النسخ في القران
النسخ : هو رفع الشارع حكمًا من أحكامه بخطاب متأخرٍ عنه,
وبذلك يتبين الفرق بين النسخ والتخصيص, فالنسخ يكون فيه النصان الناسخ والمنسوخ غير مقترنين زمانًا, بل يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ. كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كما في سورة البقرة , ونسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين كما في سورة الأنفال , ونسخ الصدقة في آية النجوى بالآية التي تليها في سورة المجادلة.
والنسخ واقع في الشريعة الإسلامية لحِكَمٍ، منها التدرج و التيسير.
وقد أَجمع المسلمون على جوازه، وأَنكره اليهود ظناً منهم أَنه بَداء، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له، وهو باطل، لأَنه بيان مدَّة الحكم كالإِحياء بعد الإِماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بداء، فكذا الأَمر والنهي.
ولا يقع النسخ إلاَّ في الأَمر والنَّهي، ولو بلفظ الخبر. أَما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد. وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أَدخل في كتب النسخ كثيراً من آيات الإِخبار والوعد والوعيد.
والأدلة على وقوع النسخ في القرآن:
قول الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{البقرة:106}
وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }{النحل:101}
وقوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7}
واختلف العلماء:
فقيل: لا يُنسخ القرآن إلاَّ بقرآن، لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرًا منه إلاَّ قرآن.
وقيل: بل ينُسخ القرآن بالسنَّة، لأَنها أَيضًا من عند الله، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ* إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 3-4].
والثالث: إذا كانت السنَّة بأَمر الله من طريق الوحْي نسخت، وإن كانت باجتهاد فلا. حكاه ابن حبيب النيسابوريّ في تفسيره.
وقال الشافعيّ: حيث وقع نسخ القرآن بالسنَّة، فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنَّة بالقرآن معه سنَّة عاضدة له؛ ليتبيَّن توافق القرآن والسنَّة.
وكثير من المحققين ذهب إلى أن السنة غير المتواترة لا تنسخ القرآن, وما نقلوه من الأمثلة من السنة الناسخة للقرآن يمكن بالتتبع إثبات أن مع هذه السنة قرأنًا عاضدًا لها, كآية الوصية مثلاً نسخت بآيات المواريث مع حديث:" إنّ الله أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارث" [صحيح:رواه الترمذي وغيره] وكذا آية: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }{النساء:15} ليست منسوخة بحديث:"خُذوا عَنِي, خُذوا عني, قد جَعَلَ اللهُ لهُنَّ سَبيلاً. الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ ,وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " رواه مسلم , ولكن الآية جعلت للإمساك غايةً مبهمة فجاءت السنة وبيَّنت تلك الغاية.وقيل:أن الآية منسوخة بآية سورة النور.
* والنسخ في القرآن على ثلاثة أَضرب :أَحدها: ما نسخ تلاوته وحكمه معاً.وهو قليل, ويستدل له بقول الله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7} .
الضرب الثاني: ما نسخ تلاوته وبقي حكمه، ومثّلوا له بقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ" رواه مالك ومسلم .
وقد تكلموا في قولها: (وهنَّ مما يقرأُ من القرآن): فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك.
وأُجيب بأَن المراد: قارب الوفاة، أَو أَنَّ التلاوة نُسِخت أَيضًا، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلاَّ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتُوُفِّي وبعض الناس يقرؤُها.
وقال أَبو موسى الأَشعريُّ: نزلت ثم رفعت.ومثلوا له أيضًا بآية الرجم: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ وَقَدْ قَرَأْتُهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ"[صحيح:رواه ابن ماجة وغيره]
وقد أَورد بعضهم فيه سؤالاً وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلاَّ أبقيَت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟
وأَجاب صاحب الفنون: بأَنَّ ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأُمَّة في المسارعة إِلى بذل النفوس بطريق الظنِّ، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأَيسر شيء، كما سارع الخليل إبراهيم إلى ذبح ولدِه بمنام، والمنام أَدنى طريق الوحي.
وقد أنكر بعض المبتدعة هذين الضربين من النسخ, ويُرَد عليه بمفهوم قول الله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7} وأما ادعاؤهم بأن القول بهذا النسخ نوع من القول بوقوع التحريف في القرآن,وهذه مغالطة واضحة إذ التحريف يكون من فعل البشر, وليس بوحي, أما النسخ فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى, والفرق واضح بين الاثنين, لذلك لا يؤخذ النسخ من أقوال المجتهدين والمفسرين والعلماء بل لابد فيه من النص الموحى به قرأنًا أو سنة.
الثالث:ما نُسِخ حكمه وبقيت تلاوته؛ وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليلٌ جداً، وإنْ أَكثر الناسُ من ذكر الآيات فيه.
قال السيوطي : إن الذي أَورده المكثرون أَقسام:
قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه. وذلك مثل قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة، الآية: 3]. {أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} [البقرة، الآية: 254]. ونحو ذلك.
قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك هو باقٍ:
أَمَّا الأُولى: فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإِنفاق، وذلك يصلح أَن يفسّر: بالزكاة، وبالإِنفاق على الأَهل، وبالإِنفاق في الأُمور المندوبة كالإِعانة والإِضافة. وليس في الآية ما يدلُّ على أََنها نفقة واجبة غير الزكاة.
والآية الثانية: يصلحُ حملها على الزكاة، وقد فسّرت بذلك.
وقوله في البقرة: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة، الآية: 83]. عدَّه بعضهم من المنسوخ بآية السيف. وقد غَلَّطه ابن الحصَّار بأَنَّ الآية حكاية عمَّا أَخذه على بني إسرائيل من الميثاق، فهو خبر لا نَسخ فيه، وقسْ على ذلك.
وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ، ومنه قوله تعالى {فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]. وغير ذلك من الآيات التي خُصَّت باستثناء أَو غاية، وقد أَخطأَ من أَدخلها في المنْسوخ.
ومنه قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ} [البقرة، الآية: 221]. قيل إنَّه نُسخ بقوله: {وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ} [المائدة، الآية: 5]. وإنما هو مخصوص به.
وقسم رَفع ما كان عليه الأَمر في الجاهلية أَو في شرائع مَنْ قبلنا، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعيَّة القصاص والدِّيَة، وحَصْر الطَّلاق في الثلاث. وهذا عدم إدخاله في قسم الناسخ أَقرب، ووجَّهوه: بأَنَّ ذلك لوعُدّ في الناسخ لعُدّ جميع القرآن منه، إذ كلُّه أَو أَكثره رافع لما كان عليه الكفار وأَهل الكتاب .
إذا علمت ذلك: فقد خرج من الآيات التي أَوردها المكثرون الجمّ الغفير، مع آيات الصفح والعفو، إن قلنا إن آية السيف لم تنسخها، وبقي مما يصلح لذلك عدد يسير .أهـ
هذا وقد يقع النسخ في السنة أيضًا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا, وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ, وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا" رواه مسلم عن بريدة.
بقلم (سيد العصري)باحث
النسخ : هو رفع الشارع حكمًا من أحكامه بخطاب متأخرٍ عنه,
وبذلك يتبين الفرق بين النسخ والتخصيص, فالنسخ يكون فيه النصان الناسخ والمنسوخ غير مقترنين زمانًا, بل يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ. كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كما في سورة البقرة , ونسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين كما في سورة الأنفال , ونسخ الصدقة في آية النجوى بالآية التي تليها في سورة المجادلة.
والنسخ واقع في الشريعة الإسلامية لحِكَمٍ، منها التدرج و التيسير.
وقد أَجمع المسلمون على جوازه، وأَنكره اليهود ظناً منهم أَنه بَداء، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له، وهو باطل، لأَنه بيان مدَّة الحكم كالإِحياء بعد الإِماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بداء، فكذا الأَمر والنهي.
ولا يقع النسخ إلاَّ في الأَمر والنَّهي، ولو بلفظ الخبر. أَما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد. وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أَدخل في كتب النسخ كثيراً من آيات الإِخبار والوعد والوعيد.
والأدلة على وقوع النسخ في القرآن:
قول الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{البقرة:106}
وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }{النحل:101}
وقوله: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7}
واختلف العلماء:
فقيل: لا يُنسخ القرآن إلاَّ بقرآن، لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]. قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرًا منه إلاَّ قرآن.
وقيل: بل ينُسخ القرآن بالسنَّة، لأَنها أَيضًا من عند الله، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ* إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم : 3-4].
والثالث: إذا كانت السنَّة بأَمر الله من طريق الوحْي نسخت، وإن كانت باجتهاد فلا. حكاه ابن حبيب النيسابوريّ في تفسيره.
وقال الشافعيّ: حيث وقع نسخ القرآن بالسنَّة، فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنَّة بالقرآن معه سنَّة عاضدة له؛ ليتبيَّن توافق القرآن والسنَّة.
وكثير من المحققين ذهب إلى أن السنة غير المتواترة لا تنسخ القرآن, وما نقلوه من الأمثلة من السنة الناسخة للقرآن يمكن بالتتبع إثبات أن مع هذه السنة قرأنًا عاضدًا لها, كآية الوصية مثلاً نسخت بآيات المواريث مع حديث:" إنّ الله أعطى كل ذي حق حقه, فلا وصية لوارث" [صحيح:رواه الترمذي وغيره] وكذا آية: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً }{النساء:15} ليست منسوخة بحديث:"خُذوا عَنِي, خُذوا عني, قد جَعَلَ اللهُ لهُنَّ سَبيلاً. الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ ,وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " رواه مسلم , ولكن الآية جعلت للإمساك غايةً مبهمة فجاءت السنة وبيَّنت تلك الغاية.وقيل:أن الآية منسوخة بآية سورة النور.
* والنسخ في القرآن على ثلاثة أَضرب :أَحدها: ما نسخ تلاوته وحكمه معاً.وهو قليل, ويستدل له بقول الله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7} .
الضرب الثاني: ما نسخ تلاوته وبقي حكمه، ومثّلوا له بقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ" رواه مالك ومسلم .
وقد تكلموا في قولها: (وهنَّ مما يقرأُ من القرآن): فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك.
وأُجيب بأَن المراد: قارب الوفاة، أَو أَنَّ التلاوة نُسِخت أَيضًا، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلاَّ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتُوُفِّي وبعض الناس يقرؤُها.
وقال أَبو موسى الأَشعريُّ: نزلت ثم رفعت.ومثلوا له أيضًا بآية الرجم: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ مَا أَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ إِذَا أُحْصِنَ الرَّجُلُ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلٌ أَوْ اعْتِرَافٌ وَقَدْ قَرَأْتُهَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ"[صحيح:رواه ابن ماجة وغيره]
وقد أَورد بعضهم فيه سؤالاً وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلاَّ أبقيَت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟
وأَجاب صاحب الفنون: بأَنَّ ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأُمَّة في المسارعة إِلى بذل النفوس بطريق الظنِّ، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأَيسر شيء، كما سارع الخليل إبراهيم إلى ذبح ولدِه بمنام، والمنام أَدنى طريق الوحي.
وقد أنكر بعض المبتدعة هذين الضربين من النسخ, ويُرَد عليه بمفهوم قول الله تعالى: {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى*إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ }{الأعلى:6-7} وأما ادعاؤهم بأن القول بهذا النسخ نوع من القول بوقوع التحريف في القرآن,وهذه مغالطة واضحة إذ التحريف يكون من فعل البشر, وليس بوحي, أما النسخ فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى, والفرق واضح بين الاثنين, لذلك لا يؤخذ النسخ من أقوال المجتهدين والمفسرين والعلماء بل لابد فيه من النص الموحى به قرأنًا أو سنة.
الثالث:ما نُسِخ حكمه وبقيت تلاوته؛ وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليلٌ جداً، وإنْ أَكثر الناسُ من ذكر الآيات فيه.
قال السيوطي : إن الذي أَورده المكثرون أَقسام:
قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه. وذلك مثل قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة، الآية: 3]. {أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} [البقرة، الآية: 254]. ونحو ذلك.
قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك هو باقٍ:
أَمَّا الأُولى: فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإِنفاق، وذلك يصلح أَن يفسّر: بالزكاة، وبالإِنفاق على الأَهل، وبالإِنفاق في الأُمور المندوبة كالإِعانة والإِضافة. وليس في الآية ما يدلُّ على أََنها نفقة واجبة غير الزكاة.
والآية الثانية: يصلحُ حملها على الزكاة، وقد فسّرت بذلك.
وقوله في البقرة: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة، الآية: 83]. عدَّه بعضهم من المنسوخ بآية السيف. وقد غَلَّطه ابن الحصَّار بأَنَّ الآية حكاية عمَّا أَخذه على بني إسرائيل من الميثاق، فهو خبر لا نَسخ فيه، وقسْ على ذلك.
وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ، ومنه قوله تعالى {فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]. وغير ذلك من الآيات التي خُصَّت باستثناء أَو غاية، وقد أَخطأَ من أَدخلها في المنْسوخ.
ومنه قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ} [البقرة، الآية: 221]. قيل إنَّه نُسخ بقوله: {وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ} [المائدة، الآية: 5]. وإنما هو مخصوص به.
وقسم رَفع ما كان عليه الأَمر في الجاهلية أَو في شرائع مَنْ قبلنا، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعيَّة القصاص والدِّيَة، وحَصْر الطَّلاق في الثلاث. وهذا عدم إدخاله في قسم الناسخ أَقرب، ووجَّهوه: بأَنَّ ذلك لوعُدّ في الناسخ لعُدّ جميع القرآن منه، إذ كلُّه أَو أَكثره رافع لما كان عليه الكفار وأَهل الكتاب .
إذا علمت ذلك: فقد خرج من الآيات التي أَوردها المكثرون الجمّ الغفير، مع آيات الصفح والعفو، إن قلنا إن آية السيف لم تنسخها، وبقي مما يصلح لذلك عدد يسير .أهـ
هذا وقد يقع النسخ في السنة أيضًا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا, وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ, وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا" رواه مسلم عن بريدة.
بقلم (سيد العصري)باحث