ذم إيثار رضا المخلوق على رضا الخالق - الشيخ أسامة خياط
الحمد لله العليم القدير، أحمده – سبحانه – وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – وتزوَّدوا بخير الزاد ليوم المعاد: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل: 111].
أيها المسلمون:
في مواعظ سلفنا الصالح دررٌ وكنوزٌ يعظم وقعها في النفوس ويجلُّ قدرها في القلوب جديرةٌ بأن يقف كل أريبٍ مريدٍ للخير على مراميها رغبةً في حيازة أوفى نصيبٍ من الهداية التي تكون له خير عدةٍ في حياته الدنيا وسبيل سعادة وفلاحٍ في الآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
لذلك ما جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – حين كتب إليها معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – يقول: اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري، فكتبت إليه – رضي الله عنها - تقول: أما بعد، فقد سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "من الْتمسَ رضا الله بسخط الناس رضِي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا النَّاسِ بسخط الله سخِطَ الله عليه وأسْخَط عليه الناس") أخرجه الترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه بإسنادٍ صحيح.
ولا ريب أن كل مؤمنٍ بالله واليوم الآخر آتاه الله عقلاً يميز به بين ما ينفعه وما يضره، ويسلك به مسالك السلامة ويبلغ به الأمل في كل خيرٍ عاجلٍ أو آجل لا يقدم رضا أحدٍ من الخلق مهما عظم شأنه وسمت منزلته على رضا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه يُرجَع الأمرُ كله.
غير أن من الناس من غلبت عليه الغفلة وبعُد عن الجادة واستجاب لداعي الهوى وتزوير الشيطان وتزيين النفس الأمَّارة بالسوء، فآثر رضا المخلوق العاجز الفاني على رضا ربه الأعلى؛ فتردَّى في الظلمات وأضاع طريق النجاة وكان أمره فُرُطَا.
ألا وإن لهذا الإيذان صوراً لا تحصى، منها:
ترك النصح الواجب في عنق كل مسلم والإعراض عن إنكار المنكر محاباةً ومداراة أو خوفاً من بأسٍ أو سطوة أو إيذاءٍ أو كيد، وهو اتباعٌ لغير سبيل المؤمنين ومجانبةٌ لنهج الصالحين الذين يعلمون أن ربهم – عز وجل – قد أوجب الإنكار على كل من استعلن بمنكر، والأخذ على يده وحجزه عن الاستمرار فيه - قريباً كان أم بعيدا رفيع القدر أم وضيعاً - سعيا لاستصلاح شأن أهل الغواية واستنقاذهم من مجالب الهلاك وبواعث الضياع والخسران، وحفظاً للمجتمع من أسباب الضعف وعوامل الفساد التي تنخر في قواعده وتهدد بناءه.
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه –: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيدِه، فإنْ لم يستطعْ فبلسانهِ، فإن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعف الإيمان".
فإذا أغفل الناس هذا الواجب وأعرضوا عن هذا الهدي وتركوا هذا السبيل عمَّ البلاء وأطلَّ الشر برأسه وبزغت بوادر الخطر، ووقع ما أخبر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسنادٍ حسنٍ عن أبي هريرة – رضي الله عنه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "والذي نفسي بيدِه لَتأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُّن عن المنكر أو لَيوْشكنَّ الله أن يبعثَ عليكُمْ عقاباً من عنده ثم لتدعُنَّه فلا يستجيب لكم".
هذا مع ما ينضم إلى ذلك من قلة الخيرات ومحْق البركات، وكفى بترك هذا الواجب وبالاً أنه كان سبباً للعن الذين كفروا من بني إسرائيل قديماً كما قال – سبحانه -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 – 79].
ومن صور التماس رضا المخلوق بسخط الخالق:
ما يكون من ممالئة الظالم على ظلمه بمعاونته عليه وتسهيل سبيله وإمداده بما يحمله على الاستمرار على ظلمه والإقامة عليه، وعدم استشعار شدة الضرر وعظم الغدر فيه، إما باقتطاع أرضٍ لغيره بغير حق أو بامتناعٍ عن تنفيذ حكمٍ شرعي أو بالمماطلة في تنفيذه.
ومن ذلك:إباحة ما حرَّم الله أو تحريم ما أحله الله مجاراةً للأهواء وموافقةً للرغبات، ومنه ميل بعض الأزواج إلى إحدى زوجاته كل الميل فيعمل إلى إرضائها بمنحها ومنح أولادها كل ما يبتغون ويذر الأخرى كالمعلقة بسلوك كل السبل المؤدية إلى حرمانها وحرمان أولادها من حكم كل حقٍّ واجبٍ لهم.
ومن ذلك أيضاً: التفضيل بين الطلاب في امتحاناتهم وبين الموظفين في تعييناتهم وترقياتهم بالنظر إلى الجاه والمكانة لا إلى الأهلية والكفاءة التماساً لرضا الطائفة الأولى على حساب الطائفة الثانية، إلى غير ذلك من صور التماس رضا المخلوق بسخط الخالق – سبحانه – مما لا يفوقه حد ولا يستوعبه عد.
وكل أولئك – يا عباد الله – من ألوان الحيدة عن الجادة والتنكُّب عن طريق الحق والتردي في وهدة الباطل الذي يورث أهله هذه العاقبة الوبيلة المتجلية في سخط الله – تعالى – وإسخاط الناس.
فحذاري – ياعباد الله – حذار في سلوك سبيل هؤلاء الذين ضل سعيهم وخاب أملهم وارتدت عليهم سهامهم، واتقوا الله الذي يعلم سرَّكم وعلانيتكم، ولا يصرفنكم عن إحقاق الحق وإزهاق الباطل صارفٌ من صداقة صديق أو قرابة قريبٍ أو شفاعة شفيع، وكونوا كما أمركم ربكم قوَّامين بالقسط في كل أحوالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 135].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم –.
أقول قولي هذا واستغفر الله - العظيم الجليل - لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم وصلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فياعباد الله؛ قال بعض أهل العلم: إن إرضاء الناس بسخط الله - تعالى - ضعفٌ في اليقين الذي هو الإيمان كله.
كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه –:وكمال الإيمان في إيثار ما يرضي الله على ما تهواه النفوس والصبر على مخالفة هواها كما قال – تعالى –: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب: 39].
وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضا المخلوق بما يجلب سخط خالقه وربه الذي يتصرف في القلوب ويفرِّج الكروب ويغفر الذنوب.
وبهذا الاعتبار يدخل في نوعٍ من الشرك لأنه آثر رضا المخلوق على رضا الله وتقرَّب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلَّمه الله ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله وتنزيهه – تعالى – عن كل ما ينافي كماله ومعرفة توحيده في ربوبيته وإلهيته.
فاتقوا الله – عباد الله – واحرصوا كل الحرص على بلوغ رضاه والتعلق به دون سواه؛ فإنه - سبحانه - المعطي المانع الضار النافع لا رب غيره ولا إله سواه.
واذكروا على الدوام أن الله - تعالى - قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم رسل الله فقال - سبحانه - في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة - أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك ياأكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم واجمع كلمتهم على الحق يارب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيء له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى ياسميع الدعاء.
اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يامن إليه المرجع يوم التناد.
اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً كل خير سالمةً من كل شر وسائر بلاد المسلمين يارب العالمين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم اشفِ مرضانا وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – وتزوَّدوا بخير الزاد ليوم المعاد: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل: 111].
أيها المسلمون:
في مواعظ سلفنا الصالح دررٌ وكنوزٌ يعظم وقعها في النفوس ويجلُّ قدرها في القلوب جديرةٌ بأن يقف كل أريبٍ مريدٍ للخير على مراميها رغبةً في حيازة أوفى نصيبٍ من الهداية التي تكون له خير عدةٍ في حياته الدنيا وسبيل سعادة وفلاحٍ في الآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
لذلك ما جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – حين كتب إليها معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – يقول: اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري، فكتبت إليه – رضي الله عنها - تقول: أما بعد، فقد سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "من الْتمسَ رضا الله بسخط الناس رضِي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا النَّاسِ بسخط الله سخِطَ الله عليه وأسْخَط عليه الناس") أخرجه الترمذي في جامعه وابن حبان في صحيحه بإسنادٍ صحيح.
ولا ريب أن كل مؤمنٍ بالله واليوم الآخر آتاه الله عقلاً يميز به بين ما ينفعه وما يضره، ويسلك به مسالك السلامة ويبلغ به الأمل في كل خيرٍ عاجلٍ أو آجل لا يقدم رضا أحدٍ من الخلق مهما عظم شأنه وسمت منزلته على رضا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه يُرجَع الأمرُ كله.
غير أن من الناس من غلبت عليه الغفلة وبعُد عن الجادة واستجاب لداعي الهوى وتزوير الشيطان وتزيين النفس الأمَّارة بالسوء، فآثر رضا المخلوق العاجز الفاني على رضا ربه الأعلى؛ فتردَّى في الظلمات وأضاع طريق النجاة وكان أمره فُرُطَا.
ألا وإن لهذا الإيذان صوراً لا تحصى، منها:
ترك النصح الواجب في عنق كل مسلم والإعراض عن إنكار المنكر محاباةً ومداراة أو خوفاً من بأسٍ أو سطوة أو إيذاءٍ أو كيد، وهو اتباعٌ لغير سبيل المؤمنين ومجانبةٌ لنهج الصالحين الذين يعلمون أن ربهم – عز وجل – قد أوجب الإنكار على كل من استعلن بمنكر، والأخذ على يده وحجزه عن الاستمرار فيه - قريباً كان أم بعيدا رفيع القدر أم وضيعاً - سعيا لاستصلاح شأن أهل الغواية واستنقاذهم من مجالب الهلاك وبواعث الضياع والخسران، وحفظاً للمجتمع من أسباب الضعف وعوامل الفساد التي تنخر في قواعده وتهدد بناءه.
جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه –: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيدِه، فإنْ لم يستطعْ فبلسانهِ، فإن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعف الإيمان".
فإذا أغفل الناس هذا الواجب وأعرضوا عن هذا الهدي وتركوا هذا السبيل عمَّ البلاء وأطلَّ الشر برأسه وبزغت بوادر الخطر، ووقع ما أخبر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسنادٍ حسنٍ عن أبي هريرة – رضي الله عنه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "والذي نفسي بيدِه لَتأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُّن عن المنكر أو لَيوْشكنَّ الله أن يبعثَ عليكُمْ عقاباً من عنده ثم لتدعُنَّه فلا يستجيب لكم".
هذا مع ما ينضم إلى ذلك من قلة الخيرات ومحْق البركات، وكفى بترك هذا الواجب وبالاً أنه كان سبباً للعن الذين كفروا من بني إسرائيل قديماً كما قال – سبحانه -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 – 79].
ومن صور التماس رضا المخلوق بسخط الخالق:
ما يكون من ممالئة الظالم على ظلمه بمعاونته عليه وتسهيل سبيله وإمداده بما يحمله على الاستمرار على ظلمه والإقامة عليه، وعدم استشعار شدة الضرر وعظم الغدر فيه، إما باقتطاع أرضٍ لغيره بغير حق أو بامتناعٍ عن تنفيذ حكمٍ شرعي أو بالمماطلة في تنفيذه.
ومن ذلك:إباحة ما حرَّم الله أو تحريم ما أحله الله مجاراةً للأهواء وموافقةً للرغبات، ومنه ميل بعض الأزواج إلى إحدى زوجاته كل الميل فيعمل إلى إرضائها بمنحها ومنح أولادها كل ما يبتغون ويذر الأخرى كالمعلقة بسلوك كل السبل المؤدية إلى حرمانها وحرمان أولادها من حكم كل حقٍّ واجبٍ لهم.
ومن ذلك أيضاً: التفضيل بين الطلاب في امتحاناتهم وبين الموظفين في تعييناتهم وترقياتهم بالنظر إلى الجاه والمكانة لا إلى الأهلية والكفاءة التماساً لرضا الطائفة الأولى على حساب الطائفة الثانية، إلى غير ذلك من صور التماس رضا المخلوق بسخط الخالق – سبحانه – مما لا يفوقه حد ولا يستوعبه عد.
وكل أولئك – يا عباد الله – من ألوان الحيدة عن الجادة والتنكُّب عن طريق الحق والتردي في وهدة الباطل الذي يورث أهله هذه العاقبة الوبيلة المتجلية في سخط الله – تعالى – وإسخاط الناس.
فحذاري – ياعباد الله – حذار في سلوك سبيل هؤلاء الذين ضل سعيهم وخاب أملهم وارتدت عليهم سهامهم، واتقوا الله الذي يعلم سرَّكم وعلانيتكم، ولا يصرفنكم عن إحقاق الحق وإزهاق الباطل صارفٌ من صداقة صديق أو قرابة قريبٍ أو شفاعة شفيع، وكونوا كما أمركم ربكم قوَّامين بالقسط في كل أحوالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 135].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم –.
أقول قولي هذا واستغفر الله - العظيم الجليل - لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم وصلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فياعباد الله؛ قال بعض أهل العلم: إن إرضاء الناس بسخط الله - تعالى - ضعفٌ في اليقين الذي هو الإيمان كله.
كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه –:وكمال الإيمان في إيثار ما يرضي الله على ما تهواه النفوس والصبر على مخالفة هواها كما قال – تعالى –: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب: 39].
وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضا المخلوق بما يجلب سخط خالقه وربه الذي يتصرف في القلوب ويفرِّج الكروب ويغفر الذنوب.
وبهذا الاعتبار يدخل في نوعٍ من الشرك لأنه آثر رضا المخلوق على رضا الله وتقرَّب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلَّمه الله ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله وتنزيهه – تعالى – عن كل ما ينافي كماله ومعرفة توحيده في ربوبيته وإلهيته.
فاتقوا الله – عباد الله – واحرصوا كل الحرص على بلوغ رضاه والتعلق به دون سواه؛ فإنه - سبحانه - المعطي المانع الضار النافع لا رب غيره ولا إله سواه.
واذكروا على الدوام أن الله - تعالى - قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم رسل الله فقال - سبحانه - في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة - أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك ياأكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم واجمع كلمتهم على الحق يارب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيء له البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى ياسميع الدعاء.
اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يامن إليه المرجع يوم التناد.
اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً كل خير سالمةً من كل شر وسائر بلاد المسلمين يارب العالمين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم اشفِ مرضانا وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين