التربية في القرآن الكريم
النصيحة والحضُّ
الدكتور عثمان قدري مكانسي
النصيحة والحضُّ
الدكتور عثمان قدري مكانسي
النصيحة ، الوعظ بودٍّ وإخلاص .. والحضُّ : الحمل على الشيء والإغراء به ، والحث عليه
والقرآن الكريم حرص على النصيحة ، فهي أسلوب يدفع إلى فعل الخير ، وركوب
الطريق الصحيح ، فعلاً كان أم تفكيراً ، بطريقة تدع المنصوح راغباً دون
شعور بالمساءة .
وللنصيحة والحضّ عليها أساليب عدة ، سلكها القرآن ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
1ـ الشرط : قال تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }(البقرة) ، وقال سبحانه : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} (النساء) .
فالقرآن في هاتين الآيتين الكريمتين ينبه إلى أن النفس العظيمة تطلب
الشيء النفيس الباقي ، وذلك باللجوء إلى الله تعالى وحده سبحانه ،
والإيمان به ، وطلب الدار الآخرة .
ونرى موسى عليه السلام ، ينصح قومه بالتوكل على الله : { إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ }(من الآية 84 يونس) ،
وعلى هذا الأساس نرى الله سبحانه وتعالى يحضّ نبيه الكريم ، على التوكل على الله ، والاكتفاء به حسيباً : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} (التوبة ) .
وأسلوب الشرط في إسداء النصيحة والحضّ على الخير كثير في القرآن الكريم .
2ـ لولا التحضيضيّة : { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ }(من الآية 16 هود) .
فهلاّ . . . ولكنْ كان أولئك بعيدين عن التعقل والفهم ، ولم يكن منهم أول ألباب وعقول .
. . . وفي حديث الإفك ، حضّ على التفكير للوصول إلى معرفة الحقيقة : { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} (النور) .
وحضهم على التزام شرع الله في الوصول إلى الحق ،
وعودة إلى أول السورة نجد أنه ينبغي المجيء بأربعة شهداء لإثبات زنا المرأة : { لَوْلَا
جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) }(النور) .
3ـ النداء والأمر والنهي : وقد تجتمع في كثير من الآيات ، بل في أكثرها . . ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}(البقرة) .
فاليهود يقصدون من كلمة " راعنا " المسبّة ، والشتيمة ، كما أنها قد
توهم الجفاء ، أو التنقيص في مقام يقتضي إظهار المودّة والتعظيم .
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}(الأنفال) .
وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}(الأنفال) .
4ـ ويجتمع النداء والنهي في القرآن كثيراً : ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ
يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ
خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ }(من الآية 11 الحجرات) ، وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ . . . }(من الآية 264 البقرة) .
5ـ ويجتمع النداء والأمر أيضاً : ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}(البقرة) ، وقوله تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ
. .}(من الآية 6 التحريم} .
6ـ ونرى المقارنة والاستفهام مجتمعَيْن : كقوله تعالى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}(هود) ، وكأنه سبحانه يقول لأهل العقول : تذكروا وعوا . . .
ومنها الاستفهام بـ (( هل )) كقوله تعالى : { فَإِنْ
لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ
اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}(هود) .
ومنها الاستفهام بـ (( مَنْ )) كقوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً . . . . }(من الآية 245 البقرة) .
ومنها الاستفهام بـ (( الهمزة )) كقوله تعالى : { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)}(المائدة) .
7ـ وقد نجد الأمر وحده : كقوله تعالى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) }(البقرة) .
8ـ وقد نرى النهي والأمر معاً : كقوله تعالى : { إِنَّا
أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}(النساء) .
9ـ الإخبار: في قصة السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت نجد
الأفكار التالية التي يسمعها الرجل العاقل اللبيب فيمتنع أن يكون مثل
أصحابها :
أ ـ نبذ فريق من الذين أوتوا كتاب الله وراء ظهورهم .
ب ـ جاءهم الحق ، فتناسوه كأنهم لا يعلمون .
جـ ـ اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان .
د ـ لم يكفر سليمان ، والشياطين كفروا .
هـ ـ المتعامل بالسحر ما له في الآخرة من خلاق .
فكان هذا الإخبار نصيحة وحضاً على التزام الطريق الصحيح .
قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو
الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا
أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا
يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا
تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ
خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ (102) }(البقرة) .
وكذلك الإخبار في قوله تعالى : (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) ))(آل عمران) .
10ـ الوصية : وهي أسلوب رفيع في النصيحة والحضّ عليها .
وقد ذكرت في القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة في صيغ عديدة فيها الأدب العالي والأخلاق الرفيعة . . فمن أمثلتها :
أ ـ ما وصى به الأنبياء أولادهم في التزام التوحيد . . قال تعالى : { وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}(البقرة) .
ب ـ ما وصّى به الله تعالى أولي العزم من الرسل حين شرع لهم ، قال تعالى: { شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ . . . }(من الآية 13 الشورى) .
جـ ـ وفي ثلاث آيات من سورة الأنعام نجد وصايا متتالية ، مصابيحَ هداية تنير للسالكين دروب الهداية ، وسبل النجاة ، قال تعالى :
{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
1ـ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
2ـ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا 3ـ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
4ـ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
5ـ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} .
6ـ { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
7ـ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
8ـ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
9ـ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) } .
10ـ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (الأنعام) .
وأساليب النصح في القرأن الكريم كثيرة ، كثيرة . . . بحسب اللبيب أن
يراجع الآيات الكريمة بتفحص وإمعان ، ليجد فيها ما يساعده على الوصول إلى
قلب السامع والمخاطب