عبد الله بن الزبير
أول مواليد المدينة
" لا يجهل حقه إلا من أعماه الله "
ابن عباس
من هو؟
كان عبـد الله بن الزبيـر جنينا في بطن أمه أسماء بنت أبي بكر ، وهي تقطع
الصحراء اللاهبة مغادرة مكة الى المدينة على طريق الهجرة العظيم ، وما كادت
تبلغ ( قباء ) عند مشارف المدينة حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين أرض
المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من الصحابة ، وحُمِل المولود
الأول الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقبّله وحنّكه ، فكان أول ما دخل جوف
عبـد اللـه ريق الرسول الكريم ، وحمله المسلمون في المدينة وطافوا به المدينة
مهلليـن مكبرين فقد كَذَب اليهـود وكهنتهم عندما أشاعـوا أنهم سحروا المسلمين
وسلّطوا عليهم العقـم ، فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا ، فأبطل عبـد الله إفك اليهـود وكيدهـم
الطفل
على الرغم من أن عبد الله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد الرسـول -صلى الله
عليه وسلـم- إلا أن الطفل نما ونشـأ في البيئة المسلمـة ، وتلقّى من عهد
الرسـول -صلى الله عليه وسـلم- كل خامات رجولتـه ومباديء حياته ، فكان
خارقا في حيويتـه وفطنتـه وصلابته ، وكان شبابه طهرا وعفـة وبطولة ، وأصبح
رجلا يعرف طريقه ويقطعه بعزيمة جبارة ، وكانت كنيته ( أبا بكر ) مثل جدّه أبي بكر الصديق
وقد كُلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غِلْمَةٍ ترعرعوا ، منهم عبد
الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن أبي سلمة فقيل ( يا رسول
الله ، لو بايعتهم فتصيبهم بركتُك ويكون بهم ذكر ) فأتِيَ بهم إليهم
فكأنهم تَكَعْكَعوا -أي هابوا- حين جيء بهم إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم- ، فاقتحم ابن الزبير أوّلهم ، فتبسّم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وقال ( إنّه ابن أبيه )وبايعوه
الدم
أتَى عبد الله بن الزبير النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يحتجم ، فلمّا
فرغ قال ( يا عبد الله ، اذهب بهذا الدم فأهْرقْهُ حيثُ لا يراكَ أحد
) فلمّا برز عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمَدَ إلى الدم فشربه ،
فلمّا رجع قال ( يا عبد الله ، ما صنعت ؟) قال ( جعلته في أخفى مكان
علمت أنه بخافٍ عن الناس !) قال ( لعلّك شربته ؟!) قال ( نعم ) قال
( ولِمَ شربت الدّم ؟! ويلٌ للناس منك ، وويلٌ لك من الناس !) فكانوا
يرون أن القوة التي به من ذلك الدم وفي رواية أخرى قال الرسول -صلى الله
عليه وسلم- ( ويلٌ لك من الناس ، وويلٌ للناس منك ، لا تمسّك النارُ إلا
قَسَم اليمين ) وهو قوله تعالى
وإن مِنكُمْ إلاّ وَارِدُهَا كانَ على ربِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً )سورة المريم آية (71)
إيمانه
قال عمر بن عبد العزيز يوماً لابن أبي مُلَيْكة ( صِفْ لنا عبد الله بن
الزبير ) فقال ( والله ، ما رأيت نفساً رُكّبت بين جَنْبين مثل نفسه ،
ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها ، وكان يركع أو يسجد فتقف
العصافير فوق ظهره وكاهله ، لا تحسبه من طول ركوعه و سجوده إلا جداراً أو
ثوباً مطروحاً ، ولقد مرَّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي ،
فوالله ما أحسَّ بها ولا اهتزّ لها ، ولا قطع من أجلها قراءته ولا تعجل ركوعه )
وسئل عنه ابن عباس فقال على الرغم ما بينهم من خلاف ( كان قارئاً لكتاب
الله ، مُتَّبِعاً سنة رسوله ، قانتاً لله ، صائماً في الهواجر من مخافة
الله ، ابن حواريّ رسول الله ، وأمه أسماء بنت الصديق ، وخالته عائشة زوجة
رسول الله ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله )
فضله
كان عبد الله بن الزبير من العلماء المجتهدين ، وما كان أحد أعلم بالمناسك
منه ، وقال عنه عثمان بن طلحة ( كان عبد الله بن الزبير لا يُنازَعُ في
ثلاثة شجاعة ، ولا عبادة ، ولا بلاغة ) وقد تكلّم عبد الله بن الزبير
يوماً والزبير يسمع فقال له ( أي بُنيّ ! ما زلتُ تكلّم بكلام أبي بكر
-رضي الله عنه-حتى ظننتُ أنّ أبا بكر قائمٌ ، فانظُر إلى منْ تزوّج فإنّ
المرأة من أخيها من أبيها ) وأول من كسا الكعبة بالديباج هو عبد الله
بن الزبير ، وإن كان ليُطيِّبُها حتى يجد ريحها مَنْ دخل الحرم
قال عمر بن قيس ( كان لابن الزبير مئة غلام ، يتكلّم كلّ غلام منهم بلغة
أخرى ، وكان الزبير يكلّم كلَّ واحد منهم بلغته ، وكنت إذا نظرتُ إليه في
أمر دنياه قلت هذا رجلٌ لم يُرِد الله طرفةَ عين ، وإذا نظرتُ إليه في أمر
آخرته قلت هذا رجلٌ لم يُرِد الدنيا طرفة عين )
جهاده
كان عبد الله بن الزبير وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال
الفتوح الإسلامية ، في فتح إفريقية والأندلس والقسطنطينية ففي فتح
إفريقية وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون
ألفا ، وألقى عبد الله نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوته التي تكمن في
ملك البربر وقائـد الجيش ، الذي يصيح بجنده ويحرضـهم على الموت بطريقة
عجيبـة ، فأدرك عبـد الله أنه لابد من سقوط هذا القائد العنيـد ، ولكن كيف
؟ نادى عبد الله بعض إخوانه وقال لهم ( احموا ظهري واهجموا معي )
وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم نحو القائد حتى إذا بلغه هوى عليه في كرَّة
واحـدة فهوى ، ثم استدار بمن معه الى الجنود الذين كانوا يحيطـون بملكهم
فصرعوهـم ثم صاحوا ( اللـه أكبـر ) وعندما رأى المسلمون رايتهم ترتفع
حيث كان قائد البربر يقف ، أدركوا أنه النصر فشدّوا شدَّة رجل واحد وانتهى
الأمر بنصر المسلمين وكانت مكافأة الزبير من قائد جيش المسلمين ( عبد
الله بن أبي سَرح ) بأن جعله يحمل بشرى النصر الى خليفة المسلمين ( عثمان بن عفان ) في المدينة بنفسه
ابن معاوية
لقد كان عبد الله بن الزبير يرى أن ( يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ) آخر
رجل يصلح لخلافة المسلمين إن كان يصلح على الإطلاق ، لقد كان ( يزيد )
فاسدا في كل شيء ولم تكن له فضيلة واحدة تشفع له ، فكيف يبايعه الزبير ،
لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حيّ ، وها هو يقولها ليزيد بعد
أن أصبح خليفة ، وأرسل إلى ابن الزبير يتوعّده بشر مصير ، هنالك قال ابن
الزبير ( لا أبايع السَّكير أبدا )ثم أنشد
ولا ألين لغير الحق أسأله حتى يلين لِضِرْس الماضِغ الحَجر
الإمارة
بُويَع لعبد الله بن الزبير بالخلافة سنة أربع وستين ، عقب موت يزيد بن
معاوية ، وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين مُتَّخِذا من مكة المكرمة عاصمة
خلافته ، باسطا حكمه على الحجاز و اليمن والبصرة و الكوفة وخُرسان والشام
كلها عدا دمشق بعد أن بايعه أهل هذه الأمصار جميعا ، ولكن الأمويين لا
يقرُّ قرارهم ولا يهدأ بالهم ، فيشنون عليه حروبا موصولة ، حتى جاء عهد (
عبد الملك بن مروان ) حين ندب لمهاجمة عبد الله في مكة واحدا من أشقى بني
آدم وأكثرهم قسوة وإجراما ، ذلكم هو ( الحجاج الثقفي ) الذي قال عنه
الإمام العادل عمر بن عبد العزيز ( لو جاءت كل أمَّة بخطاياها ، وجئنا نحن بالحجّاج وحده ، لرجحناهم جميعا )
الحجّاج
ذهب الحجّاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير ، وحاصرها
وأهلها قُرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام ، كي يحملهم على ترك
عبد الله بن الزبير وحيداً بلا جيش ولا أعوان ، وتحت وطأة الجوع القاتل
استسلم الأكثرون ، ووجد عبد الله نفسه وحيدا ، وعلى الرغم من أن فُرص
النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مُهَيّأة له ، فقد قرر أن يحمل
مسئوليته الى النهاية وراح يقاتل جيش الحجّاج في شجاعة أسطورية وهو يومئذ في السبعين من عمره
لقد كان وضوح عبد الله -رضي الله عنه- مع نفسه وصدقه مع عقيدته ومبادئه
ملازما له في أشد ساعات المحنة مع الحجّاج ، فهاهو يسمع فرقة من الأحباش ،
وكانوا من أمهر الرماة والمقاتلين في جيش ابن الزبير ، يتحدثون عن الخليفة
الراحل عثمان بحديث لا ورع فيه ولا إنصاف ، فعنَّفَهم وقال لهم ( والله ما
أحبُّ أن أستظهر على عَدوي بمن يُبغض عثمان ) ثم صرفهم ابن الزبير عنه ،
ولم يبالي أن يخسر مائتين من أكفأ الرماة عنده
الساعات الأخيرة
وفي الساعات الأخيرة من حياة عبد الله -رضي الله عنه- جرى هذا الحوار بينه
وبين أمه العظيمة ( أسماء بنت أبي بكر ) فقد ذهب إليها ووضع أمامها الصورة
الدقيقة لموقفه ومصيره الذي ينتظره فقال لها ( يا أمّه ، خذلني الناس حتى
ولدي وأهلي ، فلم يبقَ معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة ،
والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك ؟)
فقالت له أمه ( يا بني أنت أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى
حق ، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله ، ولا تمكّن من رقبتك غِلمَان بني أمية
، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبِئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من
قُتِلَ معك )
قال عبد الله ( هذا والله رأيي ، والذي قمت ُ به داعياً يومي هذا ، ما
ركنتُ إلى الدنيا ، ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا
الغضب لله ، ولكنّي أحببتُ أن أعلمُ رأيك ، فتزيدينني قوّة وبصيرة مع
بصيرتي ، فانظري يا أمّه فإنّي مقتول من يومي هذا ، لا يشتدّ جزعُكِ عليّ
سلّمي لأمر الله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عمل بفاحشة ، ولم
يَجُرْ في حكم ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم
يبلغني عن عمالي فريضته بل أنكرته ، ولم يكن شيء آثر عندي من رضى
ربّياللهم ! إني لا أقول هذا تزكية منّي لنفسي ، أنت أعلم بي ، ولكنّي
أقوله تعزية لأمّي لتسلو به عني )
قالت أمه أسماء ( إني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبَقْتَني الى
الله أو سَبقْتُك ، اللهم ارحم طول قيامه في الليل ، وظمأه في الهواجر ،
وبِرّه بأبيه وبي ، اللهم إني أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ،
فأثِبْني في عبد الله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين ) وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته
الشهيد
وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافيء ، تلقّى الشهيد ضربة
الموت ، وكان ذلك في يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث
وسبعين ، وأبى الحجّاج إلا أن يصلب الجثمان الهامد تشفياً وخِسة ، وقامت
أم البطل وعمرها سبع وتسعون سنة لترى ولدها المصلوب ، وبكل قوة وقفت تجاهه
لا تريم ، واقترب الحجّاج منها قائلا ( يا أماه إن أمير المؤمنين عبد
الملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا ، فهل لك من حاجة ؟) فصاحت به قائلة (
لست لك بأم ، إنما أنا أمُّ هذا المصلوب على الثّنِيّة ، وما بي إليكم
حاجة ، ولكني أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (يخرج من ثقيف كذّاب ومُبير ) فأما الكذّاب فقد رأيناه ، وأما المُبير فلا أراه إلا أنت)
وتقدم عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- من أسماء مُعزِّيا وداعيا إياها الى
الصبر، فأجابته قائلة (وماذا يمنعني من الصبر ، وقد أُهْدِيَ رأس يحيى بن
زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ) يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق ،
أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبد الله بن الزبير عن جسده
قبل أن يصلبوه ؟؟أجل إن يكن رأس ابن الزبير قد قُدم هدية للحجاج ولعبد
الملك ، فإن رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية ل(سالومي ) بَغيّ حقيرة من بني إسرائيل ، ما أروع التشبيه وما أصدق الكلمات
أول مواليد المدينة
" لا يجهل حقه إلا من أعماه الله "
ابن عباس
من هو؟
كان عبـد الله بن الزبيـر جنينا في بطن أمه أسماء بنت أبي بكر ، وهي تقطع
الصحراء اللاهبة مغادرة مكة الى المدينة على طريق الهجرة العظيم ، وما كادت
تبلغ ( قباء ) عند مشارف المدينة حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين أرض
المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من الصحابة ، وحُمِل المولود
الأول الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقبّله وحنّكه ، فكان أول ما دخل جوف
عبـد اللـه ريق الرسول الكريم ، وحمله المسلمون في المدينة وطافوا به المدينة
مهلليـن مكبرين فقد كَذَب اليهـود وكهنتهم عندما أشاعـوا أنهم سحروا المسلمين
وسلّطوا عليهم العقـم ، فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا ، فأبطل عبـد الله إفك اليهـود وكيدهـم
الطفل
على الرغم من أن عبد الله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد الرسـول -صلى الله
عليه وسلـم- إلا أن الطفل نما ونشـأ في البيئة المسلمـة ، وتلقّى من عهد
الرسـول -صلى الله عليه وسـلم- كل خامات رجولتـه ومباديء حياته ، فكان
خارقا في حيويتـه وفطنتـه وصلابته ، وكان شبابه طهرا وعفـة وبطولة ، وأصبح
رجلا يعرف طريقه ويقطعه بعزيمة جبارة ، وكانت كنيته ( أبا بكر ) مثل جدّه أبي بكر الصديق
وقد كُلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غِلْمَةٍ ترعرعوا ، منهم عبد
الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن أبي سلمة فقيل ( يا رسول
الله ، لو بايعتهم فتصيبهم بركتُك ويكون بهم ذكر ) فأتِيَ بهم إليهم
فكأنهم تَكَعْكَعوا -أي هابوا- حين جيء بهم إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم- ، فاقتحم ابن الزبير أوّلهم ، فتبسّم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- وقال ( إنّه ابن أبيه )وبايعوه
الدم
أتَى عبد الله بن الزبير النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يحتجم ، فلمّا
فرغ قال ( يا عبد الله ، اذهب بهذا الدم فأهْرقْهُ حيثُ لا يراكَ أحد
) فلمّا برز عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمَدَ إلى الدم فشربه ،
فلمّا رجع قال ( يا عبد الله ، ما صنعت ؟) قال ( جعلته في أخفى مكان
علمت أنه بخافٍ عن الناس !) قال ( لعلّك شربته ؟!) قال ( نعم ) قال
( ولِمَ شربت الدّم ؟! ويلٌ للناس منك ، وويلٌ لك من الناس !) فكانوا
يرون أن القوة التي به من ذلك الدم وفي رواية أخرى قال الرسول -صلى الله
عليه وسلم- ( ويلٌ لك من الناس ، وويلٌ للناس منك ، لا تمسّك النارُ إلا
قَسَم اليمين ) وهو قوله تعالى
وإن مِنكُمْ إلاّ وَارِدُهَا كانَ على ربِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً )سورة المريم آية (71)
إيمانه
قال عمر بن عبد العزيز يوماً لابن أبي مُلَيْكة ( صِفْ لنا عبد الله بن
الزبير ) فقال ( والله ، ما رأيت نفساً رُكّبت بين جَنْبين مثل نفسه ،
ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها ، وكان يركع أو يسجد فتقف
العصافير فوق ظهره وكاهله ، لا تحسبه من طول ركوعه و سجوده إلا جداراً أو
ثوباً مطروحاً ، ولقد مرَّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي ،
فوالله ما أحسَّ بها ولا اهتزّ لها ، ولا قطع من أجلها قراءته ولا تعجل ركوعه )
وسئل عنه ابن عباس فقال على الرغم ما بينهم من خلاف ( كان قارئاً لكتاب
الله ، مُتَّبِعاً سنة رسوله ، قانتاً لله ، صائماً في الهواجر من مخافة
الله ، ابن حواريّ رسول الله ، وأمه أسماء بنت الصديق ، وخالته عائشة زوجة
رسول الله ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله )
فضله
كان عبد الله بن الزبير من العلماء المجتهدين ، وما كان أحد أعلم بالمناسك
منه ، وقال عنه عثمان بن طلحة ( كان عبد الله بن الزبير لا يُنازَعُ في
ثلاثة شجاعة ، ولا عبادة ، ولا بلاغة ) وقد تكلّم عبد الله بن الزبير
يوماً والزبير يسمع فقال له ( أي بُنيّ ! ما زلتُ تكلّم بكلام أبي بكر
-رضي الله عنه-حتى ظننتُ أنّ أبا بكر قائمٌ ، فانظُر إلى منْ تزوّج فإنّ
المرأة من أخيها من أبيها ) وأول من كسا الكعبة بالديباج هو عبد الله
بن الزبير ، وإن كان ليُطيِّبُها حتى يجد ريحها مَنْ دخل الحرم
قال عمر بن قيس ( كان لابن الزبير مئة غلام ، يتكلّم كلّ غلام منهم بلغة
أخرى ، وكان الزبير يكلّم كلَّ واحد منهم بلغته ، وكنت إذا نظرتُ إليه في
أمر دنياه قلت هذا رجلٌ لم يُرِد الله طرفةَ عين ، وإذا نظرتُ إليه في أمر
آخرته قلت هذا رجلٌ لم يُرِد الدنيا طرفة عين )
جهاده
كان عبد الله بن الزبير وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال
الفتوح الإسلامية ، في فتح إفريقية والأندلس والقسطنطينية ففي فتح
إفريقية وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون
ألفا ، وألقى عبد الله نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوته التي تكمن في
ملك البربر وقائـد الجيش ، الذي يصيح بجنده ويحرضـهم على الموت بطريقة
عجيبـة ، فأدرك عبـد الله أنه لابد من سقوط هذا القائد العنيـد ، ولكن كيف
؟ نادى عبد الله بعض إخوانه وقال لهم ( احموا ظهري واهجموا معي )
وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم نحو القائد حتى إذا بلغه هوى عليه في كرَّة
واحـدة فهوى ، ثم استدار بمن معه الى الجنود الذين كانوا يحيطـون بملكهم
فصرعوهـم ثم صاحوا ( اللـه أكبـر ) وعندما رأى المسلمون رايتهم ترتفع
حيث كان قائد البربر يقف ، أدركوا أنه النصر فشدّوا شدَّة رجل واحد وانتهى
الأمر بنصر المسلمين وكانت مكافأة الزبير من قائد جيش المسلمين ( عبد
الله بن أبي سَرح ) بأن جعله يحمل بشرى النصر الى خليفة المسلمين ( عثمان بن عفان ) في المدينة بنفسه
ابن معاوية
لقد كان عبد الله بن الزبير يرى أن ( يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ) آخر
رجل يصلح لخلافة المسلمين إن كان يصلح على الإطلاق ، لقد كان ( يزيد )
فاسدا في كل شيء ولم تكن له فضيلة واحدة تشفع له ، فكيف يبايعه الزبير ،
لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حيّ ، وها هو يقولها ليزيد بعد
أن أصبح خليفة ، وأرسل إلى ابن الزبير يتوعّده بشر مصير ، هنالك قال ابن
الزبير ( لا أبايع السَّكير أبدا )ثم أنشد
ولا ألين لغير الحق أسأله حتى يلين لِضِرْس الماضِغ الحَجر
الإمارة
بُويَع لعبد الله بن الزبير بالخلافة سنة أربع وستين ، عقب موت يزيد بن
معاوية ، وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين مُتَّخِذا من مكة المكرمة عاصمة
خلافته ، باسطا حكمه على الحجاز و اليمن والبصرة و الكوفة وخُرسان والشام
كلها عدا دمشق بعد أن بايعه أهل هذه الأمصار جميعا ، ولكن الأمويين لا
يقرُّ قرارهم ولا يهدأ بالهم ، فيشنون عليه حروبا موصولة ، حتى جاء عهد (
عبد الملك بن مروان ) حين ندب لمهاجمة عبد الله في مكة واحدا من أشقى بني
آدم وأكثرهم قسوة وإجراما ، ذلكم هو ( الحجاج الثقفي ) الذي قال عنه
الإمام العادل عمر بن عبد العزيز ( لو جاءت كل أمَّة بخطاياها ، وجئنا نحن بالحجّاج وحده ، لرجحناهم جميعا )
الحجّاج
ذهب الحجّاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير ، وحاصرها
وأهلها قُرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام ، كي يحملهم على ترك
عبد الله بن الزبير وحيداً بلا جيش ولا أعوان ، وتحت وطأة الجوع القاتل
استسلم الأكثرون ، ووجد عبد الله نفسه وحيدا ، وعلى الرغم من أن فُرص
النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مُهَيّأة له ، فقد قرر أن يحمل
مسئوليته الى النهاية وراح يقاتل جيش الحجّاج في شجاعة أسطورية وهو يومئذ في السبعين من عمره
لقد كان وضوح عبد الله -رضي الله عنه- مع نفسه وصدقه مع عقيدته ومبادئه
ملازما له في أشد ساعات المحنة مع الحجّاج ، فهاهو يسمع فرقة من الأحباش ،
وكانوا من أمهر الرماة والمقاتلين في جيش ابن الزبير ، يتحدثون عن الخليفة
الراحل عثمان بحديث لا ورع فيه ولا إنصاف ، فعنَّفَهم وقال لهم ( والله ما
أحبُّ أن أستظهر على عَدوي بمن يُبغض عثمان ) ثم صرفهم ابن الزبير عنه ،
ولم يبالي أن يخسر مائتين من أكفأ الرماة عنده
الساعات الأخيرة
وفي الساعات الأخيرة من حياة عبد الله -رضي الله عنه- جرى هذا الحوار بينه
وبين أمه العظيمة ( أسماء بنت أبي بكر ) فقد ذهب إليها ووضع أمامها الصورة
الدقيقة لموقفه ومصيره الذي ينتظره فقال لها ( يا أمّه ، خذلني الناس حتى
ولدي وأهلي ، فلم يبقَ معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة ،
والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك ؟)
فقالت له أمه ( يا بني أنت أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى
حق ، فاصبر عليه حتى تموت في سبيله ، ولا تمكّن من رقبتك غِلمَان بني أمية
، وإن كنت تعلم أنك أردت الدنيا فلبِئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من
قُتِلَ معك )
قال عبد الله ( هذا والله رأيي ، والذي قمت ُ به داعياً يومي هذا ، ما
ركنتُ إلى الدنيا ، ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا
الغضب لله ، ولكنّي أحببتُ أن أعلمُ رأيك ، فتزيدينني قوّة وبصيرة مع
بصيرتي ، فانظري يا أمّه فإنّي مقتول من يومي هذا ، لا يشتدّ جزعُكِ عليّ
سلّمي لأمر الله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عمل بفاحشة ، ولم
يَجُرْ في حكم ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم
يبلغني عن عمالي فريضته بل أنكرته ، ولم يكن شيء آثر عندي من رضى
ربّياللهم ! إني لا أقول هذا تزكية منّي لنفسي ، أنت أعلم بي ، ولكنّي
أقوله تعزية لأمّي لتسلو به عني )
قالت أمه أسماء ( إني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبَقْتَني الى
الله أو سَبقْتُك ، اللهم ارحم طول قيامه في الليل ، وظمأه في الهواجر ،
وبِرّه بأبيه وبي ، اللهم إني أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ،
فأثِبْني في عبد الله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين ) وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته
الشهيد
وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافيء ، تلقّى الشهيد ضربة
الموت ، وكان ذلك في يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث
وسبعين ، وأبى الحجّاج إلا أن يصلب الجثمان الهامد تشفياً وخِسة ، وقامت
أم البطل وعمرها سبع وتسعون سنة لترى ولدها المصلوب ، وبكل قوة وقفت تجاهه
لا تريم ، واقترب الحجّاج منها قائلا ( يا أماه إن أمير المؤمنين عبد
الملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا ، فهل لك من حاجة ؟) فصاحت به قائلة (
لست لك بأم ، إنما أنا أمُّ هذا المصلوب على الثّنِيّة ، وما بي إليكم
حاجة ، ولكني أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (يخرج من ثقيف كذّاب ومُبير ) فأما الكذّاب فقد رأيناه ، وأما المُبير فلا أراه إلا أنت)
وتقدم عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- من أسماء مُعزِّيا وداعيا إياها الى
الصبر، فأجابته قائلة (وماذا يمنعني من الصبر ، وقد أُهْدِيَ رأس يحيى بن
زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ) يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق ،
أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبد الله بن الزبير عن جسده
قبل أن يصلبوه ؟؟أجل إن يكن رأس ابن الزبير قد قُدم هدية للحجاج ولعبد
الملك ، فإن رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية ل(سالومي ) بَغيّ حقيرة من بني إسرائيل ، ما أروع التشبيه وما أصدق الكلمات