التربية في القرآن الكريم
الكتمان والسرية
الدكتور عثمان قدري مكانسي
الكتمان والسرية
الدكتور عثمان قدري مكانسي
يقولون : إذا ذاع السر بين اثنين فقد فشا .
ويقولون : إذا لم تستطع حفظ سرك في صدرك ، فلا تلومنَّ على بثّه أحداً .
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول :
(( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان )) .
ولحفظ السر فوائد عديدة منها :
1ـ أن عدوّك لا يعرف ما نويته أو خططت له ، فهو منك دائماً على حذر .
2ـ أن أمرك يظل في يديك ما دمت تحفظ سرك فإن ذاع انكشفت .
3ـ أن أصدقاءك يأتمنونك على أسرارهم فأنت ثقة عندهم .
وفي القرآن الكريم عدة مواضع فها أمر بالكتمان ليظل الموقف سليماً مستوراً .
فقد رأى يوسف في المنام رؤيا قصها على أبيه يعقوب . . فما هي ؟ { إِذْ
قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ
كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
(4)}(يوسف) ، فعلم الأب أن يوسف سيكون نبياً ، يبلّغه الله مبلغ الحكمة ،
ويجعله ممن اصطفاهم ، ويعلمه تفسير الأحلام ، وأن إخوته حين يعلمون أنه
سيكون نبياً من دونهم سيحتالون لإهلاكه حسداً وغيرةً منه فـ { قَالَ
يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ
كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) }(يوسف).
وقد دعته امرأة العزيز وراودته عن نفسه فأبى ، فحاولت أن تكيد له
فادّعت أنه هو الذي راودها ، فبرّأه من كيدها إن كان قميصه قُدَّ من دبر ،
وأنّ واحداً من أهلها شهد ببراءته ، وأن النساء قطَّعْنَ أيديهن دهشة
لجماله ، وما عُدْنَ يصبرن عن لقائه ، فقال العزيز : نسجنه كتماناً للقصّة
أن تشيع في العامة { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) }(يوسف) .
وتمر الأيام وتنقضي السنون ، ويصير يوسف عليه السلام الوزير المؤتمن
على خزائن الأرض ، ويأتيه الناس من أصقاع الأرض للميرة ، ومن بينهم إخوته
أولادُ أبيه الذين أرادوا إهلاكه ، فأكرمهم ، لكنّه أخبرهم أنه لن يميرهم
في المرة القادمة إلا ومعهم أخوهم بنيامين ، وهو أخوه الشقيق ، واستعجالاً
لعودتهم جعل ثمن البضاعة داخلها ، وكأنّه نسيها معهم فاضطروا للعودة ومعهم
بنيامين بعد أن أخذ منهم أبوهم العهد أن يحافظوا عليه فلا يغدروا به . . {
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ
أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ
لَسَارِقُونَ (70)}(يوسف) فاستكتمه ، ذلك أنه أراد أن يعلّم إخوته
أنهم أخطأوا في حقه .
وقد أحسن يوسف إذ وصّى أخاه أن يكتم سرّهما ، فما علموا أن أخاهم سرق حتى افتروا على يوسف قائلين : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.. }(يوسف من الآية 77) فهل أظهر يوسف لهم حقيقته يوبخهم ويعريهم بكذبهم هذا ؟ لا فما تزال القصة في أولها { ...فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ }( يوسف من الآية 77 ) وهذا يدل على فكر سديد وحكمة بالغة وصبر على المكاره .
ـ وهؤلاء أصحاب الكهف الذين فروا بدينهم إلى الله ينامون فيه ثلاث مئة
وتسع سنوات ، وحين يأذن الله بيقظتهم يشعرون بالجوع ويقولون بعضهم لبعض : {
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ
بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}(الكهف) .
إذاً فللسرية والكتمان :
1ـ يرسلون واحداً فقط لشراء الطعام .
2ـ ويتلطف في دخول المدينة .
3ـ ويتصرف بهدوء وحكمة حتى لا يتعرف عليه أحد .
وهكذا نجدهم حذرين ، راغبين أن لا يعرفهم أحد فيوصِل خبَرَهم إلى الملك الكافر المتجبر .
ـ وحين وُلِد موسى خافت عليه أمه أن يقتله فرعون فأوحى الله تعالى
إليهما أن ترضعه وتلقيه في اليم ، وهو سبحانه المتكفل بإرجاعه إليها . .
فلما وقع بيد فرعون كاد يقتله لولا أن زوجة فرعون أحبته ، ورجته أن يكون
قرّة عين لها ، وسمعت أم موسى بوصول الوليد إلى قصر فرعون ، فجزعت خوفاً
وشفقة على ابنها وكادت تبوح بأنها أمه ، لكن الله تعالى ثبَّتها وألهمها
الصبر ، وهذا نوع من أنواع الكتمان وحفظ السر{ وَأَصْبَحَ
فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ
رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)}(القصص) .
وتتبعه أخته على الشاطىء الآخر ، تقص أثره مستخفيةً ، فرأته اتجه إلى
قصر فرعون ، وعُرِضَتْ على موسى المراضع فأباهن ، فلما خرج الخدم يبحثون عن
مرضع له خارج القصر دلّتهم أخته على أمه ، فجاءت ، فلما وجد ريح أمه أقبل
على ثديها فقال فرعون : مَن أنتِ فقد أبى كل ثديٍ إلا ثديك ؟ فكتمت سرّها
وقالت : إني امرأة طيّبة الريح ، طيّبة اللبن ، لا أكاد أوتى بصبي إلا
قبلني . فدفعه إليها ، فرجعت إلى بيتها ومعها ابنها { وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)}(القصص) .
ـ أما المنافقون في المدينة فقد كان كان رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ وحده يعرفهم بأعيانهم ، أمة بقية الصحابة والمسلمين فكانوا يشعرون
بهم غير متأكدين منهم ، يشعرون بهم من تصرفاتهم المريبة ونشرهم للأراجيف ،
والأكاذيب لبلبلة الأفكار ، وخلخلة الصفوف ، ونشر أخبار السوء ، وينضم إلى
هؤلاء المنافقين ضعافُ الإيمان ، أصحابُ الفجور .
فهل يترك هؤلاء يعيثون فساداً في مدينة الرسول
الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ لا . . فقد هددّهم الله بكشف خباياهم
وفضحهم على الملأ ثم إخراجهم من المدينة ، وقتالهم لأنهم يظهرون الإيمان ،
ويبطنون الكفر . . . لم يفضحهم الله عزَّ وجلَّ بل كتم حالتهم عساهم يؤمنون
. . . والله بعباده رحيم { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي
الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا
إِلَّا قَلِيلًا (60)}(الأحزاب) .
والكتمان يدل على الإرادة الحازمة لصاحبه ، والقدرة على تحمل المسؤولية ، ومن ثمَّ التصرف السليم في الأحوال العادية والعصيبة