الـقـرآن الكريم لم ينزل لمجرد التلاوة اللفظية فحسب؛ بل نزل من أجل هذا ومن أجل ما هو أعم وأكمل؛ وهـو فهـم معانيـه وتدبر آياتـه ثم التذكـر والعمل بما فيـه، وهو المنصوص عليه في قوله - تعالى -(ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)) [{البقرة: 129]}.
إن تـلاوة كـتـاب الله - تعالى - تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت، إنها تعني تلاوته بفهم وتدبّر ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك.
إن تلاوة كتاب الله لا تـعـنـي الـحــرص عـلــى إقامة المدّ والغنّة ومراعاة الترقيق والتفخيم فحسب؛ وإنما تعني ذلك مع ترقيق القلوب وإقامة الحدود.
وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية المبالغة والـحـــرص في تحقيق ذلك وسـوسة حــائلة للقلب عــن فهـم مراد الله - تعالى -(1).
والأمــــر الجامع لذلك: كما أننا مُتعبدُون بقراءة ألفاظ القرآن صحيحة وإقامة حروفه على النحو الذي يرضيه - جلّ وعلا - متعبدون بفهم القرآن والتفقه فيه دون سواه، والاستغناء به عن غـيـره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كـتــاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(2).
قال - تعالى -(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته)) [{البقرة: 121]} وقد فسر قتادة أن الصحابة هم الذين كانوا يتلونه حق تلاوته(3) .
والتلاوة لها معنيان:
أحدهـمــا: الـقــراءة المرتلة المتتابعة، وقد أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى( وأمرت أن أكون مـن المسلمين . وأن أتلو القرآن)) [النمل: 91، 92]. وكان يتلـوه علــى كفار قريـش قال - تعالى -(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم)) [يونس: 16].
والثاني: الاتباع؛ لأن من اتبع غيره يقال تلاه؛ ومنه قوله - تعالى -: ((والقمر إذا تلاها)) [الشمس: 2]، روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "يتبعونه حق اتباعه"، ثم قـــرأ: ((والقمر إذا تلاها)) أي: اتبعها(4).
ونقل القرطبي عن عكرمة قوله: "يتبعونه حق اتباعه باتباع الأمر والنهي فيُحلون حلاله، ويحرمون حرامه ويعملون بما تضمنه"(5)، أقول: والجمع بين المعنيين هو المتعين، ويصح فيها جميعاً؛ فالتلاوة بإقامة الألفاظ وضبط الحروف، ثم العمل بما تضمنته الآيات المتلوة، وعبّر عن الفهم والتدبر بالـتلاوة حــق التلاوة ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة، وليس مجرد التلاوة وتحريك اللسان بالألفاظ بدون فهم وفقه واهتداء.
وقد بين عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عــنـه ـ مـعـنـى حق التلاوة فقال: "والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلالَه، ويحرم حرامه، ويقــرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئاً على غير تأويله"(6)، وهذا البيان من عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ واسع وجامع لمعنى التلاوة، وهي قــراءتــه كـمــا أنزل، وفهمه وتفسيره والعمل به.
ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يتجاوزون خمس آيات أو عشراً حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل.
قال أبو عبد الرحمن السلمي - أحد أكابر التابعين -: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كـعـثـمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً"(7).
وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: "كان الرجلُ منَّا إذا تعلمَ عـشـــر آيات لم يجاوزهن حتى يعرفَ معانيهن والعمل بهن"(، وهذا يدلُّ على أن الصحابة - رضي الله عنهم - نقـلــوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة(9)؛ فبين لأصحابه معاني القرآن كما بــيـن لهم ألفاظه( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)) [النحل:44]} فـنـقــل معاني القرآن عنه صلى الله عليه وسلم كنقل ألفاظه سواء، بدليل قوله - تعالى -( وما على الـرســـول إلا الـبـــلاغ المبين)) [النور: 54]، "وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان"(10).
قال ابن تيمية وابن القيم: "والصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعناه"(11).
وهكذا تلقى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا القرآن لفظاً ومعنى، وكان التعلم والتعليم عندهم مبناهما على التفقه في القرآن دون سواه.
ذكر الحافظ ابن كثير عن الضحاك فقال: "قال الضحاك في قوله - تـعـالــى -( كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)) [آل عمران:79] قال: "حـقٌّ عـلـى كـل مـن تـعـلـم الـقــرآن أن يـكـون فقيهاً" ومعنى تَعْلَمون: تفهمون معناه، وقرئ: تعلمون بالتشديد من التعليم وبما كنتم تدرسون تحفظون ألفاظه، والجمع بين القراءتين متعيَّن، فكانوا يَعْلَمونه ويُعلِّمونه ولا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم(12).
قـال الـرازي: "ودلّـــت الآية على أن العلمَ والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً؛ فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيُه وخاب عملُه"(13).
ونقل هذا المعنى رشيد رضا وقال: "فبعلم الكتاب ودراسته وتعليمه للناس ونشره والعمل به يكون الإنسان ربانياً مَـرضِـيّـاً عند الله"(14). هكذا كان دأبُ الصحابة - رضي الله عنهم كما ذكره ابن القيم فقال: "ولـم يـكـن للصحابة كتابٌ يدرسونه وكلامٌ محفوظ يتفقهون فيه إلاَّ القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله علـيه وسلم ، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك"(15).
فكان القرآن عندهم هو العلمُ الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً.
وقد فسر حَبْرُ الأمة ابن عباس الحكمة بفهم القرآن وفقه ما فيه من علوم. أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله - تعالى -: ((يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فـقــد أوتي خيرا كثيرا)) [البقرة: 269] قال:"الـمـعـرفــة بالـقــرآن: ناسـخـــه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله"(16).
وفـســرهـــــا الحافظ ابن كثير بالسنة وعزا ذلك إلى غير واحد من السلف وهو ما أُخِذَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم : "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"(17).
ونـزع ابــن عـبــاس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من العلوم، وهو من أوسع التفسيرات، وهــــو لا يـنـافي من فسّر الحكمة بالسنة؛ لأن بها يحصل بيانُ القرآن وفهمُه وفقهُه؛ فهي المفسّرة والمـبـيّـنـة للقرآن، وتعني - من بين ما تعنيه - الفقه والفهم، يدلّ على ذلك قوله - تعالى -: ((وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)) [ص: 20].
قال مجاهد: "يعني الفهم والعقل والفطنة"(1 ومن أعطاه الله ويسّر له فقه القرآن وعلومَه والعمل به فقد حاز فضلاً عظيماً وخيراً جزيلاً.
قال القرطبي: "إن مـن أُعْـطِـــيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل مما أُعطي مَنْ جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها"(19).
فكتاب الله حكمة، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم حكمة، وأصل الحكمة ما يُمتنَع به من الـسـفـه، ومن ثَمَّ اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: ((ويعلمهـم الـكـتاب والحكمة)) [البقرة: 129] وقد حث الله - عز وجل - على التدبر والاعتبار بـما في آي القرآن من المواعظ فقال(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)) [ص:29]، وقال: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) [محمد: 24]، وقـال: ((ولقـد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)) [الزمر: 27] ففي مـثـل الآيات ونحوها دليل على وجوب معرفة معاني القرآن والاتعاظ بمواعظه وفقه ما فيه من الهداية والرشاد، ولا يقال لمن لا يفهم تفسيره: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا يقال ذلك إلا لـمن كان بمعاني القرآن بصيراً وبكلام العرب عارفاً(20).
وأقـــول: وتدبر القرآن مرحلة تالية لمرحلة الفهم، ولا يمكن أن يتأتى التدبر لمن لم يفهم معاني القرآن.
قال الـقـرطـبـي: "وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهـذّ؛ إذ لا يصحّ التدبر مع الهذّ" وقد شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هـجــر قـومـــه للـقـــرآن فقال(وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)) [الفرقان: 30].
وهجر التفسير والفهم والتدبر نوع من أنواع هجره. قال ابن القيم وابن كثير: "ترك الإيمان به وتـرك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامــــره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه"(21).
قال ابن تيمية: "وأما في باب فهم القرآن فهو {أي: قارئ القرآن} دائم التفكر والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية قَبِلَهُ وإلا ردّه"(22).
ويشهد لـمــــا تقدم ما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري حيث قال: "والله ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلَّه ما يُرى له في خُلُقٍ ولا عملٍ"(23).
فكلام ابن كـثـير يدل على أن انصراف الطلاب إلى طلب العلم في غير القرآن نوع من أنواع هجره، وكلام شــيخ الإسلام يدل على أن الواجب على الطلاب أن يستغنوا بمعاني القرآن وأحكامه عن غيره مــن كـــــلام البشر، ويدل لهذا ما ذكر ابن أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخـــذوا عــنــه العلم: لو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاءاً لما تريدون، فقالوا: تعلمنا القرآن، فقال: إن في تعلُّمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم، قالوا: كيف يا أبا علي؟ قال: "لن تعلـمـوا القرآن حتى تعرفوا إعرابه - تفسيره وبيانه - ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، فــإذا عـرفـتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة"(24).
فهذا فضيل بن عياض اعتبر التفقه في غير القرآن شغلاً لا طائل من ورائه، ثم هو يصحّح لهؤلاء الطلاب التوجهات الصحيحة لطلب العلم في زمنه ويردهم إلى طلب التفقه في القرآن نفسه.
وهـكـذا كان بعض السلف يقدمون القرآن وعلومه وتفسيره على أي علم آخر؛ فقد وجد من يمنع طـلـــب علم الحديث وكتابته قبل حفظ القرآن، وكانوا يختبرونهم في بعض معانيه؛ فهذا عبد الله بن المبارك يختبر من جاء يطلب الحديث عنده في القرآن وبعض علومه(25).
وذكر ابن عـبــد البر عن علي قوله: "أعزم على كل من كان عنده كتاب إلاّ رجع فمحاه؛ فإنما هلك الـنـاس حيث يتبعون أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"، وذكر عن عمر: "أن قوماً كانوا يكتبون كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب ربهم"(26)، نقل ابن القيم عن الإمام الـبـخـاري قـولـه: "كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنةَ نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قـيـــاس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفـقـهـون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية، بـل كـان الـقــرآن عـنـدهـم هــو الـعـلـم الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً"(27).
ما أشبه الليلة بالبارحة! والقصة نفسها تتكرر في بعض طلبة هذا الزمن؛ إذ يهجرون حفظ الـقــــرآن وفهمه وتفسيره والتفقه فيه إلى كتب فلان وفلان، وإنك لتعجب من بعضهم؛ إذ انحـرف في الطلب، فتجده لا يحفظ من القرآن إلا قصار السور ونحوها ولا يفهمها، وتجد له جـرأة عجيبة على اقتحام علم الجرح والتعديل ونحوه؛ فمثل هذا وأمثاله لم يستوعب التصور الصحيح لمنهج التربية والتعليم الذي رسمه القرآن وبيَّنه.
فليزن طلاب علم هذا الزمن تعليمهم بهذا المنهج الذي رسمه القرآن وفعله السلف،ولينظروا أين مكانهم من فهم القرآن والتفقه فيه، وما حظهم من هدايته
إن تـلاوة كـتـاب الله - تعالى - تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت، إنها تعني تلاوته بفهم وتدبّر ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك.
إن تلاوة كتاب الله لا تـعـنـي الـحــرص عـلــى إقامة المدّ والغنّة ومراعاة الترقيق والتفخيم فحسب؛ وإنما تعني ذلك مع ترقيق القلوب وإقامة الحدود.
وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية المبالغة والـحـــرص في تحقيق ذلك وسـوسة حــائلة للقلب عــن فهـم مراد الله - تعالى -(1).
والأمــــر الجامع لذلك: كما أننا مُتعبدُون بقراءة ألفاظ القرآن صحيحة وإقامة حروفه على النحو الذي يرضيه - جلّ وعلا - متعبدون بفهم القرآن والتفقه فيه دون سواه، والاستغناء به عن غـيـره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كـتــاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(2).
قال - تعالى -(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته)) [{البقرة: 121]} وقد فسر قتادة أن الصحابة هم الذين كانوا يتلونه حق تلاوته(3) .
والتلاوة لها معنيان:
أحدهـمــا: الـقــراءة المرتلة المتتابعة، وقد أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى( وأمرت أن أكون مـن المسلمين . وأن أتلو القرآن)) [النمل: 91، 92]. وكان يتلـوه علــى كفار قريـش قال - تعالى -(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم)) [يونس: 16].
والثاني: الاتباع؛ لأن من اتبع غيره يقال تلاه؛ ومنه قوله - تعالى -: ((والقمر إذا تلاها)) [الشمس: 2]، روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "يتبعونه حق اتباعه"، ثم قـــرأ: ((والقمر إذا تلاها)) أي: اتبعها(4).
ونقل القرطبي عن عكرمة قوله: "يتبعونه حق اتباعه باتباع الأمر والنهي فيُحلون حلاله، ويحرمون حرامه ويعملون بما تضمنه"(5)، أقول: والجمع بين المعنيين هو المتعين، ويصح فيها جميعاً؛ فالتلاوة بإقامة الألفاظ وضبط الحروف، ثم العمل بما تضمنته الآيات المتلوة، وعبّر عن الفهم والتدبر بالـتلاوة حــق التلاوة ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة، وليس مجرد التلاوة وتحريك اللسان بالألفاظ بدون فهم وفقه واهتداء.
وقد بين عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عــنـه ـ مـعـنـى حق التلاوة فقال: "والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلالَه، ويحرم حرامه، ويقــرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئاً على غير تأويله"(6)، وهذا البيان من عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ واسع وجامع لمعنى التلاوة، وهي قــراءتــه كـمــا أنزل، وفهمه وتفسيره والعمل به.
ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يتجاوزون خمس آيات أو عشراً حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل.
قال أبو عبد الرحمن السلمي - أحد أكابر التابعين -: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كـعـثـمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً"(7).
وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: "كان الرجلُ منَّا إذا تعلمَ عـشـــر آيات لم يجاوزهن حتى يعرفَ معانيهن والعمل بهن"(، وهذا يدلُّ على أن الصحابة - رضي الله عنهم - نقـلــوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة(9)؛ فبين لأصحابه معاني القرآن كما بــيـن لهم ألفاظه( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)) [النحل:44]} فـنـقــل معاني القرآن عنه صلى الله عليه وسلم كنقل ألفاظه سواء، بدليل قوله - تعالى -( وما على الـرســـول إلا الـبـــلاغ المبين)) [النور: 54]، "وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان"(10).
قال ابن تيمية وابن القيم: "والصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعناه"(11).
وهكذا تلقى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا القرآن لفظاً ومعنى، وكان التعلم والتعليم عندهم مبناهما على التفقه في القرآن دون سواه.
ذكر الحافظ ابن كثير عن الضحاك فقال: "قال الضحاك في قوله - تـعـالــى -( كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)) [آل عمران:79] قال: "حـقٌّ عـلـى كـل مـن تـعـلـم الـقــرآن أن يـكـون فقيهاً" ومعنى تَعْلَمون: تفهمون معناه، وقرئ: تعلمون بالتشديد من التعليم وبما كنتم تدرسون تحفظون ألفاظه، والجمع بين القراءتين متعيَّن، فكانوا يَعْلَمونه ويُعلِّمونه ولا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم(12).
قـال الـرازي: "ودلّـــت الآية على أن العلمَ والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً؛ فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيُه وخاب عملُه"(13).
ونقل هذا المعنى رشيد رضا وقال: "فبعلم الكتاب ودراسته وتعليمه للناس ونشره والعمل به يكون الإنسان ربانياً مَـرضِـيّـاً عند الله"(14). هكذا كان دأبُ الصحابة - رضي الله عنهم كما ذكره ابن القيم فقال: "ولـم يـكـن للصحابة كتابٌ يدرسونه وكلامٌ محفوظ يتفقهون فيه إلاَّ القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله علـيه وسلم ، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك"(15).
فكان القرآن عندهم هو العلمُ الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً.
وقد فسر حَبْرُ الأمة ابن عباس الحكمة بفهم القرآن وفقه ما فيه من علوم. أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله - تعالى -: ((يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فـقــد أوتي خيرا كثيرا)) [البقرة: 269] قال:"الـمـعـرفــة بالـقــرآن: ناسـخـــه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله"(16).
وفـســرهـــــا الحافظ ابن كثير بالسنة وعزا ذلك إلى غير واحد من السلف وهو ما أُخِذَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم : "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"(17).
ونـزع ابــن عـبــاس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من العلوم، وهو من أوسع التفسيرات، وهــــو لا يـنـافي من فسّر الحكمة بالسنة؛ لأن بها يحصل بيانُ القرآن وفهمُه وفقهُه؛ فهي المفسّرة والمـبـيّـنـة للقرآن، وتعني - من بين ما تعنيه - الفقه والفهم، يدلّ على ذلك قوله - تعالى -: ((وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب)) [ص: 20].
قال مجاهد: "يعني الفهم والعقل والفطنة"(1 ومن أعطاه الله ويسّر له فقه القرآن وعلومَه والعمل به فقد حاز فضلاً عظيماً وخيراً جزيلاً.
قال القرطبي: "إن مـن أُعْـطِـــيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل مما أُعطي مَنْ جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها"(19).
فكتاب الله حكمة، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم حكمة، وأصل الحكمة ما يُمتنَع به من الـسـفـه، ومن ثَمَّ اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: ((ويعلمهـم الـكـتاب والحكمة)) [البقرة: 129] وقد حث الله - عز وجل - على التدبر والاعتبار بـما في آي القرآن من المواعظ فقال(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)) [ص:29]، وقال: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) [محمد: 24]، وقـال: ((ولقـد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)) [الزمر: 27] ففي مـثـل الآيات ونحوها دليل على وجوب معرفة معاني القرآن والاتعاظ بمواعظه وفقه ما فيه من الهداية والرشاد، ولا يقال لمن لا يفهم تفسيره: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا يقال ذلك إلا لـمن كان بمعاني القرآن بصيراً وبكلام العرب عارفاً(20).
وأقـــول: وتدبر القرآن مرحلة تالية لمرحلة الفهم، ولا يمكن أن يتأتى التدبر لمن لم يفهم معاني القرآن.
قال الـقـرطـبـي: "وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهـذّ؛ إذ لا يصحّ التدبر مع الهذّ" وقد شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هـجــر قـومـــه للـقـــرآن فقال(وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)) [الفرقان: 30].
وهجر التفسير والفهم والتدبر نوع من أنواع هجره. قال ابن القيم وابن كثير: "ترك الإيمان به وتـرك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامــــره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه"(21).
قال ابن تيمية: "وأما في باب فهم القرآن فهو {أي: قارئ القرآن} دائم التفكر والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية قَبِلَهُ وإلا ردّه"(22).
ويشهد لـمــــا تقدم ما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري حيث قال: "والله ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلَّه ما يُرى له في خُلُقٍ ولا عملٍ"(23).
فكلام ابن كـثـير يدل على أن انصراف الطلاب إلى طلب العلم في غير القرآن نوع من أنواع هجره، وكلام شــيخ الإسلام يدل على أن الواجب على الطلاب أن يستغنوا بمعاني القرآن وأحكامه عن غيره مــن كـــــلام البشر، ويدل لهذا ما ذكر ابن أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخـــذوا عــنــه العلم: لو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاءاً لما تريدون، فقالوا: تعلمنا القرآن، فقال: إن في تعلُّمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم، قالوا: كيف يا أبا علي؟ قال: "لن تعلـمـوا القرآن حتى تعرفوا إعرابه - تفسيره وبيانه - ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه، فــإذا عـرفـتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة"(24).
فهذا فضيل بن عياض اعتبر التفقه في غير القرآن شغلاً لا طائل من ورائه، ثم هو يصحّح لهؤلاء الطلاب التوجهات الصحيحة لطلب العلم في زمنه ويردهم إلى طلب التفقه في القرآن نفسه.
وهـكـذا كان بعض السلف يقدمون القرآن وعلومه وتفسيره على أي علم آخر؛ فقد وجد من يمنع طـلـــب علم الحديث وكتابته قبل حفظ القرآن، وكانوا يختبرونهم في بعض معانيه؛ فهذا عبد الله بن المبارك يختبر من جاء يطلب الحديث عنده في القرآن وبعض علومه(25).
وذكر ابن عـبــد البر عن علي قوله: "أعزم على كل من كان عنده كتاب إلاّ رجع فمحاه؛ فإنما هلك الـنـاس حيث يتبعون أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"، وذكر عن عمر: "أن قوماً كانوا يكتبون كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب ربهم"(26)، نقل ابن القيم عن الإمام الـبـخـاري قـولـه: "كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنةَ نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قـيـــاس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفـقـهـون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية، بـل كـان الـقــرآن عـنـدهـم هــو الـعـلـم الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً"(27).
ما أشبه الليلة بالبارحة! والقصة نفسها تتكرر في بعض طلبة هذا الزمن؛ إذ يهجرون حفظ الـقــــرآن وفهمه وتفسيره والتفقه فيه إلى كتب فلان وفلان، وإنك لتعجب من بعضهم؛ إذ انحـرف في الطلب، فتجده لا يحفظ من القرآن إلا قصار السور ونحوها ولا يفهمها، وتجد له جـرأة عجيبة على اقتحام علم الجرح والتعديل ونحوه؛ فمثل هذا وأمثاله لم يستوعب التصور الصحيح لمنهج التربية والتعليم الذي رسمه القرآن وبيَّنه.
فليزن طلاب علم هذا الزمن تعليمهم بهذا المنهج الذي رسمه القرآن وفعله السلف،ولينظروا أين مكانهم من فهم القرآن والتفقه فيه، وما حظهم من هدايته