ستر الله على العباد
الحمد لله الذي يغفر بالتوبةِ الكفر الصريح, ويسترُ بفضله العيب القبيح, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, كريمٌ حَيِيٌّ ستِّيْرٌ, يُحبُّ السّتْرَ و يرضاه, ويكره التعرِّي ويأباه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أشدُّ حياءً من العذراء في خِدْرها, وأجْملُ مِن الحسناءِ في يوم عُرْسها, صلى الله عليه, وعلى آلهِ وصحبِه والتابعين, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ هناك نعمةً من نعم الله العظيمة, التي بِدُونها لا نَهْنَأُ بعيش, ولا يطيب لنا مُقامٌ بين أهلنا وفي بلدنا, هي نعمةٌ تناساها أكثر الناس, ولم يعرفوا قدرها ويستشعروا أثرها، إنها نعمةُ ستْر الله عليك يا عبد الله, التي لولاها ما تلذَّذتَ بنعمة, ولا تَهَنَّأت بعيشة, ولا اسْتمتعتَ بصحبة, وأصبحت منبوذاً مُحتَقراً من الناس والأقارب، فهي نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن؛ بل هي أفضل نعمِ الدنيا عند بعض العلماء... اجتمع قومٌ فتذاكروا: أيّ النعم أفضل؟ فقال رجل: ما ستر الله به بعضَنا عن بعض, فيرون أن قول ذلك أرجج... قال بعض السلف: أصبح بنا من نعم الله ما لا نُحْصيه, مع كثرة ما نَعْصِيه, فما ندري أيها نشكر؟ أجميلُ ما ظهر؟ أم قبيح ما سَتر؟ فالحمد لله الذي جمَّل ظاهرنا, وستر قبيح أفعالنا, ولولا ذلك, ما طقنا العيش حتى مع الجماد.. أحسنَ اللهُ بنا *** أنَّ الخطايا لا تفوحُ *** فإذا المستورُ منَّا *** بين ثوبيه فضُوح.. قال رجلٌ لأحد السلف: كيف أصبحتَ؟ قال: "أصبحت بين نعمتين, لا أدري أيَّتهُمَا أفضل: ذنوبٌ سترها الله عز وجل, فلا يستطيع أن يعيرني بها أحدٌ؛ ومودةٌ قذفها الله عز وجل في قلب العباد, لم يبلغها عملي... وفي الناس شرٌ لو بدا ما تَعَاشَرُوا *** ولكنْ كساهُ اللهُ ثوبَ غِطاءِ... فمن رحمة الله بنا يا عباد الله أن كسانا ثوب السِّتر, وأنْ حجب عيون الناس عن رؤيةِ معاصينا, فلو أنك في كلِّ مرةٍ أذنبت بانت عليك سِمَةٌ أو علامة تَكْشِفُ وتَفْضح الذنب الذي أذنبت واقترفت, فكيف سيكون حالك؟ ماذا لو كان للذنوب رائحةٌ مُنتنة تَخْرُجُ منك حين تعصي الله.. لصار عيشُك لا يطاق ولا يُحْتَمَل, وعشت مفضوحاً أمام الناس, ولكنَّ الرحيمَ السِّتِّيْرَ, ستر عليك, ورحمك ولَطف بك... واعلم، يا مَن وُفِّقت لِمَحبَّةِ الناس, وثِقَتِهِم بك، أنَّه لولا ستْرُ الله عليك، لم يتمّ لك ذلِك.. قال بعض السلف: اعلم أن الناس إذا أُعْجِبوا بك, فإنما أُعْجِبوا بِجَمِيْلِ ستْرِ الله عليك
عباد الله: وإنَّ ستْرَ الله علينا يوم القيامة, أعظم وأفضل مِن ستْرِه علينا بالدنيا, فلو فضحك الله في الدنيا, فانْكشف سترك, وظهر عيبك, فلن يدوم ذلك أبداً, لكنَّ المصيبة العظيمة, والفضيحةَ الدائمة, يوم أنْ يفضحَكَ الله بين العالمين, ويُظهرَ سريرَتك أمام الآخرين, في يومٍ تُبلى فيه السرائر, ويُظهر الله ما في الضمائر, فما موقفك لو فُعل بك ذلك؟ ولكنْ؛ أبشر بستْر الله عليك إنْ كنت مؤمناً, وإخفاءِ عيوبك عن العالمين إنْ كنت صالحاً؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ عز وجل يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ الله له: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ" متفق عليه
ويا معشر المذنبين, يا معشر الْمُتجرِّئين على حُرُمات الله: لا تغتروا بستر الله تعالى عليكم؛ فإن له يوماً يهتك فيه الأستار, ويحاسب عباده على ما عملوا في الليل والنهار, فقومٌ إلى الجنة وقومٌ إلى النار
أمَّةَ الإسلام: وإذا كان الله تعالى يُحب أنْ يستر على عباده في الدنيا والآخرة, فإنه يُحبُّ مَن يستُرُ على نفسه, ويَكْره مَن يفضحُها ويُظهر عَيْبَها ولا يرضى بِستْرِ الله عليه, ويُجاهر بمعاصيه وعيوبِه... قال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ, وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا, ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ, فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا, وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ, وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سترَ اللهِ عَنْهُ" متفق عليه.. قال ابن حجر --: "دلَّ مجموع الأحاديثِ على أن العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: قسم تكون معصيتُه مستورةً في الدنيا, فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة، وقسمٌ تكون معصيته مجاهرة, فهو بخلاف ذلك" أي يفضحُه بين الناس ولا يستره. فالمجاهرةُ بأيِّ ذنبٍ ومعصيةٍ من أكبر الكبائر, وهي دليلٌ على فساد القلب ومرضه.. قال ابن القيم -- "وهو يُعدد أضرار الذنوب: ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحُها، فتصير له عادةً, فلا يستقبح من نفسه رؤيةَ الناس له, ولا كلامَهم فيه؛ حتى يفتخرَ أحدُهم بالمعصية، ويُحَدِّث بها مَن لم يَعْلمْ أنه عمِلها، فيقول: يا فلان! عملت كذا وكذا! وهذا الضرب من الناس لا يُعافَوْن، ويُسدُّ عليهم طريقُ التوبة، وتُغلقُ عنهم أبوابُهَا في الغالب". أمَّةَ الإسلام: وإذا كان هذا جزاء مَن يُجاهر بالمعاصي, ويُخبر الناس بأنه قد فعلها, فكيف بمن يُجاهر بها أمامهم؟ فالذنبُ أشدّ وأعظم, وفي هؤلاء يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) وهذا في حقِّ مَن يُحب إشاعتَها, فكيف بمن أشاعها وروَّج لها؟ كيف بِمَنْ فعل الْمُنكرات علانيةً؟ كيف بِمَنْ تَخْرُجُ أمام الملأ كاشفةً سافرة, قد خلعتْ حجابها الذي يستُرُها, وتُمكّنُ مِن نشر ما يُخالفُ السِّتْرَ والحياء, ويُؤتى بها إلى أماكن الرجال, لِتفتنهم وتُغويهم, وتُجَرِّئ نساءَ الْمُسلمين على ذلك, وتُسهِّلَ عليهم فعلَ الفاحشة والزنا؟ فاللهم لا تنزع عنا ثوب الستر والحياء, واحمنا من الشر والبلاء, ولا تجعلنا مِمَّن يُشيعُ الفتن والفحشاء, إنَّك سميع قريبٌ مجيب الدعاء
عباد الله، وإذا كان الله تعالى يُحِبُ أنْ نستر على أنْفسنا, فإنه يُحِبُ أنْ نستر على عباده, الذين قد يَزِلُّ أحدُهم بهفوةٍ أو معْصية, ولم تكن من عادته وشيمته؛ فالواجب أنْ نستر مَنْ هذا حاله.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَراتِهِم" رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.. وهُمُ الَّذين لا يُعْرَفُون بالشَّرِّ، فَيَزِلُّ أحَدُهم الزَّلَّة والخطيئة.. ومعنى ذَوِي الهَيْئَاتِ: أي: ذَوي الهَيْئاتِ الحَسَنَةِ, الذَيِن لا يرى الناس منهم إلا الصلاح والخير، وفي السّتر على هؤلاء فضلٌ عظيم: قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا, إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" رواه مسلم. فمن عُرف بالصلاحِ والخيرِ, فنستره وننصحه, ومن سعى في فضحه, والتشفي منه بفعله، فلْيسمع قولَه -صلى الله عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ, وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ, لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ, وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ, فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ, يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ في بَيْتِهِ" رواه الإمام أحمد وصححه الألباني. اللهم لا تفضحنا بين خلقك, وتجاوز عنا يوم العرض عليك, إنك على كلِّ شيءٍ قدير. اللهم اشملنا بسترك الجميل واجعل تحت الستر ماترضى به عنا. فاللهم كما سترت ذاتك عن أن تدركها العيون، أوتحيط بها الظنون. استرنا وذريتنا وجميع من نحب ستراً تاماً تحفظنا به أن نقع فى معصية أبداً. واسترنا ستراً تاماً تحفظنا به من شرور خلقك أجمعين. وصبحنا يا الله بكل نعمة وعافية وستر. وأتمم لنا نعمتك وسترك وعافيتك فى الدنيا والآخرة. يارب استرنا إذا ماوارانا التراب. وتركنا الأهل والأحباب. وودعنا الدنيا وتقطعت بنا الأسباب. ولم يبق لنا إلا أنت يارب الأرباب