خطبة المسجد النبوي - 10 ربيع ثاني 1431 - خلق الأرض - الشيخ عبد المحسن القاسم
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا .
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله حق التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى .
أيها المسلمون : تفرد الله وحده بالخلق والتدبير وأودع في مخلوقاته من عجائب صنعه وعظيم فعله ؛ فشهدت له مخلوقاته بالربوبية ، وأقر من نوَّر الله له قلبه بالوحدانية ، وآية من آيات الله يراها الصغير والكبير ويشعر بها الأعمى والبصير والأصم والسميع ، يتقلب الخلق عليها ثم يودعون فيها .. خلقها فأبدعها فحمد نفسه لما فرغ من خلقها ، فقال : الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ .. الأنعام 1 ، وأقسم بها فقال : وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا الشمس 6 ، وأقسم بأجزاء منها فقال - سبحانه - : وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ التين 3 .
خلقها على غير مثال لها ، وبنوره استنارت اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ النور 35 ، وأعجز الخلق أن يخلقوا مثلها : .. أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ .. فاطر 40 ، وهي أكبر من خلق الناس ؛ ولعظم خلقها أقر الكفار بأن خالقها هو الله : وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لقمان 25 ، وأمر بالتفكر فيها : أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. الأعراف 185 ، وذمَّ من لم يعتبر بها وبما فيها : وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يوسف 105 ، وأخبر أنها مليئة بالعبر والآيات : وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ الذاريات 20 .
هي أصل الإنسان ومنها خُلق : وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً نوح 17 ، خلقها قبل السماء كالأساس للبناء في يومين ، ثم خلق السماء في يومين ثم دحا الأرض في يومين آخرين ؛ فأخرج بدحيها ما كان مودعاً فيها ، فظهرت العيون وجرَت الأنهار ونبت الزرع ورست الجبال ، فأتم الخلق في ستة أيام .. آخرهن يوم الجمعة ؛ فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع .
ثم بعد خلقها استوى الرحمن على عرشه وقال للسماء وللأرض بما فيها من جبال ثقال وبحار زاخرات اأتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين.. خلقها سبع أرضين كل واحدة فوق الأخرى ، ومدها ووسعها فلم تضق يوماً على ساكنيها ،
وسلك فيها سبلاً لا يتيهون فيها ، وذللها لخلقه .. فالإنسان والطير والحيوان يثيرها قال - جل شأنه - : قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ البقرة 71 ..
ظهرها سَكَنٌ للأحياء وبطنها نُزُل للأموات ، في جوفها ماء وحولها ماء ولا تميد ، وبفضله كف البحر أن يطغى على يابسها وأمسك السماء أن تقع عليها ، أرساها بجبال شامخات لئلا تضطرب وأحسن نصبها ، ورفعها فأحسن هيئتها ، وجعلها صلبة لا تضمحل مع تطاول الزمان .. خشعت جبالها لخالقها وتسجد له وتهبط من خشيته وأبت وأشفقت من حمل الأمانة ..
وفيها بحار تمخر الفلك فيها وتحمل الثقال ، وما في بحارها مأكول حلال - ولو كان ميتة - : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ المائدة 96 ..
وأنهارها حلوة عذبة تنبع في موطن ويسوقها ربها إلى موطن آخر رزقا للعباد ، قطعها متجاوراتٌ تُسقى بماء واحد فتنبت الأزواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل والطعم والرائحة ، منها غذاء والآخر دواء وفيها داء ونباتها بقدر موزون ..قال - جل شأنه - : وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ الحجر 19 ..
قال ابن القيم -رحمه الله - : " لا تكاد تخلو ورقة منه ولا عرق ولا ثمرة من منافع ، تعجز عقول البشر عن الإحاطة بها وتفصيلها " .
وطيورها وسباعها وبهائمها أممٌ شتى تبهر العقل من عجائبها وإتقان خلقها .. قال - جل شأنه - : وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم الأنعام 38 ، مليئة بالخزائن والأرزاق وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ المنافقون 7 .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "وإني أُعطيت مفاتيحَ خزائنِ الأرض " متفق عليه ، قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : " فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تنتثلونها ؛ أي تستخرجونها " ..
قال القرطبي - رحمه الله - :" ملكت أمته من الأرض ما لم تملكه أمة من الأمم " .
والله تكفل برزق جميع من عليها : وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا .. هود 6 ، وخزائنها تفتح بالطاعات وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .. الأعراف 96 ..
حلالها كثير وبركاتها وفيرة ، واللبيب يستغني بحلالها عن حرامها وبالقناعة عن إثمها ، قال - سبحانه - : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ البقرة 168 ..
جمالها وما عليها من زينة للابتلاء والامتحان ، قال - عز وجل - : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً الكهف 7 ..
وفاضل - سبحانه - بين أرضه الواسعة فاختار منها أماكن جعل منها خيرَ البقاع وأشرفها ، فمن قصد بيت الله الحرام مخلصا له العمل غُفِرت له ذنوبه ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " من أتى هذا البيت فلم يرفثْ ولم يفسقْ رجع كيومَ ولدته أمه " متفق عليه .
وليس على وجه الأرض بقعة يجوز الطواف بها سوى كعبة الله المشرفة ، وليس فيها موضع يُشرع تقبيلُه واستلامه سوى الحجرِ الأسود والركن اليماني من الكعبة ، ونهى التعبد في موضع يشرك فيه مع الله ..
نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه الصلاة والسلام - : " هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد ؟ قالوا : لا ، قال : هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم ؟ قالوا : لا ، قال : أَوفِ بنذرك " رواه أبو داود ..
والأرض تشرف بما يقع عليها من أعمال صالحة ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " خيرُ البقاعِ المساجدُ ، وشرها الأسواق " رواه ابن حبان ..
والله إذا أحب عبداً كتب له المحبة فيها ، والعالم يستغفر له من السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، والأرض لا تأكل أجساد الأنبياء بعد موتهم ، وفي الإنسان عظمٌ لا تأكله الأرض .. فيه يركب يوم القيامة ، وصلاحها بالطاعة وفسادها بالمعاصي .. قال - جل شأنه - : وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا الأعراف 56 ..
والأرض محكمة البناء لكن من عظم ذنب الشرك تكاد تنشق ، قال - عز وجل - : تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً مريم 90 – 91 ..
والأرض لله نهى أن يمشى عليها ببطر أو كبر أو معصية ..
قارون أعرض عن الله فخسف به وبداره ، "وبينما رجل يمشي قد أعجبته جمته أي شعره إلى منكبيه وأعجبه برداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة " متفق عليه .
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتد رجل ولحق بالروم ، فلما هلك حفروا له قبرا ، فكلما دفنوه فيه أخرجته الأرض منها ؛ فتركوه ميتاً فوق القبر .
وكل ما فيها من حركة أو سكون مكتوبٌ عند الله ..قال - عز وجل - : وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ الأنعام 59 ..
وهو – سبحانه - لا يغيب عنه شيء مما في كونه .. قال - جل شأنه - : وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ المؤمنون 17 ، يقضي حوائج عباده بتفريج كربهم وإنزال النعم والهبات عليهم : يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ الرحمن 29 .
وفي آخر الزمان تكثر الزلازل وتظهر خسوفات إيذاناً بطَي الأرض وزوالها ، وتقوم الساعة على شرار الخلق .. قال - عليه الصلاة والسلام - :" لا تقومُ الساعةُ حتى لا يقالَ في الأرض : الله الله " رواه مسلم .
وإذا جاء أمر الله تتزلزل الأرض جميعها ، وتحمل وتُرجُّ رجاً وتدك دكة واحدة ، وتلقي ما في بطنها من الأموات وتتخلى عنهم ..
وأول من تنشق عنه الأرض نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وتحدث يومئذ أخبارها ، وتشهد على الناس بما عملوا على ظهرها من خير أو شر ، ويطوي الله السماوات ثم يأخذهن بيده ثم يطوي الأرض بشماله ، ثم يقول : "أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ " ..
وتبدل الأرض ويُحْشر الناس على أرضٍ غيرِ هذه .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاءَ عفراءَ ؛ أي شديدة البياض كقرصة نقي أي كالدقيق النقي ، ليس فيها علم لأحد أي ليس عليها علامة سكنى أو بناء أو أثر" متفق عليه .
ولله الأمر من قبل ومن بعد وإليه يرجع الأمر كله ؛ خلق فأتقن ما صنع وابتلى من خلق ، والسعيدُ من نال مرضاته ووحد خالقه ..أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ لقمان 11 .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات الذكر الحكيم .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيدا .
أما بعد:
أيها المسلمون ، نصب الله مخلوقاته علامات على ربوبيته وشواهدَ على وحدانيته ، وآياتٍ على كمال صفاته ، وكم لله من آية تفنى الأعمار دون الإحاطة بها وبجميع ما فيها ، وبفضله - سبحانه - سخر لنا جميع ما في السماوات وما في الأرض لنستعين بها على طاعته ، ونعمل على أرضه بما نفوز به في الآخرة من جناته .. ولا صلاحَ للقلب إلا في تعظيم خالقه وإخلاص العمل وحده .
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه ، فقال في محكم التنزيل : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً الأحزاب 56 .. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون - أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ - وعن سائر الصحابة أجمعين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً وسائرَ بلاد المسلمين . اللهم اهدنا وسددنا . اللهم إنا نسألك الإخلاصَ في القول والعمل . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل . رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار البقرة 201 ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ، ولا تجعلنا من القانطين . اللهم أغثنا . اللهم أغثنا . اللهم أغثنا . رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف 23 .
اللهم وفق إمامنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام .
عباد الله .. إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النحل 90 ؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا .
أما بعد .. فاتقوا الله عباد الله حق التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى .
أيها المسلمون : تفرد الله وحده بالخلق والتدبير وأودع في مخلوقاته من عجائب صنعه وعظيم فعله ؛ فشهدت له مخلوقاته بالربوبية ، وأقر من نوَّر الله له قلبه بالوحدانية ، وآية من آيات الله يراها الصغير والكبير ويشعر بها الأعمى والبصير والأصم والسميع ، يتقلب الخلق عليها ثم يودعون فيها .. خلقها فأبدعها فحمد نفسه لما فرغ من خلقها ، فقال : الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ .. الأنعام 1 ، وأقسم بها فقال : وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا الشمس 6 ، وأقسم بأجزاء منها فقال - سبحانه - : وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ التين 3 .
خلقها على غير مثال لها ، وبنوره استنارت اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ النور 35 ، وأعجز الخلق أن يخلقوا مثلها : .. أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ .. فاطر 40 ، وهي أكبر من خلق الناس ؛ ولعظم خلقها أقر الكفار بأن خالقها هو الله : وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لقمان 25 ، وأمر بالتفكر فيها : أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. الأعراف 185 ، وذمَّ من لم يعتبر بها وبما فيها : وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يوسف 105 ، وأخبر أنها مليئة بالعبر والآيات : وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ الذاريات 20 .
هي أصل الإنسان ومنها خُلق : وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً نوح 17 ، خلقها قبل السماء كالأساس للبناء في يومين ، ثم خلق السماء في يومين ثم دحا الأرض في يومين آخرين ؛ فأخرج بدحيها ما كان مودعاً فيها ، فظهرت العيون وجرَت الأنهار ونبت الزرع ورست الجبال ، فأتم الخلق في ستة أيام .. آخرهن يوم الجمعة ؛ فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع .
ثم بعد خلقها استوى الرحمن على عرشه وقال للسماء وللأرض بما فيها من جبال ثقال وبحار زاخرات اأتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين.. خلقها سبع أرضين كل واحدة فوق الأخرى ، ومدها ووسعها فلم تضق يوماً على ساكنيها ،
وسلك فيها سبلاً لا يتيهون فيها ، وذللها لخلقه .. فالإنسان والطير والحيوان يثيرها قال - جل شأنه - : قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ البقرة 71 ..
ظهرها سَكَنٌ للأحياء وبطنها نُزُل للأموات ، في جوفها ماء وحولها ماء ولا تميد ، وبفضله كف البحر أن يطغى على يابسها وأمسك السماء أن تقع عليها ، أرساها بجبال شامخات لئلا تضطرب وأحسن نصبها ، ورفعها فأحسن هيئتها ، وجعلها صلبة لا تضمحل مع تطاول الزمان .. خشعت جبالها لخالقها وتسجد له وتهبط من خشيته وأبت وأشفقت من حمل الأمانة ..
وفيها بحار تمخر الفلك فيها وتحمل الثقال ، وما في بحارها مأكول حلال - ولو كان ميتة - : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ المائدة 96 ..
وأنهارها حلوة عذبة تنبع في موطن ويسوقها ربها إلى موطن آخر رزقا للعباد ، قطعها متجاوراتٌ تُسقى بماء واحد فتنبت الأزواج المختلفة المتباينة في اللون والشكل والطعم والرائحة ، منها غذاء والآخر دواء وفيها داء ونباتها بقدر موزون ..قال - جل شأنه - : وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ الحجر 19 ..
قال ابن القيم -رحمه الله - : " لا تكاد تخلو ورقة منه ولا عرق ولا ثمرة من منافع ، تعجز عقول البشر عن الإحاطة بها وتفصيلها " .
وطيورها وسباعها وبهائمها أممٌ شتى تبهر العقل من عجائبها وإتقان خلقها .. قال - جل شأنه - : وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم الأنعام 38 ، مليئة بالخزائن والأرزاق وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ المنافقون 7 .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "وإني أُعطيت مفاتيحَ خزائنِ الأرض " متفق عليه ، قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : " فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنتم تنتثلونها ؛ أي تستخرجونها " ..
قال القرطبي - رحمه الله - :" ملكت أمته من الأرض ما لم تملكه أمة من الأمم " .
والله تكفل برزق جميع من عليها : وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا .. هود 6 ، وخزائنها تفتح بالطاعات وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .. الأعراف 96 ..
حلالها كثير وبركاتها وفيرة ، واللبيب يستغني بحلالها عن حرامها وبالقناعة عن إثمها ، قال - سبحانه - : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ البقرة 168 ..
جمالها وما عليها من زينة للابتلاء والامتحان ، قال - عز وجل - : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً الكهف 7 ..
وفاضل - سبحانه - بين أرضه الواسعة فاختار منها أماكن جعل منها خيرَ البقاع وأشرفها ، فمن قصد بيت الله الحرام مخلصا له العمل غُفِرت له ذنوبه ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " من أتى هذا البيت فلم يرفثْ ولم يفسقْ رجع كيومَ ولدته أمه " متفق عليه .
وليس على وجه الأرض بقعة يجوز الطواف بها سوى كعبة الله المشرفة ، وليس فيها موضع يُشرع تقبيلُه واستلامه سوى الحجرِ الأسود والركن اليماني من الكعبة ، ونهى التعبد في موضع يشرك فيه مع الله ..
نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه الصلاة والسلام - : " هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد ؟ قالوا : لا ، قال : هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم ؟ قالوا : لا ، قال : أَوفِ بنذرك " رواه أبو داود ..
والأرض تشرف بما يقع عليها من أعمال صالحة ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " خيرُ البقاعِ المساجدُ ، وشرها الأسواق " رواه ابن حبان ..
والله إذا أحب عبداً كتب له المحبة فيها ، والعالم يستغفر له من السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء ، والأرض لا تأكل أجساد الأنبياء بعد موتهم ، وفي الإنسان عظمٌ لا تأكله الأرض .. فيه يركب يوم القيامة ، وصلاحها بالطاعة وفسادها بالمعاصي .. قال - جل شأنه - : وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا الأعراف 56 ..
والأرض محكمة البناء لكن من عظم ذنب الشرك تكاد تنشق ، قال - عز وجل - : تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً مريم 90 – 91 ..
والأرض لله نهى أن يمشى عليها ببطر أو كبر أو معصية ..
قارون أعرض عن الله فخسف به وبداره ، "وبينما رجل يمشي قد أعجبته جمته أي شعره إلى منكبيه وأعجبه برداه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة " متفق عليه .
وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتد رجل ولحق بالروم ، فلما هلك حفروا له قبرا ، فكلما دفنوه فيه أخرجته الأرض منها ؛ فتركوه ميتاً فوق القبر .
وكل ما فيها من حركة أو سكون مكتوبٌ عند الله ..قال - عز وجل - : وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ الأنعام 59 ..
وهو – سبحانه - لا يغيب عنه شيء مما في كونه .. قال - جل شأنه - : وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ المؤمنون 17 ، يقضي حوائج عباده بتفريج كربهم وإنزال النعم والهبات عليهم : يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ الرحمن 29 .
وفي آخر الزمان تكثر الزلازل وتظهر خسوفات إيذاناً بطَي الأرض وزوالها ، وتقوم الساعة على شرار الخلق .. قال - عليه الصلاة والسلام - :" لا تقومُ الساعةُ حتى لا يقالَ في الأرض : الله الله " رواه مسلم .
وإذا جاء أمر الله تتزلزل الأرض جميعها ، وتحمل وتُرجُّ رجاً وتدك دكة واحدة ، وتلقي ما في بطنها من الأموات وتتخلى عنهم ..
وأول من تنشق عنه الأرض نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وتحدث يومئذ أخبارها ، وتشهد على الناس بما عملوا على ظهرها من خير أو شر ، ويطوي الله السماوات ثم يأخذهن بيده ثم يطوي الأرض بشماله ، ثم يقول : "أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ " ..
وتبدل الأرض ويُحْشر الناس على أرضٍ غيرِ هذه .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يحشر الناس يوم القيامة على أرضٍ بيضاءَ عفراءَ ؛ أي شديدة البياض كقرصة نقي أي كالدقيق النقي ، ليس فيها علم لأحد أي ليس عليها علامة سكنى أو بناء أو أثر" متفق عليه .
ولله الأمر من قبل ومن بعد وإليه يرجع الأمر كله ؛ خلق فأتقن ما صنع وابتلى من خلق ، والسعيدُ من نال مرضاته ووحد خالقه ..أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ لقمان 11 .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات الذكر الحكيم .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب ؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيدا .
أما بعد:
أيها المسلمون ، نصب الله مخلوقاته علامات على ربوبيته وشواهدَ على وحدانيته ، وآياتٍ على كمال صفاته ، وكم لله من آية تفنى الأعمار دون الإحاطة بها وبجميع ما فيها ، وبفضله - سبحانه - سخر لنا جميع ما في السماوات وما في الأرض لنستعين بها على طاعته ، ونعمل على أرضه بما نفوز به في الآخرة من جناته .. ولا صلاحَ للقلب إلا في تعظيم خالقه وإخلاص العمل وحده .
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه ، فقال في محكم التنزيل : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً الأحزاب 56 .. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون - أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ - وعن سائر الصحابة أجمعين ، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً وسائرَ بلاد المسلمين . اللهم اهدنا وسددنا . اللهم إنا نسألك الإخلاصَ في القول والعمل . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل . رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار البقرة 201 ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ، ولا تجعلنا من القانطين . اللهم أغثنا . اللهم أغثنا . اللهم أغثنا . رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف 23 .
اللهم وفق إمامنا لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام .
عباد الله .. إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النحل 90 ؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون