الحكمة من الابتلاء
كل أمر في القران الكريم ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك يقتضي الوجوب. يؤكد هذه المعاني أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف معاذا وراءه وقال ((يا معاذ ما حق الله على عباده؟ قال الله ورسوله أعلم. سأله ثانية وثالثة ثم أجابه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. ثم سأله ثانية يا معاذ ما حق العباد على الله -لكرم الله وعظمته ورحمته وحكمته أنشأ لنا حقا عليه- ما حق العباد على الله إذا هم عبدوه؟ قال ألا يعذبهم)). فحق الله على عباده أن يعبدوه. جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ الشعراء 88 – 89. القلب السليم الذي برئ من شهوة لا ترضي الله، من عبادة غير الله، من تصديق خبر يناقض وحي الله، من الحب مع الله بل ينبغي أن يحب في الله، هذا هو القلب السليم. فما حق العباد على الله. قال ألا يعذبهم. ألا يكفينا هذا الحديث الصحيح؟ ألا يملأ قلبنا طمأنينة وأمنا وسلاما ورضا وثقة بالله عز وجل؟ حق العباد على الله إذا هم عبدوه ألا يعذبهم. من منا يحب العذاب؟ من يحب مرضا عضالا؟ من منا يحب فقرا مدقعا؟ من منا يحب ذلا مهينا؟ من منا يحب قهرا من إنسان يأكل ويشرب مثلنا؟ ما من إنسان على وجه الأرض من آدم الى يوم القيامة إلا ويتمنى السلامة والسعادة، إلا أنه أخطأ طريقها، لذلك أهل النار وهم في النار ماذا يقولون؟ ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ الملك 10. عدم العلم فقط. ولكنه من الخطإ الفادح أن نظن أن كل مصيبة هي مصيبة لأن الله عز وجل قال: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ لقمان 20. النعم الباطنة هي مصائب المؤمنين. ولكن بعض العلماء قسم المصائب إلى خمسة أقسام. القسم الأول: مصائب القصم ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ هود 36. هذه مصائب أهل الفجور وأهل الفسق والانحراف. مصائب قصم يعني ضربة واحدة: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ الحجر 74. ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ*إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾ البروج 12 – 13. المصائب الأخف من ذلك مصائب الردع. إذا علم الله أن في هذا الإنسان بقية خير تأتيه مصيبة ردع. يبقيه حيا ولكن يأتيه شيء لا يُحتمل فلعله يعود الى الله عز وجل. دققوا في هذه الآية: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الروم 41. أيها الإخوة الكرام: ليس في الأرض فساد إلا من صنع مخلوقين الإنس والجن. لأنهما مخيران ولأنهما أودعت فيهما الشهوات. فأصل الفساد من مخلوق أودع الله فيه شهوة جامحة، وأعطاه منهجا قويما ليُرشد هذه الشهوة. فضرب بالمنهج عرض الحائط وتحرك بشهوته بلا منهج وبلا ضابط فأفسد. هذا أصل الفساد. قال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ القصص 50. المعنى المخالف أنك لو اتبعت هواك وفق منهج الله لا شيء عليك. ليس في الاسلام حرمان. في الاسلام تنظيم. ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها. إن هذه الشهوات أودعها الله فينا لحكمة بالغة، ولولا هذه الشهوات ما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات. كيف تتقرب الى الله من دون شهوة؟ ما قيمه إنفاق آلاف الدنانير إن كان المال لا تشتهيه؟ ما قيمه غض البصر إن كانت المرأة لا تشتهيها؟ ما قيمة ضبط اللسان إن كان إفشاء الفضائح لا تشتهيها؟ أيها الإخوة الكرام: الشهوات دوافع الى الله. إنها كالوقود السائل في المركبة، إذا وضعت في مستودعاتها المحكمة، وسالت في الأنابيب المحكمة، وانفجرت في الوقت المناسب وفي المكان المناسب ولدت حركة نافعة. أما إذا خرجت الشهوات عن مسارها وجاءت المركبة شرارة، احترقت المركبة ومن فيها. فالشهوات إما أن تكون قوة دافعة إلى الله وإما أن تكون مدمرة. إنها حيادية. ولأن الإنسان مخير، فكل الشهوات التي أودعها الله فيه حيادية. يمكن أن توظف في الخير ويمكن أن توظف في الشر. بل إن حظوظ الإنسان التي منحها الله إياه حيادية. هل المال نعمة؟ نقول لا. هل هو نقمة؟ نقول لا. المال مادة موقوفة على طريقة استخدامه. ﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي ﴾ الفجر 15 – 16. الرّد الإلهي (كَلَّا) أداة ردع ونفي. ((كلا، ليس عطائي إكراما ولا منعي حرمانا. عطائي ابتلاء وحرماني دواء)). هذه حقيقة. أيها الإخوة الكرام: هنالك مصائب قصم وردع، أما المؤمنون فقد قال الله فيهم: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ البقرة 155 – 157. المصائب في هذه الآيات هي مصائب دفع ورفع. فالفجار، الملحدون، الكفار، لهم مصائب قصم. من كان فيه بقية خير يُعطى فرصة، فله مصائب ردع. من كان مستقيما على أمر الله لكن الله أراد أن يدفعه إليه بسرعة أعلى، له مصائب دفع. من قصّر في أعماله الصالحة ابتلاه الله بمصيبة كي يصبر عليها فيرتقي، هذه مصائب الرّفع. أما مصائب الكشف فهي مصائب الأنبياء. فهم ينطوون على كمال ما بعده كمال. وعلى خُلق ما بعده خلق. وعلى محبة لأعدائهم ما بعدها محبة. فيكشف الله حقيقتهم. الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الطائف ويمشي ثمانين كيلو متر في جبال وعرة، ثم يكذبه أهل الطائف ويسخرون منه ويغرون صبيانهم بإيذائه، فيأتيه جبريل ومعه ملك الجبال يقول: يا محمد لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين. فقال له: اللهم اهدي قومي فانهم لا يعلمون لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده. هذه هي مصائب الكشف، وهذه بعض الحقائق المتعلقة بالمصائب. وفي الختام: الدنيا دار ابتلاء، دار التواء لا دار استواء، منزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، -لأنه مؤقت-، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي.
والحمد لله رب العالمين