إيماننا بالله، ونُكثِر من العمل الصالح، لأنفسنا ولمجتمعاتنا وأوطاننا، فهو السبيل لرد كيد الأعداء، وعلى كل منا -حسب موقعه واستطاعته- أن يجاهد بيده ولسانه وقلبه وقلمه، أسلحة كثيرة نستطيع أن ندفع وندافع بها عن أمتنا وأنفسنا، ولنحذر من ترك هذه الأسلحة، "ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً واحِدَةً" [النساء: 102].
تلك واجبات على الأسرة جميعها: الرجل والمرأة والشاب والفتاة والطفل.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربنا، إلى من تَكِلُنا، إلى قريب يتجهمنا أم إلى عدو ملَّكتَه أمرنا؟ إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، ولكن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بنا غضبك، أو ينزل علينا سخطك، لك العُتبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم إليك نشكو إليك دماء للمسلمين سُفكَتْ، وأعراضًا هُتكت، وحُرمات انتُهكت، ومساجد دُمِّرت، ومنازل خُرِّبت، ومدارس عُطِّلت، ومزارع أُحرقَت، وأطفالاً يُتِّمَت، ونساءً تأيَّمت، وأمهات ثكلت، ليس لنا رب غيرك، ولا ملاذ سواك، اللهم فاغضب لعبادك المؤمنين، واثأر لجنودك الموحدين، وأنزل على أعدائك غضبك ونقمتك، واسلبهم حلمك وإمهالك، وأرنا فيهم بطشك وقوتك.
اللهم يا من أهلكت ثمود بالطاغية، وأهلكت عادًا بريح صرصر عاتية، وأخذت فرعون وجنده أخذة رابية، أهلك الطغمة الباغية، ولا تبقي لهم في أرضنا باقية، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصُب عليهم سوط عذاب، وكُن لهم بالمرصاد، ودمِّرهم كما دمرتَ إرَم ذات العماد.
اللهم من اعتز بك فلن يذل، ومن اهتدى بك فلن يضل، ومن استكثر بك فلن يقل، ومن استقوى بك فلن يضعف، ومن استغنى بك فلن يفتقر، ومن استنصر بك فلن يُخذَل، ومن استعان بك فلن يُغلَب، ومن توكل عليك فلن يخيب، ومن جعلك ملاذه فلن يضيع، ومن اعتصم بك فقد هُدي إلى صراط مستقيم، اللهم كن لنا وليًّا ونصيرًا، وكن لنا مُعينًا ومجيرًا، إنك كنت بنا بصيرًا.
اللهم آمين.