سلمان الفارسي
رضي الله عنه
" سلمان منا أل البيت "
حديث شريف
من هو؟
سلمان الفارسي وكنيته ( أبو عبد الله ) رجلا من أصبهان من قرية ( جيّ ) ، غادر
ثراء والده بحثا عن خلاص عقله وروحه ، كان مجوسيا ثم نصرانيا ثم أسلم للـه
رب العالمين ، وقد آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبو الدرداء
قبل الإسلام
لقداجتهد سلمان -رضي الله عنه- في المجوسية ، حتى كان قاطن النار التي
يوقدها ولا يتركها تخبو ، وكان لأبيه ضيعة ، أرسله إليها يوما ، فمر
بكنيسة للنصارى ، فسمعهم يصلون وأعجبه ما رأى في دينهم وسألهم عن أصل
دينهم فأجابوه في الشام ، وحين عاد أخبر والده وحاوره فقال ( يا أبتِ مررت
بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله مازلت عندهم حتى
غربت الشمس ) قال والده ( أي بُني ليس في ذلك الدين خير ، دينُك ودين
آبائك خير منه )قال ( كلا والله إنه خير من ديننا )فخافه والده وجعل
في رجليه حديدا وحبسه ، فأرسل سلمان الى النصارى بأنه دخل في دينهم ويريد
مصاحبة أي ركب لهم الى الشام ، وحطم قيوده ورحل الى الشام
وهناك ذهب الى الأسقف صاحب الكنيسة ، وعاش يخدم ويتعلم دينهم ، ولكن كان
هذا الأسقف من أسوء الناس فقد كان يكتنز مال الصدقات لنفسه ثم مات ، وجاء
آخر أحبه سلمان كثيرا لزهده في الدنيا ودأبه على العبادة ، فلما حضره
الموت أوصى سلمان قائلا ( أي بني ، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا
عليه إلا رجلا بالموصل )
فلما توفي رحل سلمان الى الموصل وعاش مع الرجل الى أن حضرته الوفاة فدله
على عابد في نصيبين فأتاه ، وأقام عنده حتى إذا حضرته الوفاة أمره أن يلحق
برجل في عمورية
فرحل إليه ، واصطنع لمعاشه بقرات وغنيمات ، ثم أتته الوفاة فقال لسليمان (
يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه ، آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد أظلك
زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفا ، يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين فإن
استطعت أن تخلص إليه فافعل ، وإن له آيات لا تخفى ، فهو لا يأكل الصدقة ،
ويقبل الهدية ، وإن بين كتفيه خاتم النبوة ، إذا رأيته عرفته )
لقاء الرسول
مر بسليمان ذات يوم ركب من جزيرة العرب ، فاتفق معهم على أن يحملوه الى
أرضهم مقابل أن يعطيهم بقراته وغنمه ، فذهب معهم ولكن ظلموه فباعوه ليهودي
في وادي القرى ، وأقام عنده حتى اشتراه رجل من يهود بني قريظة ، أخذه الى
المدينة التي ما أن رأها حتى أيقن أنها البلد التي وصفت له ، وأقام معه
حتى بعث الله رسوله وقدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف ، فما أن
سمع بخبره حتى سارع اليه
فدخل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحوله نفر من أصحابه ، فقال لهم (
إنكم أهل حاجة وغربة ، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة ، فلما ذكر لي
مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به ) فقال الرسول -صلى الله عليه
وسلم- لأصحابه ( كلوا باسم الله ) وأمسك هو فلم يبسط إليه يدا فقال
سليمان لنفسه ( هذه والله واحدة ، إنه لا يأكل الصدقة )
ثم عاد في الغداة الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحمل طعاما وقال ( أني
رأيتك لا تأكل الصدقة ، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية )فقال
الرسول لأصحابه ( كلوا باسم الله ) وأكل معهم فقال سليمان لنفسه ( هذه
والله الثانية ، إنه يأكل الهدية )
ثم عاد سليمان بعد مرور زمن فوجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في البقيع
قد تبع جنازة ، وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة ، مرتديا الأخرى ، فسلم عليه
ثم حاول النظر أعلى ظهره فعرف الرسول ذلك ، فألقى بردته عن كاهله فاذا
العلامة بين كتفيه ، خاتم النبوة كما وصفت لسليمان فأكب سليمان على
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقبله ويبكي ، فدعاه الرسول وجلس بين يديه ،
فأخبره خبره ، ثم أسلم
عتـقه
وحال الرق بين سليمان -رضي الله عنه- وبين شهود بدر وأحد ، وذات يوم أمره
الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكاتب سيده حتى يعتقه ، فكاتبه على
ثلاثمائة نخلة يجيبها له بالفقير وبأربعين أوقية ، وأمر الرسول الكريم
الصحابة كي يعينوه ،فأعانه الرجال بقدر ما عندهم من ودية حتى اجتمعت
الثلاثمائة ودية ، فأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( إذهب يا سلمان
ففقّرها ، فإذا فرغت فأتني أنا أضعها بيدي )ففقرها بمعونة الصحابة حتى
فرغ فأتى الرسول الكريم ، وخرج معه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخذ
يناوله الودي ويضعه الرسول بيده ، فما ماتت منها ودية واحدة فأدى
النخيل
وأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بعض المغازي ذهب بحجم بيضة الدجاج
وقال له ( خُذْ هذه فأدِّ بها ماعليك يا سلمان )فقال ( وأين تقع هذه يا
رسول الله مما علي ؟)قال ( خُذها فإن الله عزّ وجل سيؤدي بها عنك
)فأخذها فوزنها لهم فأوفاهم ، وحرر الله رقبته ، وعاد رجلا مسلما حرا ،
وشهد مع الرسول غزوة الخندق والمشاهد كلها
غزوة الخندق
في غزوة الخندق جاءت جيوش الكفر الى المدينة مقاتلة تحت قيادة أبي سفيان ،
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب ، وجمع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه ليشاورهم في الأمر ، فتقدم سلمان وألقى من فوق هضبة عالية نظرة
فاحصة على المدينة ، فوجدها محصنة بالجبال والصخور محيطة بها ، بيد أن
هناك فجوة واسعة يستطيع الأعداء اقتحامها بسهولة
وكان سلمان -رضي الله عنه- قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب
وخدعها ، فتقدم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- واقترح أن يتم حفر خندق
يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة ، وبالفعل بدأ المسلمين في بناء
هذا الخندق الذي صعق قريش حين رأته ، وعجزت عن اقتحام المدينة ، وأرسل
الله عليهم ريح صرصر عاتية لم يستطيعوا معها الا الرحيل والعودة الى
ديارهم خائبين
وخلال حفر الخندق اعترضت معاول المسلمين صخرة عاتية لم يستطيعوا فلقها ،
فذهب سلمان الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مستأذنا بتغيير مسار الحفر
ليتجنبوا هذه الصخرة ، فأتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع سلمان وأخذ
المعول بيديه الكريمتين ، وسمى الله وهوى على الصخرة فاذا بها تنفلق ويخرج
منها وهجا عاليا مضيئا وهتف الرسول مكبرا ( الله أكبرأعطيت مفاتيح فارس
، ولقد أضاء الله لي منها قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وإن أمتي ظاهرة
عليها )
ثم رفع المعول ثانية وهوى على الصخرة ، فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة ،
وهتف الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( الله أكبرأعطيت مفاتيح الروم ،
ولقد أضاء لي منها قصور الحمراء ، وإن أمتي ظاهرة عليها )ثم ضرب ضربته
الثالثة فاستسلمت الصخرة وأضاء برقها الشديد ، وهلل الرسول والمسلمون معه
وأنبأهم أنه يبصر قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق
فوقها راية الله يوما ، وصاح المسلمون ( هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق
الله ورسوله
فضله
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ( ثلاثة تشتاقُ إليهم الحُور العين عليّ وعمّار وسلمان )
حسبه
سُئِل سلمان -رضي الله عنه- عن حسبه فقال ( كرمي ديني ، وحَسَبي التراب ،
ومن التراب خُلقتُ ، وإلى التراب أصير ، ثم أبعث وأصير إلى موازيني ، فإن
ثقلت موازيني فما أكرم حسبي وما أكرمني على ربّي يُدخلني الجنة ، وإن خفّت
موازيني فما ألأَمَ حَسبي وما أهوَننِي على ربّي ، ويعذبني إلا أن يعود
بالمغفرة والرحمة على ذنوبي )
سلمان والصحابة
لقد كان إيمان سلمان الفارسي قويا ، فقد كان تقي زاهد فطن وورع ، أقام
أياما مع أبو الدرداء في دار واحدة ، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه-
يقوم الليل ويصوم النهار، وكان سلمان يرى مبالغته في هذا فحاول أن يثنيه
عن صومه هذا فقال له أبو الدرداء ( أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له؟)
فأجاب سلمان ( إن لعينيك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، صم وافطر ، وصلّ
ونام )فبلغ ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال ( لقد أشبع سلمان
علما )
وفي غزوة الخندق وقف الأنصار يقولون ( سلمان منا )ووقف المهاجرون
يقولون ( بل سلمان منا ) وناداهم الرسول قائلا ( سلمان منا آل البيت
)
في خلافة عمر بن الخطاب جاء سلمان الى المدينة زائرا ، فجمع عمر الصحابة
وقال لهم ( هيا بنا نخرخ لاستقبال سلمان )وخرج بهم لإستقباله عند مشارف
المدينة
وكان علي بن أبي طالب يلقبه بلقمان الحكيم ، وسئل عنه بعد موته فقال ( ذاك
امرؤ منا وإلينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم ؟أوتي العلم
الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحرا لا
ينزف )
عطاؤه
لقد كان -رضي الله عنه- في كبره شيخا مهيبا ، يضفر الخوص ويجدله ، ويصنع
منه أوعية ومكاتل ، ولقد كان عطاؤه وفيرابين أربعة آلاف و ستة آلاف في
العام ، بيد أنه كان يوزعه كله ويرفض أن ينال منه درهما ، ويقول ( أشتري
خوصا بدرهم ، فأعمله ثم أبيعه بثلاثة دراهم ، فأعيد درهما فيه ، وأنفق
درهما على عيالي ، وأتصدق بالثالث ، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما
انتهيت )
الإمارة
لقد كان سلمان الفارسي يرفض الإمارة ويقول ( إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين فافعل )
في الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن وهو سائر بالطريق ، لقيه رجل
قادم من الشام ومعه حمل من التين والتمر ، وكان الحمل يتعب الشامي ، فلم
يكد يرى أمامه رجلا يبدو عليه من عامة الناس وفقرائهم حتى قال له ( احمل
عني هذا )000فحمله سلمان ومضيا ، وعندما بلغا جماعة من الناس فسلم عليهم
فأجابوا ( وعلى الأمير السلام )فسأل الشامي نفسه ( أي أمير يعنون
؟!)ودهش عندما رأى بعضهم يتسارعون ليحملوا عن سلمان الحمل ويقولون (
عنك أيها الأمير )فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي فسقط
يعتذر ويأسف واقترب ليأخذ الحمل ، ولكن رفض سلمان وقال ( لا حتى أبلغك
منزلك )
سئل سلمان يوما ( ماذا يبغضك في الإمارة ؟)فأجاب ( حلاوة رضاعها ، ومرارة فطامها )
زهده وورعه
هم سلمان ببناء بيتا فسأل البناء ( كيف ستبنيه ؟)وكان البناء ذكيا يعرف
زهد سلمان وورعه فأجاب قائلا ( لا تخف ، إنها بناية تستظل بها من الحر ،
وتسكن فيها من البرد ، إذا وقفت فيها أصابت رأسك ، وإذا اضطجعت فيها أصابت
رجلك )فقال سلمان ( نعم ، هكذا فاصنع )
زواجه
في ليلة زفافه مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته فلما بلغ البيت قال (
ارجعوا آجركم الله ) ولم يُدخلهم عليها كما فعل السفهاء ، ثم جاء فجلس
عند امرأته ، فمسح بناصيتها ودعا بالبركة فقال لها ( هل أنت مطيعتني في
شيءٍ أمرك به )قالت ( جلستَ مجلسَ مَنْ يُطاع )قال ( فإن خليلي
أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله )فقام وقامت إلى
المسجد فصلّيا ما بدا لهما ، ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من
إمرأته
فلمّا أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا ( كيف وجدتَ أهلك ؟)فأعرض عنهم ، ثم
أعادوا فأعرض عنهم ، ثم أعادوا فأعرض عنهم ثم قال ( إنّما جعل الله
الستورَ والجُدُرَ والأبواب ليُوارى ما فيها ، حسب امرىءٍ منكم أن يسأل
عمّا ظهر له ، فأما ما غاب عنه فلا يسألن عن ذلك ، سمعتُ رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول ( المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافران في الطريق
))
عهده لسعد
جاء سعد بن أبي وقاص يعود سلمان في مرضه ، فبكى سلمان ، فقال سعد ( ما
يبكيك يا أبا عبدالله ؟لقد توفي رسول الله وهو عنك راض ) فأجاب سلمان
( والله ما أبكي جزعا من الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- عهد إلينا عهدا ، فقال ( ليكن حظ أحدكم من الدنيا
مثل زاد الراكب )وهأنذا حولي هذه الأساود-الأشياء الكثيرة- !)فنظر
سعد فلم ير إلا جفنة ومطهرة قال سعد ( يا أبا عبد الله اعهد إلينا بعهد
نأخذه عنك )فقال ( يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند حكمك إذا
حكمت ، وعند يدك إذا قسمت )
وفاته
كان سلمان يملك شيئا يحرص عليه كثيرا ، ائتمن زوجته عليه ، وفي صبيحة
اليوم الذي قبض فيه ناداها ( هلمي خبيك الذي استخبأتك )فجاءت بها فإذا
هي صرة مسك أصابها يوم فتح جلولاء ، احتفظ بها لتكون عطره يوم مماته ، ثم
دعا بقدح ماء نثر به المسك وقال لزوجته ( انضحيه حولي ، فإنه يحضرني الآن
خلق من خلق الله ، لايأكلون الطعام وإنما يحبون الطيب )فلما فعلت قال
لها ( اجفئي علي الباب وانزلي )ففعلت ما أمر ، وبعد حين عادت فإذا روحه
المباركة قد فارقت جسده ، وكان ذلك وهو أمير المدائن في عهد عثمان بن عفان
في عام ( 35 هـ ) ، وقد اختلف أهل العلم بعدد السنين التي عاشها ، ولكن
اتفقوا على أنه قد تجاوز المائتين والخمسين
رضي الله عنه
" سلمان منا أل البيت "
حديث شريف
من هو؟
سلمان الفارسي وكنيته ( أبو عبد الله ) رجلا من أصبهان من قرية ( جيّ ) ، غادر
ثراء والده بحثا عن خلاص عقله وروحه ، كان مجوسيا ثم نصرانيا ثم أسلم للـه
رب العالمين ، وقد آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين أبو الدرداء
قبل الإسلام
لقداجتهد سلمان -رضي الله عنه- في المجوسية ، حتى كان قاطن النار التي
يوقدها ولا يتركها تخبو ، وكان لأبيه ضيعة ، أرسله إليها يوما ، فمر
بكنيسة للنصارى ، فسمعهم يصلون وأعجبه ما رأى في دينهم وسألهم عن أصل
دينهم فأجابوه في الشام ، وحين عاد أخبر والده وحاوره فقال ( يا أبتِ مررت
بناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله مازلت عندهم حتى
غربت الشمس ) قال والده ( أي بُني ليس في ذلك الدين خير ، دينُك ودين
آبائك خير منه )قال ( كلا والله إنه خير من ديننا )فخافه والده وجعل
في رجليه حديدا وحبسه ، فأرسل سلمان الى النصارى بأنه دخل في دينهم ويريد
مصاحبة أي ركب لهم الى الشام ، وحطم قيوده ورحل الى الشام
وهناك ذهب الى الأسقف صاحب الكنيسة ، وعاش يخدم ويتعلم دينهم ، ولكن كان
هذا الأسقف من أسوء الناس فقد كان يكتنز مال الصدقات لنفسه ثم مات ، وجاء
آخر أحبه سلمان كثيرا لزهده في الدنيا ودأبه على العبادة ، فلما حضره
الموت أوصى سلمان قائلا ( أي بني ، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا
عليه إلا رجلا بالموصل )
فلما توفي رحل سلمان الى الموصل وعاش مع الرجل الى أن حضرته الوفاة فدله
على عابد في نصيبين فأتاه ، وأقام عنده حتى إذا حضرته الوفاة أمره أن يلحق
برجل في عمورية
فرحل إليه ، واصطنع لمعاشه بقرات وغنيمات ، ثم أتته الوفاة فقال لسليمان (
يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه ، آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد أظلك
زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفا ، يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين فإن
استطعت أن تخلص إليه فافعل ، وإن له آيات لا تخفى ، فهو لا يأكل الصدقة ،
ويقبل الهدية ، وإن بين كتفيه خاتم النبوة ، إذا رأيته عرفته )
لقاء الرسول
مر بسليمان ذات يوم ركب من جزيرة العرب ، فاتفق معهم على أن يحملوه الى
أرضهم مقابل أن يعطيهم بقراته وغنمه ، فذهب معهم ولكن ظلموه فباعوه ليهودي
في وادي القرى ، وأقام عنده حتى اشتراه رجل من يهود بني قريظة ، أخذه الى
المدينة التي ما أن رأها حتى أيقن أنها البلد التي وصفت له ، وأقام معه
حتى بعث الله رسوله وقدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف ، فما أن
سمع بخبره حتى سارع اليه
فدخل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحوله نفر من أصحابه ، فقال لهم (
إنكم أهل حاجة وغربة ، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة ، فلما ذكر لي
مكانكم رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به ) فقال الرسول -صلى الله عليه
وسلم- لأصحابه ( كلوا باسم الله ) وأمسك هو فلم يبسط إليه يدا فقال
سليمان لنفسه ( هذه والله واحدة ، إنه لا يأكل الصدقة )
ثم عاد في الغداة الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحمل طعاما وقال ( أني
رأيتك لا تأكل الصدقة ، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية )فقال
الرسول لأصحابه ( كلوا باسم الله ) وأكل معهم فقال سليمان لنفسه ( هذه
والله الثانية ، إنه يأكل الهدية )
ثم عاد سليمان بعد مرور زمن فوجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في البقيع
قد تبع جنازة ، وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة ، مرتديا الأخرى ، فسلم عليه
ثم حاول النظر أعلى ظهره فعرف الرسول ذلك ، فألقى بردته عن كاهله فاذا
العلامة بين كتفيه ، خاتم النبوة كما وصفت لسليمان فأكب سليمان على
الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقبله ويبكي ، فدعاه الرسول وجلس بين يديه ،
فأخبره خبره ، ثم أسلم
عتـقه
وحال الرق بين سليمان -رضي الله عنه- وبين شهود بدر وأحد ، وذات يوم أمره
الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكاتب سيده حتى يعتقه ، فكاتبه على
ثلاثمائة نخلة يجيبها له بالفقير وبأربعين أوقية ، وأمر الرسول الكريم
الصحابة كي يعينوه ،فأعانه الرجال بقدر ما عندهم من ودية حتى اجتمعت
الثلاثمائة ودية ، فأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( إذهب يا سلمان
ففقّرها ، فإذا فرغت فأتني أنا أضعها بيدي )ففقرها بمعونة الصحابة حتى
فرغ فأتى الرسول الكريم ، وخرج معه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخذ
يناوله الودي ويضعه الرسول بيده ، فما ماتت منها ودية واحدة فأدى
النخيل
وأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بعض المغازي ذهب بحجم بيضة الدجاج
وقال له ( خُذْ هذه فأدِّ بها ماعليك يا سلمان )فقال ( وأين تقع هذه يا
رسول الله مما علي ؟)قال ( خُذها فإن الله عزّ وجل سيؤدي بها عنك
)فأخذها فوزنها لهم فأوفاهم ، وحرر الله رقبته ، وعاد رجلا مسلما حرا ،
وشهد مع الرسول غزوة الخندق والمشاهد كلها
غزوة الخندق
في غزوة الخندق جاءت جيوش الكفر الى المدينة مقاتلة تحت قيادة أبي سفيان ،
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب ، وجمع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
أصحابه ليشاورهم في الأمر ، فتقدم سلمان وألقى من فوق هضبة عالية نظرة
فاحصة على المدينة ، فوجدها محصنة بالجبال والصخور محيطة بها ، بيد أن
هناك فجوة واسعة يستطيع الأعداء اقتحامها بسهولة
وكان سلمان -رضي الله عنه- قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب
وخدعها ، فتقدم من الرسول -صلى الله عليه وسلم- واقترح أن يتم حفر خندق
يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة ، وبالفعل بدأ المسلمين في بناء
هذا الخندق الذي صعق قريش حين رأته ، وعجزت عن اقتحام المدينة ، وأرسل
الله عليهم ريح صرصر عاتية لم يستطيعوا معها الا الرحيل والعودة الى
ديارهم خائبين
وخلال حفر الخندق اعترضت معاول المسلمين صخرة عاتية لم يستطيعوا فلقها ،
فذهب سلمان الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مستأذنا بتغيير مسار الحفر
ليتجنبوا هذه الصخرة ، فأتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع سلمان وأخذ
المعول بيديه الكريمتين ، وسمى الله وهوى على الصخرة فاذا بها تنفلق ويخرج
منها وهجا عاليا مضيئا وهتف الرسول مكبرا ( الله أكبرأعطيت مفاتيح فارس
، ولقد أضاء الله لي منها قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وإن أمتي ظاهرة
عليها )
ثم رفع المعول ثانية وهوى على الصخرة ، فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة ،
وهتف الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( الله أكبرأعطيت مفاتيح الروم ،
ولقد أضاء لي منها قصور الحمراء ، وإن أمتي ظاهرة عليها )ثم ضرب ضربته
الثالثة فاستسلمت الصخرة وأضاء برقها الشديد ، وهلل الرسول والمسلمون معه
وأنبأهم أنه يبصر قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق
فوقها راية الله يوما ، وصاح المسلمون ( هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق
الله ورسوله
فضله
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ( ثلاثة تشتاقُ إليهم الحُور العين عليّ وعمّار وسلمان )
حسبه
سُئِل سلمان -رضي الله عنه- عن حسبه فقال ( كرمي ديني ، وحَسَبي التراب ،
ومن التراب خُلقتُ ، وإلى التراب أصير ، ثم أبعث وأصير إلى موازيني ، فإن
ثقلت موازيني فما أكرم حسبي وما أكرمني على ربّي يُدخلني الجنة ، وإن خفّت
موازيني فما ألأَمَ حَسبي وما أهوَننِي على ربّي ، ويعذبني إلا أن يعود
بالمغفرة والرحمة على ذنوبي )
سلمان والصحابة
لقد كان إيمان سلمان الفارسي قويا ، فقد كان تقي زاهد فطن وورع ، أقام
أياما مع أبو الدرداء في دار واحدة ، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه-
يقوم الليل ويصوم النهار، وكان سلمان يرى مبالغته في هذا فحاول أن يثنيه
عن صومه هذا فقال له أبو الدرداء ( أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له؟)
فأجاب سلمان ( إن لعينيك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، صم وافطر ، وصلّ
ونام )فبلغ ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال ( لقد أشبع سلمان
علما )
وفي غزوة الخندق وقف الأنصار يقولون ( سلمان منا )ووقف المهاجرون
يقولون ( بل سلمان منا ) وناداهم الرسول قائلا ( سلمان منا آل البيت
)
في خلافة عمر بن الخطاب جاء سلمان الى المدينة زائرا ، فجمع عمر الصحابة
وقال لهم ( هيا بنا نخرخ لاستقبال سلمان )وخرج بهم لإستقباله عند مشارف
المدينة
وكان علي بن أبي طالب يلقبه بلقمان الحكيم ، وسئل عنه بعد موته فقال ( ذاك
امرؤ منا وإلينا أهل البيت ، من لكم بمثل لقمان الحكيم ؟أوتي العلم
الأول والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحرا لا
ينزف )
عطاؤه
لقد كان -رضي الله عنه- في كبره شيخا مهيبا ، يضفر الخوص ويجدله ، ويصنع
منه أوعية ومكاتل ، ولقد كان عطاؤه وفيرابين أربعة آلاف و ستة آلاف في
العام ، بيد أنه كان يوزعه كله ويرفض أن ينال منه درهما ، ويقول ( أشتري
خوصا بدرهم ، فأعمله ثم أبيعه بثلاثة دراهم ، فأعيد درهما فيه ، وأنفق
درهما على عيالي ، وأتصدق بالثالث ، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما
انتهيت )
الإمارة
لقد كان سلمان الفارسي يرفض الإمارة ويقول ( إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين فافعل )
في الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن وهو سائر بالطريق ، لقيه رجل
قادم من الشام ومعه حمل من التين والتمر ، وكان الحمل يتعب الشامي ، فلم
يكد يرى أمامه رجلا يبدو عليه من عامة الناس وفقرائهم حتى قال له ( احمل
عني هذا )000فحمله سلمان ومضيا ، وعندما بلغا جماعة من الناس فسلم عليهم
فأجابوا ( وعلى الأمير السلام )فسأل الشامي نفسه ( أي أمير يعنون
؟!)ودهش عندما رأى بعضهم يتسارعون ليحملوا عن سلمان الحمل ويقولون (
عنك أيها الأمير )فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي فسقط
يعتذر ويأسف واقترب ليأخذ الحمل ، ولكن رفض سلمان وقال ( لا حتى أبلغك
منزلك )
سئل سلمان يوما ( ماذا يبغضك في الإمارة ؟)فأجاب ( حلاوة رضاعها ، ومرارة فطامها )
زهده وورعه
هم سلمان ببناء بيتا فسأل البناء ( كيف ستبنيه ؟)وكان البناء ذكيا يعرف
زهد سلمان وورعه فأجاب قائلا ( لا تخف ، إنها بناية تستظل بها من الحر ،
وتسكن فيها من البرد ، إذا وقفت فيها أصابت رأسك ، وإذا اضطجعت فيها أصابت
رجلك )فقال سلمان ( نعم ، هكذا فاصنع )
زواجه
في ليلة زفافه مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته فلما بلغ البيت قال (
ارجعوا آجركم الله ) ولم يُدخلهم عليها كما فعل السفهاء ، ثم جاء فجلس
عند امرأته ، فمسح بناصيتها ودعا بالبركة فقال لها ( هل أنت مطيعتني في
شيءٍ أمرك به )قالت ( جلستَ مجلسَ مَنْ يُطاع )قال ( فإن خليلي
أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله )فقام وقامت إلى
المسجد فصلّيا ما بدا لهما ، ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من
إمرأته
فلمّا أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا ( كيف وجدتَ أهلك ؟)فأعرض عنهم ، ثم
أعادوا فأعرض عنهم ، ثم أعادوا فأعرض عنهم ثم قال ( إنّما جعل الله
الستورَ والجُدُرَ والأبواب ليُوارى ما فيها ، حسب امرىءٍ منكم أن يسأل
عمّا ظهر له ، فأما ما غاب عنه فلا يسألن عن ذلك ، سمعتُ رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول ( المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافران في الطريق
))
عهده لسعد
جاء سعد بن أبي وقاص يعود سلمان في مرضه ، فبكى سلمان ، فقال سعد ( ما
يبكيك يا أبا عبدالله ؟لقد توفي رسول الله وهو عنك راض ) فأجاب سلمان
( والله ما أبكي جزعا من الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- عهد إلينا عهدا ، فقال ( ليكن حظ أحدكم من الدنيا
مثل زاد الراكب )وهأنذا حولي هذه الأساود-الأشياء الكثيرة- !)فنظر
سعد فلم ير إلا جفنة ومطهرة قال سعد ( يا أبا عبد الله اعهد إلينا بعهد
نأخذه عنك )فقال ( يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت ، وعند حكمك إذا
حكمت ، وعند يدك إذا قسمت )
وفاته
كان سلمان يملك شيئا يحرص عليه كثيرا ، ائتمن زوجته عليه ، وفي صبيحة
اليوم الذي قبض فيه ناداها ( هلمي خبيك الذي استخبأتك )فجاءت بها فإذا
هي صرة مسك أصابها يوم فتح جلولاء ، احتفظ بها لتكون عطره يوم مماته ، ثم
دعا بقدح ماء نثر به المسك وقال لزوجته ( انضحيه حولي ، فإنه يحضرني الآن
خلق من خلق الله ، لايأكلون الطعام وإنما يحبون الطيب )فلما فعلت قال
لها ( اجفئي علي الباب وانزلي )ففعلت ما أمر ، وبعد حين عادت فإذا روحه
المباركة قد فارقت جسده ، وكان ذلك وهو أمير المدائن في عهد عثمان بن عفان
في عام ( 35 هـ ) ، وقد اختلف أهل العلم بعدد السنين التي عاشها ، ولكن
اتفقوا على أنه قد تجاوز المائتين والخمسين