العباس بن عبد المطلب
ساقي الحرمين
" إنما العباس صِنْوُ أبي فمن آذى العباس
فقد آذاني "
حديث شريف
من هو؟
العباس ( أبو الفضل ) عم رسـول الله -صلى اللـه عليه وسلم- ، يفصل بينهما سنتيـن أو
ثلاث تزيد في عمر العباس عن عمر الرسول ، فكانت القرابة والصداقة بينهما ، إلى جانب
خُلق العباس وسجاياه التي أحبها الرسول الكريم ، فقد كان وَصولاً للرحم والأهل ، لا يَضِنُّ
عليهما بجهد ولا مال ، وكان فَطِناً الى حد الدهاء وله مكانا رفيعا في قريش
إسلامه
العباس -رضي الله عنه- لم يعلن إسلامه إلا عام الفتح ، مما جعل بعض
المؤرخين يعدونه ممن تأخر إسلامهم ، بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبيء
أنه كان من المسلمين الأوائل ولكن كتم إسلامه ، فيقول أبو رافع خادم
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب ، وكان
الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أمُّ الفضل ،
وأَسْلَمْتُ ، وكان العباس يكتم إسلامه )
فكان العباس إذا مسلماً قبل غزوة بدر ، وكان مقامه بمكة بعد هجرة الرسول
-صلى الله عليه وسلم-وصحبه خُطَّة أدت غايتها على خير نسق ، وكانت قريش
دوما تشك في نوايا العباس ، ولكنها لم تجد عليه سبيلا وظاهره على مايرضون
من منهج ودين ، كما ذُكِرَ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمر العباس
بالبقاء في مكة ( إن مُقامك مُجاهَدٌ حَسَنٌ )فأقام بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بيعة العقبة
في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحج وفد الأنصار ، ثلاثة
وسبعون رجلا وسيدتان ، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم ، وليتفقوا مع الرسول
-صلى الله عليه وسلم- على الهجرة الى المدينة ، أنهى الرسول -صلى الله
عليه وسلم- نبأ هذا الوفد الى عمه العباس فقد كان يثق بعمه في رأيه كله ،
فلما اجتمعوا كان العباس أول المتحدثين فقال ( يا معشر الخزرج ، إن محمدا
منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو
في عز من قومه ، ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق
بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه
فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج
به إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده )وكان
العباس يلقـي بكلماتـه وعيناه تحدقـان في وجـوه الأنصار وترصـد ردود فعلهم
كما تابع الحديث بذكاء فقال ( صفوا لي الحـرب ، كيف تقاتلون عدوكم
؟) فهو يعلم أن الحرب قادمة لا محالة بين الإسلام والشرك ، فأراد أن
يعلم هل سيصمد الأنصار حين تقوم الحرب ، وأجابه على الفور عبد الله بن
عمرو بن حرام ( نحن والله أهل الحرب ، غُذينا بها ومُرِنّا عليها ،
وورِثناها عن آبائنا كابرا فكابرا ، نرمي بالنبل حتى تفنى ، ثم نطاعن
بالرماح حتى تُكسَر ، ثم نمشي بالسيوف فنُضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو
من عدونا ) وأجاب العباس ( أنتم أصحاب حرب إذن ، فهل فيكم دروع
؟) قالوا ( نعم ، لدينا دروع شاملة ) ثم دار الحديث الرائع مع رسول
الله والأنصار كما نعلم من تفاصيل البيعة
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكُر بالمدينة ليلة العقبة فيقول
أيِّدتُ تلك الليلة ، بعمّي العبّاس ، وكان يأخذ على القومِ ويُعطيهم )
غزوة بدر
وفي غزوة بدر رأت قريش الفرصة سانحة لإختبار العباس وصدق نواياه ، فدفعته
الى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها ، والتقى الجمعان ببدر وحمي القتال ،
ونادى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه قائلا ( إني عرفت أن رجالا من
بني هاشم وغيرهم قد أخْرِجوا كرهاً ، لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم
أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن
أسد فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه إنما أخرج
مستكرها ) فقال أبو حذيفة ( أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا
ونترك العباس ، والله لئن لقيته لألحمنّه السيف )
فبلغ ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال لعمر بن الخطاب ( يا أبا حفص ،
أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟) فقال عمر ( يا رسول الله دعني فلأضرب
عنقه بالسيف فوالله لقد نافق ) فكان أبو حذيفة يقول ( ما أنا بآمن من
تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا إلا ان تكفرّها عني
الشهادة ) فقتل يوم اليمامة شهيدا
الأسر
قال أبو اليسر نظرتُ إلى العباس بن عبد المطلب يوم بدرٍ وهو قائم كأنه صنم
، وعيناه تذرفان ، فلمّا نظرت إليه قلت ( جزاك الله من ذي رحمٍ شرّاً ،
أتقاتل ابن أخيك مع عـدوّه)قال ( ما فعل ؟ وهل أصابه القتـل ؟) قلت
( اللـه أعزُّ له وأنصـر من ذلك ) قال (ما تريد إلي ؟) قلت ( إسار ،
فإنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتلك )قال (ليستْ بأول
صلته ) فأسرتَهُ ثم جئتُ به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كيفَ أسرتَه يا أبا اليسر ؟) قال (
لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته بعدُ ولا قبلُ ، هيئته كذا وهيئته كذا
) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( لقد أعانك عليه مَلَكٌ كريم)
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحب عمه العباس كثيرا ، حتى أنه لم ينم
حين أسِرَ العباس في بدر ، وحين سُئِل عن سبب أرقه أجاب ( سمعت أنين
العباس في وثاقه)فأسرع أحد المسلمين الى الأسرى وحلّ وثاق العباس وعاد
فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلا ( يا رسول الله إني أرخيت من
وثاق العباس شيئا )هنالك قال الرسول لصاحبه ( اذهب فافعل ذلك بالأسرى
جميعا ) فحب الرسول للعباس لن يميزه على غيره
الفداء
وحين تقرر أخذ الفدية ، قال العباس ( يا رسول الله ، إني كنت مسلما ، ولكن
القوم استكرهوني ) فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعباس ( الله أعلم
بإسلامك ، فإن يكُ كما تقول فالله يجزيك بذلك ، فأمّا ظاهر أمرك فقد كنتَ
علينا ، فافد نفسك وابني أخيك ، نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وعقيل بن
أبي طالب بن عبد المطلب ، وحليفك عتبة بن عمرو بن جَحْدم أخو بني الحارث
بن فهر ) قال ( ما ذاك عندي يا رسـول اللـه )قال ( فأين المال الذي
دفنتَ أنتَ وأم الفضل ، فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المالُ لبنيّ
الفضل وعبدالله وقُثْم ) فقال ( والله يا رسول الله أنّي لأعلم إنك رسول
الله ، وإن هذا لشيءٌ ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول
الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي ) فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ( ذاك شيءٌ أعطاناه الله منك )ففدى نفسه وابني أخويه
وحليفه ، ونزل القرآن بذلك
قال تعالى ( يا أيُّها النّبيُّ قُـلْ لِمَن في أيْديكُمْ مِنَ الأسْرَى
إن يَعْلَمِ اللّهُ في قلوبكم خيراً يُؤْتِكُمْ خيراً ممّا أُخِذَ منكم
ويغفرْ لكم واللّهُ غَفورٌ رحيمٌ ) سورة الأنفال آية (7)
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( وَفّيْتَ فوفّى الله لك ) وذلك أنّ
الإيمان كان في قلبه ، وقال العبّاس فأعطاني الله تعالى مكان العشرين
الأوقية في الإسلام عشرين عبداً ، كلهم في يده مالٌ يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله تعالى )
وهكذا فدا العباس نفسه ومن معه وعاد الى مكة ، ولم تخدعه قريش بعد ذلك
أبدا وبعد حين جمع ماله ومتاعه وأدرك الرسول الكريم بخيبر ، وأخذ مكانه
بين المسلميـن وصار موضع حبهم وإجلالهم ، لاسيما وهم يرون حب الرسـول له
وقوله ( إنما العباس صِنْوُ أبي فمن آذى العباس فقـد آذاني ) وأنجب
العباس ذرية مباركة وكان ( حبر الأمة ) عبد الله بن العباس أحد هؤلاء الأبناء
يوم حنين
حين كان المسلمون مجتمعين في أحد الأودية ينتظرون مجيء عدوهم ، كان
المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه ممسكين زمام الأمور
بأيديهم ، وعلى حين غفلة انقضوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة جعلتهم
يهرعون بعيدا ، ورأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما أحدثه الهجوم
المفاجيء فعلا صهوة بغلته البيضاء وصاح ( إلي أيها الناس ، هلمّوا إلي ،
أنا النبي لا كذِب ، أنا ابن عبد المطلب )
ولم يكن حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- يومئذ إلا أبو بكر ،وعمر ،وعلي
بن أبي طالب ،والعباس بن عبد المطلب ،وولده الفضل بن العباس ،وجعفر بن
الحارث ،وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد ،وأيمن بن عبيد ،وقلة أخرى من
الصحابة ،وسيدة أخذت مكانا عاليا بين الأبطال هي أم سليم بنت مِلْحان
وكانت حاملا انتهت الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالت ( اقتل هؤلاء
الذين ينهزمون عنك ، كما تقتل الذين يقاتلونك ، فإنهم لذلك أهل )
هناك كان العباس الى جوار النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحدى الموت والخطر
، أمره الرسول أن يصرخ في الناس فصرخ بصوته الجهوري ( يا معشر الأنصار ،
يا أصحاب البيعة فأجابوه ( لبيك ، لبيك ) وانقلوا عائدين كالإعصار
صوب العباس ، ودارت المعركة من جديد وغلبت خيل الله ، وتدحرج قتلى هَوَازن وثقي فى
فضله
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( إن الله تعالى اتخذني خليلاً كما
اتخذ إبراهيم خليلاً ، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة ، يوم القيامة ،
تجاهَيْن والعبّاس بيننا مؤمن بين خليلين ) وقال -صلى الله عليه وسلم-
( أيّها الناس ، أيُّ أهل الأرض أكرم على الله؟)قالوا ( أنت ) قال
( فإن العبّاس مني وأنا منه ، لا تسبّوا موتانا فتؤذوا أحياءنا )
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعبّاس ( لا ترمِ منزلك وبنوك غداً حتى
آتيكم ، فإن لي فيكم حاجة ) فانتظروه حتى بعد ما أضحى ، فدخل عليهم فقال
(
السلام عليكم )قالوا (وعليكم السلام ورحمـة اللـه وبركاته ) قال (كيف
أصبحتـم ؟) قالوا ( بخير نحمد اللـه ) قال ( تقاربوا يزحف بعضكم
إلى بعض ) حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته فقال ( يا ربّ ، هذا عمّي
وصِنْوُ
أبي وهؤلاء أهل بيتي ، فاسترهم من النار كستري إيّاهم بملاءتي هذه) فأمّنت
أسكفةُ الباب وحوائط البيت فقالت ( آمين آمين آمين!)
عام الرمادة
في عام الرمادة حين أصاب العباد قحط ، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون
معه الى الفضاء الرحب يصلون صلاة الإستسقاء ، ويضرعون الى الله أن يرسل
إليهم الغيث والمطر ، ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه ، ورفعها صوب
السماء وقال (اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك وهو بيننا ، اللهم وإنا اليوم
نستسقي بعمِّ نبيك ، فاسقنا )ولم يغادر المسلمون مكانهم حتى جاءهم
الغيث ، وهطل المطر ، وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه و يقبلونه
ويقولون ( هنيئا لك ساقي الحرمين )
وفاته
وفي يوم الجمعة ( 14 / رجب / 32 للهجرة ) سمع أهل العوالي بالمدينة مناديا
ينادي (رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب ) فأدركوا أن العباس قد
مات ، وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها ، وصلى
عليه خليفة المسلمين عثمان بن عفان ، ووري الثرى في البقيع
ساقي الحرمين
" إنما العباس صِنْوُ أبي فمن آذى العباس
فقد آذاني "
حديث شريف
من هو؟
العباس ( أبو الفضل ) عم رسـول الله -صلى اللـه عليه وسلم- ، يفصل بينهما سنتيـن أو
ثلاث تزيد في عمر العباس عن عمر الرسول ، فكانت القرابة والصداقة بينهما ، إلى جانب
خُلق العباس وسجاياه التي أحبها الرسول الكريم ، فقد كان وَصولاً للرحم والأهل ، لا يَضِنُّ
عليهما بجهد ولا مال ، وكان فَطِناً الى حد الدهاء وله مكانا رفيعا في قريش
إسلامه
العباس -رضي الله عنه- لم يعلن إسلامه إلا عام الفتح ، مما جعل بعض
المؤرخين يعدونه ممن تأخر إسلامهم ، بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبيء
أنه كان من المسلمين الأوائل ولكن كتم إسلامه ، فيقول أبو رافع خادم
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب ، وكان
الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أمُّ الفضل ،
وأَسْلَمْتُ ، وكان العباس يكتم إسلامه )
فكان العباس إذا مسلماً قبل غزوة بدر ، وكان مقامه بمكة بعد هجرة الرسول
-صلى الله عليه وسلم-وصحبه خُطَّة أدت غايتها على خير نسق ، وكانت قريش
دوما تشك في نوايا العباس ، ولكنها لم تجد عليه سبيلا وظاهره على مايرضون
من منهج ودين ، كما ذُكِرَ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمر العباس
بالبقاء في مكة ( إن مُقامك مُجاهَدٌ حَسَنٌ )فأقام بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بيعة العقبة
في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحج وفد الأنصار ، ثلاثة
وسبعون رجلا وسيدتان ، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم ، وليتفقوا مع الرسول
-صلى الله عليه وسلم- على الهجرة الى المدينة ، أنهى الرسول -صلى الله
عليه وسلم- نبأ هذا الوفد الى عمه العباس فقد كان يثق بعمه في رأيه كله ،
فلما اجتمعوا كان العباس أول المتحدثين فقال ( يا معشر الخزرج ، إن محمدا
منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو
في عز من قومه ، ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق
بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه
فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج
به إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده )وكان
العباس يلقـي بكلماتـه وعيناه تحدقـان في وجـوه الأنصار وترصـد ردود فعلهم
كما تابع الحديث بذكاء فقال ( صفوا لي الحـرب ، كيف تقاتلون عدوكم
؟) فهو يعلم أن الحرب قادمة لا محالة بين الإسلام والشرك ، فأراد أن
يعلم هل سيصمد الأنصار حين تقوم الحرب ، وأجابه على الفور عبد الله بن
عمرو بن حرام ( نحن والله أهل الحرب ، غُذينا بها ومُرِنّا عليها ،
وورِثناها عن آبائنا كابرا فكابرا ، نرمي بالنبل حتى تفنى ، ثم نطاعن
بالرماح حتى تُكسَر ، ثم نمشي بالسيوف فنُضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو
من عدونا ) وأجاب العباس ( أنتم أصحاب حرب إذن ، فهل فيكم دروع
؟) قالوا ( نعم ، لدينا دروع شاملة ) ثم دار الحديث الرائع مع رسول
الله والأنصار كما نعلم من تفاصيل البيعة
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكُر بالمدينة ليلة العقبة فيقول
أيِّدتُ تلك الليلة ، بعمّي العبّاس ، وكان يأخذ على القومِ ويُعطيهم )
غزوة بدر
وفي غزوة بدر رأت قريش الفرصة سانحة لإختبار العباس وصدق نواياه ، فدفعته
الى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها ، والتقى الجمعان ببدر وحمي القتال ،
ونادى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه قائلا ( إني عرفت أن رجالا من
بني هاشم وغيرهم قد أخْرِجوا كرهاً ، لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم
أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن
أسد فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه إنما أخرج
مستكرها ) فقال أبو حذيفة ( أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا
ونترك العباس ، والله لئن لقيته لألحمنّه السيف )
فبلغ ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال لعمر بن الخطاب ( يا أبا حفص ،
أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟) فقال عمر ( يا رسول الله دعني فلأضرب
عنقه بالسيف فوالله لقد نافق ) فكان أبو حذيفة يقول ( ما أنا بآمن من
تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا إلا ان تكفرّها عني
الشهادة ) فقتل يوم اليمامة شهيدا
الأسر
قال أبو اليسر نظرتُ إلى العباس بن عبد المطلب يوم بدرٍ وهو قائم كأنه صنم
، وعيناه تذرفان ، فلمّا نظرت إليه قلت ( جزاك الله من ذي رحمٍ شرّاً ،
أتقاتل ابن أخيك مع عـدوّه)قال ( ما فعل ؟ وهل أصابه القتـل ؟) قلت
( اللـه أعزُّ له وأنصـر من ذلك ) قال (ما تريد إلي ؟) قلت ( إسار ،
فإنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن قتلك )قال (ليستْ بأول
صلته ) فأسرتَهُ ثم جئتُ به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كيفَ أسرتَه يا أبا اليسر ؟) قال (
لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته بعدُ ولا قبلُ ، هيئته كذا وهيئته كذا
) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( لقد أعانك عليه مَلَكٌ كريم)
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحب عمه العباس كثيرا ، حتى أنه لم ينم
حين أسِرَ العباس في بدر ، وحين سُئِل عن سبب أرقه أجاب ( سمعت أنين
العباس في وثاقه)فأسرع أحد المسلمين الى الأسرى وحلّ وثاق العباس وعاد
فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلا ( يا رسول الله إني أرخيت من
وثاق العباس شيئا )هنالك قال الرسول لصاحبه ( اذهب فافعل ذلك بالأسرى
جميعا ) فحب الرسول للعباس لن يميزه على غيره
الفداء
وحين تقرر أخذ الفدية ، قال العباس ( يا رسول الله ، إني كنت مسلما ، ولكن
القوم استكرهوني ) فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعباس ( الله أعلم
بإسلامك ، فإن يكُ كما تقول فالله يجزيك بذلك ، فأمّا ظاهر أمرك فقد كنتَ
علينا ، فافد نفسك وابني أخيك ، نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وعقيل بن
أبي طالب بن عبد المطلب ، وحليفك عتبة بن عمرو بن جَحْدم أخو بني الحارث
بن فهر ) قال ( ما ذاك عندي يا رسـول اللـه )قال ( فأين المال الذي
دفنتَ أنتَ وأم الفضل ، فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المالُ لبنيّ
الفضل وعبدالله وقُثْم ) فقال ( والله يا رسول الله أنّي لأعلم إنك رسول
الله ، وإن هذا لشيءٌ ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول
الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي ) فقال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ( ذاك شيءٌ أعطاناه الله منك )ففدى نفسه وابني أخويه
وحليفه ، ونزل القرآن بذلك
قال تعالى ( يا أيُّها النّبيُّ قُـلْ لِمَن في أيْديكُمْ مِنَ الأسْرَى
إن يَعْلَمِ اللّهُ في قلوبكم خيراً يُؤْتِكُمْ خيراً ممّا أُخِذَ منكم
ويغفرْ لكم واللّهُ غَفورٌ رحيمٌ ) سورة الأنفال آية (7)
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( وَفّيْتَ فوفّى الله لك ) وذلك أنّ
الإيمان كان في قلبه ، وقال العبّاس فأعطاني الله تعالى مكان العشرين
الأوقية في الإسلام عشرين عبداً ، كلهم في يده مالٌ يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله تعالى )
وهكذا فدا العباس نفسه ومن معه وعاد الى مكة ، ولم تخدعه قريش بعد ذلك
أبدا وبعد حين جمع ماله ومتاعه وأدرك الرسول الكريم بخيبر ، وأخذ مكانه
بين المسلميـن وصار موضع حبهم وإجلالهم ، لاسيما وهم يرون حب الرسـول له
وقوله ( إنما العباس صِنْوُ أبي فمن آذى العباس فقـد آذاني ) وأنجب
العباس ذرية مباركة وكان ( حبر الأمة ) عبد الله بن العباس أحد هؤلاء الأبناء
يوم حنين
حين كان المسلمون مجتمعين في أحد الأودية ينتظرون مجيء عدوهم ، كان
المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه ممسكين زمام الأمور
بأيديهم ، وعلى حين غفلة انقضوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة جعلتهم
يهرعون بعيدا ، ورأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما أحدثه الهجوم
المفاجيء فعلا صهوة بغلته البيضاء وصاح ( إلي أيها الناس ، هلمّوا إلي ،
أنا النبي لا كذِب ، أنا ابن عبد المطلب )
ولم يكن حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- يومئذ إلا أبو بكر ،وعمر ،وعلي
بن أبي طالب ،والعباس بن عبد المطلب ،وولده الفضل بن العباس ،وجعفر بن
الحارث ،وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد ،وأيمن بن عبيد ،وقلة أخرى من
الصحابة ،وسيدة أخذت مكانا عاليا بين الأبطال هي أم سليم بنت مِلْحان
وكانت حاملا انتهت الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالت ( اقتل هؤلاء
الذين ينهزمون عنك ، كما تقتل الذين يقاتلونك ، فإنهم لذلك أهل )
هناك كان العباس الى جوار النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحدى الموت والخطر
، أمره الرسول أن يصرخ في الناس فصرخ بصوته الجهوري ( يا معشر الأنصار ،
يا أصحاب البيعة فأجابوه ( لبيك ، لبيك ) وانقلوا عائدين كالإعصار
صوب العباس ، ودارت المعركة من جديد وغلبت خيل الله ، وتدحرج قتلى هَوَازن وثقي فى
فضله
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( إن الله تعالى اتخذني خليلاً كما
اتخذ إبراهيم خليلاً ، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة ، يوم القيامة ،
تجاهَيْن والعبّاس بيننا مؤمن بين خليلين ) وقال -صلى الله عليه وسلم-
( أيّها الناس ، أيُّ أهل الأرض أكرم على الله؟)قالوا ( أنت ) قال
( فإن العبّاس مني وأنا منه ، لا تسبّوا موتانا فتؤذوا أحياءنا )
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعبّاس ( لا ترمِ منزلك وبنوك غداً حتى
آتيكم ، فإن لي فيكم حاجة ) فانتظروه حتى بعد ما أضحى ، فدخل عليهم فقال
(
السلام عليكم )قالوا (وعليكم السلام ورحمـة اللـه وبركاته ) قال (كيف
أصبحتـم ؟) قالوا ( بخير نحمد اللـه ) قال ( تقاربوا يزحف بعضكم
إلى بعض ) حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته فقال ( يا ربّ ، هذا عمّي
وصِنْوُ
أبي وهؤلاء أهل بيتي ، فاسترهم من النار كستري إيّاهم بملاءتي هذه) فأمّنت
أسكفةُ الباب وحوائط البيت فقالت ( آمين آمين آمين!)
عام الرمادة
في عام الرمادة حين أصاب العباد قحط ، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون
معه الى الفضاء الرحب يصلون صلاة الإستسقاء ، ويضرعون الى الله أن يرسل
إليهم الغيث والمطر ، ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه ، ورفعها صوب
السماء وقال (اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك وهو بيننا ، اللهم وإنا اليوم
نستسقي بعمِّ نبيك ، فاسقنا )ولم يغادر المسلمون مكانهم حتى جاءهم
الغيث ، وهطل المطر ، وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه و يقبلونه
ويقولون ( هنيئا لك ساقي الحرمين )
وفاته
وفي يوم الجمعة ( 14 / رجب / 32 للهجرة ) سمع أهل العوالي بالمدينة مناديا
ينادي (رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب ) فأدركوا أن العباس قد
مات ، وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها ، وصلى
عليه خليفة المسلمين عثمان بن عفان ، ووري الثرى في البقيع