الخطبة الأولى :
الحمد
لله العزيز الغفار يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل , يعلم غيب
السماوات والأرض , لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ,
و أشهد ان لا إله إلا الله وحده لاشريك له و أشهد أن محمداً عبد الله
ورسوله , نصح الأمة بهديه وأنار , ومحى عنها لوثة الجاهلية و الشنار ,
فصلاوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ما أدبر ليل وأقبل نهار وسلم
تسليماً كثيرا
أمّا بعد:
فإنّ
الوَصيّة المبذولةَ لنا ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوَى الله سبحانَه
وخشيتُه في الغيبِ والشهادة، ولزومُ هديِ نبيّه صلى الله عليه وسلم،
وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثةٍ بِدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة.
أيّها
النّاس، إنَّ قوَّةَ المسلِم ورِفعتَه وعُلوَّ شأنه لتَكمُنُ بِوضوحٍ في
مدَى اعتزازِه بدينِه وتمسُّكِه بعَقيدَتِه وأخلاقِه ومَبَادِئه، وبُعدِه
عن لوثةِ التَّقليد الأعمَى والتَّبعيةِ المقيتَة وراءَ المجهول. وإنَّ
علَى رأسِ الاعتزاز والرّفعةِ التي هِي مطلَب مَنشودٌ لكلّ فردٍ مسلمٍ ـ
بَلهَ المجتمعات المسلِمة طُرًّا ـ هو الاتباعَ والاقتداءَ لهديِ النبيّ
صلى الله عليه وسلم والبُعدَ عن الإحداثِ والابتِداع، اتِّباعًا مِلؤه
التأسِّي المخلِص والمحبّةُ الدّاعَّةُ إليه، اتِّباعًا يُشعِر كلَّ مسلِم
ومُسلمةٍ أنَّ الخضوعَ في الدِّين والخُلُق الأدبَ إنما هو لله الواحِدِ
الأحَد؛ إذ كيف يحلُو دين لا خضوعَ فيه ولاَ اتباع؟! ومن هذا المنطلق
جاءَت الوصيّة الكبرَى منَ الخالقِ جلّ شأنه لعبادِه المؤمنين بِقولِه:
((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام: 153]، فكلُّ سبيلٍ غير صِراطِ الله
عليه شيطانٌ يَدعو إِليه، فيحبِّب سالِكيه إلى البِدعةِ، ويُبعِدهم عن
السنّة، وهي مرحلة من مراحلِ المراغَمةِ بين الشيطان وبني آدَم، وغوايةُ
الشَّيطان وحبائلُه كالكلاليبِ التي تتَخطَّف السَّالكين إلى
مُستَنقَعَاتِ الدُّون والعَطَب؛ ليقع فيها المرتابُ المتردّد الذي خَلِي
وِفاضُه عن أسُس الاتّباع والتمسّك بالسنَّة النبوية، فإمّا أَن يكونَ
ضَحيّةَ النكوصِ والاستهتارِ لأوّلِ وهلةٍ، أو أن يصبح ((كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ
الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام: 71].
أيّها
المسلِمون، لقَد كانَ مِن أسُسِ محبَّة الله جلَّ وعلا مِن قِبَل عبادِه
أن يجعَلوا من وسائِل هذهِ المحبّة الاتباعَ الصادقَ لنبيِّه صلى الله
عليه وسلم؛ ليَحسنَ القصدُ ويصدُق الزّعم، كما قَال تَعَالى: ((قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)) [آل عمران: 31، 32].
ولِذا ـ عبادَ الله ـ
كانَت البِدَع والمحدثاتُ التي تقَع في المجتَمَعاتِ كالطّوفان المغرِق،
بَيدَ أن السنّةَ الصّحيحة والاتِّباعَ الصادِق هما سَفينةُ نوحٍ التي من
رَكِبَها فقد نجا ومَن ترَكَها غَرق، ولا عاصمَ مِن أمر الله إلا من رَحِم.
في
الصحيحَين من حديثِ عائشةَ ا أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم قال: ((مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا مَا لَيسَ منه فهوَ ردٌّ))، وفي
روايةٍ لمسلم: ((كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردّ)).
فهَذا الحديث ـ
عبادَ الله ـ أصلٌ عظيم جامِعٌ من أصولِ الإسلام، وهو كالميزانِ للأعمال
في ظاهِرِها، فكلُّ عملٍ لا يكونُ عَلَيه أمرُ الله وأمرُ رسوله صلى الله
عليه وسلم فليس مِنَ الدّين في شيءٍ. قال النَّوويّ : "هذا
الحديث مما ينبغِي حفظُه واستعمالُه في إبطالِ المنكرات وإشاعةُ
الاستدلالِ به كذلك".
إنَّ الناظرَ في أَحوالِ المسلِمين ومبادِئِهم
ليَحكُم حُكمًا لا رَيبَ فيه ولا فُتونَ بأنَّ أهل الإسلام لا بدَّ أن
يراجِعوا أوضاعَهم ليصحّحوها، وأنّ عليهم أن يَكونوا أمّةً مَتبوعة لا
تابِعَة، أمّةً لها ثِقلُها الثقافيّ والأخلاقيّ، أمّة لها مَصدَرها
ووِردُها الخاصّ الذي لا يساويه وِرد ولا مصدَر في الوجودِ، أمّةً تَسبِق
جميعَ الثقافات والحَضارات بما لدَيها من مقوِّمات الاعتِزاز والرّفعة
والغلبة، وبالأخصِّ على المستوَى العقديّ والأخلاقيّ.
ولقَد جَرَت
عادَةُ الأمم والمجتمعات أن تَأنَفَ من الخضوعِ لمن يُبايِنها في الأخلاقِ
والعادات والمشارب وإن لم يكلِّفها من يمارِسُ الإِخضَاعَ بِزِيادةٍ عمّا
تَدين به، بل إنها تَستَنكِره حتى تنأى عنه وتَبتَعِد، وكلّما ابتَعَدت
عَنه كلّما اقتَرَبَت آدابُ ذوِيها وأخلاقُهم مِن بَعض، فلم يعُد للعوائدِ
الأجنبيّة عنهم وِردٌ ولا صَدر، ولا تَلتَفِت إليها هِمم النّاس.
غيرَ
أنّ الهيجَانَ الإعلاميّ العارِم المتسلِّلَ لِواذًا بين المسلِمين قَد
سارَق خَواطرَ كثيرين منهم وأخذ بألبابهم وحَدّق بأبصَارِهم؛ حتى صارَ لَه
من الوقعِ والتأثير في طَرقِه ما لا يمكِن أن يَكونَ من خِلال مطارِقِ
البأسِ والقوّة، بل إنَّ مِن المؤسِفِ جدًّا أن تتمَكّن هذه الثورةُ
الإعلاميّة والتَّصارُع الحضاريّ والثقافيّ المكشوفُ من إحداث تمازجٍ
تَسبّب في أخذِ الرَّعاع واللَّهازم من أمّة الإسلامِ بأيديهم عاصِبين
أعينَهم إلى ما لم يَكن من أصولِ دينهم وعوائدِهم، ولا هو من
مُرتَكزَاتِه، فمَحَوا بذلك الفَوارقَ بين المسلمين وغيرِ المسلمين، وأنّ
لِلمسلمين من التشريعِ والاعتِقَاد والاتّباع ما ليسَ لغَيرهم، فاختلَط
الحابِلُ بالنابلِ، وعظُم التأثّر بالثقافة الإعلامية المستورَدَة، وصارَ
البَعضُ مِن المسلِمين منهومِين في تلقّي كلِّ جديدٍ وغَريبٍ دونَ فرزٍ
ولا إدراكٍ للكُنه وما يحمِل في طيّاته من مسخٍ وإضعافٍ للانتماء.
فيَا
لله العَجَب! أيُّ صدمةٍ هَذِهِ التي تحلّ بِكُلّ غَيور على بني ملَّته،
يرى في أضعافِها التراجُعَ في الاعتِزاز والامتياز أمامَ الغارَةِ
الأجنبيّة الكاسِحَة، ويرَى المُسَارقة الحثيثة المثمِرةَ حِجابًا كثيفًا
يُفقِد بعضَ المسلمين هويّتَهم وتميّزَهم الخلقي والعقديّ، كلُّ ذلك
إبّانَ انحِسارٍ في التَّوعيةِ أورَثَ إرسالَ الحبالِ على الغوارب؛ ليحلّ
ببعضِ المجتمَعات ما ذَكَرَه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقولِه:
((لتركَبنّ سَننَ من كان قَبلَكم حَذوَ القذّة بالقذّة، حتى لَو دَخَلوا
جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه))، قالوا: يا رسولَ الله، اليَهود والنصارى؟ قال:
((فمن؟!)) رواه البخاريّ ومسلم، وليصدُقَ فيهِم مَا ذكَره ابنُ مسعودٍ رضي
الله تعالى عنه حينَ قال: (أنتُم أَشبَه الأمَمِ ببني إسرائيل سمتًا
وهَديًا، تتَّبِعون عمَلَهم حَذوَ القذّة بالقذّة، غير أني لا أدري
أتعبُدُون العجلَ أم لا).
ومَع ذلك كلِّه ـ عبادَ الله ـ فإنَّ لدى
الناس من الفطرةِ والنَّشأة المتينة والتَّأصيلِ ما يمكن من خِلاله
يَقَظةُ الوسنانين وإِذكاءُ مبدأ تدافع العَوائِد والعقائِد، والغلبةُ
للحقيقةِ التي لا تنقَطع بالمرّة، وإن خفَتَ توهُّجُها حينًا بعد آخر
إلاَّ أنّنا نرى وميضَ برقها يلوحُ في أفئدةِ الغيورين من بني الإسلام
وسطَ تلك الغيايَات العارِضَة كلّما لاح في الأفقِ الوَجه الناصِح
والنَّذير العريان؛ حتى يتَّضِح لكل رامقٍ أنّ صِراعَ الثقافات وإن كان
قَويَّ الفَتك لأوّل وهلةٍ إلاَّ أنّه سريع العطَب أمامَ المعتزِّ بدينه
وهويَّته؛ إذِ الهوية المسلمة قد يعترِيها المرض أحيانًا غيرَ أنها لا
تموت قَطعًا، ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ *
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ)) [الجاثية: 18-20].
بَارَكَ الله لي ولكم في القرآن
العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم. قد قلتُ ما
قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه
كان غفّارًا.
الحمد
لله العزيز الغفار يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل , يعلم غيب
السماوات والأرض , لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ,
و أشهد ان لا إله إلا الله وحده لاشريك له و أشهد أن محمداً عبد الله
ورسوله , نصح الأمة بهديه وأنار , ومحى عنها لوثة الجاهلية و الشنار ,
فصلاوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ما أدبر ليل وأقبل نهار وسلم
تسليماً كثيرا
أمّا بعد:
فإنّ
الوَصيّة المبذولةَ لنا ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوَى الله سبحانَه
وخشيتُه في الغيبِ والشهادة، ولزومُ هديِ نبيّه صلى الله عليه وسلم،
وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثةٍ بِدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة.
أيّها
النّاس، إنَّ قوَّةَ المسلِم ورِفعتَه وعُلوَّ شأنه لتَكمُنُ بِوضوحٍ في
مدَى اعتزازِه بدينِه وتمسُّكِه بعَقيدَتِه وأخلاقِه ومَبَادِئه، وبُعدِه
عن لوثةِ التَّقليد الأعمَى والتَّبعيةِ المقيتَة وراءَ المجهول. وإنَّ
علَى رأسِ الاعتزاز والرّفعةِ التي هِي مطلَب مَنشودٌ لكلّ فردٍ مسلمٍ ـ
بَلهَ المجتمعات المسلِمة طُرًّا ـ هو الاتباعَ والاقتداءَ لهديِ النبيّ
صلى الله عليه وسلم والبُعدَ عن الإحداثِ والابتِداع، اتِّباعًا مِلؤه
التأسِّي المخلِص والمحبّةُ الدّاعَّةُ إليه، اتِّباعًا يُشعِر كلَّ مسلِم
ومُسلمةٍ أنَّ الخضوعَ في الدِّين والخُلُق الأدبَ إنما هو لله الواحِدِ
الأحَد؛ إذ كيف يحلُو دين لا خضوعَ فيه ولاَ اتباع؟! ومن هذا المنطلق
جاءَت الوصيّة الكبرَى منَ الخالقِ جلّ شأنه لعبادِه المؤمنين بِقولِه:
((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [الأنعام: 153]، فكلُّ سبيلٍ غير صِراطِ الله
عليه شيطانٌ يَدعو إِليه، فيحبِّب سالِكيه إلى البِدعةِ، ويُبعِدهم عن
السنّة، وهي مرحلة من مراحلِ المراغَمةِ بين الشيطان وبني آدَم، وغوايةُ
الشَّيطان وحبائلُه كالكلاليبِ التي تتَخطَّف السَّالكين إلى
مُستَنقَعَاتِ الدُّون والعَطَب؛ ليقع فيها المرتابُ المتردّد الذي خَلِي
وِفاضُه عن أسُس الاتّباع والتمسّك بالسنَّة النبوية، فإمّا أَن يكونَ
ضَحيّةَ النكوصِ والاستهتارِ لأوّلِ وهلةٍ، أو أن يصبح ((كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ
الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام: 71].
أيّها
المسلِمون، لقَد كانَ مِن أسُسِ محبَّة الله جلَّ وعلا مِن قِبَل عبادِه
أن يجعَلوا من وسائِل هذهِ المحبّة الاتباعَ الصادقَ لنبيِّه صلى الله
عليه وسلم؛ ليَحسنَ القصدُ ويصدُق الزّعم، كما قَال تَعَالى: ((قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ
أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)) [آل عمران: 31، 32].
ولِذا ـ عبادَ الله ـ
كانَت البِدَع والمحدثاتُ التي تقَع في المجتَمَعاتِ كالطّوفان المغرِق،
بَيدَ أن السنّةَ الصّحيحة والاتِّباعَ الصادِق هما سَفينةُ نوحٍ التي من
رَكِبَها فقد نجا ومَن ترَكَها غَرق، ولا عاصمَ مِن أمر الله إلا من رَحِم.
في
الصحيحَين من حديثِ عائشةَ ا أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم قال: ((مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا مَا لَيسَ منه فهوَ ردٌّ))، وفي
روايةٍ لمسلم: ((كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردّ)).
فهَذا الحديث ـ
عبادَ الله ـ أصلٌ عظيم جامِعٌ من أصولِ الإسلام، وهو كالميزانِ للأعمال
في ظاهِرِها، فكلُّ عملٍ لا يكونُ عَلَيه أمرُ الله وأمرُ رسوله صلى الله
عليه وسلم فليس مِنَ الدّين في شيءٍ. قال النَّوويّ : "هذا
الحديث مما ينبغِي حفظُه واستعمالُه في إبطالِ المنكرات وإشاعةُ
الاستدلالِ به كذلك".
إنَّ الناظرَ في أَحوالِ المسلِمين ومبادِئِهم
ليَحكُم حُكمًا لا رَيبَ فيه ولا فُتونَ بأنَّ أهل الإسلام لا بدَّ أن
يراجِعوا أوضاعَهم ليصحّحوها، وأنّ عليهم أن يَكونوا أمّةً مَتبوعة لا
تابِعَة، أمّةً لها ثِقلُها الثقافيّ والأخلاقيّ، أمّة لها مَصدَرها
ووِردُها الخاصّ الذي لا يساويه وِرد ولا مصدَر في الوجودِ، أمّةً تَسبِق
جميعَ الثقافات والحَضارات بما لدَيها من مقوِّمات الاعتِزاز والرّفعة
والغلبة، وبالأخصِّ على المستوَى العقديّ والأخلاقيّ.
ولقَد جَرَت
عادَةُ الأمم والمجتمعات أن تَأنَفَ من الخضوعِ لمن يُبايِنها في الأخلاقِ
والعادات والمشارب وإن لم يكلِّفها من يمارِسُ الإِخضَاعَ بِزِيادةٍ عمّا
تَدين به، بل إنها تَستَنكِره حتى تنأى عنه وتَبتَعِد، وكلّما ابتَعَدت
عَنه كلّما اقتَرَبَت آدابُ ذوِيها وأخلاقُهم مِن بَعض، فلم يعُد للعوائدِ
الأجنبيّة عنهم وِردٌ ولا صَدر، ولا تَلتَفِت إليها هِمم النّاس.
غيرَ
أنّ الهيجَانَ الإعلاميّ العارِم المتسلِّلَ لِواذًا بين المسلِمين قَد
سارَق خَواطرَ كثيرين منهم وأخذ بألبابهم وحَدّق بأبصَارِهم؛ حتى صارَ لَه
من الوقعِ والتأثير في طَرقِه ما لا يمكِن أن يَكونَ من خِلال مطارِقِ
البأسِ والقوّة، بل إنَّ مِن المؤسِفِ جدًّا أن تتمَكّن هذه الثورةُ
الإعلاميّة والتَّصارُع الحضاريّ والثقافيّ المكشوفُ من إحداث تمازجٍ
تَسبّب في أخذِ الرَّعاع واللَّهازم من أمّة الإسلامِ بأيديهم عاصِبين
أعينَهم إلى ما لم يَكن من أصولِ دينهم وعوائدِهم، ولا هو من
مُرتَكزَاتِه، فمَحَوا بذلك الفَوارقَ بين المسلمين وغيرِ المسلمين، وأنّ
لِلمسلمين من التشريعِ والاعتِقَاد والاتّباع ما ليسَ لغَيرهم، فاختلَط
الحابِلُ بالنابلِ، وعظُم التأثّر بالثقافة الإعلامية المستورَدَة، وصارَ
البَعضُ مِن المسلِمين منهومِين في تلقّي كلِّ جديدٍ وغَريبٍ دونَ فرزٍ
ولا إدراكٍ للكُنه وما يحمِل في طيّاته من مسخٍ وإضعافٍ للانتماء.
فيَا
لله العَجَب! أيُّ صدمةٍ هَذِهِ التي تحلّ بِكُلّ غَيور على بني ملَّته،
يرى في أضعافِها التراجُعَ في الاعتِزاز والامتياز أمامَ الغارَةِ
الأجنبيّة الكاسِحَة، ويرَى المُسَارقة الحثيثة المثمِرةَ حِجابًا كثيفًا
يُفقِد بعضَ المسلمين هويّتَهم وتميّزَهم الخلقي والعقديّ، كلُّ ذلك
إبّانَ انحِسارٍ في التَّوعيةِ أورَثَ إرسالَ الحبالِ على الغوارب؛ ليحلّ
ببعضِ المجتمَعات ما ذَكَرَه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقولِه:
((لتركَبنّ سَننَ من كان قَبلَكم حَذوَ القذّة بالقذّة، حتى لَو دَخَلوا
جحرَ ضبٍّ لدخلتُموه))، قالوا: يا رسولَ الله، اليَهود والنصارى؟ قال:
((فمن؟!)) رواه البخاريّ ومسلم، وليصدُقَ فيهِم مَا ذكَره ابنُ مسعودٍ رضي
الله تعالى عنه حينَ قال: (أنتُم أَشبَه الأمَمِ ببني إسرائيل سمتًا
وهَديًا، تتَّبِعون عمَلَهم حَذوَ القذّة بالقذّة، غير أني لا أدري
أتعبُدُون العجلَ أم لا).
ومَع ذلك كلِّه ـ عبادَ الله ـ فإنَّ لدى
الناس من الفطرةِ والنَّشأة المتينة والتَّأصيلِ ما يمكن من خِلاله
يَقَظةُ الوسنانين وإِذكاءُ مبدأ تدافع العَوائِد والعقائِد، والغلبةُ
للحقيقةِ التي لا تنقَطع بالمرّة، وإن خفَتَ توهُّجُها حينًا بعد آخر
إلاَّ أنّنا نرى وميضَ برقها يلوحُ في أفئدةِ الغيورين من بني الإسلام
وسطَ تلك الغيايَات العارِضَة كلّما لاح في الأفقِ الوَجه الناصِح
والنَّذير العريان؛ حتى يتَّضِح لكل رامقٍ أنّ صِراعَ الثقافات وإن كان
قَويَّ الفَتك لأوّل وهلةٍ إلاَّ أنّه سريع العطَب أمامَ المعتزِّ بدينه
وهويَّته؛ إذِ الهوية المسلمة قد يعترِيها المرض أحيانًا غيرَ أنها لا
تموت قَطعًا، ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ *
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ)) [الجاثية: 18-20].
بَارَكَ الله لي ولكم في القرآن
العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم. قد قلتُ ما
قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه
كان غفّارًا.