قضية الذكر والنسيان
الحمد لله ذي المن والعطاء، يوالي على عباده النعماء، ويرادف عليهم الآلاء، نحمده تعالى حث على الأخوة وحذر من الجفاء، ونشكره على حال السراء والضراء، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزه عن الأنداد والشركاء، وتعالى عن الأمثال والنظراء، هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، وأشهد أنّ نبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، صلى الله عليه وعلى آله الأوفياء، وصحابته الأتقياء, والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء، وسلّم تسليماً كثيرًا.. أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإن تقواه سبحانه عروةٌ ليس لها انفصام وجذوة تنير القلوب والأفهام، وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ
إن قضية الذكر والنسيان قضية عقلية مهمة، وقضية نفسية أهم، فإن معرفة الحق، وحسن رؤيته، وصدق الاتجاه إليه، والاستقامة على طريقه، إن ذلك كله هو الأداء الصحيح لرسالة الإنسان في هذه الحياة؛ ذلك أن رب العالمين بيَّن أنه إنما خلق الزمان والمكان ليستطيع كل إنسان أن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يجحد: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ الفرقان 62. وللبيئات التي يعيش الإنسان فيها أثر عميق في قضية الذكر والنسيان، فهناك وسط يعين على حدة الذهن، ويقظة القلب؛ وهناك أوساط تعين على الغفلة، والخمول، وبلادة السلوك والاتجاه! ومن أعانه الله على أن يكون في بيئة تسدد خطاه، وتقوِّى عزيمته، فقد يثمر له خيرا كثيرا، وإنما يتم ذلك بالدعاء، وقد جاء في الحديث الشريف: اللهم أعنِّى على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك. وجاء في الحديث أيضا أن هناك أحوالا عارضة قد تعرض للعقل تعرُّض الغيوم للشمس فتكف ضوءها، وتكسف شعاعها، هناك فقر يذهل ويجعل صاحبه وراء حصار من الهموم التي تبدد قواه وطاقته وراء مطالب الحياة الدنيا، وقد وجه نبينا -صلى الله عليه وسلم- النظر إليه عندما قال: بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقراً مُنسيًا، أو غنًى مُطغيًا، أو مرضاً مُفسدًا، أو هَرَماً مُفنِّدًا، أو موتاً مُجهِزًا، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر. الغنى المطغي والفقر المنسي من البلاء الذي يصيب الناس. يجب أن نعرف أن قضية الذكر والنسيان خطيرة، فإن نجاح الطالب إنما يكون بمقدار ما يذكر من حقائق العلوم التي حصلها، وبقدر ما تشرق في قلبه أنواع المعرفة التي درسها، فإذا طوى النسيان هذه العلوم كلها فلا نهاية إلا السقوط، ولا ختام إلا الفشل!. والتاجر الذي لا يدري من تجارب الماضي، ولا من العبر التي مرت به، لا يدري ما هي مواطن الربح والخسارة في أحواله وأعماله، فإنه يتعرض للبوار في غده القريب، أو في مستقبله البعيد. وقد بين القرآن الكريم أن هناك ناسا يستقبلون الحياة ولا وعي لهم ولا ذكر، وهؤلاء منافقون أو أشباه منافقين، يقول الله فيهم: ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ التوبة 126. قصة الذكر والنسيان قصة تحتاج إلى شيء من المعالجة، وقد رأيت أن سورة من سور القرآن تعرضت لقضية الذكر والنسيان في سبعة أو ثمانية مواضع منها، فأردت -معكم- أن أمضي في عرض هذه المواضع حتى ننتفع بها، ونقتبس من كتاب الله ما ينير قلوبنا، ويذكرنا بما لا يجوز أن ننساه من أمر ديننا. ذلك، ولنعلم أن القرآن الكريم له أسماء رسمية، أو أسماء إلهية، ليست أسماء شهرة أطلقت عليه من الناس، بل هي أسماء إلهية أطلقت عليه ممن أنزله -تبارك اسمه-… فمن أسماء القرآن: القرآن، والكتاب، والذكر؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ الحجر9، سُمي ذكرا لأنه يُوقظ القرائح الميتة، ويودع فيها حياة جديدة، ويذهب بالخمول الذي يرين على بعض القلوب، ويجعل منها أوعية لها بالله علاقة حسنة!. وليس حفظ الذكر بطبع ألف مليون مصحف جيدة الطبع، فهي أوراق ليست أكثر من حبر على ورق، وليس حفظ القرآن بألف مليون شريط مسجل عليها القرآن بأصوات حسنة أو بأصوات عادية، فهي أشرطة تثبت أو تمحى! حفظ القرآن بحفظ ناس أنار الله أفئدتهم بمعرفته، وأنضج سلوكهم بالطيبة، فإذا أخلاقهم حلوة، وإذا سلوكهم راشد، وإذا أثرهم في الحياة عميق! حفظ الذكر بحفظ أمة تعمل له، وتعمل به، وتدافع عنه، وتمثله على ظهر الأرض، وتعرضه على العالمين؛ لأنه رسالة خاتمة؛ وإذا لم توجد هذه الأمة فستُطوى سرادق الحياة… أما السورة التي أشرت إليها وقلت: إنها عرضت لقضية الذكر والنسيان في ثمانية مواضع؟ هي سورة طه، أول سطر فيها ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ طه 1-3. ومعنى الآية أنك يا محمد مكلف بالبلاغ، وتذكير الغافلين، وإعادة العلم إلى من جهلوه، وإعادة الفِطر إلى سلامتها التي ولدت بها؛ إنك ستجد من ينصرف عنك، ومن يصد عن طريقك، فلا تحزن. وقد كان الناس كذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصا على الدعوة، وكان المشركون يرونه من بعيد فيقول أحدهم للأخر: إذا لقِيَنا فسيعرض علينا الإسلام، تعالوا نختفي من طريقه، تعالوا نتشاغل عنه حتى لا يحدثنا عن دينه هذا: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ هود 5. فمع كرههم له ولدعوته ورسالته، وضيقهم بما يسمعون منه، فقد قيل له: امض في طريق الدعوة، ولا تأسف إذا كفر بها من كفر، وجحد بها من جحد؛ لا تشْقَ بهذا، فأنت مكلف بالبلاغ والتذكير: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾. هذا أول ما عرضت له السورة من قضايا الذكر والنسيان، وكل ما تعطيه الآية أن صاحب الدعوة الحقيقي يتحدث كوالد ينصح بَنِيه، أو كمدرس شفيق حنون يعلم تلامذته وهو عميق الرغبة في أن يرفع مستواهم، وأن ينقذهم مما هم فيه من جاهلية وضياع. الموضع الثاني في السورة قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ طه 14، والواقع أن الصلوات ساعات يعود الناس بها إلى ربهم، أو تعود بالناس إلى ربهم إذا شدتهم مطالب الدنيا، وضرورات الحياة بعيدا عن ذكره ومراقبته، واستلهامه الرشد، واستمداد العون منه جل جلاله. عندما تفسد الأديان تفسد بتحولها من طاقة توقظ العقل، وتحيي الضمير؛ فتوجه الناس إلى شكل فُرِّغ من محتواه، وتصبح صورة لا حقيقة لها، أو جسدا لا روح فيه! والصلوات عند كثير من الناس حركات بدنية، وليست قلبا خاشعا، ولا فكرا ساجدا، مع أن الله -جل جلاله- بيَّن للمسلمين يوم كانت الخمر في مراحل التدرج فلم ينزل نص قاطع بتحريمها، بيَّن حرمة أن يقف الناس بين يديه سكارى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ النساء 43. هناك ناس سكارى بخمرة الدنيا يقفون بين يدي الله فلا يعلمون ما يقولون! وهذا -بداهة- ليس من رسالة الصلاة؛ لا في تأديب النفس، ولا في قيادة المجتمع إلى الله سبحانه و تعالى
والحمد لله رب العالمين