بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية
لفضيلة الشيخ : علي الحذيفي
بتاريخ : 2- 2-1424هـ
وهي بعنوان : أهمية التوبة
الحمد لله التواب الرحيم، الحليم العليم، أحمد ربي وأشكره على فضله
العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي العظيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا
محمدًا عبده ورسوله، الموصوف بكل خلق كريم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على
عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي النهج القويم.
أمّا بعد:
فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله الجليل عدّة لكلّ شدّة، وحصنٌ أمين لمن دخله، وجُنّة من عذاب الله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ ربَّكم خلق بني آدم معرَّضًا للخطيئات،
معرَّضا للتقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليه
السيِّئات، كرمًا منه وتفضُّلا وإحسانًا، قال الله تعالى: مَن جَاء
بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ
يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[الأنعام:160]، وعن ابن
عباس قال: قال رسول الله : ((إنّ الله كتب الحسناتِ
والسيّئات، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عندَه حسنةً كامِلة، وإن
عمِلها كتبها الله عنده عشرَ حسنات، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعافٍ كثيرة،
فإن همَّ بسيئة فلم يعملْها كتبها الله عندَه حسنة كامِلة، فإن عمِلها
كتبها الله عنده سيِّئة واحدة)) رواه البخاري.
فشرَع الله لكسبِ الحسنات طرُقًا للخيرات وفرائضَ مكفِّراتٍ للسيِّئات
رافعةً للدّرجات، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :
((الصلواتُ الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما
بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر)) رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص
قال: قال رسول الله : ((أربعون خَصلة أعلاها مَنيحَة
العَنز، ما مِن عاملٍ يعمل بخصلةٍ منها رجاءَ ثوابِها وتصديقَ موعودِها
إلا أدخله الله بها الجنّة)) رواه البخاري، وعن أبي هريرة عن
النبي قال: ((الإيمان بضعٌ وسبعون ـ أو بضعٌ وستون ـ شعبة، فأفضلها قول:
لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطّريق، والحياءُ شعبَة من
الإيمان)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول
الله، أيُّ العمل أفضَل؟ قال: ((الإيمانُ بالله والجِهاد في سبيله))، قلت:
أيُّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ((أنفسُها عند أهلها وأكثرُها ثمنًا))، قلت: فإن
لم أفعل؟! قال: ((تُعين صانعًا أو تصنَع لأخرق))، قلت: يا رسول الله،
أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعضِ العمل؟! قال: ((تكفُّ شرَّك عن النّاس، فإنّها
صدقةٌ منك على نفسِك)) رواه البخاري ومسلم، وعنه قال: قال
رسول الله : ((لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ
طليق)) رواه مسلم، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله
ليرضى عن العبدِ أن يأكُل الأكلةَ فيحمده عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمده
عليها)) رواه مسلم.
وكما شرع الله كثرةَ أبوابِ الخير وأسباب الحسنات سدَّ أبوابَ الشرِّ
والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المعاصي والسيِّئات، ليثقلَ ميزان البرِّ
والخير، ويخِفَّ ميزانُ الإثم والشرِّ، فيكون العبد من الفائزين المفلحين،
قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَأَن
تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، وعن أبي هريرة
قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما
أمرتُكم به فائتوا منه ما استطعتُم)) رواه البخاري ومسلم.
وجِماع الخير ومِلاك الأمر وسببُ السعادة التوبةُ إلى الله، قال الله
تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31].
ومعنى التوبةِ هي الرجوع إلى الله والإنابةُ إليه من فعل المحرّم والإثم،
أو من ترك واجب أو التقصير فيه، بصدقِ قلبٍ وندمٍ على ما كان.
والتوبة النصوحُ يحفظ الله بها الأعمالَ الصالحة التي فعلها العبد،
ويكفِّر الله بها المعاصيَ التي وقعت، ويدفع الله بها العقوباتِ النازلةَ
والآتيَة، قال الله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ
فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ
كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ[يونس:98]. روى ابن جرير في تفسير
هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب
فتُرِكت إلا قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم
قذف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبسوا المسوح، وألهوا بين كلّ بهيمة
وولدها ـ أي: فرّقوا بينهما ـ، ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمّا عرف
الله الصدقَ من قلوبِهم والتوبة والندامةَ على ما مضى منهم كشفَ الله عنهم
العذابَ بعد أن تدلَّى عليهم" انتهى.
وقال تعالى: وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ
يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ
ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ[هود:3].
والتوبةُ واجبة على كلِّ أحدٍ من المسلمين، فالواقعُ في الكبيرة تجِب عليه
التوبة إلى الله ّ لئلاّ يبغته الموت وهو مقيمٌ على معصية،
والواقعُ في صغيرةٍ تجب عليه التّوبة لأنّ الإصرار على الصغيرة يكون من
كبائر الذنوب، والمؤدِّي للواجبات التاركُ للمحرّمات تجب عليه التّوبة
أيضا لما يلحَق العملَ من الشروط وانتفاء موانع قبوله، وما يُخشى على
العمل من الشوائب المحذَّر منها كالرّياء والسّمعة ونحو ذلك، عن الأغرّ بن
يسار قال: قال رسول الله : ((يا أيّها الناس، توبوا إلى الله
واستغفِروه، فإنّي أتوب في اليوم مائةَ مرّة)) رواه مسلم.
والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق به الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّها الله؛
لأنّ العبد إذا أحدث لكلّ ذنبٍ يقع فيه توبةً كثُرت حسناته ونقصت
سيّئاتُه، قال الله تعالى: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ
إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ
إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً
يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً
فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ
غَفُوراً رَّحِيماً[الفرقان:68-70].
أيّها المسلمون، تذكَّروا سعةَ رحمة الله وعظيمَ فضله وحلمِه وجوده وكرمه،
حيث قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحم ضعفَ هذا الإنسان
المسكين، وأثابه على التّوبة، وفتح له أبوابَ الطهارة والخيرات، عن أبي
موسى الأشعري عن النبي قال: ((إنَّ الله تعالى يبسط يدَه
بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل)) رواه
مسلم.
والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصف بها تحقَّق
فلاحُه وظهر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ
وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ[القصص:67].
وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فرحُ الرّبّ بها فرحاً شديداً، عن أنس رضي الله
عنه قال: قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحاً بتوبةَِ عبدِه من أحدِكم
سقَط على بعيره وقد أضلّه في أرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث
الآخر الذي يرويه الإمام مسلم: ((للهُ أشدّ فرحاً بتوبةِ عبدِه من أحدِكم
أضلَّ راحلتَه في فلاة، عليها متاعُه، فطلبَها حتى إذا أعيَى نام تحت
شجرة، فإذا هي واقفةٌ على رأسه، فأخذ بخطامها، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا
ربّك، أخطأ من شدّة الفرح))، فاللهُ أشدّ فرحاً بتوبة عبدِه من هذا الذي
أضلّ راحلتَه.
والتّوبة من صفاتِ النبيّين عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين، قال الله
تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ
وَٱلأنصَـٰرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ
مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ[التوبة:117]، وقال تعالى عن موسى عليه
الصلاة والسلام: قَالَ سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ
ٱلْمُؤْمِنِينَ[الأعراف:143]، وقال عن داود عليه الصلاة والسلام:
وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ص:17]، وقال
ّ: ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ
ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ
ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشّرِ
ٱلْمُؤْمِنِينَ[التوبة:112]. ألا ما أجلّ صفةَ التّوبة التي بدأ الله بها
هذه الصفاتِ المثلى العظيمةَ من صفاتِ الإيمان.
والتّوبة عبادةٌ لله بالجوارِح والقلب، واليومُ الذي يتوب الله فيه على
العبدِ خيرُ أيام العُمر، والسّاعة التي يفتح الله فيها لعبدِه بابَ
التوبة ويرحمُه بها أفضلُ ساعاتِ الدّهر؛ لأنّه قد سعِد بالتّوبة سعادةً
لا يشقى بعدها أبداً، عن كعب بن مالك في قصّة توبَة الله
عليه في تخلّفه عن غزوة تبوك أنه قال: فلمّا سلّمت على رسول الله قال وهو
يبرق وجهه من السّرور: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك))
رواه البخاريّ ومسلم
خطبة الجمعة في المسجد النبوي بالمدينة النبوية
لفضيلة الشيخ : علي الحذيفي
بتاريخ : 2- 2-1424هـ
وهي بعنوان : أهمية التوبة
الحمد لله التواب الرحيم، الحليم العليم، أحمد ربي وأشكره على فضله
العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي العظيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا
محمدًا عبده ورسوله، الموصوف بكل خلق كريم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على
عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ذوي النهج القويم.
أمّا بعد:
فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله الجليل عدّة لكلّ شدّة، وحصنٌ أمين لمن دخله، وجُنّة من عذاب الله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ ربَّكم خلق بني آدم معرَّضًا للخطيئات،
معرَّضا للتقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليه
السيِّئات، كرمًا منه وتفضُّلا وإحسانًا، قال الله تعالى: مَن جَاء
بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ
يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[الأنعام:160]، وعن ابن
عباس قال: قال رسول الله : ((إنّ الله كتب الحسناتِ
والسيّئات، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عندَه حسنةً كامِلة، وإن
عمِلها كتبها الله عنده عشرَ حسنات، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعافٍ كثيرة،
فإن همَّ بسيئة فلم يعملْها كتبها الله عندَه حسنة كامِلة، فإن عمِلها
كتبها الله عنده سيِّئة واحدة)) رواه البخاري.
فشرَع الله لكسبِ الحسنات طرُقًا للخيرات وفرائضَ مكفِّراتٍ للسيِّئات
رافعةً للدّرجات، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :
((الصلواتُ الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما
بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر)) رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص
قال: قال رسول الله : ((أربعون خَصلة أعلاها مَنيحَة
العَنز، ما مِن عاملٍ يعمل بخصلةٍ منها رجاءَ ثوابِها وتصديقَ موعودِها
إلا أدخله الله بها الجنّة)) رواه البخاري، وعن أبي هريرة عن
النبي قال: ((الإيمان بضعٌ وسبعون ـ أو بضعٌ وستون ـ شعبة، فأفضلها قول:
لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطّريق، والحياءُ شعبَة من
الإيمان)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول
الله، أيُّ العمل أفضَل؟ قال: ((الإيمانُ بالله والجِهاد في سبيله))، قلت:
أيُّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ((أنفسُها عند أهلها وأكثرُها ثمنًا))، قلت: فإن
لم أفعل؟! قال: ((تُعين صانعًا أو تصنَع لأخرق))، قلت: يا رسول الله،
أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعضِ العمل؟! قال: ((تكفُّ شرَّك عن النّاس، فإنّها
صدقةٌ منك على نفسِك)) رواه البخاري ومسلم، وعنه قال: قال
رسول الله : ((لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ
طليق)) رواه مسلم، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله
ليرضى عن العبدِ أن يأكُل الأكلةَ فيحمده عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمده
عليها)) رواه مسلم.
وكما شرع الله كثرةَ أبوابِ الخير وأسباب الحسنات سدَّ أبوابَ الشرِّ
والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المعاصي والسيِّئات، ليثقلَ ميزان البرِّ
والخير، ويخِفَّ ميزانُ الإثم والشرِّ، فيكون العبد من الفائزين المفلحين،
قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَأَن
تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰناً وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، وعن أبي هريرة
قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما
أمرتُكم به فائتوا منه ما استطعتُم)) رواه البخاري ومسلم.
وجِماع الخير ومِلاك الأمر وسببُ السعادة التوبةُ إلى الله، قال الله
تعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31].
ومعنى التوبةِ هي الرجوع إلى الله والإنابةُ إليه من فعل المحرّم والإثم،
أو من ترك واجب أو التقصير فيه، بصدقِ قلبٍ وندمٍ على ما كان.
والتوبة النصوحُ يحفظ الله بها الأعمالَ الصالحة التي فعلها العبد،
ويكفِّر الله بها المعاصيَ التي وقعت، ويدفع الله بها العقوباتِ النازلةَ
والآتيَة، قال الله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ
فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ
كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ[يونس:98]. روى ابن جرير في تفسير
هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب
فتُرِكت إلا قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم
قذف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبسوا المسوح، وألهوا بين كلّ بهيمة
وولدها ـ أي: فرّقوا بينهما ـ، ثم عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمّا عرف
الله الصدقَ من قلوبِهم والتوبة والندامةَ على ما مضى منهم كشفَ الله عنهم
العذابَ بعد أن تدلَّى عليهم" انتهى.
وقال تعالى: وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ
يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ
ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ[هود:3].
والتوبةُ واجبة على كلِّ أحدٍ من المسلمين، فالواقعُ في الكبيرة تجِب عليه
التوبة إلى الله ّ لئلاّ يبغته الموت وهو مقيمٌ على معصية،
والواقعُ في صغيرةٍ تجب عليه التّوبة لأنّ الإصرار على الصغيرة يكون من
كبائر الذنوب، والمؤدِّي للواجبات التاركُ للمحرّمات تجب عليه التّوبة
أيضا لما يلحَق العملَ من الشروط وانتفاء موانع قبوله، وما يُخشى على
العمل من الشوائب المحذَّر منها كالرّياء والسّمعة ونحو ذلك، عن الأغرّ بن
يسار قال: قال رسول الله : ((يا أيّها الناس، توبوا إلى الله
واستغفِروه، فإنّي أتوب في اليوم مائةَ مرّة)) رواه مسلم.
والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق به الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّها الله؛
لأنّ العبد إذا أحدث لكلّ ذنبٍ يقع فيه توبةً كثُرت حسناته ونقصت
سيّئاتُه، قال الله تعالى: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ
إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ
إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً
يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً
فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ
غَفُوراً رَّحِيماً[الفرقان:68-70].
أيّها المسلمون، تذكَّروا سعةَ رحمة الله وعظيمَ فضله وحلمِه وجوده وكرمه،
حيث قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحم ضعفَ هذا الإنسان
المسكين، وأثابه على التّوبة، وفتح له أبوابَ الطهارة والخيرات، عن أبي
موسى الأشعري عن النبي قال: ((إنَّ الله تعالى يبسط يدَه
بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل)) رواه
مسلم.
والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصف بها تحقَّق
فلاحُه وظهر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ
وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ[القصص:67].
وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فرحُ الرّبّ بها فرحاً شديداً، عن أنس رضي الله
عنه قال: قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحاً بتوبةَِ عبدِه من أحدِكم
سقَط على بعيره وقد أضلّه في أرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث
الآخر الذي يرويه الإمام مسلم: ((للهُ أشدّ فرحاً بتوبةِ عبدِه من أحدِكم
أضلَّ راحلتَه في فلاة، عليها متاعُه، فطلبَها حتى إذا أعيَى نام تحت
شجرة، فإذا هي واقفةٌ على رأسه، فأخذ بخطامها، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا
ربّك، أخطأ من شدّة الفرح))، فاللهُ أشدّ فرحاً بتوبة عبدِه من هذا الذي
أضلّ راحلتَه.
والتّوبة من صفاتِ النبيّين عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين، قال الله
تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ
وَٱلأنصَـٰرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ
مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ[التوبة:117]، وقال تعالى عن موسى عليه
الصلاة والسلام: قَالَ سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ
ٱلْمُؤْمِنِينَ[الأعراف:143]، وقال عن داود عليه الصلاة والسلام:
وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ص:17]، وقال
ّ: ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ
ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ
ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشّرِ
ٱلْمُؤْمِنِينَ[التوبة:112]. ألا ما أجلّ صفةَ التّوبة التي بدأ الله بها
هذه الصفاتِ المثلى العظيمةَ من صفاتِ الإيمان.
والتّوبة عبادةٌ لله بالجوارِح والقلب، واليومُ الذي يتوب الله فيه على
العبدِ خيرُ أيام العُمر، والسّاعة التي يفتح الله فيها لعبدِه بابَ
التوبة ويرحمُه بها أفضلُ ساعاتِ الدّهر؛ لأنّه قد سعِد بالتّوبة سعادةً
لا يشقى بعدها أبداً، عن كعب بن مالك في قصّة توبَة الله
عليه في تخلّفه عن غزوة تبوك أنه قال: فلمّا سلّمت على رسول الله قال وهو
يبرق وجهه من السّرور: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك))
رواه البخاريّ ومسلم